لم تكن أحداث آذار عام 1991، في ما كان يعرف بـ(منطقة الحكم الذاتي)، والتي ابتدأت شرارتها من بلدة (رانية)، الصغيرة على الحدود العراقية- الإيرانية، (وهو الأمر الذي يحمل مدلولاته، وخاصة أن الدولتين كانتا قد خرجتا توا من حالة حرب دامية)(1)، وامتدت بعد ذلك لتشمل جميع المحافظات الكوردية الثلاثة (أربيل، دهوك، السليمانية)، لم تكن تلك الأحداث والتطورات الخطيرة، التي أسست لما بعدها، وليدة لحظتها، ولم تكن بمعزل عما جرى وما كان يجري في المنطقة..
لقد كانت أجواء الحدثين الأفغاني والإيراني يخيمان على المنطقة العربية والإسلامية بأسرها، وكان عام 1979م قد شهد اندلاع الثورة الإيرنية، التي أطاحت بعرش واحد من أقوى الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، وهو العام ذاته التي انطلقت فيه الثورة الأفغانية، ضد الاحتلال والتدخل الروسي في (أفغانستان).. وكان هذان الحدثان الفارقان والعظيمان، أولهما بالانتفاضة والمقاومة الشعبية المذهلة، التي أبداها الشعب
الإيراني في مواجهة قمع النظام البهلوي، وقدرة القوى الشعبية الإيرانية، وقياداتها العلمائية والميدانية، من إسقاط النظام العسكري الدكتاتوري، عن طريق القبضة المجردة والهتافات والتظاهرات الشعبية الحاشدة.. وثانيهما، بانتهاج سبيل المقاومة المسلحة، وإعلان (الجهاد) من قبل أبناء وقيادات الشعب الأفغاني، ضد تدخل القطب الأعظم الثاني آنذاك في العالم، في بلادهم.. كان هذان الحدثان بما يحملان من دلالات مهمة، وإيحاءات قوية، يخيمان في تأثيرهما على الأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية، في طول العالم الإسلامي والعربي وعرضه، وكانت منطقة إقليم كوردستان غير بعيدة عن ذلك كله..
الإيراني في مواجهة قمع النظام البهلوي، وقدرة القوى الشعبية الإيرانية، وقياداتها العلمائية والميدانية، من إسقاط النظام العسكري الدكتاتوري، عن طريق القبضة المجردة والهتافات والتظاهرات الشعبية الحاشدة.. وثانيهما، بانتهاج سبيل المقاومة المسلحة، وإعلان (الجهاد) من قبل أبناء وقيادات الشعب الأفغاني، ضد تدخل القطب الأعظم الثاني آنذاك في العالم، في بلادهم.. كان هذان الحدثان بما يحملان من دلالات مهمة، وإيحاءات قوية، يخيمان في تأثيرهما على الأجواء السياسية والاجتماعية والثقافية، في طول العالم الإسلامي والعربي وعرضه، وكانت منطقة إقليم كوردستان غير بعيدة عن ذلك كله..
وعلى الصعيد الداخلي العراقي، كان النظام البعثي قد صادر حريات الشعوب العراقية، وفرض عليها أشكالا من القيود والظلم والتنكيل والقمع، وكانت الذاكرة الكوردية بالذات تختزن تاريخا مؤلما من الكفاح ضد هذا النظام، والأنظمة العراقية السابقة له، وكانت ذكرى الأحداث المأساوية لقصف مدينة ( حلبجة) بالأسلحة الكيمياوية عام 1988م، وعمليات (الأنفال)، التي سبقت ذلك التاريخ، وتلته، لا تزال حية في وجدان الشعب الكوردي.. وكان العراق قد خرج لتوه من حرب ضروس مع جارته (إيران)، حرب أنهكت الدولة، وأضرت بالمجتمع، وكبدته خسائر فادحة في الأرواح والأموال.. ولم يكد الشعب العراقي يتنفس الصعداء لانتهاء الحرب، حتى بدأ بالنظام بمغامرة جديدة، وهي المغامرة التي قصمت ظهره، ولم تقم له بعدها قائمة، مغامرة احتلال (الكويت)، وضمها إلى (العراق)، عام 1990م، وما تبع ذلك من نشوب ما عرف باسم (حرب الخليج الثانية)، التي انتهت بهزيمة الجيش العراقي، وتفتت قواته، وفرض شروط المنتصر عليه في (معاهدة صفوان).. وكان ذلك، فضلا عن الوضع المأساوي الذي أعقب تلك الحرب، والعبء الثقيل الذي كان يفرضه النظام على أبناء الشعب، والقهر وقمع الحريات، هو الذي جعل شرائح المجتمع العراقي، ابتداءا من (الجنوب )، ذي الكثافة الشيعية، تتحرك للانتقام لنفسها، ولاستخلاص حريتها، وكانت الانتفاضة المعروفة في الأدبيات الشيعية باسم (الانتفاضة الشعبانية).. كانت هذا الانتفاضة خلال شهر شباط من عام 1991م، أي بحوالي أقل من شهر، من موعد انفجار انتفاضة الكورد في الشمال، في بلدة (رانية) التي أشرنا إليها، والتي ابتدأت في الخامس من شهر آذار مارس من العام نفسه..
هذه هي الأجواء التي ولدت فيها الانتفاضة الكوردية، أو (الربيع الكوردي): أصداء ثورات شعبية، غيرت من نظرة الشعوب إلى نفسها، وقدراتها، من جانب، وقمع للحريات وظلم للفرد والمجتمع، كان يمارسه النظام السابق، بحق الكورد وغيرهم، من جانب آخر.. ومن ثم سنوح الفرصة، بعد تراخي قبضة النظام الأمنية والعسكرية، بعد أحداث الكويت، مما ألهب حماس الناس، ودفعهم عفويا إلى اللجوء إلى حل إشكالاتهم مع النظام الحاكم بأنفسهم، وعلى طريقتهم الخاصة..
لا ننسى بالطبع الإشارة هنا، إلى أن الامتداد الشيعي بين الجنوب العراقي والعمق الإيراني، كان من العوامل المحفزة والمشجعة للشيعة في الجنوب، على البدء في الانتفاضة، واستغلال الفرصة السانحة، التي حانت بعد هزيمة النظام البعثي في الكويت.. كما أن الثورة المسلحة الكوردية، التي كانت مشتعلة منذ عقود، والتي كانت آنذاك ليست في أفضل حالاتها، كانت هي الأخرى الدافع والمحفز والمشجع لأبناء شعبنا الكوردي، على القيام بانتفاضتهم، وطرد أزلام النظام ورجالاته وعساكره من مناطقهم(2)..
لقد كانت الانتفاضة الكوردية في العراق (والشيعية كذلك في الجنوب)، مؤشرا على حالة فقدان الثقة التامة بالنظام، وعلى أن الشعوب قد تصبر على الضيم والقهر، ولكنها ستستغل أول فرصة سانحة لها لكي ترد الصاع صاعين، وتنتقم لنفسها وكرامتها.. ولكن الأنظمة الدكتاتورية لا تفقه دروس الحرية والكرامة، ولذلك سرعان ما عاد النظام – بعد إعادة تأهيله من قبل القوى الكبرى، التي رأت في بقائه آنذاك مصلحة لها- إلى استعمال أساليبه القديمة في التعامل مع الشعب، وشرع في قمع الانتفاضة بكل الوسائل والأساليب، وهو ما أدى إلى ذلك الحدث الفريد الذي هز ضمير العالم، حيث فرغت المدن والقرى الكوردية عن بكرة أبيها، وخرج ساكنوها جميعا – تقريبا – هربا من قمع النظام، يطلبون النجاة بأرواحهم، قاصدين الحدود الإيرانية والتركية، في ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ الحديث بهذا الشكل، ونقلت كاميرات التلفزيون العالمية هذه المناظر غير الطبيعية، وكان ذلك مدعاة للتدخل الدولي، الذي أنهى هذه التراجيديا المرعبة، وأوقف قمع النظام الدكتاتوري ضد شعبه.. لقد كان ذلك الهروب الجماعي لشعب بأكمله، خوفا من بطش الحاكم، حدثا فريدا في التاريخ البشري، لا أعرف مثيلا له، وكان ذلك مؤشرا على مدى الهوة الواسعة بين الشعب الكوردي والنظام الحاكم، ومدى الوحشية التي اشتهر بها هذا النظام، الذي لم يكن يرعوي عن استعمال أية وسيلة في سبيل تحقيق مآربه، وهو النظام الذي خبره الكورد من قبل في عمليات (الأنفال) الظالمة، وفي جريمة (حلبجة) المشهودة..
لقد كانت الانتفاضة قصيرة في مداها الزمني، وسرعان ما قمعها النظام الدكتاتوري، ولولا الهجرة المليونية للشعب الكوردي، وما تبعها من التدخل الدولي، لأصبحت تلك الانتفاضة من ذكريات الماضي، ولكان النظام القمعي قد أخمدها وأجهز عليها.. ولكن الوضع المأساوي الذي أخذت الأوضاع في كوردستان العراق تسير إليه، دفع المجتمع الدولي إلى التحرك بحثا عن حل.. وكان أن فرضت ما عرف بـ (المنطقة الآمنة)، وهي المنطقة التي تشمل أغلب إقليم كوردستان العراق اليوم.. وهكذا كان، وعاد الكورد إلى مواطنهم، بعد أن أجبر النظام البعثي على سحب قواته من المنطقة الكوردية.. ثم ما لبث النظام الحاكم أن سحب كافة الإدارات والأجهزة الحكومية من المنطقة أيضا، ظنا منه أن ذلك سيدفع الأوضاع إلى التدهور والاضطراب والفوضى.. ولكن الأحزاب الكوردية، التي كانت - بحكم خبرتها، وتنظيمها، وقواها المسلحة -، قد استلمت زمام المبادرة، وتصدرت واجهة الأحداث، بادرت إلى الإمساك بزمام الأمور، ومنع حدوث الفوضى والارتباك، وشرعت في توليد البدائل المناسبة.. ثم ذهبت في خطوة تاريخية شجاعة إلى تنظيم أول انتخابات شعبية كوردية حرة، لانتخاب أول برلمان كوردي مستقل، ومن ثم تشكيل أول حكومة كوردية مستقلة، في هذا الجزء من كوردستان.. وهكذا بدأت ملامح الحدث الكوردي، والمستقبل الكوردي، في التشكل والتبلور..
لقد كان الربيع الكوردي عفويا، وغير مخطط له، ومفاجئ، جاء بغتة من غير انتظار ولا توقع، ولكنه كان حدثا له دوافعه، وأسبابه، وخلفياته، وكوامنه، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق.. وعندما حل الربيع الكوردي، وهز الإنسان الكوردي، والمنطقة، ظل ولم يرحل، وترك آثاره، وجنى الكورد ثماره.. صحيح أن الكثيرين اليوم – من أبناء الشعب الكوردي – يرون أن تضحياتهم لم تحقق لهم ما كانوا يصبون إليه، وأن النظام الكوردي الذي صنعوه بأيديهم، لم يرق إلى مستوى طموحاتهم وتوقعاتهم، بل إن فيهم من يذهب إلى القول بأن الربيع الكوردي لم يحن بعد، ولا بد من ربيع كوردي يعيد الأمور إلى نصابها.. ولكن النظرة الواقعية والموضوعية تقول بأن الانتفاضة الكوردية والهجرة المليونية كانتا ربيعا كورديا، حقق ثماره في صنع البرلمان والحكومة الكوردية، وجعل منطقة الحكم الذاتي – كما كانت تدعى – إقليما فدراليا، أخذ يفرض حضوره الدولي والإقليمي يوما بعد يوم، وخاصة بعد سقوط النظام البعثي، عام 2003م.
الهوامش:
1) من يتابع تطورات الأحداث آنذاك، سيلاحظ بسهولة أن شرارتها انطلقت من مدينة (رانية) الحدودية البعيدة، في 5/3/1991، ثم تبعتها بلدات أخرى – بعيدة أيضا عن سلطة وقوى النظام، نوعا ما - ، وتأخرت مراكز المدن الكبيرة في الدخول في هذا الحدث الثوري كثيرا، فنجد أن أهالي مدينة (أربيل) لم ينتفضوا إلا في 11/3/1991، في حين تأخرت مدينة (السليمانية) إلى 13/3/، بينما كانت مدينة (دهوك) آخر المناطق التي شملتها الانتفاضة (19/3/1991).. وهذا يدل على مدى الحذر والخوف الذي كان يلف الأهالي والقائمين على شؤون الانتفاضة، من سطوة النظام وبطشه، وهو الذي عرف بالوحشية والقسوة في التنكيل والبطش بكل من يقف في وجهه.. وهكذا، ابتدأت في منطقة نائية، على الحدود العراقية- الإيرانية، ثم انتقلت إلى الأطراف والنواحي البعيدة عن مراكز المدن، ثم شملت المدن الرئيسية الكبيرة أخيرا !!
2) من المفيد والضروري كذلك، الإشارة إلى ظاهرة إنسانية ملفتة للنظر صاحبت تلك الأحداث والعمليات، فرغم أن الانتفاضة، وخاصة في بداياتها، كانت عفوية ومن غير تخطيط مسبق إلى حد كبير، ولكننا وجدنا أن التخريب والتدمير لم يطل إلا أجهزة الاستخبارات والأمن التي كانت تذيق الناس العذاب والويل، كما أن القتل والتنكيل لم يشمل إلا هؤلاء أيضا، فقد كان الجنود وأفراد الجيش العراقي يلاقون المعاملة الحسنة من الأهالي والمسلحين، ويسرحون بعد ذلك إلى أهاليهم ومناطقهم.. وهي ظاهرة إنسانية، تشير إلى أن الشعب الكوردي كان يعرف أعداءه جيدا، وكان يدرك أن أفراد الجيش، رغم أنهم كانوا يقاتلونهم، لكنهم كانوا يفعلون ذلك مجبرين، أو من باب أداء الواجب المفروض عليهم، ولذلك عندما سنحت لهم الفرصة للانتقام منهم، لم يفعلوها، بل على العكس ساد موقف التسامح والعفو والتكريم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق