أ. د. فرست مرعي
لقد تعرض تاريخ الكورد إلى كم هائل من حملات الدس والتشويه والتحريف، طالت تكوينهم وإرثهم وتاريخهم ورموزهم. هذه المؤثرات انعكست بلا شك على علاقة الإنسان الكوردي مع نفسه وبيئته، وعلى علاقته بالآخرين، ومن ثم ولدت عنده عقده الشك والريبة في النظر إلى الآخر، بحجة أنهم يريدون سلب ما في يديه. والواقع التاريخي أكبر دليل على ذلك، فكوردستان - بحكم موقعها الجيوستراتيجي، الواقع على طرق الحرير- أضحت مسرحاً وممراً للعديد من الأقوام الغازية والفاتحة، وهذا ما تجلى في أن هذا الشعب عرف اليقظة والحذر منذ بدء ظهوره على هذه الأرض، وما زالت هذه السمة واضحة في تصرفات أبنائه،
فأصبحت الشجاعة والإقدام والنجدة من شيمهم، ومن ثم نظر إليهم الآخرون بعين التوحش والبربرية، ولم يدر بخلدهم أن الكورد يعانون في قرارة أنفسهم، وفي واقعهم، من الظلم والمرارة ما هم بحاجة إلى فهم الآخرين لهم. لذلك جاء تاريخهم الذي كتبه الآخرون (= مؤرخو الأمم الأخرى)، وكأنه تاريخ مخلوقات لا تمت إلى هذا الكوكب بصلة؛ فهذا يعدّهم من نسل الأشخاص الذين فروا إلى الجبال هرباً من بطش (الضحاك)، وذاك يعدهم من أحفاد الجن، وهلمّ جرا.. ولم يدر في فكر هؤلاء أن الكورد، في تكوينهم الخلقي وتاريخهم، مثلهم مثل بقية أمم المعمورة، فهم من نسل آدم، وآدم من تراب. واستناداً إلى ما
تقدم، فإن الجدل يثار حول كل الرموز
وأبطال الكورد، أمثال: صلاح الدين الأيوبي، وانتهاءً بساسة وعلماء الكورد
المعاصرين، رغم أنهم ليسوا معصومين عصمة الأنبياء، وإنما هم أبناء واقعهم؛
تتجاذبهم منغصات الحياة، وتتقاذفهم يمنة ويسرة.
والأمير بدرخان بك (1821 – 1847م)، أمير إمارة
بوتان في كوردستان، داخل في هذا السجال، فقد ثار جدل كبير حوله وحول حركته
الاستقلالية التي قامت في منتصف القرن التاسع عشر، تلك الحركة التي كانت لها أصداء
واسعة في المنطقة لا تقل شأناً عن حركة محمد علي باشا (1805 -1848م) في مصر، وحركة
داود باشا (1817 – 1813م) في العراق، ولكل منها ظروفها وأسبابها العديدة الخاصة بها.
أمّا فيما يخص حركة بدرخان باشا، فإن العامل الجيوبولوتيكي كان له
تأثير واضح في عدم تسليط الضوء على هذه الحركة، ودراسة وقائع حياة مؤسسها بدرخان
باشا، بما يتناسب مع أهمية هذه الحركة وقوة شخصية زعيمها ( = كاريزميته) ومقدرته الإدارية
والسياسية.
يقول الباحث الأمريكي الدكتور (وادي جويدة)، متحدثاً عن شخصية
بدرخان: "إن الأمير كان له شخصية جذابة وتاريخية (ديناميكية)، وليس هناك أي
شك في أن بدرخان أعظم شخصية تاريخية كوردية"([1]).
وبخصوص أهمية الحركة الاستقلالية للدولة الفيدرالية الكوردية التي أقامها
بدرخان باشا، يقول (جويدة): "إن الأمير بدرخان كان له اعتقاد راسخ بأن الله اختاره
لقيادة المسلمين الكورد نحو الوحدة، وتحريرهم من ظلم الحكام العثمانيين"([2]).
المصادر السريانية القديمة، ودورها في تشويه سمعة الكورد ورموزهم:
المصادر السريانية هي في الحقيقة مصادر آرامية، على أساس أن اللغة
السريانية التي دونت بها المصادر المذكورة آنفاً هي إحدى لهجات اللغة الآرامية([3]).
والآراميون أمة قديمة من
الأمم السامية التي هاجرت من الجزيرة العربية في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد([4]). وقد انقسمت اللغة الآرامية إلى
فرعين رئيسين، في القرنين الأول والثاني الميلاديين، احتوى كل منهما على عدة لهجات.
والمصادر السريانية موضوعة البحث تقع تحت قائمة الآرامية الشرقية،
التي تحوّل اسمها إلى (السريانية)، بعد دخول المسيحية إلى بلاد الرها ( = أورفة
الحالية)، في نهاية القرن الثاني الميلادي، مما حدا بمعتنقيها إلى أن ينفروا من
التسمية القديمة (الآرامية)، التي هي مرادفة للوثنية عند اليهود والمسيحيين، والاستعاضة عنها بكلمة (السريان) بدلاً من آرامي، و(السريانية)
بدلاً من الآرامية، تلك التسمية التي أطلقها عليهم اليونانيون الذين كانوا قد
احتلوا بلادهم (سوريا الحالية) سنة 312 ق. م، في عهد الملك سلوقس الأول (311 – 281ق.م)، الذين جعلوا
اسم الآراميين لسكان المدن الوثنية، مثل (حران)([5]).
ومما تجدر الإشارة إليه أن الكثير من المصادر السريانية، بشقيها
التاريخي والكنسي، أسهمت - إلى حد كبير -في تشويه صورة الكورد، ووصفتهم بأبشع النعوت؛ كالتوحش، والهمجية، والمغتصبين.. إلخ([6]). ففي حوادث سنة 1895م، تكلم
القس (إسحق أرملة) السرياني، في التعريف بقرية (قرةباش)، بقوله: "قرةباش قرية
في شرقي ديار بكر، تبعد عنها مسافة ساعتين... أهلها كلهم سريان، تعجّل إليهم الأكراد
في اليوم ذاته، ونشموا ينهبون ويقتلون ويستبيحون، وظلوا كذلك يومين كاملين لا
تزداد قلوبهم إلا صلابة وتوحشاً، كحمير أو جحاش ثار ثائرها. ولكنهم فاقوا الحمير
بتوحشهم، قيل لأحد الحمير نريد أن نغيرك (نجعلك) كوردياً، فبات ثلاثة أيام كئيباً
لا يأكل عليقه"([7]).
وبخصوص تداعيات قتل الزعيم
سمكو شكاك (إسماعيل آغا) لزعيم أتباع كنيسة المشرق الآثورية - النساطرة (مار شمعون)،
في شهر آذار/ مارس سنة 1918م، في كوردستان إيران، واتهام الكتاب الآثوريين للأكراد
بالخيانة، فإن أحد رجال الدين المسيحي يتذكر ذلك الموقف من خلال صياغة مثل (غير
مناسب) بقوله: (إذا الكوردي أصبح ذهباً، لا تضعه في جيبك)([8]). فضلاً عن ذلك محاولة إرجاع
أسماء قرى وقلاع ومواقع وجبال كوردية إلى أصول مسيحية سريانية – كلدانية – آشورية، فيما بعد، للإيحاء
بأن المنطقة الكوردية كانت في حقيقة الأمر مهد الأقوام السريانية([9])، وأنها - استكوردت فيما بعد
-، وأبلغ دليل على ذلك ما ذكره صاحب كتاب (تقويم قديم في الكنيسة النسطورية)، في
تفسيره لكلمة كوردستان بأنها (كلدانستان)، واستند في ذلك إلى كتاب المؤرخين
السريان: ابن الحجري، وابن الصليبي، بيت يشوع، وأبو فرج، بقولهم: "إنها
كلدانستان لا كوردستان، لأن أهالي الجبل جميعهم كانوا من شيعة الكلدانيين القدماء
قبل المسيح (عليه السلام)، وفي زماننا بدلوا الكلدان بالكورد، وإلى الآن يقولون كوردستان،
وهذا غلط"([10]).
وكوردستان، بعد أن كان كانت كلدانستان!! أصبحت الآن (آشورستان)!!
استناداً إلى أعمال المؤتمرات الآشورية العالمية، التي يطالب المكسيماليون
(المتطرفون) تأسيس دولة آشور المستقلة على الأراضي الواقعة في شمال العراق
(كوردستان العراق)، فيما يريد المعتدلون دولة آشورية ذات حكم ذاتي (على مثال الحكم
الذاتي الكوردي). ويعدّ الفريقان كلاهما مهمة تأسيس الدولة الآشورية أمراً واقعياً،
ويأمل الطرفان بتحقيق ذلك في القرن الجاري (العشرين) ([11]).
لذلك، كان لهذه الكتابات السريانية أثر كبير في تشكيل ذهنية منحازة
سلفاً لكثيرين من كتابهم المتأخرين، فضلاً عن صب النار على الزيت من قبل بعض
المنصرين والرحالة والدبلوماسيين الأوروبيين، وتحديداً الإنكليز، من حيث تشويه
سمعة الكورد ورموزهم، وهذا يصدق - إلى حد كبير - مع طريقة تعاملهم مع تاريخ الأمير
بدرخان.
المبشرون والرحالة الأوروبيون، ودورهم في تشـويه سـمعة الأميـر بدرخــان:
كان للمبشرين الإنكليز والأمريكان دور لا
يستهان به في تشويه سمعة الكورد عامة، والأمراء الكورد: كمحمد باشا الراوندوزي
(ميري كةوره)، وبدرخان باشا البوتاني، والشيخ عبيد الله النهري، والشيخ محمود
الحفيد، وسمكو شكاك، والشيخ أحمد البارزاني، من خلال الملاحظات التي دونوها في
كتبهم ومذكراتهم، والتي أسهمت - إلى حد كبير - في رسم السياسيات المغايرة لتطلعات
وأماني الشعب الكوردي بعيد الحرب العالمية الأولى، والتي ما زال الكورد يكتوون بنارها إلى وقت كتابة هذه الأسطر.
فكتابات هؤلاء الرواد الأوائل من المبشرين والرحالة، الذين زاروا
كوردستان، وكتبوا عن عادات وتقاليد الكورد؛ رسمت هذا التشويه في اللاشعور الأوروبي،
وأصبح من الصعوبة بمكان إفهام الرأي العام الأوروبي، وتحديداً المثقفين منهم،
والمهتمين بشؤون الشرق الأوسط، أن هذا التشويه والخلط جاء في سياق تاريخي معين، له
ظروفه الخاصة، وأن هؤلاء المبشرين والرحالة كانوا أبناء
بيئتهم. وبالرغم من جدية بعض بحوثهم وتقاريرهم، إلا أنها لا تخلو من روح
التعصب ضد كل ما هو شرقي ومسلم في آن واحد، وأن تزامن مجيئهم إلى المنطقة
على شكل إرساليات تبشيرية (تنصيرية)، مع حدوث الصراع الكوردي المسيحي (أتباع كنيسة
المشرق، وأتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية والكاثوليكية)، كل ذلك أدى إلى هذا
الخلط والتشويه. إن البعض من أبناء وأحفاد تلك الطوائف ما زالوا يعزفون على نفس
الوتر الحساس، والمضي في تشويه سمعة الكورد، وزيادة الطين بلة، رغم مرور أكثر من
قرن ونصف على تلك الأحداث المأساوية التي حدثت بين الجانبين الكوردي والمسيحي،
التي كان الجانبان في غنىً عنها، نظراً للتاريخ المشترك والجيرة والعيش المشترك.
ولكن السبب الرئيس - في حقيقة الأمر - كان تدخل القوى الأوروبية الكبرى في شؤون
المنطقة، وليس التعصب الديني أو الإثني، فضلاً عن تعرض الكورد فيما بعد إلى مآسٍ ونكبات يندى لها جبين الإنسانية في
نهاية القرن العشرين.
ومهما يكن من أمر، فإن الدول الأوروبية
اهتمت بشؤون الشرق، لا سيما بعد التوسع العثماني في أوروبا في أيام السلطان
العثماني سليمان القانوني (1520 – 1566م)، وانحسار هذا التوسع فيما بعد، وإطلاق القيصر الروسي نيقولا
الأول (1825 – 1855م) اسم الرجل المريض على الدولة العثمانية سنة 1853م، حيث بدأت
تلك الدول تحاول إيجاد موطئ قدم لها في أراضي الدولة العثمانية، من خلال استغلال
الأقليات المسيحية بشتى انتماءاتها الطائفية، وكانت البعثات الكاثوليكية؛ من
فرنسية وإيطالية، هي السباقة في ذلك، فبدأت بإرسال البعثات والرحالة إلى المنطقة،
ولكن جهودها انصبت على تغيير مذهب النساطرة، ومحاولة ربطهم بالكثلكة، حيث نجحوا في
ذلك إلى حدٍ كبير، وتم تكوين طائفة منهم سميت بـ(الكلدان المتحدين). أمّا جهود
الولايات المتحدة، وبريطانيا، فقد جاءت متأخرة ترجع إلى بداية القرن التاسع عشر، وتحديداً الثلث الأول منه، وقد ارتبط التنصير البروتستانتي بشكل عام بتوسع المستعمرات الأوروبية
وأسواقها الخارجية، حيث يشير أحد الباحثين إلى ذلك بقوله: "إن النهضة الدينية
البروتستانية في أوروبا والولايات المتحدة، منذ أواخر القرن الثامن عشر، قد ارتبط
بشكل وثيق مع الحركات الاقتصادية الإمبريالية الجديدة، كما أن الثورة الصناعية أسهمت
في تسهيل النقل والمواصلات، بحيث لم يعد ذلك عائقاً أمام المبشرين"([12]).
وبخصوص أمريكا، فإنها دخلت
ميدان العمل التنصيري لأول مرة عام 1810م، عندما تأسست أول هيئة أمريكية في مدينة (بوسطن)،
للإشراف على ذلك النشاط ورعايته([13]).
وفي سنة 1835م أوفد مجلس البعثات البروتستانتية الطبيب والمنصر الأمريكي (كرانت - Grant)، على رأس بعثة تنصيرية،
إلى منطقة هكاري (كوردستان العثمانية)، حيث وصلها في سنة 1839م. وبعد اجتماعه مع (المار شمعون)، الزعيم الروحي والزمني للقبائل
النسطورية (الآثورية)، والأمير الكوردي (نور الله بك)، أمير هكاري، استطاع أن يبني
مركزاً تعليمياً للتبشير في قرية (آشيتا)، في منطقة تياري (شمال غرب ناحية كاني
ماسى)، ونجح في تكوين علاقة خاصة مع النسطوريين([14]).
أمّا بخصوص الإنكليز، فقد صدرت الأوامر لكل من الدكتور (ويليام
أنسورث- William F Ainswirth)،
و(كريستيان رسام) (= مسيحي موصلي، ونائب القنصل البريطاني في الموصل، من سنة1839 – 1865م)، بزيارة النسطوريين في منطقة هكاري،
ودراسة أحوالها، والأوضاع القائمة فيها، والتعرف على آفاق التحرك، وإقامة علاقات
خاصة مع القبائل النسطورية. وفي 15 حزيران 1840م وصلا إلى قرية (ليزان)، الواقعة
في منطقة تياري (بالقرب من الحدود العراقية التركية)، على مسيرة يوم شمال
العمادية، وبعد اجتماعات عديدة مع (المار شمعون)، ورؤساء القبائل النسطورية، تم
الاتفاق على إقامة علاقة خاصة بين الكنيسة النسطورية والكنسية الإنكليكانية، من
جهة، ومحاولة ثني البطريرك (مار شمعون) عن إقامة علاقة مع المبشرين الأمريكان، من
جهة أخرى([15]).
كما قام (رسام) بمهمة إيضاح الخطوط العريضة
التي قدمت البعثة من أجلها، والتي تضمنت مقترحات جمعية (ترقية المعرفة المسيحية The
society of promotion Christian)
، غير أنه يعترف بأن البطريرك (مار شمعون) لم يكن على معرفة بها، وأنه لم تكن لديه
أية فكرة عن الكنيسة الإنكليكانية (الإنكليزية )، وكان مذعوراً - في الوقت نفسه - من
إقامة علاقة ودية مع الكنسية الإنكليكانية، لأنها تبدو مختلفة في عقيدتها عن
كنيسته في المبادئ والممارسة. ولم يخف (مار شمعون) مشاعره عن المبشرين: (أنسورث) و(رسام)
مما فعلته الكنسية الكاثوليكية في روما بكنيسته، قائلاً: "البابا أرسل ناساً
من روما، وأخضعوا قسماً من كنيستنا؛ عقيدته حديثة، وعقيدتنا قديمة، نحن لا نغيّر قط
من طقوس عبادتنا، بل نحافظ عليها، ونتقيد بها، وما نقل لنا من قبل الرسل وآبائنا،
وعليك أن تعلم بأننا لا نغير قط معتقداتنا ولا طقوسنا"([16]).
ويبدو أن البعثة الإنكليكانية كانت تريد إقامة
صلة ما بين إنكلترا والمار شمعون، من أجل الوحدة بوجه الأتراك والأكراد، فيما لو
حدث ما يعكر صفو الأمن، لا سيما وأن مجيء هذه البعثة قد ولد قلقاً لدى الأوساط
الكوردية، وخاصة أميرها (نور الله بك)، أمير منطقة هكاري، الذي كان في حلف مقدس مع
(الأمير بدرخان)([17]).
وعلى أية حال، فقد توالت بعثات التبشير الإنكليزية
تترى على منطقة هكاري، بقصد محاولة دق أسفين بين الشعبين الجارين الكوردي
والنسطوري (أتباع كنيسة المشرق). فقد وصل المبشر (جورج بادجر Gorge Badger) على رأس بعثة في شتاء سنة 1843م إلى قرية (آشيتا)(=
الواقعة حالياً على الحدود العراقية – التركية، مقابل ناحية كاني ماسى)، للقاء
البطريرك (مار شمعون)، حيث اجتمع معه بحضور مائة من الشخصيات البارزة من ملوك ( =
رؤساء القبائل النسطورية)، ورؤوساء وكهنة (= رجال دين)، وقد ألح البطريرك على أتباعه
بضرورة عدم عقد حلف أو اتفاق مع الكورد، وإنما عليهم إثبات إخلاصهم لباشا الموصل
العثماني (= محمد اينجه بيرقدار)([18])،
وبعد أن استرسل في الكلام قال: "أيها الأصدقاء والأخوة، إذا كنتم راغبين في
إثبات إخلاصكم لباشا الموصل ولي، فإنني أنصحكم بما يتوجب عمله: عليكم تجميع قوة
عسكرية قوامها 300 مقاتل من القرية (آشيتا)، وتتوجهون لمقاتلة زينل بك (أمير منطقة
البرواري)، اطردوا أتباعه من منطقة برواري، وإذا كان بالإمكان اعتقاله حياً أو
ميتاُ، معلوماتي الخاصة أنه لا يملك عدداً كبيراً من الأتباع..."([19]).
وفي تلك الأثناء، وصل مبعوثان كورديان من
قبل أمير هكاري (نور الله بك) إلى (مار شمعون)، يطلبان فيه عقد اجتماع في موقع ما
بين مدينة (جولمرك) وقرية (جمي)، لتسوية خلافاتهما، وإرساء أسس التعاون والصداقة
بين الجانبين. وحين سمع الشماس (إسحق)، شقيق البطريرك مار شمعون، فحوى الرسالة،
انفجر في موجة غضب وهياج قائلاً: "نحن لسنا خاضعين لكم، وإن ديارنا الآن ملك
هذا الرجل"([20])، مشيراً إلى المبشر الإنكليزي(
بادجر). واختتم الشماس (إسحق) كلامه قائلاً: "نعمل سلام معه؟ لا أبداً، إلا
بحد الخناجر"([21]). وقد أثار هذا الكلام
الصريح استياء الكورد، وهز مشاعرهم، لا سيما وأن هؤلاء النساطرة قد تقووا بوجود
هذا المبعوث الإنكليزي في صفوفهم. ومما يزيد الأمر وضوحاً أن البطريرك نفسه كان قد
أرسل رسالة عن طريق المبشر الأمريكي (كرانت Grant)، إلى المقيم السياسي البريطاني في بغداد، في
أواخر سنة 1841م، يطلب فيها تدخلاً أجنبياً لحماية النساطرة([22]). وقد أشار المبشر الإنكليزي
(جورج بادجر) إلى الشهرة السيئة التي تمتع بها الأمير الكوردي بدرخان، الذي ارتكب
في عامي1843م و1846م مذابح رهيبة ضد النساطرة، بحيث أباد قبيلتين من قبائلهم، هما:
(تياري وتخوما)، إبادة كاملة([23])؟.
أمّا الرحالة والمنقب الإنكليزي (هنري
لايارد) (1817 – 1894م)، فقد كان له قصب السبق في تشويه سمعة
الكورد، وقائدهم بدرخان بك، ومحاولة تأليب الرأي العام الأوروبي، والطلب من
السلطان العثماني بضرورة وضع حد لهذه الإمارة. وهذا ما حصل فعلاً بالقضاء على الإمارة
البوتانية، وأسر بدرخان بك، ونفيه إلى جزيرة قبرص([24]).
يقول (لايارد)، عند زيارته لكوردستان (منطقة
برواري بالا، شمال مدينة العمادية): "مختار هذه المنطقة هو كوردي متعصب
دينياً، وتمكن بشكل كامل تقريباً من القضاء على النساطرة، الذين هم السكان الأصليون
للمنطقة!! فقد استولى عليها الأكراد... ولكن الأكراد كسولون للغاية، وعلاوة على
هذا، فهم يحاولون بشتى الوسائل شل همة النساطرة. تتصف هذه المنطقة بفقدان الأمن،
السبب في هذا هو (عبد القادر بك)، أحد زعماء (البرواري)، الذي ينتهز كل مناسبة،
ويستغل أية ذريعة، ليسفك دم المسيحيين الجبليين الأبرياء! هنا، وبأمر منه، تم
بأبشع الوسائل الوحشية القضاء على حياة العديد من النساطرة، فقط لأنهم بعد نجاتهم
من حمامات الدم الأخيرة في (تياري)، أرادوا العودة إلى قراهم، للالتحاق بزوجاتهم وأطفالهم.
أما السفاح المتوحش (زين الدين)، وهو من عائلة عبد القادر بك، فإنه الأداة الطيعة
في يد بدرخان الطاغي، المتعطش دائماً لسفك دم المسيحيين"([25]).
وفي محاولته اتهام بدرخان بك بالعجز عن
احتلال مناطق تمركز النسطوريين في منطقة تياري – جبل آشيتا، ومحاولته استغلال عامل الزمن حتى
تنفذ مؤن النسطوريين، نظراً لشجاعتهم وعدم إفساحهم المجال للجيش الكوردي لاحتلال
قراهم، وعدم معرفتهم بمكان اختباء هؤلاء النساطرة، يقول بهذا الصدد: "ولكن
بدرخان كشف المكان، إلا أنه عجز عن احتلاله بالقوة، ولهذا أحاط كل المنافذ برجاله
منتظراً ساعة الاستسلام. مؤونة النساطرة لم تكفهم سوى لثلاثة أيام، بسرعة نفذت
المياه والمواد الغذائية بسبب الحر الجهنمي. وضعيتهم بدت بدون مخرج، ولهذا قرروا إعلان
الاستسلام تحت شروط وضمانات تعهد بدرخان التمسك بها، مقسماً بالقرآن (الكريم) بأنه
لن يصاب أي تياري بأذى بعد تسليمه سلاحه وما عنده للأكراد، والعبور عن طريق
المنافذ الجبلية. بعد حصول الأكراد على سلاح الأسرى النساطرة، مباشرة وجهوا أفواه
البنادق إلى العزل المنهكين، دون أن يرحموا فرداً منهم. طبقات من أشلاء القتلى
النساطرة غطت سفوح الجبل. وعندما أنهكهم الرمي، راحوا يقذفون من بقي حياً من فوق
الصخور الشاهقة إلى نهر الزاب الكبير. من ألف نسطوري اعتصم بهذا الجبل، لم ينج – كما قيل لي – سوى إنسان واحد"([26]).
الكتاب السريان ومحاولة اجترار مغالطات المبشرين الأوروبـيـيـن:
مِمّا لا شك فيه أن المراجع السريانية، التي
تكلّمت عن الصراع الكوردي النسطوري أيام الأمير بدرخان، إنما كان جل اعتمادها على
ما أمده الرحالة من المبشرين الأوروبيين والأمريكيين، أمثال: (لايارد) و(كرانت) و(بادجر)، وكأنهم اختبروا هذه المعلومات، وأعادوا صياغتها من جديد، وصبوها في قالب
عصري، لتشويه سمعة الكورد، واعتبار بدرخان بك صاحب المجازر المروعة بحق النسطوريين
والسريان واليزيديين، على حد سواء. ولم أر - والحق يقال - كاتباً محسوباً على
السريان - بشتى فئاتهم وأطيافهم - قد درس بحيادية هذا الموضوع في سياقه التاريخي
والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في منتصف القرن التاسع
عشر؛ وتجليات هذا الصراع، والعوامل التي أدت إليه، إلا ما ندر([27]). وإن كان الجميع يحمّلون
البعثات التبشيرية مسؤولية ما حدث.
يقول الكاتب الروسي النسطوري الأصل (ماتفييف بارمتي)، محملاً البعثات
التبشيرية مسؤوليتها عمّا حدث من صراع بين الجانبين: "وقد لاحظ الباحثون بأنه
منذ زمن دخول المبشرين (المنصرين) إلى المناطق الآشورية، ازدادت الاشتباكات ومختلف
أنواع الصدامات بين الآشوريين والأكراد كثيراً"([28]).
ولكنه مع ذلك، حمّل بدرخان مسؤولية قتل الآشوريين،
واعتمد في ذلك على طروحات الرحالة والآثاري الإنكليزي (لايارد)، بقوله: "وتفنن بدرخان ذو البربرية الوحشية بقتل الآشوريين،
ولم يكن متهماً بذلك بعض الإقطاعيين الأكراد فقط، بل وكذلك المبشرون الإنكليز والأمريكان،
الذين اتسم نشاطهم في الجوهر بطابع عداء استفزازي"([29]).
وقد كتب الباحث الأثري الإنكليزي، الذي زار
المناطق الآشورية (النسطورية) بعد (حملات بدرخان الشريرة) مباشرة، يقول: "وفي
الحال رأينا آثار المذابح، وكلما نقترب للأمام كنّا نصادف آثارها أكثر وأكثر، حيث
الجثث كانت ما تزال مترامية فوق الشجيرات. وعندما اقتربنا من منحدر صخرة كبيرة،
رأينا بأن هذا المنحدر مملوء بحدائل من شعر النساء، تشدها الأربطة وقصاصات الأقمشة،
وكذلك بجماجم من مختلف الأعمار؛ ابتداءً من جماجم الأطفال الرضع، وانتهاءً بجماجم
العجز العديمة الأسنان"([30]).
أمّا الكاتب السرياني اللبناني (ايشو مالك
خليل جوارو)، فإنه هو الآخر يحمل المبشر الأمريكي (كرانت Grant) مسؤولية ما حدث، بقوله : "وفي مقابلة
أجراها (لايارد) مع البطريريك (مار شمعون) بعد المعركة، وجد البطريريك ناقماً بشدة
على المرسلين الأمريكيين أكثر منه على الأكراد"([31]).
ولكنه مع هذا حمّل الكورد مسؤولية ما حدث، بالرغم من أنه أشار ضمناً إلى وجود صراع
خفي بين البطريريك مار شمعون، وبين زعماء القبائل النسطورية (الآشورية)، كانت
السبب في تصدع العلاقات الكوردية المسيحية: "هجم الأكراد على الآشوريين،
ونشبت معركة طاحنة بينهم، ودارت دائرتها على الآشوريين القليلي العدد، والشبه عزل
من السلاح، فاحتل الأكراد مناطق بعض القرى الآشورية، وذبحوا الكهول والشيوخ
والنساء والأطفال، واعتدوا على العذارى، نهبوا ما نهبوا، وسلبوا ما سلبوا،
واغتصبوا ما اغتصبوا؛ في معركة أعادت إلى ذاكرة الناس بربرية تيمورلنك ووحشية
المغول..."([32]).
أما الأب (إسحاق أرملة) السرياني، فقد ألف
كتاباً تحت عنوان (القصارى في نكبات النصارى)، أورد فيه اتهامات رخيصة وباطلة ضد
الكورد عامة، وزعمائهم خاصة([33]). أمّا كتاب مجلتي (حويودو =
الاتحاد)، و(دربو)، اللتان تصدران في (السويد)، فتضمنتا مقالات وبحوث تتهم فيها
بدرخان بك بالبربرية والتوحش، وأنه يجب وضعه في الصفحة السوداء من تاريخ الإنسانية،
على حد تعبير رئيس تحرير مجلة
حويودو (شمعون
دنحو). ويذكر (دنحو)، في رسالة إلى كاتب هذه السطور: "إن علينا - أي الكورد
والسريان - استنكار تلك المذابح التي قام بها بدرخان بك، كي نمهد الطريق لنقاء
وصفاء العلاقات السريانية الكوردية"[34]).
ولولا خوف الإطالة، لذكرت منها الشيء الكثير.
أمثلة من مزاعم وتناقضات المبشرين الغربيين والكتاب السريان:
هناك مثل شعبي يتداول بين الناس، وهو أن حبل
الكذب قصير، وهذا ما يبدو واضحاً في الروايات التي قيلت بشأن المجازر التي ارتكبها
بدرخان بك ضدّ المسيحيين، سواءً على صعيد المبشرين والرحالة، أم على صعيد الكتاب
السريان أنفسهم. يذكر العقيد (يوسف ملك خوشابا)، ابن زعيم قبلية تياري السفلى، في
كتابه (حقيقة الأحداث الآثورية المعاصرة)([35])،
ما نصه: "إن ما جاء في كتاب تاريخ الرؤساء (باللغة السريانية)، لمؤلفه
(العقيد) ياقو مالك إسماعيل (= ابن زعيم قبيلة تياري العليا)، الذي أنحى باللائمة
على عشيرة تياري الكبرى (السفلى)، لعدم تمكنها من مساعدة عشيرة تياري العليا،
عندما هاجمها الأكراد؛ كان الغرض منه الطعن والتشهير فقط. إذ لو كان الكاتب صادقاً
في زعمه، فلماذا لم تهرع تياري العليا لنجدة (قوذشان) (قودجانس قرية فيها مقر
البطريريك مار شمعون، تقع شمال غرب مدينة جولميرك)، وعشيرة (دز)، اللتين كانتا
الضحية الأولى للهجوم الكوردي المفاجئ! إن الأسباب الحقيقية لعدم تمكن الآشوريين
من مساعدة بعضهم البعض هي التي ذكرتها، (وتتلخص) بأنّ الجيش الكوردي أحسن تسليحاً،
وأكبر تنظيماً، مقارنة بالمقاتلين الآثوريين. إضافة إلى أن عددهم يفوق المقاتلين
الآثوريين بعدة مرات، وكانت استراتيجية الأمراء المتحالفين (بقيادة بدرخان) تقضي
بتطويق - وفي آن واحد - كل العشائر الآثورية المراد تدميرها، من كل الجهات، ومن ثم
الانفراد بالهجوم عليها الواحدة تلو الأخرى، مع الاستعداد لتنفيذ الخطة، وضرب أية
عشيرة تتحرك لنجدة العشيرة المهاجمة"([36]).
ومن جانب آخر، ينقل (يوسف ملك خوشابا)، عن
صاحب (كتاب تاريخ آشور في زمن المسيحية - يوناثان بيتا سليمان)، الذي ينقل بدوره
عن المنصر الأمريكي (كرانت) رواية مفادها: "بأنه في ساحة القتال سقط ما لا
يقل عن عشرة آلاف كوردي، وحوالي خمسة آلاف وخمسمائة مقاتل آثوري"([37])، أي إن خسائر الكورد كانت
ضعف خسائر النسطوريين! وفي هذا دلالة أكيدة على عدم حدوث مذبحة بحق النسطوريين؛ بل
كان قتالاً يحدث بصورة اعتيادية بين أفراد القبائل في تلك المناطق الجبلية الوعرة،
سواءً أكانت كوردية أم نسطورية، ولكن الهالة الدعائية لهؤلاء المنصرين من أمثال:
لايارد، وكرانت، وبادجر، هي التي ضخمت المسألة، وأدت إلى تشويه سمعة الكورد عامة،
وبدرخان بك خاصة، حيث ليس من المستبعد حدوث خسائر كبيرة في مثل هذه المعارك. فضلاً
عن أن هذا الرقم المذكور آنفاً مبالغ فيه لأسباب سياسية ودينية، حيث إن عدد
النسطوريين في تلك المنطقة لم يتجاوز 60000 شخصاً، ودارت المعركة بأسلحة بدائية
بسيطة، وفي منطقة جبلية ذات تضاريس وعرة، ولمدة لا تتجاوز الشهر. كما أن
الاستراتيجية الكوردية كانت تتلخص في مهاجمة كل قبيلة نسطورية على حدة، لذلك بالغ
هؤلاء المنصرون في تضخيم عدد الضحايا من النسطوريين، لإثارة الرأي العام الأوروبي
ضد بدرخان بك. وهذا ما حدث فعلاً، فقد تدخل سفراء الدول الأوروبية
لدى الخليفة العثماني، وطلبوا منه التدخل لوقف المذابح ضد النسطوريين([38]).
وقد أرسل الخليفة العثماني عبد المجيد الأول
(1839 – 1861م) فوراً، وفداً رسمياً بزعامة كامل
باشا إلى بدرخان بك، يطلب فيها منه وقف المعارك، وتسليم الأسرى النساطرة. وعندما
التقى الموفد العثماني مع الأمير بدرخان، دافع الأخير عن موقفه، مؤكداً أنّ
النساطرة هم الطرف المعتدي بإيعاز من المنصرين ونائب القنصل الإنكليزي في الموصل
(كريستيان رسام الكلداني الموصلي، الذي اعتنق المذهب البروتستانتي)، وأن حملته
ضدهم كانت في حقيقتها حملة تأديبية، لوقف اعتداءاتهم المتكرّرة ضد القرى الكوردية
المتاخمة لمناطق تواجدهم.
ومهما يكن من أمر، فإن الوثائق البريطانية
السرية، التي نشرت مؤخراً، تشير إلى اعتراف بدرخان بك بقتل حوالي 2000 شخص من
الجانبين. بينما تشير وثيقة بريطانية سرية أخرى، إلى حدوث خمسمائة إصابة فقط في
الجانب النسطوري، ليس إلّا! ونظراً لأهمية الوثيقة، التي سجلها (ار. دبليو ستيفين)، نائب القنصل البريطاني في
الموصل، عن لسان بدرخان بك، سوف أورد مقتطفات منها لأهميتها: "كان مار شمعون
سابقاً الرئيس الروحي للنصارى السريان الخاضعين لإمارة (بوتان)، ولم يكن له أي دور
في الأمور الدنيوية للطائفة، علماً أن الأمور الدنيوية كانت بيد طائفة من مجموعة
من الأشخاص الذي يدعون هنا بـ الملوك (= رؤساء القبائل)، وكانوا على علاقة بي، وإذا
وقع في السابق خلاف في داخل الطائفة السريانية، أو بين السريان وأبناء القبائل
الكوردية الخاضعة لنا، كان يحسم بطريقة ودية، بدون تدخل أحد. وكان الملوك يتعاونون
مع قريبي (نور الله بيك)، ولم يكن بينه وبين السريان خلاف.. ولكن في السنتين
الأخيرتين (1841–1842م)
بدأ (المار شمعون) يتدخل في السياسة بشكل قوي، ويحيك المؤامرات ضد الأمير نور الله
بيك، وحسب فهمنا أن المنصر الأميركي مستر( كرانت) هو الذي حرض المار شمعون، وقام
بتزويده بآمال لإثارة المشاكل. علماً أن المنصر المذكور قام بتشييد بناية كبيرة
على مكان مرتفع في (قرية آشيتا). ففي هذه الأثناء دخل أنصار المار شمعون منطقتنا،
وقتلوا اثنين من أفراد القبائل الكوردية، وحسب العرف السائد في المنطقة قمنا
باعتقال وقتل المجرمين من السريان للثأر لدماء الكورديين، وبالمقابل قام السريان
بقتل أربعة أشخاص آخرين، فقمت بشن حملة ثأرية عليهم، وقتل ثمانية من السريان.
وبينما كانت هذه الأحداث جارية، جاءني نور الله بك، رئيس منطقة هكاري، طالباً
مساعدتي لتأديب النصارى السريان لقيامهم بالهجوم على عدة قرى كوردية، ونهبها، في
منطقة (جولميرك). ولبّيتُ طلبه. وبعد إخضاع السريان المتمردين هناك، غادرت المنطقة
تاركاً فصيلاً مسلحاً في (آشيتا) تحت إمرة زينل بك. ولكن حال مغادرتنا المنطقة،
قام المسلحون السريان بمحاصرة الفصيل الكوردي هناك، وقطعوا عنهم الماء والمؤن لمدة
تسعة أيام، وبالرغم من أن زينل بك قد استسلم، إلا أن العديد من رجاله قد قتلوا.
وبعد التزود بالماء عاد زينل بك إلى القلعة، وأرسل اليّ طالباً النجدة. بعثتُ قوة
قوامها 26 ألف رجل لرفع الحصار عنهم، وتأديب السريان. لذلك، ترى أن النصارى هم
الذين سببوا هذه المأساة لأنفسهم ببدئهم الحرب. فالجولة الأولى من الحرب لم تكن
ذات أهمية، لأنني فقدت من الرجال والمؤن بقدر ما فقده السريان. وحدثت الجولة
الثانية من الحرب نتيجة خيانتهم لزينل بك. ففي هذه المرة سمحت لبعض أفراد القبائل بقتل
السريان، ووقعت مذبحة. في الحقيقة لم يكن باستطاعتنا لجم غضب الجيش الذي أهينت
كرامته وكبرياؤه. أنا متأسف للقيام بالحملة التأديبية ضدّ النصارى دون إشعار
السلطة المركزية؛ ولم أتوقع تدخل الدول الأوروبية لصالحهم، وبما أن النصارى يشكلون
منذ زمن عنصراً متمرداً على الدولة، الحكومة المركزية اعتبرت إخضاعهم مسألة مؤكلة إليّ
- كمسؤول دولة - ضمن القانون..."([39]).
ويضيف الأمير بدرخان - في معرض رده على
تساؤلات نائب القنصل البريطاني، بخصوص سيطرة الكورد على أراضي السريان ومصادرتها-:
"إنه ليس من الصعوبة بالنسبة لي أن أتأكد بنفسي، بزيارة المنطقة الجبلية،
للوقوف على الحقيقة على أرض الواقع". وقال الأمير: إنه يتحدى أن نجد أرضاً
سريانية مسروقة من قبل الكورد. ثم أضاف: وجد مار شمعون حليفاً قوياً (= بريطانيا)،
لذلك يعتقد بأنه يكسب المزيد من خلال تضخيمه للأحداث. ويضيف الأمير بدرخان: فمثلاً
يقول المار شمعون بأن عدد القتلى هو 4000 شخص، أو 5000 شخص، والحقيقة أن عدد
القتلى لا يتجاوز 2000 قتيل..."([40]).
ومهما يكن من أمر، فإن الدعاية وتضخيم الأحداث
هو ديدن الكتاب السريان، ومن لف لفهم. فإن تتبعنا ما جرى من خسائر في الحركة الآثورية
الشهيرة في العراق سنة 1933م، لوجدنا أن عدد ضحاياهم الذين سقطوا في منطقة (سميل)،
يقارب 300 شخص، بشهادة أحد المنصفين من زعمائهم([41]).
بينما نرى هذا العدد يرتفع إلى أكثر من خمسة الآف، عند معظم كتابهم([42])، وكأنهم أرادوا بهذا مجاراة
اليهود في ادعائهم بقتل هتلر لستة ملايين شخص منهم، كي يثيروا الرأي العام العالمي
لقضيتهم، ويحصلوا على ما يريدون. ومع ذلك، فإن قتل المدنيين الآثوريين العزل، في
قصبة (سميل)، وفي غيرها من الأماكن، ونهب أموالهم وممتلكاتهم، من أي جهة كانت،
عراقية حكومية، أو كوردية عشائرية، هي جريمة وجناية ضد البشرية، ومحل إدانة
واستنكار وشجب.
وبهذه الطريقة استطاع النسطوريون وأد
المشروع القومي الكوردي في مهده، والذي حاول الأمير بدرخان تأسيسه في منتصف القرن
التاسع عشر. وتجلى هذا واضحاً في البيان الذي أصدره مؤتمر علماء كوردستان، المنعقد
في منطقة أورمية (كوردستان إيران)، بعد سقوط الفيدرالية الكوردية بقيادة الأمير
بدرخان، حيث حمّل البيان المذكور - النساطرة - أتباع كنيسة المشرق، وأعداء الإسلام
من المنصرين - مسؤولية هزيمة الأمير بدرخان.
وهكذا حقّق النساطرة غرضهم بتأليب الدول الأوروبية،
والدولة العثمانية، على الكورد؛ (المتعصبين دينياً) على حدِّ زعمهم؛ ممّا أدى إلى
تعاون الدول الأوروبية مع الدولة العثمانية، في القضاء على (إمارة بوتان)، سنة
1847م، حيث كانت هذه الإمارة آخر قلعة للصمود الكوردي في الدولة العثمانية([43]).
(1) عثمان علي: دراسات
في الحركة الكوردية المعاصرة، أربيل، مكتبة التفسير، 1424هـ، 2002م، ص 31 – 32 نقلاً عن
W. Jwaideh
(Kurdish Nationalist Movement) Syracuse University. 1960. pt. 1. p 184
(2) دراسات في الحركة
الكوردية المعاصرة، ص32.
W. Jwaideh (Kurdish Nationalist
Movement) Syracuse University. 1960. pt. 1. p 184
(3) مراد كامل: تاريخ
الأدب السـرياني من نشأته حتى العصر الحاضر، القاهرة ص 63؛ أحمد هبو: المدخل إلى
اللغة السريانية وآدابها، حلب، ص 7.
(4) طه باقر: مقدمة في
تاريخ الحضارات القديمة، بغداد، مطبعة الحوادث، 1973م، ص 39؛ انطوان مورتكات:
تاريخ الشـرق الأدنى، دمشق، ص 269.
(5) أ. ولفنسون: تاريخ
اللغات السامية، القاهرة، ص 145 – 146؛ هنري س. عبودي: معجم الحضارات السامية، طرابلس، ص
475.
(6) على سبيل المثال
لا الحصـر: تاريخ مختصـر الدول لابن العبري، وله أيضاً تاريخ كنسي تحت اسم (تاريخ
الزمان)، تاريخ الإنطاكي المعروف بصلة تاريخ أوتيخا؛ عمرو بن متي: أخبار فطاركة
كرسي المشـرق من كتاب المجدل؛ البير أبونا: تاريخ الكنيسة السـريانية الشـرقية من
انتشار المسيحية حتى فجر الإسلام؛ أفرام برصوم: اللؤلؤ المنثور في الآداب والعلوم
السـريانية؛ التاريخ الكبير لميخائيل السرياني؛ تاريخ الرهاوي المجهول، عرّبه عن
السريانية ووضع حواشيه: البير أبونا.
(8) كيوركيس بيت بنيامين اشيشا: الرئاسة، شيكاغو، 1987، ص24، والكتاب عبارة عن
مخطوطة لم تطبع، حسب علمي.
(9) يوسف حبى: كنيسة
المشـرق الكلدانية – الآثورية، لبنان – جامعة الروح القدس-
الكسليك، 2001م، ص 161 – 195.
(11) رياض السندي:
جوستن بيركنز (أول مبشـر إلى كوردستان)، مجلة كولان العربي، العدد 55 ، أرييل،
كانون الأول، 2000م، ص 94.
(13) عبد الفتاح علي
يحيى: النشاط التبشيري الأمريكي في كوردستان في النصف الأول من القرن التاسع عشـر،
مجلة جامعة دهوك - المجلد السادس، العدد
الأول، تموز 2003، ص 18.
(20) سلامة حسين كاظم:
التبشير في العراق، وسلسلة أهدافه، رسالة ماجستير غير منشورة قدمت إلى مجلس كلية
الشريعة جامعة بغداد، 1985م، ص 144.
(22) عبد الفتاح علي
يحيى: المرجع السابق، ص 23؛ وكان الدكتور عبد الفتاح قد ذكر أن ابن أخ البطريرك هو
الذي تحدث إلى رسول أمير هكاري، والصحيح أن شقيقه الشماس إسحق هو المتكلم.
(23) الكسندر آداموف:
البصـرة في ماضيها وحاضرها، ترجمة: هاشم صالح التكريتي، منشورات مركز دراسات
الخليج العربي بجامعة البصرة، ص 211 نقلا عن Badger.
(25) هنري لايارد:
البحث عن نينوى، ترجمة: ميخائيل عبد الله، السويد، دار سركون للنشـر، 1998م، ص 20 – 21.
(27) يستثنى من ذلك
الدكتور وادي جويدة، في أطروحته باللغة الإنكليزية، تحت عنوان: الحركة الوطنية
الكوردية، حيث درس هذا الموضوع بروح غاية في الحيادية، ونجح في ذلك إلى حد كبير.
(28) ف. ب. ماتفييف
(بارمتي) الآشوريون والمسألة الآشورية، ترجمة: ح. د. ا، دمشق ، مطبعة الأهالي،
1989م، ص 70.
(31) ايشو مالك خليل
جوارو: الآشوريون في التاريخ، ترجمة وإشراف: سليم واكيم، منشورات واكين إخوان،
بيروت 1962، ص 164 – 167.
(33) إسحاق أرملة السـرياني:
القصارى في نكبات النصارى، بيروت، 1919م، ص 100 وما بعدها، وللكتاب طبعة جديدة
منقحة أصدرتها دار سركون للنشـر في السويد، وفيها مقدمة لشمعون دنحو، ضمنها هجوماً
لاذعاً ضد الكورد عامة، وبدرخان بك خاصة.
(34) شمعون دنحو: رسالة
جوابية إلى الدكتور فرست مرعي بتاريخ 16/11/1999 حول العلاقات الكوردية السـريانية،
ومما تجدر الإشارة إليه أن (شمعون دنحو)، بالتعاون مع الكاتب العراقي سليم مطر،
والدكتور محمد البندر، نشـروا سلسلة من المقالات في الصحافة والمجلات السـريانية
الآشورية في السويد والولايات المتحدة... واستراليا، وفي مواقع الانترنت، تتضمن
هجوماً على القومية الكوردية، فضلاً عن اعتبار كوردستان منطقة سريانية، وأن القبائل الكوردية بالتعاون مع الدولة العثمانية
قاموا بتكريد هذه المنطقة، وأن كوردستان سوريا هي أرض الجزيرة الفراتية، وأن
كوردستان تركيا هي أراضي أعالي بلاد ما بين النهرين، وأن مدينتي كركوك وأربيل
تابعتين للإرث الرافديني، وأن مدينتي دهوك والسليمانية فقط تابعتين لكوردستان، بغض
النظر عن مدن: وان، وسعرت (سيرت)، وبدليس، فإنها إما مدن أرمنية أو سريانية!
(39) المصدر السابق، ص 52–53 نقلاً عن تقرير
نائب القنصل البريطاني في الموصل إلى سفير بريطانيا العظمى في استنبول، في 10 تموز عام1844م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق