د. عمر عبد العزيز
أولاً/ أشهر مدارس التفسير، ومذاهب المفسرين، ورأي سبحاني حولها:
التفسير في اللغة والاصطلاح:
قال علماء اللغة: التفسير من الفَسـْر، بمعنى البيان والتفصيل، ويأتي بمعنى بيان الكتاب، والإبانة، وكشف المغطّى([1]). والتأويل قد يأتي بمعنى التفسير، أي: إرجاع المعنى في اللفظ إلى حقيقته، ولذا قيل: "التأويل تفسير الكلام الذي تختلف معانيه، ولا يصح إلا ببيان لفظه"([2])، أو: "هو تفسير ما يؤول إليه الشيء"([3]).
والتفسير في الاصطلاح، هو: "بيان معاني
القرآن الكريم"([4]).
والفرق بين التفسير والتأويل: "أن التفسير هو الإخبار عن أفراد آحاد الجملة.
والتأويل: الإخبار بمعنى الكلام. وقيل: "التفسير إفراد ما انتظمه ظاهر
التنزيل، والتأويل الإخبار بغرض المتكلم بكلام"([5]).
وقيل في الفرق بينهما أقوال أخر، لا توحي في النهاية إلا بما قلناه.
مدارس المفسرين ومناهج التفسير:
ولقد شاعت تقسيمات وتسميات متعددة لمجموعة من المفسـرين، سُمّي منهج كل
منهم مدرسة أو مذهباً، فقيل: مدارس التفسير، ومذاهب التفسير، في إشارة إلى كون كل
منها عرف فيها أساتذة معيّنون، وأساليب خاصة، ومؤلفات وآراء وطريقة خاصة متبعة.
ولقد عُبّر عن هذه المدارس قديماً بالطبقات، فيقال: طبقات أهل مكة، أو طبقات العراق([6]). وأشهر
هذه المدارس والمذاهب التفسيرية هي:
أ- مدرسة الأثر، أو مدرسة النقل: تعتمد بالدرجة
الأولى على ما أثر عن الصحابة الكرام، والتابعين، من الأقوال، في تفسير كلمات
القرآن الكريم. وهؤلاء ـ على الأغلب ـ تقلّلوا من إبداء الرأي والاجتهاد. ويرأس
هذه المدرسة حَبر الأمة عبد الله بن عباس. ومن أشهر التفاسير المحسوبة على هذا
الاتجاه: (الدرّ المنثور في التفسير المأثور)، للحافظ جلال الدين السيوطي
(ت:911هـ/1505م)، حيث أورد بضعة عشـر ألف حديثٍ؛ بين مرفوع وموقوف، وفيها أحاديث
ضعيفة. وكذلك تفسير (معالم التنزيل)، للحسين بن مسعود البغوي الخراساني، المعروف
بالفراء، (ت 516هـ/1122م). و(تفسير القرآن العظيم)، لأبي الفداء ابن كثير، (ت774هـ/1373م).
وتفسير (جامع البيان) للطبري، (ت310هـ/ 923 م)، وغيرها من التفاسير.
ب - مدرسة
الرأي، أو مدرسة النظر: وهي تعتمد على فهم الآيات القرآنية من خلال أصول وقواعد
اللغة العربية وأساليبها. وهؤلاء لم يكثروا من نقل الروايات في التفسير، وآثروا
التحليل والاجتهاد بالرأي. واشتهر بهذه المدرسة أبو موسى الأشعري، من الصحابة، كما
اشتهر في مدينة (الكوفة) عبد الله بن مسعود. ومن أشهر التفاسير المحسوبة على هذه
المدرسة: تفسير الكشاف، لأبي القاسم الزمخشـري (ت: 538هـ/ 1143م). وتفسير مفاتيح
الغيب، لفخر الدين الرازي (ت: 606هـ/1209م). والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (ت:
671هـ/1272م). والبحر المحيط، لأثير الدين، أبي حيان الأندلسي (ت:745هـ/ 1344م).
هذا، ولقد استفاد عدد من متأخري المفسـرين من
المدرستين أو المنهجين: (الأثر) و(الرأي)، مما يمهد للقول بأن هناك مدرسة ثالثة
تمثّل المزج بين الاتجاهين، بالاستفادة مما ورد من الآثار، ثم استعمال الرأي
والتحليل للترجيح. وهذا ما فعله الأصولي أبو بكر بن العربي في تفسيره (أحكام
القرآن)؛ قديماً، وأبو الثناء الآلوسي، في تفسيره (روح المعاني)، ومحمد رشيد رضا، في تفسيره الشهير بـ(المنار)؛ حديثاً، وغيرهم من
المفسـرين، لا مجال هنا لعرض مناهجهم.
يبقى القول أن وجود هذه الاتجاهات، أو المناهج،
لا يعني تباعدها بالكامل، أو انعدام التشابه والتقارب بينها، بل هي وصفة عامة
للمدارس، والطابع الغالب على المفسـرين، وإلا فإن معظم طبقاتهم قد استفاد بعضهم من
بعض.
ج - ولقد انتقد العلامة ناصر سبحاني طريقة تناول كثير من المفسـرين لتفسير
آيات القرآن الكريم، لا سيما في تكثيرهم لنقل الروايات
دون الاطلاع على الضعف في أسانيدها، أو الإشارة إليها، فقال: "ترى كثيراً
منهم - أي من أهل التفسير - أصبحوا، بعدما وقعوا في ذلك الإهمال، لا ينظرون في
آيات القرآن - في كثير منها - إلا وهم مشغولون بظنون جاءتهم من روايات، مما جعلهم
يأتون من مكان تبيين مراد الله من كلماته، بما يضـر كثيراً ولا ينفع"([7]).
ولقد كان يستشهد، في كثير من دروسه، بالروايات الملفقة
التي تشكّك في نبوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ كالرواية التي تتحدث عن قصة
الغرانيق([8]).
ولقد كان يعتقد أن المكائد ضد النبوة قد بدأت منذ أول عهد البعثة بأساليب عديدة،
بدءاً بالطعن في شخص رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ثم في الوحي الذي أتى به، ثم
في أزواجه الطاهرات، وكذلك في سيرة صحابته الكرام (رضوان الله عليهم). وكان - رحمه
الله - على يقين بأن كثيراً من روايات الدسائس الماكرة قد تسـرّبت إلى المصادر
الإسلامية في غفلة عن أصحابها، ولقد استمرت قافلة المشكّكين منذ ذلك الوقت، إلى أن
وصلت إلى المستشـرقين والمنصّرين المعاصرين.
ولهذا وضع الشهيد سبحاني قاعدة مهمة في عمل
التفسير، فقال: "إن من الأصول التي لا بدّ - في فقه كلام الله - من مراعاتها:
الحذر من الدسائس الماكرة، والروايات المختلقات، والاستغناء ـ في أخذ المعاني من
ألفاظها الدالة عليها ـ من الالتجاء إلى هذه أو تلك من الروايات، واجتناب رفع
الروايات إلى درجة القضاء على آيات الكتاب، وهي مما يجب أن يكون مقضياً عليه
بالآيات، وإخلاص القلب من الشواغل، استعداداً للتلقي من هدى الله"([9]).
ثانياً/ منهجية العلامة سبحاني في تفسير القرآن الكريم:
للشهيد ناصر سبحاني منهجية متميزة به في تفسير
القرآن، لم أر أن قد تبناها أحد قبله بتلك الصورة الفريدة التي انفرد هو بها. ولا
يُنكَر أنه قد سبقه آخرون من المفسـرين باتجاهات ومناهج متميزة، في بعض الجوانب،
إلا أن منهجيته جديدة في جوانب أخرى. ولقد حاولت أن استخلص تلك المنهجية باستقراء
ما قاله بصدد الموضوعات المتعلقة بالتفسير وعلومه، أو ما عمله فعلاً في مجال تفسير
عدد كبير من الآيات والسور. وهي باختصار تتمثل في الملاحظات والخطوات التالية، لمن
ينوي فهم كتاب الله وتفسير آياته:
1- إخلاص
القلب من الشواغل، استعداداً لفهم كتاب الله.
2-التأمل في
مفردات ألفاظ الآيات المراد تفسيرها ومدلولاتها، على ضوء مصادر اللغة العربية
الأصيلة.
3- التأمل في
نظم تراكيب الآيات المختارة للتفسير، أو السورة المختارة، مع التأمل في السياق
الذي وردت فيه الآية.
4- البحث عن
محور السورة المختارة، لتلقي فهم أو حكم معين فيها. حيث كان شديد الاعتقاد بأن لكل
سورة قرآنية محوراً تدور حوله السورة، (وكثيراً ما كان يستفيد من اسم السورة،
لتحديد محورها).
5- النظر في
الآيات الواردة في الأمر المراد تبيّنه من سائر السور، لإتمام عملية تفسير القرآن
بالقرآن، حد الإمكان.
6- فهم أسباب النزول، ودواعي مجيء الهدى الإلهي، (ولـه
في هذا قول جديد، سأبيّنه في فقرة تالية).
7- الحذر من
الروايات المختلقة، واجتناب رفع الروايات إلى درجة القضاء على آيات الكتاب، وهي
مما يجب أن يكون مقضياً عليه بالآيات([10]).
8- البحث في السنة والسيرة النبوية لتفسير القرآن
الكريم، ولكن فيما ثبتت صحته، وفق
ضوابط سنذكرها في الفصل المتعلق بمنهجه في فهم السنة النبوية والحديث وعلومه.
9- مطالعة
كتب التفاسير المعتمدة بعد ذلك، للحصول على المزيد من المعلومات والآراء، شرط مراعاة الخطوات السابقة، وعدم اعتماد رأي معين
دون أخذها بنظر الاعتبار، أياًّ كان المفسر.
10- ربط
محاور الآيات وسياقات القرآن، بل سور القرآن بعضها ببعض. فكان يرى - مثلاً - أن (سورة البقرة) تتحدث عن خصائص الأمة المصطفاة من قبل
الله لحمل أمانة الإسلام. وأن (سورة آل عمران) تؤكد أن تلك الأمة ستنتصـر
على خصومها، إذا اتّقت وصبرت، كما نصر الله آل عمران،
وكما حصل مع زكريا ويحيى وعيسـى - عليهم السلام - بسبب إيمانهم وصبرهم وتقواهم([11]).
هذا، ولقد اتبع الشهيد بنفسه هذه المنهجية،
وراعى هذه الخطوات. فكان يلازم القرآن طيلة أوقاته المخصصة للدراسة - والتي كان
الوقت الأغلب من ساعات أيامه ولياليه - ، وكان يحمل معه دفتراً للملاحظات، فكان لا
تمّر بذهنه خاطرة، أثناء تلاوة آيات من القرآن، إلا وسجّلها، وكان يعاود ما سجلّه
مع معاودة قراءة تلك الآيات، فيكتب ثانية خواطره التفسيرية الجديدة([12]).
وكأن الشهيد سبحاني قد طبّق - في عمله هذا - ما رواه العلامة القلقشندي
(ت821هـ/1418م)[13] -
مؤلف صبح الأعشى - عن الوزير ضياء الدين ابن الأثير، الذي قال: "الطريق في
استعمال المعاني من القرآن الكريم، واستعمال الآيات، في خلال الكلام: أن تعْمِدَ
إلى سورة من القرآن، تأخذ في تلاوتها، وكلّما مرّ بك معنىً أثبتتّه في ورقة مفردة،
حتى تنتهي إلى آخرها. ثم تأخذ في استعمال تلك
المعاني التي ظهرت، وإدخالها في خلال الكلام، وكلما عاودت التلاوة
وكرّرتها، ظهر لك من المعاني ما لم يظهر لك في المرة التي قبلها"([14]).
ثالثاً/ رسوخ سبحاني في فهم ألفاظ القرآن ومعانيها:
لقد برع سبحاني في مجال دراسة ألفاظ القرآن الكريم
ومفرداته، بحكم إلمامه الواسع باللغة العربية وقواعدها ومصادرها. ولقد كان يتصفّح
للبحث عن معنى كلمة واحدة ومدلولها، أو مفردة قرآنية، جميع مصادر اللغة العربية
الأصلية؛ بدءاً بكتاب (العين) للخليل الفراهيدي، و(مختار الصحاح) للرازي، و(النهاية)
لابن الأثير الجزري، ثم (لسان العرب) لابن منظور، و(القاموس المحيط) للفيروزآبادي،
وانتهاء بـ(مفردات ألفاظ القرآن) للعلامة الراغب الأصفهاني، الذي كان يعدّه أعظم
عمل لغوي في مجال استكشاف مدلولات ألفاظ القرآن الكريم وجمعها. ولقد كان يراجع
للبحث عن بعض المفردات القرآنية، قصائد المعلقات السبع الشهيرة لشعراء الجاهلية،
بغية فهم الاستعمالات العربية الأصيلة لبعض الألفاظ العربية. وكان يؤكد على أنه لا
بدّ لمعرفة معنى أي مصطلح قرآني، من الرجوع إلى السورة ذاتها التي ورد فيها
المصطلح، والتأمل فيها. ولقد مثّل لذلك بمصطلحي (المحكم) و(المتشابه) -مثلاً -
فأكد أنه لا بدّ من فهمهما، والاطلاع على مصاديق لهما، من الإلمام بسورة (آل عمران)،
والمحاور التي وردت فيها، لورود المصطلحين ضمن آيات السورة. وكذلك مثّل لذلك -
أيضاً - بمصطلحات (الدعوة بالحكمة)، و(الموعظة الحسنة)، و(الجدال بالتي هي أحسن)،
فأكد على أنه لا بدّ من قراءة متأنية وتدبّر كامل لـ(سورة النحل)، لورود المصطلحات
المذكورة في المقطع الأخير من السورة([15]).
هذا، ولقد أصبحت لديه ملكة قادرة على فهم
معاني ألفاظ القرآن ومدلولاتها، بحكم مراجعاته العديدة لمصادر اللغة، إلى درجة أنه
كان يقترب في ذهنه معنى المفردة القرآنية من خلال سماع حروفها في أول وهلة، أو
رؤيتها. فكان يؤكد، في فهم مدلول كلمة (التزكية) - مثلاً -، على أن جميع الكلمات
التي تبدأ بحرفي (الزاي والكاف) تعطي معنى (الامتلاء)، مثل: (زِكْر) بمعنى
(امتلاء)، يقول العرب: تزكرّ بطن الصبي، أي: امتلأ([16])،
وكذلك (زكّ) القربة: ملأها، و(زكب) الإناءَ:
ملأه، و(زكت) الإناء ـ أيضاً - : ملأه، و(زكَمَ) أي: امتلأ.. إلخ([17]).
فاستنبط الشهيد من هذه المعاني بأن (تزكية) النفس إنما تتم بأن تمتلئ
استعدادات النفس وقواها، وتنمو شيئاً فشيئاً رشداً وكمالاً، لكي تصبح ملكة
للإنسان، ومن ثم تؤتي ثمارها([18]).
ويرى أن كلمة (سباتاً) - في سورة النبأ - تعني
الرخاوة والاسترسال، لأن معظم الكلمات المبدوءة بالسين والباء تعطي ذلك المعنى. فمثلا كلمة
(سبح) تأتي بمعنى استرسل، يقال: سبح في الكلام. و(سبَخَ) كان فارغاً، ونام نوماً
شديداً. و(سَبَد) شاربُه: طال أو استرسله.
و(سبل) الشعر: استرسل. و(سبغ) العيش: اتّسع. وهكذا استنبط من أعماق المعاني
أن كلمة (سباتاً) الواردة في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا﴾ (النبأ/٩)، تعني وقوع حالة من الرخاوة والراحة والاسترسال، وهي التي تحصل للإنسان
أثناء النّوم. ودليله لذلك - عدا المعنى اللغوي هذا - كون كلمة (سبات) من
باب (فُعال)، الصيغة التي يدل معظمها على الداء والأوباء والأمراض، كالسُّعال
والعُطاس والنُعاس([19]).
وجاء أصل نظرته هذه، من أن القرآن قد أُنزِل
عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جار في ألفاظه
ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، وقواعد اللغة العربية وأساليبها، وكان
المنزَّل عليه عربياً، وكذلك الذين بُعث المنزل عليه فيهم، في بدء الدعوة، فجرى
الخطاب به على المعتاد في لسانهم، فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جارٍ
على معتادهم، لم يداخله شيء، بل نفى عنه أن يكون فيه شيء أعجمي، وإذا كان كذلك
فإنه لا يمكن أن يُفهم إلا من الطريق الذي أنزل عليه.
وبناءً على هذه القاعدة، يرى سبحاني أن كل من
ينظر في الشـريعة لا بدّ أن يكون ملمّاً بالعربية، وإلا فحسبه التقليد، أو أن
يستظهر بأهل العلم - إذا أشكل عليه في الكتاب
أو السنة لفظ أو معنى - ولا يُقدِم على قول فيه، دون أن يفعل ذلك([20]).
رابعاً/ التفسير الموضوعي للقرآن في منهجه، وتفسير القرآن بالقرآن:
سجّل العلامة ناصر سبحاني، منذ بدء اهتمامه
بالقرآن الكريم دراسة وتفسيراً - منذ عام (1980م)، وإلى حين اعتقاله عام (1989) -،
عدداً كبيراً من الدروس، في تفسير الكثير من آيات القرآن الكريم وسوره، تصل إلى
مئات الساعات، بحيث يمكن القول بأنه قد فسّـر معظم القرآن، سيما إذا جُمع ما تناثر
في ثنايا كتبه ودروسه من مقاطع التفسير المتنوعة، في آيات أو سور أو سياقات معينة
للقرآن الكريم.
وكان في نيته، منذ أواسط الثمانينيات من القرن
الماضي، أن يكتب تفسير القرآن الكريم كاملاً وفق منهجه الذي تبنّاه، فشـرع بكتابة
أهم ما دار في خلده من الخواطر والملاحظات الدقيقة؛ بدأً بسورة (الفاتحة)، وإلى
سورة (هود)، ولكنه اعتقل قبل أن يكمل أمنيته. وهذا العمل يعدّ سفراً علمياً مباركاً،
حيث لخّص فيه أهم المحاور والإشارات القرآنية، في حوالي اثني عشـر جزءاً من القرآن
الكريم، وهو جهد فريد من نوعه، لم يسبق أن فعله أحد من المفسرين قبله([21]).
ولقد اعتمد الشهيد في جهوده العلمية كافة،
منهجية التفسير الموضوعي للقرآن الكريم. فمثلاً ناقش موضوع معرفة الله سبحانه من
خلال جمع عشـرات الآيات المتعلقة بذلك في القرآن. وفعل ذلك أيضاً في دروسه المخصصة
لشـرح أسماء الله سبحانه وصفاته، وكذلك الدروس المخصصة للنظام السياسي في الإسلام،
والنظام الاقتصادي، والأحكام الاجتماعية المتعلقة بالعلاقات الزوجية والأسرة
والأطفال، وأحكام القتال والجهاد، وأساليب التبليغ والدعوة، وغير ذلك مما اعتني به
بكثرة في القرآن الكريم([22]). ويكاد
يكون جهده العلمي - بتفاصيله - تفسيراً للقرآن الكريم، ولكن باتباع اختيار
المواضيع للبحث، وبالنهج الذي اشتهر بالتفسير الموضوعي للقرآن.
وهذا النوع من المنهج هو - في نظره، وفي وجه آخر للموضوع - تفسير للقرآن
بالقرآن، حيث إذا جمعت آيات متعلقة بموضوع واحد، فإن ذلك يصادف حالة تبيين بعض
الآيات لبعض الآيات. وكثيراً ما كان يستشهد بمثال تفسير قوله تعالى: [أنْعَمْتَ
عليهم]، في (سورة الحمد)، بقوله تعالى في (سورة النساء): [وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا](النساء/٦٩). وقد تفسر آية محكمة آية
مما تشابه من القرآن نفسه.
ومن النماذج التطبيقية في تفسير القرآن بالقرآن،
يمكن أن أذكر ما فعله سبحاني في تفسير كلمة (الرب)، واستقراء معانيها ومدلولاتها.
فبعد أن تصفّح مراجع اللغة لاستجماع معاني لفظة الرب، ودقّق في سورة الفاتحة، وجد
أن معاني الكلمة التي أشير إليها في كتب اللغات، قد وردت في سورة الفاتحة نفسها.
وهذا العمل لم أجد أن فعله أحد من المفسـرين قبله. فيقول - رحمه الله-: "لفظة
(الربّ) تطلق على مجموع خمسة معانٍ، يحقق كل منها جزءاً من أجزاء وحدة متكاملة، هي: 1- القادر على جلب النفع. 2- القادر على دفع الضـرِّ، ويُدَلّ
عليهما بعبارة: الرحمن الرحيم. 3- المالك، والملك 4- المطاع الأمر. 5- المعين.
فإذا لم يكن هناك مقتضٍ لتخصيص بعضها، أريد بها جميعها، وأما إذا وجدت في الكلام
قرينة على إرادة بعضها، يراد بها ذلك فقط"([23]). وهو يقصد بذلك
أن آيات: [الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]، قد ضمّنت تلك
المعاني للفظة الرب مجتمعة.
هذا العمل، وهذا
المنهج في التفسير، عدّه شيخ الإسلام ابن تيمية أصح الطرق في تفسير القرآن
الكريم، فقال: "أصحّ الطرق في ذلك - أي في طرق التفسير - أن يفسـر القرآن
بالقرآن. فما أُجمِل في مكان، فإنه قد فُسـّر في موضع آخر. فإن أعياك ذلك، فعليك
بالسنة، فإنها شارحة للقرآن، وموضّحة له. بل قال الإمام الشافعي: كل ما حكم به
رسول الله، فهو مما فهمه من القرآن"([24]).
نموذج تطبيقي: وختاماً، أرى أن أنقل نموذجاً
تطبيقياً لعمله في هذا المجال من التفسير، فلقد ذكر في سياق حديثه عن الدعوة
وأساليبها، أن الله قد وضع معالم للدعاة في (سورة النحل)، وبهذه الطريقة: تتكون
السورة من مقدمة وفصلين، وكل فصل منهما يتكون من ثلاثة مقاطع. المقدمة تبدأ من
الآية الأولى إلى الرابعة، وتشير إلى عظم أمر الشـرك، وأن الله سبحانه لا يرضى به
لعباده، كيف وهو خالق الأرض والسماوات والإنسان. ثم يتحدث المقطع الأول من الفصل
الأول: (الآية 5 إلى23) عن مظاهر الربوبية، التي تُثبَت بها الألوهية، وهذه هي (الدعوة
بالحكمة). والمقطع الثاني: (من الآية 24 إلى 47) فيها ترغيب وترهيب شديدان، وهي
مصداق (الدعوة بالموعظة الحسنة). والمقطع الثالث: (من الآية 48 إلى 64) يتحدث عن
تناقضات المشركين، وخلل آرائهم، وتصوراتهم، وهو (جدال بالتي هي أحسن).
ثم يبدأ المقطع الأول من الفصل الثاني: (من الآية 65 إلى
81)، فتكرر الدعوة بالحكمة، بذكر نماذج من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس.
والمقطع الثاني: يبدأ (من الآية 82 إلى 97)، فيه الموعظة الحسنة مرة ثانية. ثم
المقطع الثالث من الفصل الثاني: (من الآية 98 إلى 142)، فيه نموذج الجدال بالتي هي
أحسن أيضاً.
ثم ينهي الله السورة بخاتمة الفصول، بالأمر بالدعوة إلى سبيله بالحكمة
والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن،
والأمر بالصبر على ذلك، فيقول: [ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ](النحل/ ١٢٥). ويؤكد الشهيد سبحاني أن الله قد ختم
السورة بهذه الخاتمة، إيعازاً منه لكي يفهم المسلمون أن النموذج الأمثل للدعوة
بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، هو ما ذكر في سياقات مقاطع تلك
الآيات التي وردت في بداية تلك السورة إلى انتهائها([25]).
رابعاً/ رأي العلامة سبحاني في أسباب
النزول:
أولاً/ تعريف أسباب النزول، وأهم
الكتب فيها، وجانب من كلام المحققين فيها:
1- أصل السبب
- في اللغة العربية - هو الحبل، وكل شيء يُتَوصَّل به إلى غيره([26])،وجمعه
أسباب. والنزول أصله: الحلول([27]).
وعليه، عرّف بعض العلماء أسباب النزول بأنه: "علم يُبحث فيه عن نزول سورة أو آية، ووقتها، ومكانها، وغير ذلك"([28]).
وهو علم إسلامي اخترعه السلف لغرض الاطلاع على ظرف نزول سور القرآن أو
آياته، والواقع الخاص بها. وهو يعين على فهم الآيات، ومدلول ألفاظها، وبهذا يعتبر
فرعاً من فروع علم التفسير.
2ـ وترجع
بدايات التأليف في هذا العلم إلى القرن الثالث الهجري، ويقال أن أول من صنّف فيه
هو شيخ المحدثين على بن المديني([29]).
وهناك تصانيف شهيرة في أسباب النزول، كـ(أسباب النزول)، للواحدي([30])، و(لباب
النقول في أسباب النزول)، للسيوطي، وكتاب (العجاب في بيان الأسباب)، لشهاب الدين
أحمد بن علي، وغيرها من كتب علوم القرآن، أو
كتب الأحكام التي ذكرت أسباب النزول، وكذلك كتب التفسير، سيما كتب المنقول،
كتفسير الطبري، والقرطبي، وابن كثير.
3 ـ ورغم
أهمية علم أسباب النزول، وجهود العلماء الكبار في جمع الروايات المتعلقة بها،
المتناثرة في المصادر العديدة، يرى كثير من كبار محققي الأمة بأن معظم روايات
أسباب النزول واهية، وكثير منها منقطع السند، إضافة إلى أن هناك تضارباً بين
الروايات المتعلقة بسبب نزول بعض الآيات أو السور. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن
تيمية: "أحاديث سبب النزول غالبها ليس بمسند. ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل:
ثلاثة علوم لا إسناد لها - وفي لفظ: ليس لها أصل -: "التفسير، والمغازي،
والملاحم. ويعني أن أحاديثها مرسلة"([31]).
ومن العلماء المعاصرين، انتقد صاحبنا العلامة سبحاني كثيراً من المصادر
التي تصدّت لمعالجة أسباب النزول، مؤكداً على أنه لا يُعتدّ بها، لكون رواياتها
ضعيفة، ولكون القصص الواردة فيها ليست في الحقيقة بياناً لأسباب النزول، وأن
أسانيدها منقطعة، وبعضها استنباطات من بعض مفسـري السلف، ذكروها في مجال التفسير،
ثم نُقلَت بعد ذلك كأسباب نزول. ويمثل الشهيد لهذه الحالات بأمثلة فعلية، كقول بعض
الرواة بأن آية: [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ..](الأعراف/٤٣، والحجر/47)، قد نزلت في علي وطلحة والزبير، حيث حصل عندهم غلّ بسبب
(وقعة الجمل)، بينما نزلت الآية بحوالي أربعين عاماً قبل تلك الموقعة!([32]).
وأكّد أنه قد يؤكد القرآن الكريم حدثاً تاريخياً، ولكن تُذكَر قصة الحدث في أسباب
النزول، كما هو الحال مع حادثة الفيل التي وقعت قبل نزول (سورة الفيل) بأكثر من
أربعين سنة، بينما يقول الرواة في تفسير السورة أن سبب نزولها حادث الفيل!.
ولهذا، يشترط الشهيد في قبول روايات أسباب
النزول - رغم صحة سندها - أن تتطابق مع الأصول الثابتة في القرآن، من جانب، وأن
تتناسب مع السياق الذي وردت فيه الآيات، أو سياق السورة التي ذُكر سبب نزولها، من
جانب آخر. وكذلك لا بدّ أن تتلاءم مع محور السورة، أو محور مجموع الآيات تلك.
ومثل هذه الحالات كثيرة، فلقد ذكرنا آنفاً قصة سحر النبي (صلى الله عليه
وسلم)، التي وردت في الصحيحين، ولكن نرى من العلماء من لا يصدقها، لكون متنها يقدح
بأصل قرآني، وهو وعد الله بعصمة النبي، بينما الرواية تلك تعارض ذلك، مما جعل أبا
بكر الأصم يقول: "إن حديث سحره (صلى
الله عليه وسلم) متروك، لما يلزم من صدق قول
الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن، حيث أكذبهم الله فيه". ونقل
الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، والله
يقول: [... وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ](المائدة: ٦٧)؟([33]).
ثانياً/ رأي العلامة ناصر في أسباب النزول:
هناك إشكالية في تناول موضوع أسباب النزول، بين تأكيد كثير من علماء
التفسير والأصوليين والفقهاء على ضرورة هذا العلم، ودوره في فهم القرآن واستنباط
الأحكام، وفهم مدلولات الألفاظ، وبين كون الروايات التي تشكل مادة هذا العلم ضعيفة
واهية، في كثير من الحالات، بل متضاربة متناقضة، في حالات أخر، كما ذكرنا في
الفقرة السالفة.. فبينما يؤكد كثير من العلماء ضرورة معرفة أسباب النزول لفهم
القرآن، واستخراج الأحكام منه([34])،
نرى - عن طريق الاستقراء - أن معظم آيات القرآن وسوره لم ترد فيها أسباب النزول ـ
وهي عن طريق النقل ـ، وأن معظم ما ورد فيها ليس عن طريق النقل الصحيح، بل هناك من
يرى أن بعض ما ورد في الصحيح - منه -مناقض للقرآن. فالجصّاص أكد، في (أحكام القرآن)، أن قصة سحر
النبي (صلى الله
عليه وسلم) من وضع الملحدين، رغم ورودها في
الصحيحين، فقال بالحرف: "مثل هذه الأخبار من وضع الملحدين، تلعب بالحشو
الطّغام، واستجراراً لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)
والقدح فيها"([35]).
يقول الشهيد ناصر، من منطلق منطقي ـ قبل أن يخوض موضوع أسباب النزول - : "إن كل كلام يصدر، إنما يصدر
بناء على أن هناك حقيقة تقتضـي واقعاً ملائماً مناسباً لتلك الحقيقة. فإما أن يكون
ذلك الواقع قائماً، فيأتي الكلام لتأييده، والدعوة لإبقائه، وجعله يدوم. وإما أن
لا يكون قائماً، فيصدر ذلك الكلام، داعياً لإقامته وإقراره. أو يكون واقع آخر، غير
ملائم وغير مناسب لتلك الحقيقة، قائماً، فيصدر ذلك الكلام للدعوة إلى إدانته،
واستبدال واقع آخر به، أو لا يكون ذلك الواقع غير الملائم قائماً، فيصدر الكلام
دعوة إلى الاستمرار على هذا"([36]).
ثم يدخل الشهيد - بعد هذا التشبيه والتمهيد - صلب الموضوع، فيقول: "هناك
حقيقة أن بين الله سبحانه وبين خلقه علاقة الخلق والأمر، فالله هو الخالق الآمر (بالأمر التسخيري، أو الأمر التشـريعي الابتلائي)،
والإنسان هو المخلوق المأمور. وعلى أساس هذه الحقيقة يجب أن يعيش الإنسان،
بحيث يكون سائراً بأمر الله التشـريعي الابتلائي، فكما أنه مخلوق لله، وسائر بأمره
التسخيري، فلا بدّ أن يكون في واقعه كذلك. وعند ذاك يكون الواقع الذي يعيشه ملائماً
لتلك الحقيقة (حقيقة كون الله خالقاً آمراً، وكون الإنسان مخلوقاً مأموراً)، فإن
صدر كلام من جانب الله كان ترغيباً له للاستقامة على هذا الواقع، وإن لم يكن كذلك -
أي لم يأتمر الإنسان بأمر الله ـ فالكلام الصادر من الله يكون داعياً لتغيير واقعه
إلى واقع ملائم مع الحقيقة المذكورة"([37]).
وهكذا، يرى الشهيد أن كلام الله - آية كان، أم
سورة - إنما يصدر، بناء على حقيقة، من جانب، وفي ظرف - زماني ومكاني - من الواقع، من جانب آخر. فكما أنه يجب أن
تُعرف تلك الحقيقة، التي هي المبنى والأساس للكلام، كذلك يجب أن يُعرف الواقع،
الذي هو ظرف للكلام، والمقتضـي لصدور الكلام. لأن الواقع ينبغي أن يكون ملائماً، فيقتضـي
صدور كلام مؤيد، بينما إن لم يكن ملائماً، فسيقتضـي صدور كلام داع إلى تغييره، ثم
يستخلص من هذا الواقع صدور كلام مؤيد أو داعٍ إلى تغيير، يقال له سبب النزول. هذه
هي حقيقة سبب النزول في رأيه، وكما سماه بالمعنى العميق، لا بالمعنى الدارج الذي
يتبادر إلى الذهن أثناء مطالعة كتب أسباب النزول([38]).
هذا الذي قاله الشهيد، قاله بغض النظر عن أن
يكون الكلام الصادر عن الله سبحانه من القرآن أو التوراة أو الإنجيل، أو أية رسالة
أخرى، فأصل الموضوع عنده أن سبب نزول الهدى من الله هو كون الواقع ملائماً للحقيقة
التي ذكرها- حقيقة كون الله خالقاً آمراً، والإنسان مخلوقاً مأموراً -، ومقتضياً
نزول حكم يدعو للاستقامة على ذلك الواقع، أو يدعو لتغييره. ثم يستنتج الشهيد من
هذه القاعدة المنطقية، أن اختلاف الظروف والأزمنة كان سبباً لنزول رسالات سماوية
تناسب تلك الظروف؛ كماًّ وكيفاً. فلم يكن ظرف منها ملائماً لكي ينزل كتاب كالقرآن
يكون خاتماً للرسالات، وإنما كمل الواقع المقتضـي لنزول الهداية الكاملة في عهد
خاتم الرسل محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث وصل البشـر إلى كل الضلالات
والانحرافات في التصورات والقيم.. وبإقامة نظام المجتمع الإسلامي، الحاكم بما أنزل
الله، قد كمل - من جانب آخر - الواقع الملائم للحقيقة القرآنية التي أشرنا إليها،
فاقتضـى الحال نزول تمام كتاب الهداية الإلهية، فكمل الاقتضاء، واكتملت الرسالات.
يقول - في هذا باختصار - : "لكون الواقع سبباً للنزول، ولأن تفاصيل الواقع هي
الأسباب التفصيلية لنزول الآيات، ولكون التفاصيل لا تحدث ولا تقع في آن واحد، وفي
ظرف واحد، بل تحدث شيئاً فشيئاً، لذلك لم يكن من الحكمة أن ينزل القرآن مرة واحدة،
بل اقتضت الحكمة أن يُفرَّق، وينزل بتدرج"([39]).
هذه - في نظر العلامة سبحاني - هي حقيقة سبب النزول، وبعد ذلك لا مانع بأن نقول
أنه قد وقعت في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) حوادث انطبقت عليها بعض الآيات، أو
هي مصاديق لبعض ما في القرآن، لا أن الحدث قد وقع بالضـرورة، ثم نزلت الآية، بحيث
يُتصوّر أنه لو لم يحدث الحدث، لما كان ينزل ذلك الحكم الإلهي.
ورغم ملاحظاته العديدة على مصادر أسباب النزول،
أوصى أن تقرأ وتطالع - رغم أن معظم الروايات فيها لا تعين على فهم القرآن - ولكن
ينبغي قراءتها، لا سيما كتاب السيوطي، لأنه أنفع الكتب في هذا المجال، كما يقول([40]).
وفي ختام هذا المبحث، لا بدّ من بيان أن
سبحاني قد أبدى استغرابه من محقق كبير كالشاطبي - صاحب الموسوعة الأصولية العظيمة
(الموافقات) - الذي أكد على معرفة أسباب النزول كلازمة من لوازم علوم القرآن،
بالتأكيد على أن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على مقتضيات الأحوال؛ حال
الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع، إذ
الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حاليْن، وبحسب مخاطبيْن، وبحسب غير ذلك - كما أكد
عليه من جهة أن الجهل بأسباب النزول، موقع في الشبه والإشكالات، وأن الغفلة عنها،
تؤدي إلى الخروج عن مقصود الآيات([41])،
- أقول: كان الشهيد ناصر يستغرب من هذه الأقوال من الشاطبي، بينما لم ينتبه
الشاطبي إلى ما ذكرناه من كون معظم تلك الروايات ضعيفة أو متضاربة، لا يُعتدّ
بكثير منها إلا بعد تفحّص شديد وتحقيق علمي يقتضيه شأن استخراج الأحكام من الآيات،
وهو أمر في غاية الأهمية كما هو معلوم.
[1] الفراهيدي، العين، ص: 743. والرازي، مختار الصحاح،
ص: 503. والفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص: 587، مادة فسر.
[2] الفراهيدي، العين، ص: 48، مادة أول.
[3] الرازي، المختار الصحاح، ص: 33، مادة أول.
[4] ابن تيمية، شرح أصول التفسير، ص: 194.
[5] أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، ص: 43.
[6] ألّف جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) كتاب طبقات المفسرين،
فذكر حوالي (136) مفسراً، وهناك مؤلفات أخرى عديدة حول الموضوع.
[7] ناصر سبحاني، رسالة في علوم الحديث، ص: 64.
[8] قصة
الغرانيق قصة مكذوبة ملفقة، مختصرها أن رسول اللهﷺ قد مدح أصنام قريش لما قرأ (سورة
النجم)، وذلك بإيحاء من الشيطان، حيث قال ـ كما تزعم الرواية المكذوبة-: [أفرأيتم
اللات والعزّى، ومنات الثالثة الأخرى]، فزاد في الآية: "تلك الغرانيق العلى،
وإن شفاعتهن لترتجى". ثم لما انتهى من قراءة السورة سجد رسول الله، وسجد معه
المسلمون والمشركون. ولكن المحققين من العلماء رفضوا الرواية، لأن حقيقة ما حدث هو
أن الرسول ﷺ قرأ (سورة النجم)، فسجد معه المشركون متأثرين بقراءته. وهذا القسم ورد
في البخاري، باب سجود المسلمين مع المشركين، رقم: (1021). أما قصة الغرانيق، فقال
البيهقي بحقها: رواتها مطعون فيها، وقال النووي: "باطل لا يصح منه شيء، لا من جهة النقل، ولا من جهة
العقل". وقال ابن خزيمة: "القصة من وضع الزنادقة". (انظر
للتفاصيل: الألباني، نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، ص: (10-33).
[9] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، ص: 35.
[10] ذكر هذه الخطوات في كثير من دروسه ومؤلفاته. ينظر مثلاً: الولاية
والإمامة، ص: 35. ودروسه في تفسير سورة البقرة، ومقدمته للتفسير.
[11] هناك مسودة إعداد بحث
للشهيد، خاصة بالبحث عن الصلاة في القرآن الكريم، محفوظة لدى أهله،
ولدى الباحث نسخة منها، حيث جمع فيها (165) آية قرآنية متعلقة بالصلاة، وبدأ
بتفسيرها، ولكن وافته المنية، ومشروعه لم يكتمل، إلا أنه قد سجل دروساً وافية حول
الصلاة، وحُكمها وحِكمها..
[12] ينظر: ناصر سبحاني، دروس في تفسير سورة آل عمران (في مقدمة
السورة).
[13] القلقشندي هو: القاضي شهاب الدين، أحمد بن عبد الله
بن أحمد، وقيل: بن علي، ولد بقلقشندة، إحدى القرى المصرية في القليوبية. تولى وظائف إدارية عديدة، إلى أن أصبح
رئيس ديوان الإنشاء في عهد السلطان الظاهر برقوق (784-801هـ). من أروع مؤلفاته
كتاب صبح الأعشى، الذي يتكون من (15)
مجلداً. توفى عام 821هـ/1418م. (انظر لتفاصيل سيرته: مقدمة صبح الأعشى،
1/30-28).
[14] القلقشندي، صبح الأعشى، 1/240.
[15] ينظر: ناصر سبحاني، دروس في الدعوة، (أربع ساعات)، الدرس
الرابع.
[16] ينظر: الرازي، الصحاح، ص: 273.
[17] ينظر للمفردات المبدوءة
بـ(الزاي والكاف) في مصادر اللغة، مثلاً: لسان العرب لابن منظور، والقاموس
المحيط للفيروز آبادي، وغيرهما.
[18] ينظر: ناصر سبحاني، نظرة حول اللغات والمفاهيم القرآنية،
ص: 47.
[19] ينظر: تفسير الشهيد سبحاني لسورة (النبأ).
[20] ينظر:
ناصر سبحاني، الابتداع في الدين، ص: 56-57.
[21] هناك سعي من قبل مؤسسة (برهم)، المعنية بشأن نتاجات
سبحاني، لجمع أعماله في التفسير.
[22] للعلامة سبحاني في هذه المجالات (13) ساعة دروساً حول الأسماء
الحسنى، وقد طبع باللغة الفارسية. و(13) ساعة
حول العبودية في (344) صفحة باللغة الكوردية، وقد طبع ست مرات. و(18) ساعة درساً حول النظام السياسي في الإسلام. و(13) ساعة
حول النظام الاقتصادي، وهو مطبوع باللغة الكوردية في (374) صفحة. وعشرات
الدروس في مجال الأحكام الاجتماعية. و(22)
درساً حول معرفة الله، طبع في (634) صفحة. وأحكام القتال في (10) ساعات، والدعوة
في سبيل الله (4) ساعات، وقد طبعا في (245)
صفحة، عدا عشرات من العناوين لم تطبع لحد الآن.
[23] ناصر سبحاني، أسس التصورات والقيم، ص: 18.
[24] ابن تيمية، مقدمة في أصول التفسير، القاهرة، دار ابن جوزي،
1426هـ ، ص: 91.
[25] ينظر لتفصيل ذلك: ناصر سبحاني، الدعوة ومراحلها (باللغة
الكوردية) إعداد: آرام محمد، وسروت عبد الله،
أربيل (كوردستان)، 2011م، ص: 119-133، وكذلك دروس أخرى للشهيد حول الدعوة في سبيل
الله.
[26] ينظر: الفيروز آبادي،
القاموس المحيط، ص: 123. والرازي، مختار الصحاح، ص: 281. والفراهيدي، العين، 404،
مادة (سبب).
[27] ينظر: الفيروز آبادي، القاموس المحيط،، ص: 1372.
والرازي، مختار الصحاح، مادة (نزل).
[28] صديق حسن القنوجي، أبجد العلوم، بيروت، دار ابن
حزم،1423هـ/2002م،266.
[29] هو: أبو الحسن، على، بن عبد الله، بن جعفر(ت: 234هـ/848م)، من
كبار شيوخ البخاري، الذي قال بحقه: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند ابن المديني.
(انظر لتفاصيل حياته: ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، بيروت، دار
المعرفة، 7/349).
[30] هو: علي، بن أحمد، بن محمد، الواحدي، أبو الحسن، المفسر والأديب
واللغوي. وصفه الإمام الذهبي بإمام علماء التأويل. وهو من بلاد إيران، توفي
بنيسابور عام (468هـ/ 1175م). (انظر: معجم المؤلفين، 2/400، رقم 9173).
[31] ابن تيمية، منهاج السنة، 7/435.
[32] الرواية أوردها القرطبي
في تفسيره، ولكن بقول علي بن الحسين: " نزلت في أبي بكر وعمر وعلي والصحابة،
يعني ما كان بينهم في الجاهلية من الغل."ينظر: تفسير القرطبي،10/33.
ولم يرد فيها ذكر وقعة الجمل، ولم يذكر السيوطي في أسباب النزول وقعة الجمل.
والرواية في كل الأحوال ضعيفة، فهي واهية
مرسلة، فيها من لم يسمّ. وفي سندها من هو متروك الحديث، وهو: كثير بن
النواء. ثم إن الرواة نقلوا هذا القول عند ذكر سبب نزول آية (سورة الحجر )،التي
هي: [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ
مُّتَقَابِلِين](الحجر/47)، وليس آية (سورة الأعراف).
[33] النووي، المجموع، 19/243.
[34] خصّ الزركشي فصلاً كاملاً في كتابه: البرهان في علوم القرآن
لتعداد فوائد أسباب النزول، كمعرفة وجه الحكمة الباعثة على الحكم، أو تخصيص حكم
معين، أو فهم الآيات، وغير ذلك.
[35] الجصاص، أحكام القرآن، 1/49.
[36] ناصر سبحاني، دروس في أسباب النزول، الدرس الأول، كرماشان
(إيران)، 1997 .
[37] المصدر نفسه، الدرس الأول.
[38] أكد هذا في كثير من دروسه، سيما في (مقدمة في التفسير)،
وتقديماته لتفسير عدد من السور .
[39] ناصر سبحاني، دروس في أسباب النزول، الدرس الثاني.
[40] يقصد لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي، وقد طبع عدة
طبعات.
[41] ينظر
لتفاصيل ما قاله الشاطبي: الموافقات، 3/347-350، فلقد قال بأكثر من ذلك في
أهمية معرفة سبب النزول، دون أن ينوّه إلى ما ذكره سبحاني. قال الشاطبي بالحرف:
"لو فقد ذكر السبب، لم يُعرف من المنزل معناه على(الخصوص)!. الموافقات
3/350، وهذا كلام في غاية الخطورة، لأن معظم الآيات
لم يذكر أسباب نزولها، وأكثر ما ورد بحقه سبب النزول، ورد بأسانيد ضعيفة، كما
أكدنا مراراً.
---
¨ مجلة الحوار ǀ العدد 186 ǀ السنة الحادية والعشرون ǀ شتاء 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق