سالم
البرزنجي
قد
يظن البعض أن الإجابة على هذا السؤال عسيرة
ومتشعبة، لكن الإجابة على هذا السؤال بكل بساطة هي: نبدأ بما بدأ به رسول الله
(صلى الله عليه وسلم)، في تغيير ذواتنا بالإيمان والتزكّي والعمل الصالح أولاً، ثم
محاولة تغيير غيرنا ذاتياً بدعوتنا له إلى الإيمان والعمل الصالح والإصلاح.
فمحاولة تغيير الآخر عملية
صعبة تحتاج إلى قوّة في البيان، وجمالٍ في التعامل، وحسن في الخُلق والكلام، فضلاً عن خصال رفيعة في السلوكيات، وتقديم
العون الماديّ والمعنوي، وبذل
المعروف، وكفّ الأذى، وعلوّ في الهمة، ونَفَس طويل،
وصبر جميل، وهذا
كلّهُ يحتاجُ إلى عامل الزمن، وتكرار المحاولة، حتى يتبيّن لنا حقيقة الشخص المدعو:
هل يتماثل للشفاء، وهل يمكن تغييره، أم لا؟! [وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ] (التوبة: ١١٤). وكل ذلك لا يحصل لإنسان إلا إذا حصل على
الإيمان الذي يؤثّر فيه تأثيراً جذرياً وفكرياً وحركياً، ويغيّره نحو الصلاح
والإصلاح، ومن ثمَّ هو نفسه قد تأثر بالإيمان تأثّراً إيجابياً، ومارسه في الواقع
بالتطبيق العملي في صورٍ محسوسة وملموسة، أو صور معنوية أو مادية، فعند ذلك نرى ما
للإيمان من عطاء، وما للإيمان من نتائج معنوية ومادية على الغير والواقع.
هذا ونود أن ننوّه هنا
بأمر في غاية الأهمية، وهو أن الأساس الذي قامت عليه الدعوة الإسلامية هو محاولة
إدخال عناصر تغيير الذات، وتصحيح التصورات لدى الإنسان، وإعطائه استعدادات معنوية
ونفسية لتقبّل أمر الله تعالى، بما أنزل الله تعالى في كتابه من أمور غيبية،
وحقائق كونية، والتي بتصديقها والإيمان بها، يضع الإنسان نفسه في موضع الاستسلام
التام لله تعالى.
لهذا السبب يجب أن لا نقدّم
على ذلك الأمر أمراً آخر يفسد أمر هذه الدعوة الإسلامية المباركة، ويشوّه سمعتها،
ومن ناحية أخرى ينسينا أهمية هذا الأساس الذي بنيت عليه الدعوة الإسلامية، وهو
محاولة تغيير الذات، وتصحيح التصورات لدى الإنسان بحريته هو، نحو الإيمان والعمل
الصالح والإصلاح، وتقديم يد العون له في الحصول على كل الإمكانيات المادية
والمعنوية اللازمة التي تؤدي إلى التغيير والاقتناع.
فعندما يُصحّح الإنسان
تصوراته حول الخالق والكون، وما حوله، ومن حوله، ويرتبط بالآخرة ارتباطاً ذهنياً
وقلبياً، فإنه يسعى حيندئذٍ إلى الحصول على الفوز في الآخرة إرادة وعملاً، ويعيش
حياة جديدة مع تلك التصورات الجديدة التي حصلت له، ومن ثم هو بنفسه يضع نفسه في
موضع الاستسلام لله تعالى، ويشعر بمراقبته، ويدخل الوجل في قلبه عند ذكره، ويساوره
الخوف عند اقترابه من ارتكاب المحرمات، ولا يحتاج إلى عامل خارجي أو شخص يراقبه
ويوجهه، وهو مع ذلك أيضاً يستعدّ، بقدر قوة إيمانه وانفعالاته، مع تلك التصورات
الصحيحة التي حصلت له، للقيام بتنفيذ أوامر الله تعالى.
إذاً، فالأمر برمّته متوقف
على الإنسان وحده، ومنوط بالتغيير الداخلي لدى الإنسان بالإيمان وذكر الله تعالى،
أمّا أن نتصوّر أن السلطة والحكم يُنتجانِ مجتمعاً متديناً، أو أننا بالقوة ندخل
الإيمان والفهم في قلوب الناس، أو نصنع بذلك أفراداً مثاليين ومتدينين، فهذا لا
فرق بينه وبين أيّ ممارسات سلطوية من غير المسلمين لفرض أحكامهم على الشعوب
المغلوبة، ولا نصنع بذلك إلا مجتمعاً مقنّعاً ومنافقاً، أو مجتمعاً أعمى في
التقليد، ربما نحصل على الالتزام الظاهري، لكن بلا روح، وخالٍ كلّ الخلو من الرضا
الداخلي وسكون النفس عند التطبيق، ويمكن أن نصف ذلك الالتزام عندئذ بالموروث الشعبـي،
أو العادات الشعبيّة المتداولة التي بقيت جيلاً بعد جيل، أما أن نصفه بالالتزام
الإيماني، فهذا غير صحيح، لأن السلطة لا تقدر على إدخال الفهم والإيمان في الأدمغة
والقلوب، ولا تستطيع إدخال السكونة والرضا والاطمئنان إلى النفوس عند التطبيق، فإن
ذلك من عمل الإيمان وتأثيره وآثاره.
فارتباط الدين بالدولة، أو
السلطة والقوة بالدين.. هذا الأمر متوقف على أغلبية الناس في المجتمع في الإسلام،
وكثرتهم التي تهيّئ أرضية مناسبة لقيام مجتمع متدين، من حيث الالتزام الفردي،
ومجتمع إسلامي، من حيث تطبيق الشريعة الإسلامية، لذا يؤمر المؤمن بالتواصي بالحق،
والتواصي بالصبر، في المجتمع الجاهلي الذي يعيش فيه، وإذا خرج الأمر عن الصبر،
يفتح له باب الهجرة، وعليه أن يبحث عن بيئة صالحة ومناسبة للتعبد والممارسات
الدعوية، وليس له أن يكفّر المجتمع الذي يعيش فيه، ويكفر الذين يعيش بين ظهرانيهم،
وليس له أن يكفّر أفراد ذلك المجتمع، ويفسّق، ويخرّب، ويقتل. هذا ما يجب عليه، وليس
عليه الحصول على النتائج، فهذا ما بيّنه لنا (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (عُرِضَتْ
عَلَيَّ الأُمَمُ ، فَرَأَيْتُ النَّبـيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبـيَّ
وَمَعَهُ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ، وَالنَّبـيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ) مسند
الإمام أحمد (2448).
فبعض الأنبياء لم يؤمن بهم
أقوامهم، وربما قُتِلوا (عليهم السلام) ولم يكوّنوا مجتمعاً مؤمناً بالله، هكذا
كان الأنبياء، فما بالك بغيرهم. فالعبرة إذاً بالسير الصحيح، والدعوة إلى الله
تعالى، وبالطريقة التي بيّنها الله تعالى، لا بالنتائج! وهذا مُراد قوله تعالى: [وَاتَّبِعْ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ] (يونس: ١٠٩). وقوله تعالى: [واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا..] (الطور: ٤٨). فحكم الله تعالى شأنه في تدبير الخلق، وشأنه مع
الخلق وسننه تعالى في خلقه، وإحقاقه الحق، ونصرته لأهله.
فالنظر إلى النتائج،
والسعي وراءها، والتفكر في الحصول عليها بسرعة، يجعل المسلم يلتفت إلى الأسباب
الموهومة، والطرق الزلقة، والسبل الزائفة، والوسائل الخداعة، فهذه النظرة السطحية
البعيدة عن اللب والمضمون، تجعله يسعى حول الأسباب والنتائج، بحيث ينسى جوهر الدين
ومبادئه ومعالمه وأهدافه، وينجرف وراء شهوة السلطة والحكم والسياسة، وينسى أن الله
تعالى لم يجعل طريق الحصول على الإيمان له ولغيره كطريق الحصول على الأشياء
المادية أو الدنيوية، فالله تعالى يريد التزاماً عن معرفة قلبية، وإرادة تعبدية من
الإنسان، ورضا نفسياً، لا أنْ يكون مُقلِّداً فارغاً من المعاني السامية للإيمان.
وهذا ينطبق على الفرد والمجتمع معاً، قال تعالى: [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا
وَلَا دِمَاؤُهَا ولكنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ](الحج: ٣٧).
فالعمل الأساسي للدين.. هو
أن الدين يعمل على جعل الإنسان مؤمناً مزكياً بإرادته، فعندما يتكوّن مجتمع مؤمن،
يحصل المسلمون على السلطة والحكم لكثرتهم وشوكتهم، عند ذلك يأتي الدين بالضوابط
الشرعية، لضبط ذلك المجتمع من حيث الظاهر، حتى يستقيم الظاهر، مع الضبط الداخلي
الحاصل بالإيمان لدى الأفراد في ذلك المجتمع، فيستقيم الأمر، لأن النفوس تتفاوت في
الإيمان والالتزام، بل بعض النفوس لا تؤمن ولا تصلُح أبداً. هذا، ومع ما للإيمان
من جانب غيبـي غير ظاهر للعيان. فالشريعة تضع حدوداً رادعة لتلك النفوس، وتعاقب
التي تتجاوز تلك الحدود، مع أن وضع الحدود، وإقامة العقوبات الشرعية، هو جزء يسير
في النظام العام للشريعة الإسلامية، مقارنة بالكل. إذاً، إن من مهام الشريعة
الإسلامية ضبط الظاهر، وضبط الأمور العامة التي تنظم المسلمين وغيرهم، ويبقى الضبط
الداخلي بالإيمان أولاً هو الأساس في الدين، وهذا الذي يجب أن لا نقدّم
عليه أمراً آخر. ومشكلة الدعاة والأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية اليوم هي
تقديم أمور أخرى على هذا الأمر وهذا المبدأ.
فالحركات والجماعات
الإسلامية اليوم تمارس الأمر مقلوباً، فهي بدلاً من أن تهتمّ بالإيمان والعمل
الصالح، والدعوة إلى سبيل الله تعالى، ببذل أقصى الجهد لهداية الناس، والإحسان
إليهم، حتى يقبلوا الإسلام ويدخلوا فيه، أو يلتزموا بأوامره وأحكامه طواعية عن
قبول قلبـي وعن رضا داخلي، نراها تهتم بالسلطة، وإنشاء دولة للإسلام، حتى تتهيأ
الحال والواقع لتطبيق أحكام الشريعة، هذا حسب منظورهم وثقافتهم الفكرية أو
السياسية، مع أن الأحكام الشرعية هي غير مطلوبة في ذاتها لذاتها، بل هي
عبارة عن مجموعة قوانين ووسائل لضبط الفرد والمجتمع تحت سقف واحد، أو هي أيضاً
عبارة عن مجموعة قوانين وأحكام لجلب المنافع للعباد، ودرء المفاسد عنهم، لكي يحظى
الكل بالأمان ويحصل على السعادة، وكذلك لخلق ظروف آمنة للجميع، فينتشر الدين
ومعالمه، وتتقوى دعوته في ظل تلك الظروف. وذلك لأن البيئة أو الأجواء التي ينتشر
فيها الإسلام انتشاراً صحيحاً وسليماً، هي بيئة الأمان، والحوار، والاحتكاك،
والتعارف، والتعايش، والتعامل الإنساني [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا
فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ](البقرة: ٢٠٨). ولهذا السبب قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
لأصحابه، عندما أمرهم بالهجرة إلى الحبشة: (فإن بها ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد).
فلأن العدالة كانت موجودة
في الحبشة، اكتفى المسلمون آنذاك بالعبادة لله تعالى بحرية، ونشر دينهم وممارستهم
الدعوية في ظلّ تلك العدالة التي كانت موجودة هناك، ولم يذكر التاريخ أنهم خلقوا
عداوة بينهم وبين السلطة الحاكمة، وذلك لأن الغرض من إنشاء سلطة دينية، وعادلة، هو
خلق أجواء آمنة وهادئة للحوار والتعايش، ولنشر الدين الإسلامي بين الناس. فإذا وجدت
تلك الأجواء بطريقة أخرى، أو تحت ظلّ أي سلطة، فيجب على المسلمين التفرغ لهذه
الدعوة المباركة، والتضحية من أجلها. فالمقصود هنا أن عملية التغيير في الناس
تحتاج أعمالاً كثيرة وأزمنة طويلة، وذلك لأن الحصول على القناعة القلبية تتغيّر
وتختلف من إنسان لآخر، لذا يجب الصبر على الإنسان عند دعوته للإسلام، وإعطائه أكثر
الفرص والوسائل للهداية.
وكذلك (مبدأ الشورى) في
الإسلام دليل على أن السلطة وأمور الحكم ونشأة الدولة من مقتضيات الواقع الذي يعيش
المسلمون فيه، وما يعايشونه من مستجدات وأحداث. إذ إن الشورى هو اختيار الأصلح
للمسلمين في تدبير شؤونهم، من قبل أهل الحلّ والعقد منهم، والعقلاء والعلماء منهم.
وهذا يعني أن ما لم يحكم الله تعالى فيه بحكم، ولم يشرّع له شرعة، تركه للمسلمين
أنفسهم حسب ما يختارونه، لما يرون فيه من مصلحة يقتضيها واقعهم. بل جعل مرونة
كبيرة في التعامل مع أحكام الشريعة الإسلامية عند التطبيق، إذا كانت الظروف أو المصلحة
تقتضي خلافها. وهذا الفهم عمل به (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه) في فترة خلافته،
لأنه فهم من وضع الأحكام جلب المنفعة ودفع المضرة ودرء المفاسد، فإذا تعارضت
المصلحة مع الأحكام أخذ بالمصلحة. وهذا الأمر يجعلنا نفهم الفرق بين الدين
والشريعة، فالدين لا تتغير أصوله ومبادئه وأسسه، بخلاف الشريعة وأحكامها، فإنها
تتحوّل من مواضعها إلى غيرها، حسب الأحكام السبعة التي ذكرها الأصوليون في علم أصول
الفقه.
وحتى مع وجود السلطة
الدينية، أو الحكومة الإسلامية، التي تطبق الشريعة الإسلامية، يبقى أمر الإيمان
خاصاً بالفرد في المجتمع الإسلامي. لذا نرى القرآن الكريم أنكر وجود كل أشكال
الإكراه، عندما يتعلق الأمر بالدين والإيمان، بخلاف الالتزام بالشريعة وأحكامها [لا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ](البقرة: ٢٥٦)،
فإن الشريعة تطبّق للمصلحة العامة، كأحكام عامة تطبق على الجميع وللجميع، فتأملْ.
نعم يدخل في مسمّى الشريعة:
العبادات وأحكامها، والمعاملات وأحكامها، والأقضية وغير ذلك، لكن إنما قصدنا هنا
الجانب التشريعي والقضائي والإداري للإسلام، أو الجانب الذي يتعلّق بأمور الدولة
وبالحكم والتنفيذ. ويوضح هذا أن الأنبياء (عليهم السلام) جميعهم كان دينهم واحداً،
مع اختلاف شرائعهم، حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في زمانهم. وهذا يعني أن
الشريعة في الإسلام جزء من الدين الإسلامي، وعبارة عن وسائل شرعية لحفظ الدين
ولجلب المصالح ودرء المفاسد للعباد.
إذاً، فمن غير المعقول أن
نفكر في تكوين مجتمع وأفراد يطبّقون شريعة أو مجموعة أحكام وقوانين، حتى إذا كانت
دينية، وهم لا يعرفون تلك الشريعة، ولا تلك الأحكام، ولا يرضون بها رضاً تاماً، أو
أنهم لا يرونها مناسبة لهم ولحياتهم، أو لا يرون أنها تتوافق مع واقعهم ونمط
حياتهم. فالسؤال المطروح هنا: هل هذا ما يريده الله تعالى من إرسال الرسل، وإنزال
الكتب، ونصب الشريعة للعباد، بالضبط؟! أو بعبارة أخرى: هل يريد الله تعالى من
الناس تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، دون إيمان واستسلام داخلي ينجي صاحبه من سخط
الله تعالى، ويكون سبباً في هدايته الدنيوية، وسبباً للحصول على سعادته الأخروية؟!
قال تعالى: [فَلا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا](النساء: ٦٥).
ففي ضوء هذه الآية المباركة نصل إلى أنه مع التحاكم إلى شرع الله، وأقضية الرسول (صلى
الله عليه وسلم)، وحكمه، يجب أن يتواجد الرضا النفسي والاستسلام الداخلي لدى
المؤمن، وهذا الرضا والاستسلام الداخلي والقلبـي، لا تصنعه السلطة أو القوة
المادية أو الحكومة الإسلامية وسلطتها.
بل الذي يريده الله تعالى
من كل عبد مؤمن، ومؤمنة، الإيمان والعمل الصالح. جاء هذا في القرآن الكريم في
منتهى الوضوح، حتى يكون العبد على هدى من ربّه في حياته في الدنيا، ويفوز برضا
الله تعالى في الآخرة.
فالبيئة التي ينتشر فيها الإسلام كدين ودعوة، هي
بيئة الوئام والسلام والتعايش، فالمؤمن حين يكون في مجتمع جاهلي، أو مجتمع مختلط،
يتمسّك بمبادئه ويتحمّل الكثير، ويقدّم الكثير والكثير من أجل دعوته ودينه وتمسكه
به، من غير اللجوء إلى العنف، أو رفض الآخرين. فلننظر إلى قوله تعالى، على سبيل
المثال: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ](الأنعام:
٦٨)، وقوله تعالى: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا
سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا
مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ
اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعًا] (النساء:
١٤٠). فالآيتان تشيران إلى اختلاط المؤمنين بغيرهم، وتعايشهم معهم، ومعاشرتهم لهم،
لكن جاءت التوجيهات الربانية في كلتا الآيتين بالتعامل الصحيح والمستقيم، عندما
يخوضون في آيات الله تعالى، وعند استهزائهم بها.
هذا وقد ظهر الإسلام بسرعة
كبيرة وبشكل واضح، بين أبناء الغرب، في أواخر القرن العشرين، وظهر في مطلع القرن الحادي
والعشرين بصورة أكثر وضوحاً، وبشكل مُلفت للنظر، على أيدي بعض الدعاة، والجاليات
المسلمة. نعم، إن الإسلام ظهر في الغرب وقارة أوروبا، وغيرها، كقوة كبيرة من شأنها
تغيير مسار العالم الغربي، أو العالم بأكمله. وانتشر الإسلام انتشاراً سريعاً
ومذهلاً، أثارَ الاهتمام لدى الحكومات والأنظمة والإعلام الغربي، وغيرها، على حد
سواء. ولم يكن ذلك الانتشار بالسلاح والجهاد بالمعنى القتالي، الذي تمارسه بعض الجماعات
الإسلامية هنا وهناك، بل فقط بالتعايش والحوار، مع أن الجاليات المسلمة هناك لم
تلتزم بالإيمان والعمل الصالح، كما هو المطلوب منها، ومع ما في دعوتنا وجهودنا
وسعينا من قصور ونقص وإهمال لإيصال الدعوة إلى غيرنا، ونشر الإسلام في البلدان
البعيدة، إلا أننا دهشنا نحن أيضاً – كغيرنا- من هذا الانتشار السريع والمذهل
والهائل للإسلام!
فظهور الحركات والجماعات
الجهادية والمقاومات الشعبية والإسلامية، المنظمة منها أو غير المنظمة، في أول
الأمر، أيْ في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، كان نتيجة ظهور الاستعمار
في أول عهوده، وذلك للتحرّر من الاستعمار والاستبداد الأجنبـي للدول الإسلامية
وأراضيها، عندما أسقطوا الخلافة العثمانية، وجعلوها ممزقة إلى أشلاء وأجزاء متفرّقة،
يصعب توحيدها ثانية، مع ما للحركات الاستعمارية من دور كبير في شلّ جهود الأمة في
توحيد المسلمين وتجمعهم تحت سقف واحد مرّة أخرى، حتى تأخّر الأمرُ كثيراً على
المسلمين، بحيث طرأ على المسلمين أنفسهم تغيرات كثيرة متنوعة ومتعددة في كافة
النواحي، وتراجع المستوى الإيماني والالتزام الشرعي لدى الأفراد والمجتمعات بشكل
خطير ومحسوس وملفت للنظر، وصار أمر المسلمين أنفسهم - كأفراد ومجتمعات - بحاجة إلى
تربية إيمانية من جديد، ودعوة إسلامية تنهضهم من الغيبوبة التي أصابتهم جرّاء
انهزامهم وتأثرهم بالعالم الغربي وتطوراته وعاداته وتقاليده، وحتى غطرسته وقوته
العسكرية والاقتصادية والسياسية.
فالحركات والمقاومات
الشعبية، وحتى الحزبية، كانت غايتها طرد الاستعمار لا الدعوة لنفسها بالخلافة
والسيادة، أو لأسلمة الشعوب. وكان من أولوياتها طرد الاستعمار أولاً، مثل ما قام
به (عمر المختار) (رحمه الله) في (ليبيا)، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن،
وجرت الأمور على نحو مغاير، وهو تشكّل الحدود السياسية للعالم الإسلامي، وظهور
الدول ذات الطابع القومي أو الجغرافي أو السياسي، وما إلى ذلك، وأصبحت كل دولة
تسعى للحصول على استقلالها وسيادتها. ومن جهة أخرى، زرعَ الاستعمار بذوراً سيئة،
وزرع عملاء علمانيين ولادينيين على مناصب الحكم ومنابر السلطة، حيث غيّروا مسار
المجتمعات الإسلامية، فانجرفوا خلف أطماع وسياسات الدول الكبرى في الشرق والغرب،
وظلموا شعوبهم، فأدّى ذلك إلى زعزعة الاستقرار، وتشكّل الأحزاب المتطرفة، الدينية
وغير الدينية على حد سواء، فالوضع الداخلي والخارجي للدول الإسلامية - باختصار -
أصبح سبباً في ولادة الأفكار المتطرفة، وولادة العنف الديني وغير الديني كذلك، فمن
كان منهم يميل إلى الإسلام، أو كان إسلامياً، بحث عن أدلة في الشرع تسوّغ له العنف
والتطرف والقتل، وبحث في الأدلة ما يتوافق مع فكرته ونظرته.
فبعد سقوط الخلافة
الإسلامية أصبح العالم الإسلامي بلا سقف يجمع المسلمين، وأصبحوا تحت رحمة
الاستعمار والاستبداد الأجنبـي. هنا كثر الالتفاف حول فكرة توحيد المسلمين تحت سقف
واحد أكثر فأكثر، وكذلك راجت عند المسلمين فكرة إرجاع الحكم الإسلامي، وتطبيق
الشريعة، ناسين المسلمين وتأثرهم بالعالم الغربي وماديته، وناسين فقدان المسلمين
فهمهم الصحيح للدين، بل إنهم لم يحسوا بفقدان المسلمين جوهر المسألة، وهو تراجع
الإيمان لديهم، وهو ما كان له الدور الكبير إلى أقصى الحدود في الالتزام الفردي
والجماعي بالدين والشريعة على حد سواء.
ففي خضم هذا الواقع المتشتّت،
والحال المضطرب لدى المسلمين، والاختلاط بالفكر الغربي الدخيل، والاصطدام بالحضارة
الغربية، تولّدت أفكار إسلامية مختلفة حول الدين وماهيته، وعلاقته بالسياسة
والدولة، وعلاقته بالحياة وما إلى ذلك، وظهرت توجهات سياسية ودعوية مختلفة، كُلٌّ
يدعو إلى فكرته، ويظهر بأنه حامل لواء الحق، والداعي إلى الصراط المستقيم، ويقسم
المسلمين إلى فسطاطين، ويظهر بلسانه الناطق، أو بلسان حاله، أنه هو الممثل الوحيد
للإسلام والمسلمين، ربما في جغرافية محدّدة، أو حتى غير محدّدة. وبعض هذه الحركات
كانت دسيسة من الغرب والدول الكبرى، أو استعملوها كأداة في ضرب الإسلام والمسلمين،
وإفشال النهضة الإسلامية والصحوة الدعوية.
ومن الناحية الأخرى، ظهرت
من بين تلك الأفكار فكرة التطرف والتكفير، والسعي إلى إعادة الخلافة الإسلامية
بالقوة والقتل، وإعلان الجهاد ومحاربة المرتدين وقتلهم، وهو ما أدّى إلى تشويهِ
سمعتهم قبل غيرهم، وتشويهِ سمعة الدعوة الإسلامية، وعقّدوا الأمر على أنفسهم
وغيرهم، وما زادوا الطين إلا بلّة، غافلين أو ربما متغافلين عن حقيقة واقعهم وحال
المسلمين، وتدني المستوى الإيماني لديهم، بل غفلوا حتى عن أس الأسس في الإسلام،
وهو تغيير الإنسان والشعوب ذاتياً وإيمانياً.
وإنما لجأت تلك الجماعات
التكفيرية، أو المتشددة، أو المتطرفة، إلى تكفير المسلمين قبل غيرهم، لأن أفراد
الأمة الإسلامية، وغالبية الناس في المجتمعات الإسلامية، رفضوا تلك الأفكار
والدعوات، وحسبوها ديناً جديداً، أو أنها تسييس للدين غير مقبول، ومن ثم امتنعوا عن
اتّباعهم، بل وعارضوا تلك الأفكار بشدّة، وتمّ رفضهم من أجل هذه الأفكار وأصحابها.
وعلى غرار ذلك، ضاقت على تلك الجماعات التكفيرية، أو المتشددة، الأرض بما رحبت،
وصعب الأمر أمام ناظرهم، وأصبح الطريق مغلقاً أمامهم لاستعادة الخلافة وتحقيق
فكرتهم! فمالوا من أجل ذلك، وكذلك مع الاستعمال الخاطئ لظواهر النصوص، إلى القول
بتكفير الحكومات، وموظفي الحكومات، وحتى العوام من الناس، وحكموا بالردة على كثير
من الناس المسلمين، وغالوا في قضية الولاء والبراء غلوّاً كبيراً، بحيث خلقوا
بينهم وبين غيرهم من المسلمين والناس جداراً معنوياً منيعاً، يمنعهم من الاحتكاك
والتعايش، فتمخضت عن أفكارهم المتشددة، فضلاً عن طريقتهم الجافة في ممارستهم
للسياسة والحركة والدعوة، عقبات كبيرة أمام دعوتهم لغيرهم.
أما المؤمن الحقيقي، فهو
يسير على الدرب الصحيح في الدعوة، فهو قد غيّر نفسه ذاتياً، وهو مستمر في التغيير
الذاتي والتقدّم الإيماني، وتقديم الأعمال الصالحة، ومن ثمّ فهو في محاولة لتغيير
الناس ذاتياً وداخلياً، ولا يلتفت في مسيرته لا إلى الدنيا، ولا إلى أنانيته، ولا
إلى الوسائل الموهومة، ولا إلى المختصرات الخدّاعة، والطرائق المضللة في دعوته،
ويسعى نحو هدفه الأسمى، الذي هو هداية الناس وحصولهم على إيمان صادق.
وإذا ما رفض الناس فكرته،
فهو لا يظهر لهم إلاّ المحبة والشفقة، ولا يذهب في دعوته إيّاهم إلى ما يُغيظهم
أكثر، ولا يستعين بالأمور التي تزيد في نفورهم. وإذا أصابه منهم مكروه، أو تلقى
منهم الأذية، فهو على درب التمسك بالإيمان والصبر عليه، والخلُق الرفيع، وإذا خرج
الأمر عن الصبر فأمامه الهجرة، وترك مجتمعه، الذي يحاربه من أجل إيمانه. فهو يبحث
عن بيئة نظيفة وملائمة لدعوته، ليقوم بما عليه من عبادة لله تعالى وطاعته وشكره،
وإظهار الحق والدعوة إلى سبيل الله تعالى.
وقد يُثار هنا سؤال وجيه،
وهو: لماذا أمر الله تعالى المؤمنين بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وبالهجرة،
ولم يأمرهم بالمواجهة في بداية الدعوة المحمدية إلى انتهاء العهد المكي، وفترة من
أوائل العهد المدني؟
والجواب: ليس قولُنا: إن
المسلمين كانوا قلّة في مجتمع جاهلي، وكانوا مستضعفين، فهذا لا يمكن اعتباره جواباً،
لأنه ضعيف في مضمونه ومدلوله، إذ إن هذا الجواب يسوّي بين الدعوة الإسلامية وبين
باقي الدعوات الأخرى التي تقوم هنا وهناك. إذ إن أيّ دعوة في أول أمرها تستعين
بالسرية، والتكيّف مع الواقع، حتى يستفحل أمرها، وتصل إلى القوة والسلطة، فعند ذلك
تسعى لإزالة الأفكار المعارضة لها، وأصحابها، عن الوجود، أو في حدود سلطتها،
بالقوة والتشريد والقتل، ثم لا تقبل بوجود غيرها على أرض الواقع من الدعوات
والأفكار التي تعارضها، وتستبد بالأمر دون غيرها. فهذا شأن الدعوات والمناهج
البشرية الناقصة، وليس ذلك بشأن الدعوة الإسلامية، التي مصدرها الوحي الإلهي
المنزل على رسوله (صلى الله عليه وسلم)!
الجواب الصحيح هو أن الله
تعالى لا يريد أن تتّسم تلك الدعوة المجيدة بالفساد والإفساد، ولا يريد أن يستعين
المؤمنون بأمر خارجٍ عن طرق الإقناع السليم، التي ينبسط إليها الإنسان، ولا ينفر
منها، ومن ثم يتقبلها برحابة صدر ويُسر في الاختيار.
بل ولا يريد الله تعالى أن
يتصف حملة هذه الدعوة بصفات منفرّة وغير مرغوبة أساساً، لذا أرشدهم في كتابه
المجيد إلى حسن الخلق، وحسن الحوار، وحسن الجدال والموعظة الحسنة، وعدم سبّ ما
يعتقده الناس وما يمارسونه من طقوس وعبادات شركية وجاهلية.
فتكوين الدولة أو الحكومة
أو السلطة، ليس من مبادئ هذا الدين، وليس شرطاً لصحة إيمان المسلمين وديانتهم،
وإنما يتعلقان بحياة المسلمين، وقيام مجتمعهم. والناظر في السيرة النبوية يرى هذا
بوضوح. وعلى هذا فالقتال في نفسه أيضاً ليس من مبادئ هذا الدين، ولا عبادة مستقلة
في نفسها، يؤمر بها المؤمن كباقي العبادات المفروضة.
فالقتال أُذنَ به لأمرٍ
استوجبه واقع المسلمين، لا أن الدين فيه ما يستوجب القتال، ولا أن الدين يعتبر
الإكراه والقتل وسيلة من وسائل نشره وإظهاره. ولا يعتبر القتال وسيلة للدعوة، إنما
الدين يعتبر القتال عملاً عظيماً، وعبادة عظيمة، عندما توجد حاجة واقعية تفرض
نفسها على المسلمين للقتال والمقاتلة. نعم، إذا استوجب واقع المسلمين القتال، فهو
بلا شك عبادة وطاعة لله ورسوله وجهاد عظيم، حتى تزول علّة هذا الإيجاب، ويعود
الأمر إلى الأساس الذي بُنيت عليه الدعوة الإسلامية، وهو الحرية واستقلالية
الاختيار لدى الإنسان.
ومما يستوجب القتال على
المسلمين وجود أنظمة ظالمة وحاكمة تصدّ عن سبيل الله تعالى، وتستعبد الناس، وتستبد
بالأمر. قال الله تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ](البقرة: ١٩٣)،
فالمقاتلة، أو الجهاد بالمعنى القتالي، وسيلة لنشر الدين، لأن الإسلام دين الله
تعالى، وليس ديناً مُصطنعاً، أو فكرة ولدت من تفكير أحد، فلا ملكية لأحد عليه،
فكما يجب على المسلمين رفع الظلم وإزالته عن غيرهم، إن أمكن، فرفع الضلالة
وأسبابها عن غيرهم أيضاً من الواجب الديني عليهم، شريطة أن يكون المسلمون على
إيمان صادق وعمل صالح، وأن لا يكون في رفعهم الظلم عن غيرهم مفسدة أكبر. فالمقاتلة
ليست بمعنى القتل، إنما بمعنى إزالة النظم والسلطات الطاغية أو الظالمة على
الشعوب، التي تسلب الناس الحرية وحق الاختيار فيما يرونه صواباً أو خطأً، وتمنعهم
من اختيار ما يعتقدونه، أو تمنعهم من حقوقهم وتستعبدهم.
فالآية واضحة جداً في
معناها ومدلولها، إذ خصصت العداوة بالظالمين لا بالناس، وبيّنت السبب الوجيه في
المقاتلة، وهو ظهور الفتنة والوقوع فيها. فالفتنة ضد الأمان، وهي وقود القتل
والهرج والتخريب. ومن معاني هذه الآية أيضاً، أيْ: فتنة عليكم، بأنْ يُغِيروا
عليكم، ويقتلوكم، ويذهبوا بشوكتكم، ويفسدوا عليكم أمر دينكم. أيْ: إذا ما شكّلوا
عليكم خطراً حقيقياً.
قال الله تعالى: [قُل
لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن
يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ](الأنفال: ٣٨ – ٣٩). أي إن القتال مرتبط بموقف الكفار،
فإذا لم يحاربوا ولم يصدوا عن سبيل الله فلا قتال، لكن إذا حاربوا المسلمين لأجل
دينهم، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وصاروا فتنة للناس، وسبباً في إشعال نار فتنة
القتل والنهب بينهم وبين المسلمين، وشكّلوا خطراً على المسلمين وبيضتهم، وكان
بمقدور المسلمين مواجهتهم، وأن يهبّوا لمقاتلتهم، فواجب عليهم ذلك، وهو جهاد في
سبيل الله تعالى. وهو جهاد حق بلا شك، وعبادة عظيمة بلا ريب.
فالمؤمن ليس همّه فقط قيام
دولة، وليست غايته الأولى أن يُصلِح غيره، ويترك نفسه، بل همّه الأول إصلاح نفسه:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ](المائدة: ١٠٥)، و[أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ](البقرة:
44)، ويأتي بعد ذلك: الدعوة إلى
الله تعالى وإلى سبيله، بإفراغ الجهد، وبذل ما في الوسع، لأجل هذه الدعوة، ويصبر
المؤمن لحكم الله تعالى: [وَالَذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ](العنكبوت: ٦٩).
وليس للمؤمن أن يخلط
أغراضه الدنيوية أو الواقعية أو الشخصية أو القومية أو السياسية أو الحزبية، بأمر
هذا الدين، ويكسوها بكساء الدين، ويجعلها فكرة تميّزه عن باقي المؤمنين، ويحرّض
الناس على فكرته هذه، ويستميلهم بأدلة توهم صحة دعواه. فتجّمعُ المسلمين في شكل
الأحزاب أو المؤسسات الدينية يجب النظر إليه على أنه وسائل لخدمة الدين والمسلمين،
ولا قدسية لها أبداً، وإذا تبين أنها لا تفي بالغرض، أو تعرقل مسار الدعوة
الإسلامية، أو تكون في وجودها أسباب التفرقة والاختلاف بين المسلمين، وخلق المشكلات
فيما بينهم، فيجب إصلاحها وإعادتها إلى المسار الصحيح، وإلا فلا كرامة، ويجب نبذها
ورفضها.
فعندما أُذن بالقتال في
العهد المدني، كان لسببين رئيسين، هما:
أولاً: مظلومية المسلمين
من المهاجرين، وسلب أموالهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، والاتجار بها من قبل مشركي
مكة وقادتها.
ثانياً: تكاثر التهديدات
الخارجية للمجتمع الإسلامي الجديد، وقيام الخطر على ذلك المجتمع إقليمياً، فقضت
الحاجة إلى تحرّك المسلمين عسكرياً، للحفاظ على كيانهم ومجتمعهم.
وجديرٌ ذكرهُ هنا، أن من
دواعي الفتوحات الإسلامية وأسبابها - تلك التي قامت في أواخر العهد النبوي، إلى
قرون عدة بعده - هو تحرير الشعوب من الظلم، واستبداد الإنسان لأخيهِ الإنسان، وتحرير
الشعوب من جاهلية تخرج الإنسان من قيمته الإنسانية، وتشوّش تصوراته، بحيث تبقيه في
الضلالة والشقاوة والتخلّف، ولم يكن من أهدافها إجبار الناس على اعتناق الدين
الإسلامي بالقوة والقهر. فعندما يكون بمقدور المسلمين تحرير شعب مظلوم من جبر وبطش
الطغاة، فعليهم أن ينهضوا لذلك حتى يرفعوا هذا الظلم، ثم يتركوا الناس وحريتهم في
اختيار الدين وما يعتقدونه.
فالفتوحات ظهرت نتيجة تمكّن
المسلمين مادياً ومعنوياً وعسكرياً من تحرير الشعوب، والشعوب حينئذٍ كانت على
معرفة تامّة بحال المسلمين اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، ولم تك بحاجة إلى
مزيد من الأدلة لتعرف ما وصل إليه المسلمون من الرقي العظيم في تعايشهم وخلقهم
وعدالتهم الشخصية والاجتماعية والقضائية والحكومية.
فالمقاومة التي واجهتها
الفتوحات كانت من المستبدين والحكّام، لا الشعوب، إذ لو كان الأمر كذلك لما انتشر
الإسلام بهذه السرعة، التي أدهشت الشرق والغرب، ثم بقيت الشعوب على الإسلام طيلة
قرون عديدة، وتحت ظروف شديدة وقاسية أتت على الإسلام والمسلمين، والتي كان من
الممكن جداً الإطاحة بالإسلام، وإسقاطه بحيث لا ينهض معها أبداً. هذا إذا كان
الإسلام طبّق عليهم بالقوة، كما الحال في قيام الإمبراطوريات والحضارات التي نشأت
بالقوة إلى آخر أنفاسها، والتي نهضت ووصلت إلى أوج قوتها ثم سقطت وأصبحت في خبر
كان.
نعم،
لقد كثرت - في انتشار الإسلام، وتوسّع رقعة دولته - التساؤلات والجدل، قديماً وحديثاً،
لا عند أهله، لأن الأمر جليّ عندهم، إنما عند المستشرقين والأعداء، وربما عند بعض
الجهّال من المسلمين، الذين تأثروا بالأفكار الغربية الدخيلة التي صوّرتِ الإسلام
للناس بأنه كان إمبراطورية قامت على سفك الدماء والاستبداد، لكن بطابع ديني مغلف،
وسياسي مبطن، وينشرون الشبهات حول انتشاره، وكأنه نُشِر وأظهر بالسيف ولغة القوة
والقهر، وربما جاءوا بأمثلة من الحوادث التي وقعت في تاريخ المسلمين، حوادث مُرّة
مرّت بها الأمة الإسلامية، وجعلوها أمثلة على دعواهم. القول في ردّ هؤلاء بسيط
ويسير جداً، لكن قبل ذكر تلك الردود وسردها، لا بُدّ من أن
نعترف أن البعض من المسلمين، بل وبعض قادتهم، وقعوا في أخطاء جسيمة في بعض الأحيان
هنا وهناك عبر التاريخ، وسجلّها التاريخ ودونّها، ربما كان ذلك لأسباب عسكرية، أو
فتاوى دينية من قبل العلماء والمجتهدين، أو لأسباب أخرى مثل التصرف الشخصي من بعض
القادة، أو خروج الأمر عن السيطرة في بعض الحالات، أو غير ذلك. المهم هو أن تاريخ
المسلمين فيه ما هو خطأ ولا يمكن الدفاع عنه بوجه من الوجوه، بل يجب الإقرار
بالحقيقة وإدانة الأخطاء.
فمن
الردود على الذين يقولون إن الإسلام انتشر بالقوة والقهر:
1- من
المعلوم عند أهل التاريخ والسياسة أن العرب كانوا في غاية البعد عن التحضر
والتمدن، والمقصود من هذا الكلام أنهم كانوا بعيدين عن التفكير الحضاري، فضلاً عن
المحاولة في بناء إمبراطورية، بل حتى إقامة دولة إقليمية، وإنما تمسّكوا بالعادات
والأعراف القَبَلية في إدارة شؤونهم.
ومما هو جلي للباحث، أن من
يأتي بفكرة إنشاء إمبراطورية أو دولة، ويريد نجاحها وإنجاحها في جزيرة العرب، كان
سيبوء بالفشل لأسباب جغرافية وقومية، وذلك لأن العرب كانوا بسطاء في معيشتهم، وكانت
قناعتهم بالعيش محصورة داخل أطر صغيرة جداً، كالقبيلة والتجمعات على أساس النسب، إذ
لم تكن هناك مقوماتٌ وأسبابٌ مادية أساسية، وموادٌ خام موجودة، تساعد في إنشاء
إمبراطورية، أو حتى دولة.
وإذا قال أحدُهم إن المغول
كانوا كالعرب في معيشتهم، ويشبه حالهم حال العرب في البداوة وبساطة العيش، بل لا
وجه للمقارنة بينهم وبين العرب في التوحش والبربريّة، ومع ذلك تمكنوا من إنشاء
إمبراطورية خاصة بهم، قلنا: العبرة ليس بإنشاء إمبراطورية، واحتلال الأراضي، بل
العبرة بالبقاء، خاصة عند عدم تواجد القوة والسلطة.
2- من
الواضح جداً أن العرب قبل مجيء الإسلام كانوا متشتتين ومتفرقين، وكان من الصعب
جداً، بل ومن المحال، أن يجتمعوا لبناء دولة وإمبراطورية، إذ كانت تحكمهم العادات
القَبَلية، وفكرة التفاضل العرقي، وطهارة النسب، ولغة الكثرة والقوة.
فتوحيد العرب والقبائل
المتفرقة كان عملية صعبة جداً وشبه مستحيلة، إن لم نقل مستحيلة، فالقبائل القوية
كانت تُغير على القبائل الضعيفة، فتسبـي نساءها، وتنهب أموالها، وتغتصب أراضيها،
فكان ذلك سبباً في إلقاء العداوة بين القبائل، ومحاربة بعضها بعضاً، وإنشاء
التحالفات فيما بينها، فالرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وسلم) لو لم يكن نبياً
من الله ورسولاً من عنده، ما كان أمر دعوته لينجح في جمع العرب على أمر واحد، وتحت
راية واحدة، ودين واحد، فضلاً عن تغيير تصوراتهم وبواطنهم، وبهذه السرعة، وفي زمن
قليل جداً، وبقاء أمر دعوته في القوة والتأثير في العرب وغيرهم وإلى الآن بالقوة
والتأثير نفسه.
فدعوته (صلى الله عليه
وسلم) منذ بدايتها إلى وفاته (عليه الصلاة والسلام)، لم تكن تتسم بالعروبة
والقومية، لا من قريب ولا من بعيد، ولم ينقل عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال
بأفضلية العرب على غيرهم، ولم يُرْوَ عنه أنه عامل الناس على أساس العرق أو القومية
أو القَبَلية، بل جاء عنه (صلى الله عليه وسلم) نهيه الشديد عن القَبَلية
والعنصرية والتفرقة على أساس الجنس والعِرْق وما إلى ذلك، ما لا يبقي للشبهة
مجالاً، وذلك:
أولاً: أن الإسلام الذي
جاء به هو دين الله تعالى.
ثانيا: أن الإسلام دين
عالمي بكل المعايير.
1- إن أيّ
حركة سياسية، مهما كانت متخفية بلباس، فلا بدّ لها من أن تظهر على حقيقتها في يوم
من الأيام، خاصّة في أيام الضعف والبُعد عن السلطة والحكم. فمرادنا من قولنا هذا:
لو أن دعوة محمد (صلى الله عليه وسلم) كانت متخفية تحت لباس أو غطاء ديني، كان من
المفروض جداً أن تظهر على صورتها الحقيقية للناس في عهد قريب، أو تقع في تناقض بين
الفكرة والتطبيق، وإنما عرف الناس الإسلام بأنه دين وليس مجرد فكرة أو سياسة، أو مجرّد
إنشاء حكومة وإمبراطورية، بل ينظرون إليه على أنه دين إلهي، وهو كذلك، إذ فيه كل
المقومات اللازمة للدين. ويتبادرُ هنا إلى أذهاننا سؤال جدير طرحه: لماذا لم يفقد
الإسلام حيويته وقوته وأثره الكبير على الناس بمرّ العصور، وبقي ذا تأثير قوي على
الأفراد والأشخاص والأمم إلى عصرنا هذا؟ ولا يزال الناس يدخلون فيه أفواجاً يوماً
بعد يوم، ولا يزال أهل الإسلام في ازدياد، بالرغم من كُلِّ المحاولات الجادة،
العلنية والسرية، لهدمه وإبعاده عن الحكم والسياسة ونواحي الحياة، وتضييق دائرته
في التدين الشخصي والاعتقاد الفردي، وتصويره للناس بأنه دين لا علاقة له بالحكم
والسياسة والحياة، ليتفردوا هم بالحكم والسياسة، أو تصويره للناس على أنه سبب
للتطرف والعنف والإرهاب العالمي.
2- وهناك
سؤال مهم ومنطقي يطرح نفسه، وهو: إذا كان الإسلام انتشر بالسيف والقوة، لكان من
المفروض، عند فقدان القوة والسلطة، أن يتركه الناس، ويثوروا ضده؟! فلماذا بقي
الناس متمسكين بالإسلام هذا التمسّك الشديد إلى الآن، والمسلمون الآن في مرحلة
الضعف والاستضعاف، والبُعد أو الإبعاد عن السلطة والحكم! بالرغم من كُلِّ المصائب
والويلات التي انصبت على رؤوسهم! فلماذا لا يتركه الناس؟! أليس ذلك لأنه دين الحق
الذي يتوافق مع الفطرة والعقل السليم؟!
3- وهناك
سؤال آخر يطرحه أهل الشبهات، وهو: أن العرب ما كانوا ليجتمعوا حول بعضهم البعض
بدعوة أو سياسة إلا بطابع ديني، وهذا ما فعله نبـي الإسلام؟ وهذا السؤال في غاية
السخف والضعف لأمور:
الأمر الأول: أن العرب كانوا شديدي التمسّك بعبادة
الأصنام، وما كانوا ليذرونها بسهولة، ومن المعلوم أن محاربة الاعتقاد أصعب من
محاربة الفساد الإداري وتغيير أمور الدولة وتنظيمها، بل إن رؤساء قريش كانوا على
استعداد كبير ومجازفة كبيرة لإعطاء السيادة والزعامة والأموال لنبـي الإسلام (صلى
الله عليه وسلم)، بحيث يكون هو كبيرهم، ويكونون هم الأتباع. ومن الواضح أن نبـي
الإسلام رفض كل ما عرضه رؤساء قريش وأصحاب النفوذ في مكة، لأن الإسلام يوجب
النزاهة في الدعوة والقناعة الشخصية المتوقفة على الحرية الفردية.
الأمر الثاني: أن العرب قبل الإسلام كانت تحكمهم العصبية
والقَبَلية، وما كانوا ليخضعوا بسهولة لأي واحد من غير قبيلتهم.. وخير مثال (أبو
جهل)، الذي مَنَعَتْهُ العصبية من (بني هاشم) على الإقرار بالحق، وكذلك أتباع (مسيلمة
الكذاب). وقصة (مسيلمة) خير مثال على إبطال دعاوى المعادين والمعاندين للإسلام.
الأمر الثالث: أن دعوة الإسلام منذ بدايتها، إلى أن توفي
رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، كانت معلومة المبادئ، مفهومة الغايات، جليّة
الأهداف، ما كانت ملغزة ومطلسمة، ولا كانت تتّسم بالغموض، بحيث يصعب فهمها
وإدراكها.
الأمر الرابع: أن دعوة الإسلام كانت وإلى يوم القيامة
شاملة لجميع الأجناس من البشر، ولو لم تكن دعوة من الله إلى الخلق، لكانت دعوة
الإسلام في خبر كان.
إذا كانت هذه الشبهات صحيحة، فلماذا لم تسمع آذاناً
صاغية، وعقولاً واعية؟ ولماذا لم تثر هذه الشبهات ضجة كبيرة في أوساط المسلمين
والناس؟! ولماذا بقيت هذه الشبهات في مهدها، وإنما يتداولها أناس في قلوبهم الحقد
على الإسلام؟!
ومما
يجدر ذكره اعترافات المخالفين والأعداء بأن الإسلام هو دين العقل والاقتناع والتسامح
والاستسلام، وأن الإسلام انتشر لقوة أثره في النفوس، وسهولة فهم مبادئه، وانسجامه
مع العقل والروح. وأنه انتشر عن طريق الدعوة والأخلاق والتجارة، وكذلك عن طريق
الجهاد، الذي هو عبارة عن إنقاذ الشعوب من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، واستبداد
الإنسان واستعباده للإنسان أو الشعوب.
أما
الجهاد، فلأنه أرهب أعداء الإسلام، لذا نراهم يأتون من خلاله، باذلين جهدهم في
تشكيك المسلمين في دينهم وجهادهم، ويصورون الإسلام على أنه دين العنف والإرهاب،
وأنه انتشر بحدّ السيف. ومع الأسف نرى آذاناً صاغية لهذه الشبهات والاتهامات.
فالجهاد
في الإسلام، يُقام من أجل استرداد الحقوق المغصوبة والأموال والممتلكات المسلوبة،
وإحقاق الحق، وأيضاً يقام من أجل إرادة الهداية والخير والعدالة للناس جميعاً، إن
أمكن، وإذا كان هناك مانع فلا بد من إزالته. والجهاد يقام وينادى به في وجهِ أئمة
الكفر الذين يسعون لإبعاد الناس عن الحق، كي يختاروه بقناعتهم وحريتهم، بدليل قوله
تعالى: [وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي
دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ](التوبة: ١٢). فالإسلام جاء ليُحرِّر الناس، ويُحرِّر
العقل، ويُعطي الفرد حق التفكير وحق التعبير وحق الاختيار، والدليل قوله تعالى: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ](القصص: ٥). والمقطع الأخير من الآية معناه: نجعلهم
مكان من كان يظلمهم ويستضعفهم.
ولما
فتح المسلمون البلدان اعتنق الناس الإسلام، ودخلوا فيه طواعية، من غير خوف، ومن
دون إكراه. وأقام الإسلام - فيما وصلت إليه سلطته - العدل الاجتماعي،
والعدل السياسي، والعدل القضائي، والمساواة، والإخاء، واحتضن الإسلام كل الشعوب، باختلاف
أعراقهم، وباختلاف ألوانهم وألسنتهم وطبائعهم وعاداتهم، وجعلهم إخوة، وجمعهم تحت
سقف واحد، وهو: لا إله إلا الله، وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله
تعالى، بل عباداً لله، وإخوةً متساوين في الحقوق والواجبات والالتزام.
فمنذ
ظهور هذا الدين وإلى الآن لم يسجل التاريخ أي شيء يشير إلى أن الإسلام كان ديناً
عرقياً، أو استبدادياً، أو أن حملته كانوا يسعون وراء المال والثروات والاحتلال
وما إلى ذلك. نعم كانت هناك مواقع ومواقف أخطأ فيها المسلمون، ويجب أن نعترف بهذه
الأخطاء، لأنه لا معصومية للمسلمين، وليس الدين الإسلامي سبباً في وجود تلك
الأخطاء، فتاريخ المسلمين غير الإسلام، والإسلام غير المسلمين، فتاريخ المسلمين
فيه ما يوافق الإسلام ومبادئه، وفيه ما يخالفه، كما الحال الآن، فإن المسلمين في
غاية التخلف والبعد عن الالتزام الحقيقي بالدين، وهم بعيدون عن مواكبة التقدم، وفي
غاية الاختلاف فيما بينهم، وتشتتٍ في شملهم، وتعدد طرائقهم، فهل من المعقول حساب
كل ذلك على الإسلام؟ أو نتهم الإسلام بأنه وراء كل ما يحصل للمسلمين من التخلف
والاختلاف؟!
فما
تقع فيه الحركات والجماعات والمؤسسات والمنظمات الإسلامية
اليوم من أخطاء وزلاّت، لا يمكن أن نحسبها على الإسلام، وكذلك الحال بالنسبة
لأخطاء المسلمين فيما مضى، لا يمكن أن نحسبها على الإسلام. ونرّد على الذين يقولون
إن الدين كان وراء ما حدث من تلك الأخطاء، ونرد على الذين يحمّلون الإسلامَ عبء
أوزار المسلمين وعدم التزامهم بمبادئ هذا الدين وقيمه.
فالغرض من كل ما سبق من الكلام أمران:
الأمر الأول:
أن الأساس في هذه الدعوة المباركة هو أن يكون حملتها أصحاب إيمان وأعمال صالحة
ومبادئ قيّمة وأخلاقيات سامية، وأصحاب مبدأ تأصيل الإيمان وترسيخه في قلوب الناس،
وتعريفهم بالإسلام وجماله ومفاهيمه القيّمة ومبادئه العظيمة.
الأمر الثاني:
أن لا نكره بعضنا بعضاً، أو نتناطح من أجل اختلاف الوسائل لدينا، أو لاختلافنا في
الانتماء. فكلّنا يجب عليه أن ينظر إلى الحزب أو الجماعة أو المؤسسة أو المدرسة
التي ينتمي إليها على أنها وسائل لخدمة هذا الدين وهذه الدعوة الربانية. فمن
الممكن جداً أن تأتي على هذه الوسائل فترة من الفترات تفقد الأهمية والصلاحية،
فتحتاج إلى التغيير أو التبديل أو البديل، لا أن ننظر إليها على أنها ذاتَ قدسيّةٍ،
نربط إيماننا بها، ونعلق آمالنا عليها، أو أن ننظر إليها كأنها وسيلة نجاة لنا في
الدنيا والآخرة، بحيث لا يطرأ عليها التغيير. نعم، نعطيها من الأهمية ما يجعلها
صالحة في تحصيل الخدمة للإسلام والمسلمين، ونحافظ عليها ما دامت فيها عناصر
الإنتاج، حتى نستطيع التحرك على مسارها، أو العمل تحت ظلها، لكن إذا اختلفنا في
الوسائل، وكان هدفنا واحداً، وإذا اختلفنا في الطرق والكيفية، وكان مضمون وموضوع
إيماننا واحداً، وإذا افترقنا في الفكرة، وكان غرضنا خدمة هذا الدين، فأصبحنا ننظر
إلى بعضنا البعض كالأعداء، أليس يكون هذا من أكبر أسباب تخلّفنا وتأخرنا في صعود
سلّم النجاح؟! أليس هذا من علامات ضعف الإيمان في قلوبنا، وبالأحرى ضعف الالتزام منا
بمبادئ هذا الدين؟ إذاً، فكيف نطلب الالتزام بعد ذلك من الناس؟ إذاً، كيف ندعو؟
وكيف نغيّر؟ ومن أين نبدأ؟!
فأقول وأكرر.. إن ترسيخ
فكرة تغيير ذواتنا هو الواجب الأول علينا، إذ هو الأساس في نجاح أمر هذه الدعوة.
ومهما اتخذنا من وسائل، فلن ننجح معها أبداً، ما لم تكن قلوبنا عامرة بالإيمان،
ونفوسنا زكية بالأعمال الصالحة، وأعمالنا مستقيمة بالالتزام بالشريعة وآدابها.
فالناس يحتاجون إلى كتاب
ناطق بالعمل أكثر من الكتاب المقروء. ولهذا لمّا سئلت أم المؤمنين (عائشة) (رضي
الله عنها)، عن خلُق النبـي (صلى الله عليه وسلم): أجابت بمقولتها المشهورة: "كان
خلقُه القرآن". فيجب إذاً تحويل مبادئ هذا الدين، وقيمه العالية، وروحه
السامية، إلى الواقع المحسوس والمرئي والمسموع. فالناس تقّل هممهم في تعلّم العلم،
فضلاً عن إتقان العلوم واكتساب آليات الجدل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الناس
لا يلتفتون إلى من يرونَ أنه مثلهم في كل شيء، وإن اختلف معهم في النظريات
والتصورات، فالناس متى يؤثّر فيهم العلم والحجج، عندما تؤثّر فيهم أخلاق أصحاب
الدعوة، وأعمالهم الصالحة، وتضحياتهم الصادقة من أجلهم.
فالدعوة إلى الله تعالى،
وإلى دينه، تحتاج منا التغيير الحقيقي لأنفسنا أولاً، وتحتاج التضحية العملية منا،
لا التصنّع، والتظاهر. ولا تحتاج إلى أن نخترع لها طريقاً من تلقاء أنفسنا، نراه
مختصراً، ومناسباً، أو طرقاً موهومة نكسوها بكساء الأدلة الشرعية، وهي في أصلها:
إما أنها تخالف الدين ومبادئه، أو أنها من الدين، ولها أدلتها، ولها أصل من
الشريعة الإسلامية، لكنها ليست في أوانها، أو أنها لا تتفق مع واقع المسلمين.
فمشكلة الحركات والجماعات
الإسلامية اليوم، هي أن دعوتها لا تتّسمُ بالوضوح، وأن دعوتها غير واضحة المعالم
للناس، وغير بيّنة ومفهومة لهم، حيث لا يعلم الناس ما مُرادهم وما يبغون. بل كثير
من تلك الجماعات والحركات الإسلامية، وكثير من أفرادها وأعضائها، دخلوا في صراع مع
الناس، ونظروا إلى الناس بعين العداوة، ووصفوا الناس ومجتمعهم وواقعهم بالجاهلية،
وعاملوهم بخشونة وغلظة، بل تجاوز بعضهم هذا الحد إلى التكفير، والحكم عليهم
بالردة، فنالوا من الناس ما يسوؤهم، وهو رفض الناس لهم، وعدم التفاتهم إليهم وإلى دعوتهم.
كان
على تلك الجماعات محاولة إعادة المسلمين إلى المفاهيم الأساسية السامية للإسلام،
وإعادتهم إلى المبادئ القيمة للإسلام، وإبعادهم عن أسباب التفرقة والاختلاف
المذموم، وإخراجهم من تعلقهم في تصوراتهم ومعيشتهم بالماضي والتاريخ الغابر
للمسلمين، وإقناعهم بخطورة قلب صفحات التاريخ ومحاولة تكرار ما فيه. كان على تلك
الجماعات والحركات فتح عقول الناس وقلوبهم لعيش جديد، حسب ما يتطلبه منهم عصرهم،
في ظل تعاليم الإسلام ومبادئه، ودعوتهم إلى التجديد في الخطاب الديني، والتجديد في
الاجتهاد، والتجديد في الدعوة، والتجديد في الفقه، وغير ذلك مما قد يساعد في
النهضة المنشودة للإسلام والمسلمين، ويسرّع حركة عجلة التقدم الحضاري للمسلمين من
جديد. كان على تلك الجماعات والحركات العمل بجد وبجهد في إنقاذ
إيمان الناس، وكسبهم بشتى الطرق وشتى الوسائل المرضية عند الله، والاهتمام بصناعة
الفرد الإيجابي في المجتمع، والفرد الملتزم المتخلق بالأخلاق الحميدة الفاضلة النبيلة.
كان عليها توجيه الشباب بما يشعل في قلبه لهيب إرادة التغيير نحو الإصلاح والأصلح،
بالتضحية بالنفس والمال والوقت والطاقة والعلم والعمل، حتى يكون مرضياً في مجتمعه
والوسط الذي يعيشه. مع الأسف، فإننا رأينا من كثير المنتمين إلى تلك الجماعات
التكفير والتبديع والتفسيق للناس، ورفضهم الواقع وعدم قبولهم بالحقيقة التي هم فيها، ووصفوا
الناس بالجاهلية، ووصفوا الدولة التي هم فيها بدار الكفر، ما يعني أنهم لا يحبون
الحياة لأنفسهم ولا لغيرهم، كأن الإسلام جاء لسلب الحياة من الناس، وسحق النفوس،
وحصد الأرواح، وإزالة زينة الحياة الدنيا التي أخرجها الله لعباده، ونبذ طرق
التقدم العلمي والحضاري. كان عليها زرع الأفكار البناءة في عقل الشباب المسلم،
وحثّه في نشر الخير والإحسان مع الناس، وحضّه على العلم والتعلم، وإرشاده إلى
المثالية في الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، ومنعه من التنابز بالألقاب والاختلاف
والتفرقة، مما يضر بالإسلام والمسلمين، ويضعف صفوفهم، فهم إخوة وإن اختلفت طرائقهم
ووسائلهم. مع الأسف نراها تهتم بأفكار أنهكت الجميع في تحقيقها،
وأتعبت النفوس في تحصيلها، وأقعدت الكثير عن العمل بسبب عدم موافقتها للواقع،
وجلبت المصاعب والعوائق المستعصية أمام طريق الدعوة، وأكثرت الأعداء، وقللت
الأصدقاء والأولياء. مع الأسف اهتمت بتلك الأفكار، ونسيت تربية أفرادها وقادتها
تربية إيمانية حركية إيجابية، فضلاً عن غير أفرادها والناس في المجتمع، وكان جلّ
غايتها الانهماك في السياسة، والحصول على السلطة، فلم يخرجوا إلا بفوائد طفيفة لا
تذكر بجانب سلبيات كثيرة متعددة.
ولو
نظرنا في التاريخ، نرى الفرق المثير والكبير بين ما قام به الشيخ (سعيد بيران)، من
إعلان الثورة ضد الجمهورية التركية العلمانية عام 1925، بغية إعادة الشريعة، وبين
دعوة (النورسي) لإنقاذ الإيمان، فدعوته كانت بمثابة ثورة فكرية أيديولوجية ضد
التيار العلماني القابض على زمام الأمور. فالأول باءت ثورته بالفشل، وانتهى أثرها
بانتهاء حياة قائدها، حيث أعدم (رحمه الله تعالى رحمة واسعة)
مع أنه قام بالثورة ضد السلطة لا الناس، ولكن الثاني بقيت دعوته في تركيا إلى
الآن، بل تجاوزت دعوته تركيا ودول الجوار، وانتشرت في أرجاء العالم وأنحائه، وأصبح
الكثيرون من المسلمين، وحتى غير المسلمين، يهتمون بدعوته ورسائله وأفكاره وفلسفته
الدينية والإنسانية، وأصبح لدعوته أتباع في كل مكان، وبلغت دعوته ماليزيا وأندونيسيا
واليابان وغيرها من البلدان البعيدة.
ولو لم يكن لدينا، نحن الكورد،
ما نفخر به إلا رجلين، لكفانا ذلك إلى يوم القيامة:
الأول: القائد (يوسف بن
أيوب) المعروف بـ(صلاح الدين الأيوبي)، الذي جاهد في سبيل الإسلام ووحدة المسلمين،
بكل صدق وإخلاص وشهامة، وخلُق عالٍ، ورحمة، وشفقة، وشجاعة فائقة، حيث جاهد جهاداً
زاخراً بالمبادئ الإسلامية، وتجسّدت في جهاده كل القيم العالية والعدالة
والرحمة الإسلامية.
الثاني: (بديع الزمان سعيد
النورسي)، الذي سعى هو أيضاً بصدق وإخلاص وصبر جميل، لإنقاذ الإيمان، والتمسّك
بالقيم الإسلامية، وتقوية الالتزام الصحيح بالشريعة الإسلامية وأحكامها وقيمها.
نعم، هناك أحوال وظروف يجب
على المسلمين التحرّك والتعامل بحسب ما تتطلبه تلك الأحوال وتلك الظروف التي
يعايشونها، ويمرّون بها، أو عليهم التحرّك بحسب ما يقتضيه واقعهم من التحرّك
والسياسة والعمل، فإذا دعت الحاجة إلى القتال، وكان بإمكان المسلمين القيام به،
ويسمح واقعهم بذلك، فليقوموا به، من غير حرج وخوف واستحياء مما يقوله الأعداء، وما
ينشرونه من الشبهات، لكن بالتمسّك الكامل بالمبادئ والقيم والأخلاقيات التي تقرّرها
الشريعة الإسلامية. وقبل هذا أن نكون نحن قد غيّرنا دواخلنا بالإيمان الصحيح
الصادق. فإذا نسينا أنفسنا، واهتممنا بغيرنا، فإننا نقع في دوامة من الأخطاء
الحركية والدعوية، ونكون قد عقّدنا الأمر على أنفسنا، وعلى غيرنا، وشوّهنا هذه
الدعوة المباركة، بدلاً من خدمتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق