10‏/07‏/2016

شعرية السرد في رواية (من يسكب الهواء في رئة القمر) للكاتب (بشار عبد الله)

أثير محسن الهاشمي
مدخل
الشعرية/ المصطلح
يُعد مفهوم الشعرية من المفاهيم المثيرة للنقاش والجدل، وقد بدأ التأسيس لهذا المفهوم من قبل (أرسطو) في كتابه (فن الشعر)، إذ حاول أن يؤسس له بشكل يتناسب والزمن الذي عاش فيه.
ومن ثمّ تجدد الخطاب المعاصر لمفهوم الشعرية من قبل الشكلانيين الروس، إذ أعطى الشكلانيون الروس، في بداية القرن العشرين، دفعا جديدا للشعرية، من خلال دعوتهم لضرورة إقامة علم للأدب، تكون مبادؤه مستمدة من الأدب نفسه، لتكون هذه المبادئ المنطلق الرئيس لاستنطاق الخطاب الأدبي. وهي الفكرة التي اختصرها أحد أهم اقطاب هذه الجماعة، وهو (رومان ياكبسون)، في مقولته الشهيرة عام 1919: ليس موضوع العلم الأدبي هو الأدب، وإنما الأدبية ؛ أي ما يجعل من عمل معين عملاً أدبياً(1). ويؤكد هذه الفكرة بعبارة أخرى، بقوله: "إن موضوع الشعرية هو قبل كل شيء، الإجابة عن السؤال التالي: ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثراً فنياً"(2).
إن محتوى الشعرية تركــّـز على الجانب الفني، الذي يحاول الكاتب على وفقها كسر انتظار المتلقي. وهي ؛ أي: الشعرية، "تُعنى بدراسة خصائص الخطاب الأدبي، فتحاول الإجابة على سؤال ماهية الأدب، وما الوسائل الوصفية الكفيلة بتمييزه، فهي "مجموعة المبادئ الجمالية التي تقود الكاتب في عمله"، ولا يعني ذلك أن الشعرية معيارية؛ لأنها ليست نظرية تصبّ القصيدة بها شعريتها".(3) و"لا يمنع ذلك من القول إن الشعرية تتحقق في أساليب، أبرزها: المفارقة، والثنائية الضدية، والبساطة الآسرة، ورمزية الغموض، فضلاً عن أنها تتمثل في انتهاك قواعد اللغة، بوصفها خرقاً لشفرة اللغة، مما يستدعي دهشة المتلقي لما هو غير مألوف، فيولّد هذا الاندهاش شعرية".(4)
ويعلل الدكتور (الأوسي) ذلك، نتيجة ارتباط "مصطلح (الفجوة=  مسافة التوتر) - كما وصفها ديب-، بمفهوم الشعرية، إذ تتحقق الفجوة بين المتلقي والنص عندما لا يعبّر الشاعر عن فكرته بصورة كاملة، مما يخلق توتراً عند المتلقي، فيعمل هذا المتلقي على سد ثغرات هذه الفجوة، ويكسر أفق الانتظار، باستحضار معنى النص، وبذلك تتحقق الشعرية".(5)
ويلخص الدكتور (يوسف اسكندر)، في أطروحته (تأويلية الشعر العربي – نحو نظرية تأويلية في الشعرية)، أهم مسائل الشعرية، من وجهة نظر ما ورائية، ننقل منها عنوانات المسائل من دون تفصيل:
أ‌- الأسس المعرفية:
ب‌- ثنائية النص والخطاب..
ج- ثنائية التزامن والتعاقب..
د- ثنائية الوصف والتفسير..
هـ- ثنائية الموضوعية والذاتية..(6)
لقد "تناول الكثير من النقاد مصطلح شعرية اللغة، بوصفه منفذاً للولوج إلى خفايا النص الأدبي، وقياس شاعريته، من خلال تناول الأساليب الفنية الكامنة في مخزون لغته".(7)
فالشعرية على وفق ذلك إذاً، تُعدّ "من أكثر مواضيع الأدب جدّة وإثارة للاهتمام، وهي شديدة الصلة بالحداثة، لما تتمتع به من خصيصة فنية تعمل على إبراز الأثر الفني في لمسة جمالية عالية".(8)
فالشعرية عموماً هي محاولة وضع نظرية عامة ومجردة ومحايثة للأدب، بوصفه فنّاً لفظياً. إنها تستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبية. فهي إذن تشخّص قوانين الأدبية في أيّ خطاب لغوي(9).
وأخيراً، يتساءل (تودوروف) تساؤلاً منطقيّاً، يعنينا في البلاغة العربية بصفة خاصة، حين يقول: هل اللغة المجازية هي ذاتها اللغة الشعرية؟ وما العلاقة بينهما؟ وينتهي في تحليله إلى وضع اللغة المجازية مقابل اللغة الأدبية أو الشعرية، على اعتبار أن الأولى تنحو إلى تحقيق ما يطلق عليه: الخطاب الأجوف؛ أي ذلك الخطاب الذي يجذب الانتباه إلى الرسالة في حدّ ذاتها، في حين الثانية تحضر لنا الأشياء نفسها، طبقاً لوظيفة المحاكاة في الخطاب، بعد تأويلها. ومع ذلك، فإن كلتا اللغتين تصارعان عدوّاً مشتركاً هو ما يسميه (الخطاب الشفاف)؛ أي الذي يفرض التصور المجرّد.(10)
فاللغة المجازية، واللغة الأدبية، أو الشعرية، فكرتان لغايةٍ واحدة.

رواية (من يسكب الهواء في رئة القمر):
تكشف لنا رواية (من يسكب الهواء في رئة القمر)، للكاتب (بشار عبد الله)، أن المحتوى الروائي، ومجانسته شعرياً، ينتج حالة من الأبداع، الأبداع بين ما هو ظاهر يتشكّل على وفق اللغة السردية/ الشعرية، واللغة الشعرية/ الشعرية، ليكون المعنى قابلا ً للتشظي والاتساع.
فنجد ثمة هيمنة واضحة للغة الشعرية في رواية (بشار عبد الله)، تتوزع ما بين الصور البلاغية، كالاستعارة والتشبيه والإيجاز والرمز، فضلاً عن ابتعاده عن المباشرة اللغوية، وهيمنة المفارقة فيها. وعلى وفق ذلك، حاولنا أن نقسّم البحث على محاور عدة، تتوزع على الآتي:
 (شعرية العنوان، شعرية التناص، شعرية الاستعارة، التشبيه، شعرية المغايرة في اللفظ، وضدّه).
واعتمدت في تلك المحاور على دراسة شعرية اللغة، شكلاً ومضموناً.
أولاً: شعرية العنوان:
إن أهمية (العنوان) في الخطاب الأدبي، تبرز من حيث هو (علامة) للتواصل، ليكون بمنزلة دليل استعلامات، يقود المتلقي إلى تضاريس النص. لذلك إن (عنوان النص الأدبي) هو المعلومة الأولى التي يتوجه فيه الكاتب للمتلقي مباشرة.(11)
وهو "الدليل الذي يفضي بالقارئ إلى النص، فيتخذ دور المصيدة التي ينصبها الكاتب لاصطياد القارئ، أو دور الثريا التي تضيء دهاليز النص".(12)
إن إشاعة استخدام العنوانات البليغة يوشك أن يؤسس ثقافة نصوصية خاصة بها دون النصوص، وربما يتأسس من ذلك جنس كتابي له حدوده ومراميه وبلاغياته الخاصة.(13)
فالعنوان إذاً "يضيء الطريق الذي ستسلكه القراءة".(14)
تبدأ الرواية بعنوان شعري، فيبتعد الكاتب عن المباشرة اللغوية، إذ يتشظى العنوان إلى دلالات جمة، ورؤية بنائية جليّة، من شأنها أن تعزّز روحية المعنى الشعري، وتلك الصور البلاغية المتشكلة بمضمون رمزي دلالي:
مَنْ يسكب الهواء في رئة القمر!
مَنْ/ السؤال
يسكب الهواء/ دلالة الحياة
رئة القمر/ استعارة. وهي محاولة لإعادة الحياة، أو هي رمز للحياة، و(أنسنة) القمر، في الوقت ذاته.
يبدأ الاستفهام بالاسم الموصول – مَنْ - السائل به عن العاقل – مَنْْ يسكب الهواء، محاولة لبث روح الحياة – في القمر – الذي استعار له الكاتب (رئة الإنسان) القابلة للتنفس. وبالتالي، فإن الشعرية تكمن في الاستعارة البلاغية، ومن ثم ابتعاده عن المباشرة اللغوية، فنجد ثمة تحريك للألفاظ، ومحاولة لانسجامها، أدى إلى خلق لغة متجددة دلالياً، ومتسعة رمزياً.
ثانياً: شعرية التناص:
تُعد (كريستيفيا) أسبق من كتب عن التناص، إذ حاولت تقديم نظرياتها وتعريفاتها بشكل استوعب جميع إشكالياته وأنواعه. فالتناص في نظرها : "قانون جوهري، إذ هي نصوص تتم صناعتها عبر امتصاص، وفي الوقت نفسه، هدم النصوص الأخرى للفضاء المتداخل نصياً. ويمكن التعبير عن ذلك بأنها ترابطات متناظرة (Alter- Jonetons) ذات طابع خطابي".(15)
أو هو "التقاطع داخل نصّ، لتعبيرٍ مأخوذٍ من نصوص أخرى، وهو العلاقة بين خطاب الأنا وخطاب الآخر".(16)
فالتناص عملية هدم وبناء، وبذلك تكون مهمة الكاتب أصعب، خاصة عندما يحاول أن يؤسس إلى نص مغاير.
تهيمن شعرية التناص في نصّ (بشّار عبد الله)، نلحظ منها المقطع الآتي:
"لم تكن هناك خيول، أو بغال، ولا حتى حمير. والبقر لم يتشابه علينا، بعد أن تقمّص أبقارهم جنون الموهمين بانتصار موانع التفكير..". (17 )
يتناص الكاتب مع الآية القرآنية: {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}.(18)
وبذلك نحن إزاء مفارقة اختلفت شكلاً ومضموناً مع الآية القرآنية، فعملية الانحراف أدّت إلى تشكيل شعرية لغة النص.
وفي مقطع آخر يتناص الكاتب مع القرآن الكريم أيضاً، وبالتحديد قصة آدم وحواء:
"تسأليني كيف؟ وأجيبك : هكذا.. تعالي نلعب. أنا ألعب آدم، وأنتِ تلعبين حواء، ولكن هذه المرة بلا شجرة ولا شيطان ولا ثمرة، ولنبدأ من الحروب والجوع.."(19)
تنتج شعرية التناص عندما يُضمّن الكاتب قصة آدم وحواء في نصه، منحرفاً بالقصة القرآنية، ومختلفاً عنها، إلى تجليات أخرى: (اللعب/ آدم – حواء/ بلا شجرة ولا شيطان/ الحرب – الجوع).
وفي نص آخر، نجد شعرية التناص حاضرة:
" وأنتِ، لماذا تضعي أصابعكِ في آذانكِ كلّما قلت: في البدء كان، ثم شيء تشكّل خلف بوابة اللغز الأكبر".(20)
يتناص الكاتب مع الآية القرآنية: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}.(21)
يغيّر الكاتب من المحتوى والمضمون القرآني إلى مضمون ومعنى آخر، وعلى وفق ذلك تتشكل المغايرة والمفارقة:
- تضعي أصابعك ِفي آذانكِ – كلما قلت..../ النص
- يجعلون أصابعهم في آذانهم – من الصواعق / الآية
ثالثاً: شعرية الاستعارة:
تتنوع تعريفات الاستعارة، فالجاحظ (ت 255 هـ) يعرّفها على أنها:
"تسمية الشيء باسم غيره، إذا قام مقامه".(22)
ويعبّر (العسكري) (ت 395 هـ) على أن معنى الاستعارة: "نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض، وذلك الغرض إمّا أن يكون شرح المعنى، وفضل الإبانة، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو تحسين الغرض الذي يبرز فيه".(23)
ويبيّن (ابن رشيق) (ت : 456 هـ) أن الاستعارة "... من محاسِنِ الكلامِ، إذا وقعت موقِعها، ونزلت موضعها)(24).
ويصف (الجرجاني) (ت : 471 هـ) الاستعارة بقوله: "فإنك ترى بها الجماد حيّاً ناطقاً، والأعجم فصيحا،ً والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية، وإذا نظرت في أمر المقاييس وجدتها ولا ناصر لها أعزّ منها، ولا رونق لها ما لم تزنها"(25).
فالاستعارة لها خصائصها التي تميزها، وتحتاج إلى متلقٍ جيد، يكون مشتركاً في تحليلها وتأويلها.
نجد شعرية الاستعارة في نص (بشار عبد الله) واضحة وجليّة بشكل كبير ومهيمن، ومنها:
"وإذاً فقد عرفت كيف تحزّ رقبة الغيب، وتصبّ ملح كوابيسه فوق حلمي الجريح"(26)
تُنتج شعرية اللغة على وفق الاستعارة الواضحة في ثنايا النص:
تحزّ رقبة/ الغيب
تصبّ ملح/ كوابيسه
فوق حلمي/ الجريح
ونلحظ شعرية الاستعارة في المقطع الآتي:
"هل قلت لك أنني بقطنة مبتلة بالسكينة مسحت عضلة السماء حقنتها بجرعة من مصل مضاد للطائرات"(27)
نجد شعرية النص أعلاه واضحة على وفق الاستعارة المختلفة؛ أي تجانس أو تركيب حالتين مختلفتين على وتيرة واحدة:
(قطنة مبتلة بالسكينة/ مسحت عضلة السماء/ حقنتها بجرعة من مصل مضاد للطائرات).
تهيمن شعرية الاستعارة في نص (بشار عبد الله)، وهذا ما يعكس ثقافة الكاتب ووعيه وفكره. ومنها ما ورد في المقطع الآتي:
"بحجابات ونقاط حدودية وحروب وقمر رجيم يُخرج لسانه ويلعق وهْم الظلام، كلما واقعته سنة نوم ليصرخ شيخ ما"(28).
تُبنى الصور البلاغية بمستوى تركيبي عال المستوى، إذ تتشكل شعرية الاستعارة في النص على وفق الألفاظ المكثفة دلاليا والمؤكدة بلاغياً؛ وذلك عندما يقرن الكاتب استعارات وتشبيهات تثير التساؤل أو الاختلاف والغرابة، ومحاولة اللعب بالكلمات:

إن ما يثير المتلقي ويجعله في تفكير وتحليل، هي تلك التجليات الشعرية، والتي بُنيت على وفق الاستعارة وبلاغتها.
تهيمن الاستعارة بشكل لافت للنظر في هذه الرواية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
(لحية الليل – ص 358/ لعاب الشفرة ص 358/ فخذي قلقنا ص 358/ أصابع الغفلة ص 361/ بطن الصدفة ص 362/ عظام أمنياتي ص 362/ معدة الظروف ص 364).
رابعاً: شعرية التشبيه:
يُعد التشبيه من أركان الصور البلاغية المهمة، والذي يهيمن على نصوص أكثر الكتّاب والشعراء، مما يُضفي على النص بلاغة خاصة، وجمالية هامة.
إن إحدى تعريفات التشبيه هو "الوصف بأن أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه، ناب منابه أو لم ينب، ويصح تشبيه الشيء بالشيء جملة، وإنْ شابهه من وجه واحد"(29)
والتشبيه أيضاً "صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو جهات كثيرة، لا من جميع جهاته؛ لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه"(30).
وهو "العقد على أن أحد الشيئين يسدّ مسد الآخر، في حسّ أو عقل"(31)
نجد التشبيه حاضراً في لغة (بشّار عبد الله)، كما في المقطع الآتي:
"كي أخرج من المرأة الشرقية كحمار يقرأ أسفاراً ويفهم" (32)
يشبّه الكاتب ذاته أو نفسه كحمار يقرأ أسفاراً، إذ نلحظ مفارقتين، الأولى تتجلى في التشبيه غير المتوافق بين:
 الذات/ الحمار
والآخر يتجلى على وفق الانحراف أو التغيير.
الحمار يحمل أسفاراً/ الحمار يقرأ أسفاراً.
وهنا يكمن التغيير والولوج إلى متاهات اللعب في اللغة.
وفي نص آخر يتضح التشبيه عندما يقرن مفردتين غير متوافقتين في آن واحد:
"ثمة شاحنة عجوز تنبعث منها رائحة موتى، تجرّ خلفها ثلاثين محاولة لاقتحام العجاجة الكبرى"(33)
يشبّه الكاتب (الشاحنة/العجوز)، وعلى وفق ذلك تنشأ المغايرة في اللفظ والمضمون.
خامساً: شعرية المغايرة في اللفظ وضده:
لقد اقترب تعبير (شيلنج) عن هذا المبدأ بما أسماه (فلسفة الماهية)، حيث يقول:
".. إن القدرة الشعرية كفيلة بالتفكير فيما هو متناقض، والعمل على مزجه وتوحيده"(34).
إذ إن "أبرز نتائج الجمالية الرومانسية لنظرية الشعرية، هي القول بوحدة الشكل والمضمون، بامتزاج المادي والروحي، لتأكيد وحدة الأضداد"(35)
تتجلى شعرية المغايرة في الألفاظ وضدها، أي عندم يجمع الكاتب كلمتين متضادتين في آن واحد، على أمل أن يكوّن معنى مغايراً في اللفظ والمعنى:
" ما اسمك؟
خمار !
قال العريف: اقطعوا خاءه، ودقّوا مكانها حاء الحرب. والآن، كرّر العريف:
ما اسمك؟
حمار الحرب"(36).
ما يميز الكاتب (بشّار عبد الله) مغايرته في شعرية السرد، والتي تنعطف عن مسارها إلى مسارات أُخر، أكثر وقعاً، وأبلغ معنى. يحاول الكاتب أن يوظّف على وفقها تَجاور المتناقضات، أو عملية التغيير والتبديل في الألفاظ أو الحروف، لتوليد شكلٍ ومضمون يتجاوز المألوف، خاصة عندما يشير الحرف (الحاء) هنا ونقيضه (الخاء) إلى مفارقات جمة، أبرزها تغيير الجملة من معنى إلى آخر، كدلالة السخرية مثلاً، التي ترمز لها هذه الإشكالية:
( خمار/ حمار ) هذه الإشكالية أنتجت التضادية في اللفظ، على وفق منظومة شعرية المعنى؛ أي تحويله من دلالة إلى أخرى.
ونجد تلك المغايرة في مقطع آخر:
"وهل قلت لك أنه جزء على أكتاف جنون راجل إلى دائرة النفوس، وعدّل اسمه من قحط إلى قط، لتكون له سبعة أرواح، يرّوح بها عن انحناءاته الغزيرة تحت ضغط الأسعار"(37)
تتضح شعرية المغايرة في هذا المقطع على أساس انعطاف مسار الكلمة إلى تجليات أخرى، يمكن من خلاله أن يكون القارئ مُشاركاً للنص في التأويل أو التحليل، لفظه ومعناه.
وبالتالي، فإن عملية التحويل والتغيير والتبديل من لفظ إلى آخر يؤدي إلى تحويل المعنى واستنطاق ما هو صامت، وبذلك تكون المفارقة بيّنة وجليّة ومرتبطة ما بين النص ومتلقيه:
"عدّل اسمه من قحط إلى قط/ لتكون له سبعة أرواح".
إن عملية تغيير الحرف ليست سهلة، خاصة عندما يتعامل الكاتب بذكاء مع النص. فالكاتب ها هنا يحاول اللعب بالمعنى لزياد قوة النص وبلاغته، فالحرف وحذفه ينتج حالة من بلاغة تحويل الكلام إلى معنى أكثر إثارة.
الهوامش:
1.  تزفيتان تودوروف، الشعرية، ت: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال، الدار البيضاء، 1987. ص84.
2.  رومان ياكبسون، قضايا الشعرية، ت: محمد الولي ومبارك حنون، دار توبقال، المغرب، 1988، ص24.
3.  اتجاهات النظرية النقدية المعاصرة، د.سلام الأوسي، 282.
4.  المصدر نفسه : 282
5.  المصدر نفسه : 282
6.  تأويلية الشعر العربي – نحو نظرية تأويلية في الشعرية، يوسف محمد جابر اسكندر، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2005م : 30-39.
7.  اتجاهات النظرية النقدية المعاصرة : 284
8.  المصدر نفسه : 284
9.  حسن ناظم، مفاهيم الشعرية، المركز الثقافي العربي، بيروت - الدار البيضاء، ط1، 1994: 50.
10.  ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص، د.صلاح فضل، الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان – القاهرة، 1996: 77-78.
11. ينظر: في نظرية العنوان (مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية)،د.خالد حسين، التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، ط1، 2007 م: 420.
12. سيمياء العنوان: القوة والدلالة (النمور في اليوم العاشر) لزكريا تامر نموذجاً، خالد حسن حسين، مجلة جامعة دمشق، مجلد 21 – العدد ( 3-4 ) 2005م : 349
13.  ينظر: ثقافة الأسئلة (مقالات في النقد و النظرية)، عبد الله الغذامي، النادي الأدبي، جدة، ط1، 1992 م: 48.
14.  الغائب (دراسة في مقامة للحريري)، عبد الفتاح كيليطو، الدار البيضاء، دار توبقال، ط2، 1997م: 27.
15.  علم النص، جوليا كريستيفا، ترجمة: عبد الجليل ناظم، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1991م: 79.
16. في أصول الخطاب النقدي الجديد (مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد)، تزفيتان تودورف وآخرون، ترجمة: أحمد المديني، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1987م: 103.
17.  من يسكب الهواء في رئة القمر 353.
18.  سورة {البقرة. آية 70}.
19.  من يسكب الهواء في رئة القمر : 354.
20.  المصدر نفسه : 354.
21.  سورة {البقرة. آية 19}.
22.  البيان والتبيين، الجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط5، 1985م: 1/ 153.
23. كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ط1، 1952م : 295.
24. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، الحسن بن رشيق القيرواني، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، 1972م: 1\269.
25. أسرار البلاغة في علم البيان، عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: د.محمد الأسكندراني، منشورات دار الكتاب العربي، بيروت، د.ط، 2005 م: 33.
26.  من يسكب الهواء في رئة القمر: 357.
27.  المصدر نفسه : 357.
28.  المصدر نفسه : 358.
29.  2كتاب الصناعتين : 245.
30.  العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: 1/ 286.
31. النكت في إعجاز القرآن، الرّماني، ضمن كتاب ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقيق: محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام، دار المعارف، القاهرة،.د. ت: 74.
32.  من يسكب الهواء في رئة القمر: 367.
33.  المصدر نفسه : 369.
34.  بلاغة الخطاب وعلم النص: 68.
35.  المصدر نفسه : 68.
36.  من يسكب الهواء في رئة القمر: 358.
37.  المصدر نفسه : 358.


(بشار عبد الله) شاعر وصحفي عراقي، وهو إلى ذلك مترجم وروائي. فقد أصدر عن دار فضاءات للنشر بعمان عام 2008 الترجمة العربية الأولى لكتاب الآيجنغ الصيني الشهير بكتاب التغيرات. ونشرت له دار هاتس أف تكسن في أمريكا الترجمة الانكليزية لرواية د. فاتح عبد السلام: (عندما يسخن ظهر الحوت)، عام 2003. وفاز كذلك بجائزة الاستحقاق في الرواية العربية لعام 2005، ضمن جوائز مؤسسة ناجي نعمان الأدبية ببيروت، عن روايته الشعرية (من يسكب الهواء في رئة القمر). وستصدر له قريباً مختارات من الشعر الأمريكي المعاصر عن سلسلة آفاق عالمية الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق