العلامة الشهيد ناصر سبحاني |
تمر علينا في هذه الأيام (تحديدا 18/3/1990) ذكرى استشهاد العالم المعاصر والداعية الصابر العلامة الشهيد (ناصر سبحاني) (1371-1410هـ/1951-1990م)، الذي عاش في حقبة اتّسمت بالاضطراب والأزمات العديدة، سواء بالنسبة لبلده إيران، أو لمنطقة الخليج والعالم الإسلامي على وجه العموم.. ولقد طوته بلاده لظروف سياسية وأسباب مذهبية، ولولا انغلاق تلك البلاد على خارجها لذاع صيت الشهيد العلامة (سبحاني)، ولكُتبت حول حياته ونتاجاته العلمية وتميّز أفكاره، وجهوده الإصلاحية، عشرات من الدراسات، ولكن يبدو أنه- رحمه الله- قد ظُلم مرتين: مرة في حياته، حيث اعتقلته السلطات الإيرانية عام 1989م بسبب أفكاره وآرائه المتميزة، وتصوراته العلمية، ومواقفه المبدئية الجريئة والحاسمة، وعُذّب بشتى الأساليب، وحُكم عليه بالإعدام خفية، دون إعلان حكمه، أو أيّ ذكر للتهمة الموجهة إليه. وظُلم بعد وفاته، حيث حاولت تلك
السلطات أن تخفي خبر إعدامه وقضيته- من الأساس- عن عامّة الناس، وهذا الظلم الثاني بدأ منذ أول أيام الإعلان عن وفاته، حيث منعت الجهات الحكومية أهله وأنصاره أن يعقدوا له مجلس عزاء، كما منعتهم من نقل جثته التي دفنت في مدينة بعيدة عن مسقط رأسه.
السلطات أن تخفي خبر إعدامه وقضيته- من الأساس- عن عامّة الناس، وهذا الظلم الثاني بدأ منذ أول أيام الإعلان عن وفاته، حيث منعت الجهات الحكومية أهله وأنصاره أن يعقدوا له مجلس عزاء، كما منعتهم من نقل جثته التي دفنت في مدينة بعيدة عن مسقط رأسه.
ولقد مضى على استشهاد هذا الداعية العبقري ما يقرب من ربع قرن - لحين كتابة هذه الأسطر- ورأيت أنه من الظلم بحقه أن يُهمَل الحديث عنه وعما تركه لأكثر من عقدين من الزمن، على أن الأمة– دعاة ومدعوين، قادة و شعوبا– بأمسّ الحاجة لبثّ أفكار مثل هؤلاء الكبار من العلماء والمجتهدين. ولقد كان هو يحرّم على نفسه، وعلى غيره من العلماء، ستر العلم، أو السكوت عن الإفصاح بالحق، معتقدا أن زكاة العلم نشره وإيصاله إلى من يحتاجه، كما أن زكاة المال إنفاقه على مستحقيه.
ولكوني قد عايشت هذا العالم الجليل قرابة عقد من الزمن، رأيت من واجب الأخوة عليّ أن أستغل فرصة ذكرى استشهاده لعرض جانب من شخصيته، مع إلقاء ضوء على أهم نتاجاته العلمية.
إن العلامة (ناصر سبحاني) قد تميَز بطول باعه العلمي وموسوعيته المشهودة، في جميع مجالات القرآن وعلومه وتفسيره، والحديث وعلومه، والفقه، وأصوله، وعلوم اللغة والبلاغة.. تشهد له في ذلك نتاجاته وآثاره، المتمثلة في مئات من الدروس والمحاضرات العلمية المسجلة، وعدد من الكتب والرسائل والدراسات، المطبوعة منها، وغير المطبوعة. كما بلغ سموّ فكر الشهيد شأوا بعيدا، حتى إن كثيرا من علماء المنطقة، والمطّلعين على أفكاره، اعتبروه مجتهدا في مجال فقه القرآن واستنباط الأحكام فيه، ومبدعا في وضع نظريات علمية جديدة- إلى حد بعيد- في مجالات التفسير وعلوم الحديث وأصول الفقه. فهو في تناوله لكثير من القضايا المثيرة للجدل في الأوساط العلمية لبلده، سابق غير مسبوق.
إن آثار هذا العالم الجليل ليست مجرد صفحات أو محاضرات أنتجتها عبقريته الفذة، وإنما تنطوي على فهم دقيق، وعلم غزير، واستكشاف رؤى ونظريات جديدة في العلوم الإسلامية، وإسهامات معرفية وفكرية، تدفع نحو التجديد مع التأصيل. ولقد آثر العلامة (سبحاني) التنظير والتأصيل على الفتوى المجرّدة، وجمع بين أصالة الأقدمين والسلف، وواقعية وانفتاح المحدثين والخلف، كما كان موفقا في التوفيق بين البحث عن العلم والمعرفة، ودمجهما في العمل والحركة.
ولذا فإنني أعدّه- ومعي من عرفه- من نوادر النوابغ الذين برزوا في الأمة الإسلامية، من الذين هداهم الله ووفّقهم لكي يجمعوا بين العلم والعمل، والمعرفة والتقوى، والإخلاص والإتقان في سلوكهم، وأن يجمعوا بين الأصالة والمعاصرة، والاتّباع والتجديد في فقههم ومنهجهم، وإنني- ولا أزكّيه على الله- أُعدّه من أئمة الهدى، من الذين استوقفتني عبارة للإمام (الحارث المحاسبي) يصفهم بها، ولم أجد عبارة أوجز وأوفى بحقه مما قاله هو، ولعلّ من رآه ولازمه لأيام يصدّقني أن (سبحاني) من مصاديق ونماذج تلك الفئة الإيمانية، التي أشار إليهم (المحاسبي) في رسالته (الوصايا)، الذين يقول رحمه الله فيهم: " قيّض لي الرؤوف بعباده قوماً وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإِيثار الآخرة على الدنيا، ووجدت إِرشادهم ووصاياهم موافقة لأفاعيل أئمة الهدى، مجتمعين على نصح الأمة، لا يُرَجُّون أبداً في معصيته، ولا يُقَنِّطون أبداً من رحمته... وَرِعين عن البدع والأهواء، تاركين التعمّق والإِغلاء، مبغضين للجدال والمراء، متورِّعين عن الاغتياب والظلم، مخالفين لأهوائهم، محاسبين لأنفسهم، مالكين لجوارحهم، ورِعين في مطاعمهم وملابسهم وجميع أحوالهم، مُجانبين للشبهات، تاركين للشهوات، مجتزئين بالبُلْغة من الأقوات، متقلّلين من المباح، زاهدين في الحلال، مشفِقين من الحساب، وَجِلين من المعاد، مشغولين بينهم، مُزْرِين على أنفسهم من دون غيرهم، لكل امرئ منهم شأن يغنيه ... ذلك أورثهم الحزن الدائم والهمَّ المقيم، فشغلوا عن سرور الدنيا ونعيمها. ولقد وَصَفوا من آداب الدين صفات، وحَدُّوا للورع حدوداً ضاق لها صدري.. وأيقنتُ أنهم العاملون بطريق الآخرة، والمتأسون بالمرسلين، والمصابيح لمن استضاء بهم، والهادون لمن استرشد."(1)
ولئن قال قبلي المفكر العظيم العلامة الشيخ (محمد عبده)، بحق أستاذه المصلح الكبير (جمال الدين الأفغاني): "إن والدي أعطاني حياة يشاركني فيها أخواي: (علي) و(محروس)، ولكن السيد (جمال الدين الأفغاني) أعطاني حياة أشارك بها محمدا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام والأولياء.." أقول أنا الفقير إلى ربه: لقد رأيت الكثير من أهل العلم والفكر والثقافة، ورافقتهم وسهرت معهم، وتعلَمت منهم الكثير، إلا أنني تعلمت من العلامة الشهيد (ناصر سبحاني)، أن الذي أخذته عن غيره كان قليلا جدا، مقارنة بما أنعم الله عليه من فيض القرآن وعلومه، وسعة المعرفة، ونفاذ البصيرة.
ضوء على أهم نتاجاته العلمية:
لم تمنع الجهود الإصلاحية للعلامة (سبحاني)- سواء قبل وأثناء الثورة الإيرانية، أم بعدها- ولا انشغاله بالأحداث السياسية في بلده ومنطقته، ولا تخصيص جلّ وقته للمحاضرات والدروس التربوية والعلمية والدعوية، أن يسترق من وقته للدراسة والتحقيق والكتابة والتأليف. صحيح أنه – رحمه الله– قد نشأ في قرية صغيرة، ثم في بلدة متواضعة، وكذلك في زمن وظرف مكاني ضيقتهما الظروف السياسية القاهرة، إلا أنه ساح بفكره النيّر وبصيرته النفاذة في آفاق العلم والثقافة، وعاش بهمومه العالية آمال وآلام الأمة الإسلامية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وفي طول التاريخ وعرض البلاد والواقع الذي عايشه.
والدليل على أن محيطه الاجتماعي والظروف الاستثنائية الطارئة على بلده، لم يؤثرا عليه سلبا، ما نجده في كتبه ومؤلفاته من الفكر العميق، والعلم الغزير، والدقة الأكاديمية، والنظرة الواقعية، والفهم الشمولي المتكامل، والاستشراف المستقبلي. هذا ما يلاحظه أي باحث أو محقق يراجع كتبه وتأليفاته وأبحاثه، أو يستمع إلى دروسه وندواته ومحاضراته المسجلة. ومن البحاثة المعجبين به المفكر العراقي الشهير الأستاذ (عبد المنعم صالح العلي) المعروف بـ(محمد أحمد الراشد)، الذي لم يقرأ إلا يسيرا من أفكاره، ولم يلتق به إلا لوقت محدود، ولكنه وصف العلامة ناصر سبحاني بـ(الشهيد السعيد البطل)، ووصفه كذلك بـ(الوجه العلمي)، وبواضع ما سماه (الجهاد الواعي)، فقال: "... الشهيد السعيد البطل ناصر سبحاني رحمه الله، الذي كان الوجه العلمي للدعوة في إيران، كان ميّالا إلى العزائم والصراحة.." كما وصفه بأنه "عالم عميق العلم". وقال كذلك: "تأسس مذهب الجهاد الواعي، وتأسست شروحه الجلية التي أدلى بها شهيد إيران ناصر سبحاني."(2)
ولكن ينبغي التنويه هنا إلى أمر مهم، وهو أن الظروف الأمنية والسياسية الحاكمة على عائلته وأصحابه– في بلدهم– لم تسمح بطبع شيء من آثاره العلمية هناك، إلا نذرا يسيرا من نتاجاته، ولكن بعض الخيّرين من محبيه في إقليم كوردستان العراق قاموا بطبع ونشر عدد منها، (3) وهي التي سنشير إليها في الفقرات التالية:
أولاً/ كتبه المطبوعة:
لم يستكمل العلامة (ناصر سبحاني) الأربعين من عمره، ومع هذا العمر القليل قضى معظم أوقاته في الغربة والحرمان والاختفاء، بسبب ظروف أمنية، حيث كان ملاحقا لمدّة ثماني سنوات من قبل السلطات الإيرانية، إضافة إلى أنه كان يكلف بين فينة وأخرى من قبل محبّيه بتدريس طلاب العلوم الشرعية، وإلقاء المحاضرات التربوية والعلمية، وإدارة الدورات، التي كانت تفتح بعيدا عن أعين السلطات، التي كانت تتابع أثره عن كثب، لهذا لم يتمكن- رحمه الله- من التفرغ للكتابة الكثيرة.
ورغم أن دروسه العلمية المسجلة على (الكاسيت) السمعية، قد فاقت650 ساعة، - وهي في شتى العلوم والمواضيع الفكرية والتربوية القيمة، كما هي في حد ذاتها ذخر علمي بات يستفيد منها طلاب العلم، وبدأت بعض المؤسسات بكتابتها من جديد، تمهيدا لطبعها في صورة كتب ودراسات- رغم ذلك كله لم تمنعه تلك العقبات من أن يسترق بعضا من أوقاته لتأليف بعض الكتب الفكرية المهمة، وكتابة بعض الرسائل ذات القيمة العلمية، ومنها ما طُبع في كوردستان العراق (4) بعد وفاته بأكثر من17 -20 سنة، وهي ما سألقي عليها الآن بعض الضوء:
1- كتاب الولاية والإمامة:
هذا الكتاب من أهم كتبه، لأنه مخصص لدحض التصورات المغلوطة المتعلقة بموضوعي الإمامة والولاية، اللتين أشغلتا ذهن علماء الأمة لقرون مديدة. ولقد ألّفه عام 1986م لمّا أعلن بعض علماء الشيعة عن أن لنائب المهدي الولاية المطلقة على الكون. ولذا ألّفه- بنفسه- باللغتين العربية والفارسية. والكتاب في طبعته العربية يتكون من176صفحة من الحجم المتوسط، وهو الكتاب الأول من سلسلة كتبه المطبوعة باللغة العربية، طبع عام 1428ه/2007م، (5) ولقد بدأ به بمقدمة مفصلة أشار فيها إلى نبذة عن تاريخ الهدي الإلّهي، وكيف أن الابتعاد عنه أتي بأيام ".. أمست تقود فيها المنهزمين مختلقاتُ ومصطنعاتُ اليونان والصين والهند والبعيد والقريب، فتبلّد السمعُ، وغشيت الأبصار، وتغيرت القلوب والأفئدة، لتحلّ محلّها الأذهان المتصلبة الباردة، والتبست المعروفات والمنكرات. فلم يَرُعِ الناس إلا لسان القرآن يصبح غريبا، ووجوه السنن في الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية تمسي منكرة. فكان أن صارت الألفاظ من القرآن، والمعاني من هذا وذاك، وجاءت الولاية خِلعةً لفلان، والإمامة هدية لفلان. وبدا ما لم يكن يُحتسب، وحدث ما لم يكن ينبغي."
ثم عرض في المقدمة منهجيته في الحديث عن الولاية والإمامة، التي تتمثل في الاستناد إلى البرهان، الذي سماه القرآن بالسلطان، وهو القرآن الكريم نفسه، وعدم الاستدلال بالسنة، كي لا يبقى لمتبعي مذهب الشيعة أي دليل ومجال للنقاش حول مصادر السنة وحجيتها. وأشار فيها أيضا إلى أساس التصورات والقيم الإسلامية المتمثلة في أن الله تعالى هو الخالق الآمر، فإلى ذلك ترجع– في نظره – كل تصورات المؤمن عن الله والكون والحياة والإنسان. ثم يذكر مصادر المعرفة الأساسية للإنسان، المذكورة في القرآن، وهي: السمع والبصر والفؤاد، يضاف إليها العلم والإرادة. وينهي المقدمة بإشارة وجيزة إلى مفهوم المشيئة الإلهية، وربطها بالاختيار البشري، وتعريف قرآني دقيق للإيمان والتقوى.
وفي الباب الأول من الكتاب- المخصص لموضوع الولاية– يشرح أنواع الولايات المذكورة في القرآن، لا سيما الولاية بين الله والمؤمنين، وولاية الملائكة للمؤمنين، وولاية المؤمنين بعضهم لبعض. ويوضح فيه أصناف المجتمع الإسلامي وشرائحه المشار إليها في (سورة التوبة)، بطريقة استقرائية، موضحا مصطلحي التطهير والتزكية المذكورين في القرآن، الأمر الذي أصبح مداراً للجدل بين الشيعة والسنة، فيما يتعلق بأهل البيت وعصمتهم وولايتهم.
وفي الباب الثاني من كتابه– المخصص لموضوع الإمامة– يتحدث عن الأحكام الثابتة والمتطورة، معرفا النبوة وشروطها، والرسالة وما تعنيه، والفرق بينها وبين النبوة، وشارحا معنى التبليغ المأمور به رسول الله صلوات الله عليه في آية: ﴿أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة/67] وهي الآية التي يستند إليها الشيعة في موضوع الإمامة، وكذلك آية: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب/ 33]. ثم يتطرق بدقة علمية إلى موضوع الإمامة الدينية، والولاية الدينية، والشورى، والفرق بينها وبين التشاور أو المشاورة، وتعريف الفقيه، داحضا بدقّة علمية موضوع ولاية الفقيه.
وفي نهاية الباب الثاني يتحدث عن نظام الحكم الإسلامي، موضّحا الفرق بين مجلس الشورى (أو مجلس أولى الأمر) ومجلس النواب، وكيفية اختيار رئيس السلطة التنفيذية، وغير ذلك مما يتعلق بكيفية النظام الإسلامي وأسسه.
2- زبدة كتاب الاعتصام:
هو الكتاب الثاني من سلسلة كتبه المطبوعة، طبع عام 1428ه/2007م، وهو كتاب نفيس ذو قيمة علمية. هو في الأساس تلخيص لكتاب الاعتصام للشاطبي، (6) يتكون من80 صفحة من الحجم المتوسط، يعرض فيه المعنى الحقيقي اللغوي والاصطلاحي للبدعة، موضحا أحكام البدع الحقيقية والإضافية، والفرق بينهما.
وفي فصل مخصص يشرح أقسام البدع، ومجالات الابتداع، وجانبا من مصاديقها، لا سيما في الأمور العبادية. ثم يميط اللثام عن الغموض الناشئ حول الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان.
وينهي الرسالة بحديث ذي أهمية علمية، حول السبب الذي لأجله افترقت ملل وفرق المبتدعة عن جماعة المسلمين، شارحا المعنى الحقيقي لمصطلح (الصراط المستقيم)، المذكور في القرآن الكريم، والذي انحرفت عنه سبل المبتدعين المبتعدين عن الهدى بعد البيان الإلهي..
3- رسالة في علوم الحديث:
هذا هو الكتاب الثالث في السلسلة المطبوعة، وهو في الأصل رسالة توجيهية، بعثها الشهيد (سبحاني) عام1987م إلى العلماء القائمين على أمر إعداد موسوعة السنة والسيرة النبوية في مركز بحوث السنة النبوية، (7) طبع عام 1428ه/2007م، وهو كتاب صغير الحجم ولكنه عظيم الفحوى، قليل المبنى ولكنه كثير المعنى. ولقد ذكّر في مقدمته بأمور مهمة، منها: مظاهر الحياة المشكِّلة للقوى الأساسية للمخلوقات، وهي: النموّ والتوليد، كمظهر للحياة النباتية، والإحساس والحركة، كمظهر للحياة الحيوانية، مضافا إليهما المظهران السابقان. والعلم والإرادة كمظهر للحياة الإنسانية، مضافا إليهما المظاهر الأربع السابقة. ويقصد (سبحاني) بذكر هذه الأمور، الإعانة على فهم التصورات، وطرق الوصول لتحديد أسس القيم والأحكام، التي ينحصر مصدرها في الوحي.
ثم يشرح منزلة الحديث النبوي والسنة النبوية، المتمثلة بتبيين القرآن الكريم. ثم يتحدث بإسهاب عن منزلة الحديث الشريف، ويشرح مصطلح (الحكمة)، التي يرى العلامة (سبحاني) أنها مجموعة الأحكام التفصيلية التي تهدي إلى الصواب في تطبيق القواعد الكلية. ولهذا يرى رحمه الله أن البقاء على مقتضى حكم متطور، بعد تطور الظرف المتعلق به، اتخاذ لشرعٍ لم يرضه الله، تماما كتبديل حكم مكان حكم ثابت!. ويأتي– لذكر أمثلة من الحكمة الثابتة– بآيات كثيرة من سور البقرة، والنساء، والمائدة، والتوبة، والإسراء، والمؤمنون، والنور، والفرقان، ولقمان، والأحزاب، والحجرات، والمجادلة، والطلاق. ثم يأتي– لذكر أمثلة من الحكمة المتطورة– بآيات من القرآن الكريم، ونماذج في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وحول ما يتعلق بعلم (علوم الحديث)– الذي هو جوهر رسالته– يبدي رأيا خاصا في شروط الراوي، حيث يرى– رغم إبداء إعجابه بعلماء الحديث في كثير مما فعلوا– أنهم لم يوفوا بحق عنصر(التلقي) لدى الرواة والناقلين، وهو الأساس الذي يستنبط منه مقصود المتكلم والكلام. وكذلك أضاف في شروط الراوي ضمن أسباب الجرح: مخالطة الراوي للسلاطين، ومجالستهم، لغير نية الإصلاح والنصح والتذكير. وله رأي خاص على مقولة متأخري أهل الحديث وغيرهم: أن رجال الشيخين– البخاري ومسلم- جازوا القنطرة. وله – كذلك - تعقيبات وإيضاحات حول أمور أثيرت في أوساط علماء الحديث، وأئمة الجرح والتعديل، كتعريف الصحابي، والتابعي، والقول بالعمل بشرع من قبلنا، وغير ذلك.
وباختصار، يلاحظ أي باحث أن له رحمه الله رأيا خاصا في جوانب من منهجية المفسرين والمحدثين والفقهاء، وعلماء العقائد والسلوك والتاريخ، في التعامل مع القرآن والروايات، حيث يرى ضرورة توقيف الاحتجاج بالأحاديث على النظر في أصولها من كتاب الله، كما يرى ضرورة اعتبار المعنى المشترك بين روايات مختلفة الألفاظ، متعددة الأسانيد، المروية في أمر واحد، ثم ردّ تلك المختلفات إلى ذلك المعنى، لاستخراج المدلول والمعنى المقصود في النهاية.
ولقد خص ختام رسالته بمناقشة مصاديق نموذجية في مجال: الرّقى، والتصاوير– بأشكالها المتنوعة- مبيّنا طريقة التعامل في معالجتها، لكونها من المسائل التي كثر الجدل حولها لدى العلماء، قديما وحديثا..
4- تلخيص التهذيب:
وهو كتابه الرابع ضمن السلسلة المطبوعة، طبع عام1429هـ/2008م، يتكون من245 صفحة من القطع المتوسط، وهو تلخيص فريد لكتاب (مدارج السالكين) لابن القيم رحمه الله، فلقد كان الشهيد شديد الإعجاب بشخصية الإمام (ابن القيم)، ويعتبره من أئمة الهدى،.. وكان هدفه– في تلخيصه– تسهيل تناوله لراغبي الوصول إلى المنازل الإيمانية التي ذكرها ابن القيم في مدارجه، ولقد لخصها غاية التلخيص، بمنتهى الدقة والإحكام. " وكان له رحمه الله قناعة تامة بأن كتاب المدارج من أحسن كتب التزكية والسلوك، ولهذا كان يستشهد بمحتوياته في كثير من محاضراته ودروسه، وكثيرا ما يطلب من أصدقائه وتلامذته كثرة الرجوع إليه"(8)، رغم بعض ملاحظاته على الكتاب، لا سيما فيما يتعلق بالتوسعة في ترتيب المدارج والمنازل، والسائرين إليها. ولقد أشار العلامة (سبحاني)– ملخصا ما قاله ابن القيم– بأن سورة الفاتحة تتضمن المطالب الثمانية العالية: التعريف بالمعبود، وإثبات المعاد، وإثبات النبوة، وكيفية سؤال الهداية، وأنواع التوحيد، ومراتب الهداية، وشفاء القلوب والأبدان، والرد على المبطلين. كما يؤكد على أن سرّ عمليّتي: الخلق والأمر– في الكون– ينتهي إلى كلمتي (نعبد) و(نستعين). ثم بعد ذلك يقف عند منازل (اليقظة)، و(الفكرة)، و(البصيرة)، و(العزم)، كمنازل أساسية للعبودية، ثم يشرح بقية المنازل– التي هي62منزلة – تبدأ بالمحاسبة، وتنتهي بالشهادة، وهي نهاية هجرة المؤمن إلى الله ورسوله، والتي تقوده إلى تكرار السّير والانعطاف نحو باب الهداية.
5- أسس التصورات والقيم:
هو الكتاب الخامس من نتاجات (سبحاني) المطبوعة. طبع عام1430هـ/2009م، وهو 122 صفحة من الحجم المتوسط. كتاب صغير الحجم، كثير المغزى، لخص فيه أهم أفكاره وتصوراته الفكرية. ولقد خص مقدمة الكتاب لذكر أن أساس التصورات والقيم الدينية معرفة أن الله له الخلق والأمر، سواء التصورات تجاه الله سبحانه والكون، أو تجاه الإنسان والحياة، وكذلك القيم التي جعلها الله موازين للمؤمن، يرجع إليها فيما يعرف وينكر. ويشرح في المقدمة– كذلك– أنواع القدرات المعطاة للمخلوقات جميعها. ولقد خص الفصل الأول من الكتاب لموضوع الشرك، فذكر ضلال الشرك وأنواعه، والشرك في الفاعلية، والشرك في شطر المعينية من الألوهية، موضحا معنى وكيفية التوكل الحقيقي.
وخص الفصل الثاني لبيان حقيقة الشفاعة، وما يتعلق بالآخرة من الشفاعة، وأنواع الشفاعات التي قال بها العلماء، ثم يعرّف مصطلحات (الصديقين) و(الشهداء) و(الصالحين)، موضحا حقيقة المشيئة الإلهية العامة، ومعنى اللّمم من الذنوب، وأصناف المشفوع فيهم.
وفي الفصل الثالث تطرّق لموضوع التوسّل، والمراد منه، والاستشفاع بالملائكة والنبيين والصالحين، فذكر أن عبادة الله هي الوسيلة المقرّبة إليه سبحانه، وذكر موضوع التوسّل بدعاء الصالحين في التقرب إلى الله، وكذلك التوسّل بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وفي الفصل الرابع تحدث عن الشرك في شطر المعبودية من الألوهية، ممهّدا لذلك بشرح وسائل المعرفة الأساسية لدى الإنسان لتلقي التصورات، وكذلك طريق تلقي القيم والأحكام، موضحا خطورة الشرك في شطر المعبودية والحاكمية. ويتطرق– كذلك- في هذا الفصل لتفسير فريد من نوعه لسورة (الحمد)، موضحا حقيقة الإيمان، شارحا أصناف الذنوب– الكبائر منها واللّمم، وأصناف مرتكبيها-. كما ويعالج موضوع الموقف من الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله. ثم يشرح بطريقة علمية دقيقة أقسام الأحكام التي هي: الأحكام المحدودة المحصورة، والأحكام غير المحصورة، التي تشملها القواعد الكلية.
ويشرح في هذا الفصل– الذي هو من أهم فصول الكتاب– مقامات الرسول الثلاث:1- النبوة 2- الرسالة 3- الإمامة. وكذلك يوضح منزلة الشورى، أثناء تطرّقه لموضوع استنباط الأحكام، مشيرا إلى الاستنباطات المنفردة في حالة الاضطرار، مؤكداً على أن الاستبداد بالرأي والانفراد به مرفوض في القرآن، وأن الشورى ملزمة- في رأيه- وليست معلمة، كما يوضح كيفية الشورى في الإسلام، حيث استنبط من آيات قرآنية بأن مجلس الشورى في الحكم الإسلامي يتكون من لجان تخصصّية في مختلف قطاعات الحياة، وأن الخليفة أو الرئيس في الدولة عضو في مجلس الشورى، وليس له حق النقض.
6- أحكام شرعية وجملة فتاوى:
هو الكتاب السادس من السلسلة المطبوعة، طبع عام 1430هـ/2009م، يتكون من92 صفحة، يعتبر مكملا للكتاب السابق، حيث طبق القواعد التي ارتأها على بعض الأمور، فتحدث في ست فصول عن سلك (الجندية)- في ظل أنظمة غير إسلامية، وأحكام الإمامة في الصلاة، وأحكام التصاوير والتماثيل، والرّقى، والتمائم والودَعَ والتِوَلَة، والعين.. فيرى الشهيد أن الالتزام بسلك الجندية– في ظل نظام غير إسلامي– من أعظم المؤيدات لأنظمة حكم الجاهلية، ويعالج الحكم بالنسبة للمضطرين الذين لا يجدون حيلة ولا سبيلا، فيضطرون للانضمام الإجباري.
ويوضح في الفصل الثاني حقيقة الإمامة، وشروطها، ومفهوم الإمامة العظمى. وفي ذلك ينتقد منهجية بعض الفقهاء في تجويز إمامة الفاسق، والصلاة خلف الفاجر، والتعامل مع الولاة، وإن كانوا فاسقين.
وفي الفصل الثالث– المخصص لموضوع التصوير– يلقي ضوءا على قاعدة (شرع من قبلنا)، منتقدا بعض المناهج في التعامل مع هذه القاعدة، فيقسم شريعة الله إلى (التصورات) و(القيم)، مبينا- في الفصل ذاته- أصول النظام السياسي والاقتصادي في الإسلام.
وفي الفصل الرابع يستقرئ الأحاديث الصحيحة، المتعلقة بالرقية بكتاب الله، وقول العلماء في شروطها، فيؤكد أن كل فعل لا يقع إلا بأمرين: أولا: إرادة من الله سبحانه، ثانيا: سبب يناسبه. ثم يشرح منهجية معرفة كون شيء ما سببا، فيؤكد أن هذا يتحقق إما بالوحي، أو بالتجربة المتكررة.
وفي الفصل الخامس يعالج ما يتعلق بالتمائم والودع والتِّوَلة، ومسألة أخذ الأجر على الرقية، وصنع التمائم، ويؤكد أنه لا أصل للتمائم والودع والتولة للاستشفاء، إلا أنه يجوز الرقية بكلام الله، كما يجوز أخذ الأجرة على الرقية الشرعية.
وخص الأستاذ الشهيد الفصل السادس والأخير من كتابه لموضوع تأثير العين وحقيقتها، وما ورد بحقها، وأقوال علماء السلف فيها.
7- الابتداع في الدين:
هو الكتاب السابع من سلسلة نتاجاته العربية المطبوعة، طبع عام1430هـ/2009م، يتكون من80 صفحة، يعتبر مكملا للكتابين السابقين (أسس التصورات والقيم) و(الأحكام الشرعية )، وهو يتكون من أربعة فصول، يتحدث في الأول منها عن حقيقية الدين ومكوناته، مع إلقاء ضوء على الأحاديث المتحدثة عن الابتداع، وأقوال بعض العلماء فيها، مع شرح لمفهوم البدعة التركية. وفي الفصل الثاني، يتحدث عن ذم البدع، وبيان سوء منقلب أصحابها، وأن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص جانبا دون جانب. وفي الفصل الثالث، يعرّف البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية، والفرق بينهما، مع ذكر أمثلة من البدع الإضافية. ويخصص الفصل الرابع لذكر الفرق بين الابتداع واعتبار المصالح المرسلة والاستحسان، والمجالات التي قد يحدث فيها الإحداث في الشريعة، مع عرض أمثلة من البدع المستحدثة.
وعرض في ثنايا فصول ومقاطع الكتاب أفكارا قيمة، كتقسيم مسائل الدين إلى:
ا- التصورات تجاه الله سبحانه والكون والإنسان.
ب- القيم والأحكام، وقسمها– هي الأخرى- إلى نوعين: جزئيات محصورة مذكورة تفصيلا، وكليات غير محصورة، وردت بحقها قواعد كلية.
وينتقد في هذا الكتاب تقسيم بعض العلماء ما يتعلق بالبدعة إلى أحكام الشريعة الخمسة، قائلاً: "... إن هذا مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو نفسه متدافع، لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي– لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده– إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوبٍ أو ندبٍ أو إباحةٍ، لما كان ثمة بدعة، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها، أو المخيّر فيها.(9).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق