بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله رب العالمين.. . والصلاة والسلام على رسول الله، سيد المرسلين، وعلى آله، وصحبه،
ومن دعا بدعوته واختطّ سبيله إلى يوم الدين.. وبعد:
فإن
الأمثال في القرآن الكريم وسيلة من الوسائل التي استخدمها القرآن في بيان إظهار
حقائقه ومعانيه الخفية التي قرّرها ليهتدي بها من هداه الله على فوزه وبغيته في
الدنيا والآخرة، وتقوم الحجة على من ضلّ الهدف الذي ترمي إليه من بيانها للحقائق
المستترة والمعاني الخفية.
وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم في توصيل رسالة التوحيد للناس، وما ذلك إلا لأنها – أعني رسالة التوحيد – أعظم حقيقة في الكون، وحريّ بها أن تكون محط عناية القرآن الكريم. والمتدبر في هذه الصورة القرآنية، يدرك مدى ثقل هذه الكلمة، واهتمام القرآن بها، حتى جاء ترسيخها في عقول وقلوب الناس بهذه الصورة الرائعة، والمثل البديع. وفي هذا المثل الرائع نجد الحث والترغيب في الكلمة الطيبة، لقيام كل مكلف قادر، وعلى حسب طاقته، بمهمة الدعوة إلى الله، والقول بكلمة الحق، والكلمة الطيبة، حتى تتزكى النفوس، وترتفع إلى مراقي الفلاح والسعادة الخالدة.
[أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أصلهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ
الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ]([1]).
والآية التي نحن بصددها، زاخرة بالمعاني والصور، التي
تجعل الكلمة في أرقى حال: جمالاً، وكمالاً، ونفعاً.. وفقنا الله للتمسك بهذه
الكلمة الطيبة، والقول بها، والسير وراء منهجها المحكم، للوصول إلى أهدافنا، بعد
أن نستفرغ وسعنا، ونبذل جهدنا، ونفني طاقتنا.
الكلمة لغة: قال ابن مالك:
كلامُنا لفظ مفيد كـ(استقم) ... واسم وفعل، ثم حرف، الكلم
والمعنى:
(اللفظ المفيد فائدة يحسن السكوت عليها)، وفائدة يحسن السكوت عليها أخرج الكلمة،
وبعض الكلم، وهو مركب من ثلاث كلمات فأكثر، ولم يحسن السكوت عليه، نحو (إن قام
زيد). وقول المصنف: (استقم)، فإنه كلام مركب من فعل أمر وفاعل مستتر،
والتقدير(استقم أنت)، فكأنه قال: (الكلام هو اللفظ المفيد فائدة كفائدة استقم)([2]).
اصطلاحًا:
قال ابن عباس: (هي شهادة أن لا إله إلا الله)، من قال: (لا إله إلا الله خالصاً من
قلبه دخل الجنة)([3]).
تشبيهاً بلاغياً: المشبه: الكلمة الطيبة. المشبه به: الشجرة الطيبة
(النخلة). أداة التشبيه: الكاف. وجه الشبه: يقول (ابن القيّم): "شبّه تعالى الكلمة الطيبة، بالشجرة الطيبة، لأنّ الكلمة الطيبة
تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع.. والكلمة الطيبة هي شهادة
أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة، وكل عمل
صالح مُرضٍ لله تعالى ثمرة هذه الكلمة". قال (ابن عباس): "أصلها
ثابت، قول لا إله إلا الله من قلب المؤمن، وفرعها في السماء: يرفع بها عمل المؤمن
إلى السماء"([4]). وقال (الربيع بن أنس): "كلمة طيبة هذا مَثَلُ
الإيمان، والإيمان الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه، وفرعها
في السماء: خشية الله"([5]).
مثل
الكلمة الطيبة
يقول
الله: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أصلهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ].
فهذا
مَثَلٌ بديعٌ عظيمُ الفائدةِ، مُطابقٌ لما ضُرِب له تمام المطابقة، وقد بدأه الله
بقوله: [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً]. أيْ: ألمْ ترَ بعين
قلبِك، فتعلمَ كيف مثّل الله مثلاً وشبّهه شبهاً للكلمة الطيّبة كلمة الإيمان.
وختَمَه بقوله: [وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ] أيْ: إن القصد من ضرب هذا المثل، وغيرِه من الأمثال، هو
تذكيرُ الناس ودعوتُهم إلى الاعتبار وعقلِ الخطاب عن الله.
وهذا في
غاية الحسن، من حيث ضرب المثل للمعاني المعقولة بالأشياء المحسوسة المستقرة في
بداهة العقول، والتي تتراءى للناس في معايشهم كل يوم. وإن منتهى الحسن في نتاج هذه
الشجرة، ذلك التثبيت عند سؤال الملكين في القبر، ثم نوال رضا الله تعالى وثوابه
يوم القيامة، كما قال تعالى بعد ضرب هذا المثل: ثبت هذا المعنى من حديث (البراء بن
عازب) (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (المسلم إذا سئل في
القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: [يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ]([6]).
ويأتي تكامل المشهد في عرض الصورة المناقضة، فبضدّها تتميز الأشياء؛ ففي مقابل
كلمة التوحيد وشجرة الإيمان – التي شبهتها بعض الأحاديث بالنخلة – تأتي الكلمة
الخبيثة، كلمة الكفر، كالشجرة الخبيثة: شجرة الحنظل: "لا أصل لها ولا ثبات،
كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع، ولا يصعد للكافر عمل، ولا يتقبل منه شيء"([7]).
والتثبيت:
الربط على القلب، فلا يتزحزح، ولا يضطرب، فيضيع منه الإيمان. والله تعالى يثبت
الإيمان في القلوب المؤمنة، فلا تضطرب، لهذا تجد أهل الإيمان في وقت الشدائد
كالجبال الرواسي ثباتاً وقوة.
ولا شك
أنَّ هذا البدء والختم في الآية فيه أعظم حَضّ على تعلُّمِ هذا المثل وتَعَقُّلِه،
وفيه دلالة على عِظم شأن هذا المثل المضروب، كيف لا وهو يتناول بيان الإيمان، الذي
هو أعظم المطالب وأشرف المقاصدِ على الإطلاق.
يقول
الشيخ (محمد متولي الشعراوي): "هي كلمة طيبة قيلت، لكنّها مثل الشجرة الطيبة؛
لأنها ترسخ في أذن من يسمعها فتصير حركة خاضعة للكلمة، وكلما فعل السامع لهذه
الكلمة فعلاً ناتجاً من تأثير هذه الكلمة، فإن بعض الثواب يعود إلى من قال هذه
الكلمة، حتى ولو كان قد مات، فكأن قائل هذه الكلمة ما زال يعيش، وكأن عمره قد طال
بكلمته الطيبة. إذاً، فأعمال الخير التي تحدث من الإنسان ليس معناها أنها تطيل
العمر؛ لأن العمر محدود بأجل، ولكنْ هناك إنسان يعطي عمره عرضاً، وآخر يعطيه عمقاً،
ويظلّ العطاء منه موصولاً إلى أن تقوم الساعة، فكأنه أعطى لنفسه عمراً خالداً.
ويقولون: والذكر للإنسان عمر ثان"([8]).
الكلمة
الطيبة كحبّة القمح المفردة، قد تهمل وتذهب أدراج الحياة، وقد تكون مباركة فتنبت
وتثمر، بل وقد تكون الثمرة خصبة تتضاعف وتتضاعف، وتنتشر هنا، أو تتنقل هناك، تناسب
أرضا صالحة، ومورداً عذباً، فتتضاعف إلى سبعمائة ضعف، بل إلى ما شاء الله، وتؤتي
أكلها بإذن ربها.
والكلمة
الطيبة في أول مبتدأها (صدقة)، كما أخبر عن وصفها الصادق المصدوق (صلى الله عليه
وسلم): (الكلمة الطيبة صدقة)([9])،
لأنها تفتح النفس، وتسعد القلب، وتدمل الجراح، وتذهب الغيظ، وتعلن السلام. والصدقة
تتضاعف بالنيّة، وتتضاعف بالأثر منها، فكذلك الكلمة قد تحتفظ بذاتها، وقد تنمو
وتنمو حتى تكون كالشجرة الباسقة.
والكلام الطيب مندوب إليه، وهو من جليل أفعال البر؛ لأن النبـيّ عليه السلام جعله
كالصدقة بالمال، ووجه تشبيهه (صلى الله عليه وسلم) الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال، هو أن الصدقة بالمال
تحيا بها نفس المتصدق عليه، ويفرح بها، والكلمة الطيبة يفرح بها المؤمن، ويحسن
موقعها من قلبه، فاشتبها من هذه الجهة([10]).
قال
الإمام ابن حجر: قال ابن بطال: وجه كون الكلمة الطيبة صدقة، أن إعطاء المال يفرح
به قلب الذي يعطاه، ويذهب ما في قلبه، وكذلك الكلام الطيب، فأثبت بها من هذه
الحيثية([11]).
والكلمة
الطيبة تشمل كل قول يقرب إلى الله تعالى، فالأمر بالمعروف صدقة، والنهي عن المنكر
صدقة، وبكل تسبيحة أو تكبيرة أو تهليلة صدقة، وتعليم العلم النافع صدقة، وابتداء
السلام، وردّه، صدقة، وكل خطوة يخطوها العبد إلى الصلاة صدقة، وإزالة الأذى عن
الطريق صدقة.
ولا بدّ
من معرفة بعض ملامح هذه الكلمة:
§
الكلمة
الطيبة جميلة، رقيقة، لا تؤذي
المشاعر، ولا تخدش النفوس.
§
جميلة في
اللفظ والمعنى، يشتاق إليها السامع، ويطرب لها القلب.
§
كما أنها
طيبة الثمر، نتائجها مفيدة، وغاياتها بناءة، ومنفعتها واضحة.
§
أصلها
ثابت، مستمدة من المنبع الصافي: كتاب الله، وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وتمتد
إلى السماء بفرعها، لأنها نقيّة، صادرة عن نيّة صادقة.
§
وتؤتي
أكلها باستمرار: يسمع السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى ينتفع بها
الخلق الكثير، بل ويستمر الانتفاع بها إلى ما شاء الله.
§
وليس
ألصق بهذه الخصائص، وأكثر قرباً، من كلمات الدعاة، المؤديّة للأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
§
الداعية
إلى العمل الإسلامي، وبناء مقوماته، والهادية الناس إلى الخير، ومستلزماته.
§
تعلّم
الداعية البناء وطرقه، وتهديهم إلى الجهاد، ومعرفة قواعده الشرعية، وما قد يقود
ذلك إلى تخطيط لقيام المجتمع المسلم، أو من منهاج لنشر الحق بين الأنام([12]).
فالمشبه
هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحسّ، والفرح في النفس، وازدياد أصول النفع
باكتساب المنافع المتتالية، بهيئة رسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار،
ووفرة الثمار، ومتعة أكلها. وكلّ جزء من أجزاء إحدى الهيئتين، يقابله الجزء الآخر
من الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل: أن يكون قابلاً لجمع التشبيه، وتفريعه([13]).
سيظلّ
للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم وواقعهم، وذلك إذا
استوفت شروطاً معينة. وليس أدلّ على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر، من أنّ
الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق
الراسخة، والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي لديهم. فهذا نوح u يجادل قومه باستفاضة، حتى ضجّ قومه من ذلك، حين قالوا: )قَالُوا
يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأكثرتَ جِدَالَنَا]([14])،
وهذا إبراهيم u يكرمه الله تعالى، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه: [وتِلْكَ حُجَّتُنَا
آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ]([15]).
وهذا
موسى u يقول: [واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي]([16])،
ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك (هارون) معه في التبليغ، لفصاحة لسانه،
حين يقول: [وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ
رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ]([17])،
والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه: [وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً
بَلِيغاً]([18])،
وكلّ هذا قبس مما نسبه الباري U لنفسه حين قال: [قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ
شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ]([19]).
وحجج
النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول – واحدة، أو تكاد، مما يجعل جذور الكلمة
الطيبة ضاربة في أعماق الزمن، من لدن نوح u إلى خاتمهم محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهذا يجعل حركة التاريخ
كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ، هو: التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية
من الضلالة.
ونحن - في
كثير من الأحيان - نستخّف بقيمة الكلمة، ومع أهمية العمل إلا أن لكل منهما مجاله
الذي لا يصلح فيه غيره. وفي تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً، غيَّرت فيها
الكلمة مسار شخص أو مدينة، بل قارة، فمما يذكرون في هذا الصدد، أن وفداً من بعض
بلاد أفريقية وفَدَ حاجّاً، فالتقى بالإمام (مالك بن أنس)، صاحب المذهب، فأثنى (مالك)
على والي ذلك البلد خيراً، وتمنى لو رزقت المدينة مثله، في عدله وصلاحه. فبلغ ذلك
والي ذلك البلد الإفريقي، فأمر بتدريس كتب (مالك) في بلده، وأدى ذلك إلى انتشار
المذهب المالكي في أرجاء أفريقية!. وما أظنّ أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال.
وقد تغني
الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش، كما حدث في (غزوة الأحزاب)، حين أسلم (نعيم بن
مسعود)، واستخدم عدم علم المشركين بذلك، في تبديد الثقة بين قريش واليهود، على ما
هو مشهور.
شجرة
الإيمان:
لا يخفى على مسلمٍ ما للإيمانِ من أهميّةٍ عظيمةٍ،
ومكانةٍ عاليةٍ رفيعةٍ، ودرجةٍ ساميةٍ مُنِيفةٍ، فهو أعظمُ المطالبِ، وأَجَلُّ
المقاصدِ، وأنبلُ الأهداف؛ إذ به ينال العبدُ سعادةَ الدنيا والآخرة، ويُدرِك أهمّ
المطالب، وأجَلَّ المقاصد، ويظفرُ بالجنَّةِ ونعيمِها، وينجو من النارِ وسخَطِ
الجبَّارِ، وينالُ رضى الربِّ، فلا يسخط عليه أبداً، ويتلذّذُ بالنظرِ إلى وجهه
الكريم، في غير ضرّاءَ مضرّة، ولا فتنةٍ مضلّةٍ. وثمراتُ الإيمان، وفوائدُه،
كثيرةٌ لا تُحصى، فكم للإيمان من فوائدَ عظيمة، وثمارٍ يانِعةٍ، وخيرٍ مستمرّ في
الدنيا والآخرة.
ولما كان الإيمان بهذه المثابة، وعلى هذا القدرِ من
الأهمية، كانت النصوص المبيّنة لفضله، والدالّة على شريف قدره، كثيرةً جداً،
ومتنوّعةً؛ إذ إنَّ مِن حكمة الله البالغة، ونعمته السابغة على عباده، أنْ جعل
الأمر كلّما كانت الحاجة إليه أعظم، والضرورة إليه ألزم، كانت براهينُه، وطرقُ
تحصيله، وسُبُلُ نيلِه، أوفر وأكثر.. وحاجة العباد إلى الإيمان هي أعظم الحاجات،
وهي أعظم من حاجتهم إلى طعامهم وشرابهم، وسائر شؤونهم؛ ولذا كانت دلائلُ الإيمانِ
أقوى الدلائل، وبراهينُه أصحَّ البراهين، وسبلُ نيله وتحصيله أيسرَ السبل مسلكاً،
وأقربَها مأخذاً، وأسهلَها مُتناولا؛ ولذا أيضاً تنوّعت وتعدّدت براهينُ الإيمان،
ودلائله، الموضحة له، إجمالاً وتفصيلاً.
وإنَّ من أعظم دلائل الإيمان، التي اشتمل عليها القرآن:
ضربَ الأمثال، التي بها تتّضح حقيقتُه، وتستبينُ تفاصيلُه وشعبُه، وتظهرُ ثمرتُه
وفوائدُه.
والمَثَلُ هو عبارة عن قولٍ في شيء، يُشبِه قولاً في شيء
آخر، بينهما مشابهة، لتبيين أحدهما من الآخر، وتصويره. ولا ريب "أنَّ ضربَ
الأمثالِ مما يأنسُ به العقلُ، لتقريبها المعقول من المشهود، وقد قال تعالى وكلامه المشتمل على أعظم الحِجَج وقواطع البراهين: [وَتِلْكَ
الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ]([20])، وقد
اشتمل منها (أيْ: القرآن) على بضعة وأربعين مثلاً، وكان بعضُ السلف إذا قرأ مثلاً
لم يفهمه، يشتدُّ بكاؤُه، ويقول: لست من العالِمين([21]).
وكان (قتادة) يقول: "اعقلوا عن الله الأمثال"([22]).
كلمة
التوحيد
وقد قال
بعض السلف عن الكلمة الطيبة أنها كلمة التوحيد، وعموم اللفظ أنها كلّ كلمة طيبة،
ولا منافاة بين القولين.
قال
الإمام الشوكاني: "ها هنا مثلاً للكلمة الطيبة، وهي كلمة الإسلام، أيْ لا إله
إلا الله، أو ما هو أعمّ من ذلك من كلمات الخير"([23]).
ثبت في
الحديث أن أفضل كلمة قالها الناس قول: لا إله إلا الله؛ تلك الكلمة التي قامت
عليها السماوات والأرض، وهي الكلمة الفصل بين الحق والباطل، وهي فيصل التفرقة بين
الكفر والإيمان، إنها خير كلمة عرفتها الإنسانية، تلك الكلمة التي أخذها الله تعالى
عهداً على بني آدم، وهم في بطون أمهاتهم، وأشهدهم عليها، قال تعالى: [وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ]([24]).
يذكر
المفسرون أن المراد بـ (الكلمة الطيبة) شهادة أن لا إله إلا الله، أو المؤمن نفسه،
وأن المراد بـ (الكلمة الخبيثة) كلمة الشرك، أو الكافر نفسه.
وهذا
المثل القرآني جاء عقيب مثل ضربه تعالى لبيان حال أعمال الكفار، وهو قوله تعالى: [مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ
فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ]([25])،
فذكر تعالى مثل أعمال الكفار، وأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، ثم أعقب
ذلك ذكر مثل أقوال المؤمنين.
ووجه هذا
المثل أنه تعالى شبّه الكلمة الطيبة - وهي كلمة لا إله إلا الله، وما يتبعها من
كلام طيب - بالشجرة الطيبة، ذات الجذور الثابتة والراسخة في الأرض، والأغصان
العالية التي تكاد تطال عنان السماء، لا تنال منها الرياح العاتية، ولا تعصف بها
العواصف الهوجاء، فهي تنبت من البذور الصالحة، وتعيش في الأرض الصالحة، وتجود
بخيرها في كل حين، ثم تعلو من فوقها بالظلال الوارفة، وبالثمار الطيبة، التي
يستطيبها الناس، ولا يشبعون منها. فكذلك الكلمة الطيبة، تملأ النفس بالصدق
والإيمان، وتدخل إلى القلب من غير استئذان، فتعمل به ما تعمل.
وقد روى
الطبري عن الربيع بن أنس (رضي الله عنه) في قوله تعالى: [كَلِمَةً طَيِّبَةً]،
قال: هذا مثل الإيمان، فالإيمان الشجرة الطيبة، وأصله الثابت الذي لا يزول:
الإخلاص لله، وفرعه في السماء: خشية الله.
وهذه
الشجرة أيضاً مثلها كالمؤمن، فهو ثابت في إيمانه، سامٍ في تطلعاته وتوجهاته، نافع
في كل عمل يقوم به، مقدام مهما اعترضه من صعاب، لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلاً،
معطاء على كل حال، لا يهتدي البخل إلى نفسه طريقاً، فهو خير كله، وبركة كله، ونفع
كله. وعلى هذا يكون المقصود بالمثل تشبيه المؤمن، وقوله الطيب، وعمله الصالح،
بالشجرة المعطاء، لا يزال يُرفع له عمل صالح في كل حين ووقت، وفي كل صباح ومساء.
على أنه
قد ورد في بعض الروايات أن الشجرة الطيبة، التي ورد ذكرها في الآية، هي شجرة
النخل، وأن الشجرة الخبيثة هي شجرة الحنظل؛ يرشد لذلك ما رواه أبو يعلى في (مسنده)
عن أنس (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أتي بطبق عليه ثمر نخل،
فقال: [مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أصلهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا]،
هي النخلة.
فإذا
كانت الشجرة الطيبة رمز العطاء والبذل، فإن كلمة التوحيد رمز العبودية لله، ودليل
الإخلاص له، وبرهان الاعتماد عليه. وإذا كانت الشجرة الطيبة عنوان الخير والجود،
فإن المؤمن خير كله، وبركة كله، وطيب كله.
ولا شك
أن القرآن حين يضرب مثلاً لكلمة التوحيد، أو للمؤمن، بالشجرة الطيبة الخيرة
المعطاء، يكون قد أوصل الفكرة التي أراد إيصالها بشكل أكثر وضوحاً، وأشدّ بياناً،
من أن يأتي بتلك الفكرة مجردة، خالية من أي تمثيل أو تشبيه.
وأيّاً
كانت الكلمة، فلا خلاف في الأقوال، لأن الكلمة لا تطيب إلا أن تكون مبنيّة على أصل
التوحيد، وكلمة التوحيد لا تثمر إلا الكلمات الطيبة، والأصل في الكلام الطيب
المثمر ما كان مبنيّاً على أسس الشريعة، وقواعد العقيدة، ولهذا فان أصلها ثابت.
وقال ابن
رجب: فالكلمة الطيبة: هي كلمة التوحيد، وهي أساس الإسلام، وهي جارة على لسان
المؤمن، وثبوت أصلها هو ثبوت التصديق بها في قلب المؤمن. وارتفاع فرعها في السماء،
هو علو هذه الكلمة، وبسوقها، وأنها تحرق الحجب، ولا تتناهى دون العرش.
وإتيانها
أكلها كل حين: هو ما يرفع بسببها للمؤمن كل حين من القول الطيب، والعمل الصالح،
فهو ثمرتها([26]).
وكما أن
الشجرة لا تتم إلا بعرق راسخ وأصل قائم وفروع عالية، فكذلك الإيمان لا يتم إلا
بمعرفة القلب، وقول اللسان، وعمل الأركان، فيكون كما يقول النسفي: "..
والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد، أصلها تصديق بالجنان، وفرعها إقرار باللسان، وأكلها
عمل بالأركان.."([27]).
"فهذا
مثل كلام الأولياء، فكلمتهم الطيبة كلمة التوحيد، التي لا أطيب منها، وهي أصل كل
سعادة راسخة في قلوبهم، معرفة في كل عرق منهم أوجب إعراقها أن بسقت فروعها التي هي
الأعمال الدينية من أعمال القلوب والجوارح، فصارت كلما هزت اجتنى الهاز ثمراتها
التي لا نهاية لها، عالماً بأنها من فتح مولاه، لا صنيع له فيها بوجه، بل له تعالى
المنّ عليه في جميع ذلك.."([28]).
يتبين
مما سبق ان الكلمة الطيبة تشمل كلمة التوحيد وغيرها من كلمات الخير التي تدعو إلى
الفضائل.. ولكن العلماء ركزوا على كلمة التوحيد، لأنها الأساس لكل كلمات الخير.
يقول (الآلوسي):
"الكلمة الطيبة هي كلمة التوحيد التي غرسها الحق في أرض بساتين الأرواح، وجعل
تعالى أصلها هناك ثابتاً بالتوفيق، وفرعها في سماء القربة، وسقاها من سواقي
العناية، وساقها المعرفة، وأغصانها المحبة، وأوراقها الشوق، وحارسها الرعاية، تؤتي
أكلها في جميع الأنفاس، من لطائف الربوبية، وعرفان أنوار العبودية.."([29]).
ويقول (ابن القيم) في تفسير الآية: [أَلَمْ
تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً..]: وإذا تأملت هذا
التشبيه، رأيته مطابقاً لشجرة التوحيد الثابتة، الراسخة في القلب، التي فروعها من
الأعمال الصالحة صاعدة في السماء، ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل
وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها وإخلاصه، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه
بحقها، ومراعاتها حق رعايتها. فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها، واتصف قلبه
بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي
يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه، وتصدقها جوارحه، ونفى تلك الحقيقة، ولوازمها،
عن كلّ ما سوى الله عز وجل، وطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه
لمن شهد له بالوحدانية، طائفة سالكة سبيل ربهم ذللاً، غير ناكبة عنها، ولا باغية
سواها بدلاً، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلاً. فلا ريب أن هذه الكلمة من
هذا القلب، على هذا اللسان، لا تزال تؤتي ثمرَتَها من العمل الصالح الصاعدِ إلى
الله كلَّ وقت. فهذه الكلمة الطيّبةُ هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الربِّ تعالى،
وهذه الكلمةُ الطيّبةُ تُثمرُ كَلِماً كثيراً طيّباً، يقارنُه عملٌ صالحٌ، فيرفع
العملُ الصالح الكلمَ الطيّب، كما قال تعالى: [إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ
الطَيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ]([30])،
فأخبر تعالى أنَّ العملَ الصالحَ يرفعُ الكلِمَ الطيِّب، وأخبر أنَّ الكلمةَ
الطيّبة تُثمر لقائلها عملاً صالحاً كلَّ وقت. والمقصود أنَّ كلمةَ التوحيد، إذا
شهد بها المؤمنُ، عارفاً بمعناها وحقيقتها، نفياً وإثباتاً، متَّصفاً بموجبها،
قائماً قلبُه ولسانُه وجوارحُه بشهادته؛ فهذه الكلمةُ الطيّبةُ هي التي رفعتْ هذا
العملَ من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها متَّصلة بالسماء، وهي
مخرجة لثمرتها كلَّ وقت"([31]).
تشبيه
الكلمة الطيبة بالشجرة
وعندما نتأمّل هذا المثل العظيم، نجِدُ أنَّ
الله تعالى ذَكَر فيه مُمثَّلاً له، ومُمثَّلاً به، ووجهَ المثلية بينهما.
فالممثَّلُ له، هو الكلمة الطيّبة، والممثَّلُ به: الشجرة الطيّبة، ووجه المثلية،
هو كما قال الله: [أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا]، فشبَّهَ تعالى كلمةَ الإيمان
الثابتة في قلب المؤمن، وما يترتّب عليها من فروع وشُعب وثمار، بالشجرة الطيّبة
الثابتة الأصل الباسقةِ الفرع في السماء علوّاً، التي لا تزالُ تؤتي ثمراتها كلَّ
حين. ومن يتأمّل في المُمثّلِ به، وهو الشجرة الطيّبة، والممثّل له، وهو كلمة
الإيمان في قلب المؤمن، وما يترتّب عليها من ثمارٍ، يجدُ أوصافاً عديدةً متطابقة
بينهما، وهو شبه حقيقي في طبيعة الكلمة وطبيعة الشجرة؛ وما فيهما من حياة ونماء،
والكلمة تنمو وتمتد وتثمر، كما تنمو الشجرة وتمتد وتثمر، سواء بسواء!([32]).
وتشبيه
الكلمة الطيبة بالشجرة، لأن الشجرة تثمر الثمر النافع، كالكلمة التي تؤدي إلى
العمل الصالح، فعروق هذه الشجرة العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعها
الأعمال، وثمرتها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصفات الممدوحة
والأخلاق الزكية والسمت الصالح والهدي والدل المرضي، فيستدل على غرس هذه الشجرة في
القلب، وثبوتها فيه، بهذه الأمور([33]).
وقد قال
بعض السلف: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، لحديث (عبد الله بن عمر) (رض) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل
المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي
أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله. قال: هي النخلة)([34]).
أنَّ
النخلةَ فيها بركةٌ في كلِّ جزء من أجزائها، فليس فيها جزء لا يُستفاد منه، وهكذا
الشأنُ بالنسبة للمؤمن، "ولما كانت النخلة أشبه الأشجار بالإنسان شبّهت به،
وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها، تشعبّت الغصون من جوانبها، والنخلة إذا قطع رأسها
يبست وذهبت أصلاً. ولأنها تشبه الإنسان، وسائر الحيوان، في الالتقاح، لأنها لا
تحمل حتى تلقح.."([35]).
وفي
رواية أخرى عن (ابن عمر) (رضي الله عنه) أيضاً، أنه قال: كنا عند رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) فقال: (أخبروني بشجرة طيبة تشبه الرجل المسلم، لايحات ورقها
ولا، ولا، ولا، تؤتي أكلها كلّ حين). قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة،
ورأيت أبا بكر (رضي الله عنه) وعمر
(رضي الله عنه) لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً، قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم): هي النخلة)([36]).
قال
الحافظ ابن حجر: "قوله: (ولا ولا ولا)، قيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها، ولا
يعدم فَيْؤها، ولا يبطل نفعها.. وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في
جميع أحوالها، فمن حين تطلع، إلى أن تيبس، تؤكل أنواعاً، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع
أجزائها، حتى النوى في علف الدواب، والليف في الحبال، وغير ذلك مما لا يخفى. وكذلك
بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره، حتى بعد موته.."([37]).
ولا فرق
بين خصوص النخلة أو عموم الشجر الطيب، ففي كليهما يتأدى المعنى، والأصل التشبيه
بالشجرة، والمشبه بها شجرة الإيمان، ليحصل التطابق.
"فالمشبه
هو الهيئة الحاصلة من البهجة في الحس، والفرح في النفس، وازدياد أصول النفع
باكتساب المنافع المتتالية بهيئة رسوخ الأصل، وجمال المنظر، ونماء أغصان الأشجار،
ووفرة الثمار، ومتعة أكلها، وكل جزء من أجزاء إحدى الهيئتين يقابله الجزء الآخر من
الهيئة الأخرى، وذلك أكمل أحوال التمثيل أن يكون قابلاً لجمع التشبيه وتفريقه"([38]).
فابن عمر
وقع في نفسه أنها النخلة، والحاضرون أخذوا يذكرون شجر البوادي: شجرة السدر، أو
شجرة السرح، أو كذا وكذا، فلما لم يعرفوها أخبرهم النبـي (صلى الله عليه وسلم) بأنها
النخلة. أخبر (ابن عمر) أباه بما وقع في نفسه، وقال: إني استحييت أن أتكلم لما
رأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، وعمر يشجعه، قال: لأن تكون قلتها أحبّ إليّ من كذا
وكذا؛ يحب أن يبرز ابنه، وأن يظهر له فهم وإدراك. ففي هذا الحديث أنه شبه المؤمن
بشجرة النخل، ولعلّ وجه الشبه كثرة المنافع فيها؛ فإنّ نفعها كثير؛ فإن ثمرها غذاء
وقوت يقتات به، وهو من أنفع الأغذية تمراً ورطباً وبلحاً، ومنه أيضاً يؤخذ دبسها
ونواها.. أو تعلف به الدواب، وكذلك خوصها يعمل منه الحصر والفرش والزماميل
والأواني. وكذلك جريدها يصلح عصياً وسياطاً، ويجعل في سقف المباني، وكذلك أيضاً
يوقد به، ويصلح وقوداً، وكذلك ليفها تعمل منه الحبال ونحوها؛ فمنافعه كثيرة.
فكذلك
المؤمن منافعه كثيرة؛ يعني أنه عبادات بقلبه، عبادات بلسانه، عبادات بيديه وبرجليه،
وبسمعه وببصره، عبادات بماله، يعني أن هذه كلها منافع، كذلك أيضاً ينفع المؤمنُ
إخوته، ينفعهم بنصيحته، ينفعهم بيديه، ينفعهم بلسانه، ينفعهم بإشارته، وببدنه،
فمنافعه كثيرة، كما أن منافع النخلة كثيرة. فهذا بيان أن النبـي (صلى الله عليه
وسلم) كان يحب ضرب الأمثلة، حتى تقرب الأشياء إلى الأفهام.
أنَّ
النخلة لا بدّ لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر، وكذلك شجرة الإيمان لا بدّ لها
من أصل وفرع وثمر، فأصلها الإيمان بالأصول الستة المعروفة، وفرعُها الأعمال
الصالحة، والطاعات المتنوّعة، والقربات العديدة، وثمراتُها كلُّ خير يحصِّلُه
المؤمن، وكلُّ سعادة يجنيها في الدنيا والآخرة.
روي عن (طاووس)
أنه قال: "مثل الإيمان كشجرة؛ فأصلها الشهادة، وساقها وورقها كذا، وثمرُها
الورع، ولا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع فيه"([39]).
قال (البغوي)
رحمه الله: "والحكمة في تمثيل الإيمان بالشجرة، هي أنَّ الشجرةَ لا تكون
شجرةً إلاّ بثلاثة أشياء: عِرق راسخ، وأصلٌ قائم، وفرع عالٍ. وكذلك الإيمان لا
يتمّ إلا بثلاثة أشياء: تصديقٌ بالقلب، وقولٌ باللسان، وعمل بالأبدان"([40]).
وقال ابن
القيم رحمه الله: "الإخلاص والتوحيد شجرةٌ في القلب، فروعُها الأعمال، وثمرها
طِيبُ الحياة في الدنيا، والنعيمُ المقيمُ في الآخرة. وكما أنَّ ثمار الجَنّة لا
مقطوعة ولا ممنوعة، فثمرة التوحيد والإخلاص في الدنيا كذلك. والشرك والكذب والرياء
شجرة في القلب، ثمرها في الدنيا الخوفُ والهمُّ والغمُّ وضيق الصدر وظلمة القلب،
وثمرها في الآخرة الزَّقومُ والعذاب المقيم، وقد ذكر الله هاتين الشجرتين في (سورة
إبراهيم)"([41]).
أنَّ
النخلةَ، كما وصفها النبـيّ (صلى الله عليه وسلم): (لا يسقط ورقُها)، وبين المسلم
والنخلة في هذا وجه شبه، يتضح بما روي عن ابن عمر: قال: "كنا عند رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) ذات يوم فقال: (إنَّ مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة،
أتدرون ما هي؟) قالوا: لا. قال: (هي النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن
دعوة)([42]).
قال
القرطبـي في تفسيره مبيِّناً أهميةَ هذه الزيادة، وعِظم فائدتها: وزاد فيه الحارث
بن أسامة زيادةً تساوي رحلة عن النبـي (صلى الله عليه وسلم) قال: (وهي النخلة لا
تسقط لها أنملة، وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة)، فبيّن معنى الحديث والمماثلة([43]).
فالكلمة
هي كلمة الإخلاص، والشجرة أصل الإيمان، وأغصانها اتباع الأوامر واجتناب النواهي،
وزهرها ما يهم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الشجرة،
وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها([44]).
والدعاء
مأمور به، كما هو معلوم، وموعود عليه بالإجابة، كما قال الله تعالى: )وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]([45])،
لكن الدعاء سببٌ مقتضٍ للإجابة، مع استكمال شرائطه وانتفاء موانعه، وقد تتخلّف
الإجابة لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، وآدابه، والتي من أعظمها حضور
القلب، ورجاء الإجابة، والعزم في المسألة([46]).
وذكر ابن
القيّم - رحمه الله - في معنى الحديث وجهاً آخر، وهو أنَّ ذلك يدلّ على: (دوام
لباسها وزينتها، فلا يسقط عنها صيفاً ولا شتاءً، كذلك المؤمن لا يزول عنه لباس
التقوى وزينتها حتى يوافيَ ربَّه تعالى)([47]).
والنخلة ينتفع بكل شيء فيها، من جريدها وسعفها وعرجونها
وساقها وعشميقها، حتى ظلها وثمرها.
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال ناس من فقراء
المسلمين قالوا يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يتصدقون ولا نتصدق، وينفقون
ولا ننفق، قال: (أفرأيتم لو كل مال الدنيا وضع بعضه على بعض أكان بالغاً السماء؟)
قالوا: لا يا رسول الله، قال: (ألا أخبركم بشيء أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ أن
تقولوا في دبر كل صلاة: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله عشر
مرات، فإن أصلها في الأرض وفرعها في السماء)([48]).
الدروس التربوية والدعوية من
المثال النبوي
1.
المسابقة العلمية.. سنة نبوية
قد يظنّ
أحد أن المسابقات العلمية طارئة على المنهج الإسلامي، وأنها من روح العصر، ولكن
الحقّ أن العلماء كانوا - على مرّ العصور - يستعملون الألغاز والأحاجي في تدريس
العلم، وخصوصاً عند الاستراحات، وبين الدروس المتعددة، بل وألّفوا فيها الكتب
والمصنفات، وهم في ذلك يتبعون الهدي النبوي.
(وفى
الحديث غير ما تقدم امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى، مع بيانه لهم، إنْ لم
يفهموه.. وأما ما رواه أبو داود عن النبـي (صلى الله عليه وسلم) (أنه نهى عن
الأغلوطات (أيْ: صعاب المسائل).. فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه، أو ما خرج على
سبيل تعنت المسؤول أو تعجيزه، وفيه التحريض على الفهم في العلم)([49]).
وهكذا،
حرصت الشريعة الإسلامية على أن يستفيد المؤمن من جميع وقته، حتى عند استراحته
وفيئته، فأجازت له اللهو المباح، واللعب الجاد، فكان من المباح للمؤمن استعمال
الرمي والمناضلة، والمسابقة الفكرية، والإلغاز من أجل قوة العقل، وفي الحالتين فلا
تفريط في الوقت، ولا ضياع في الجهد، فيا للروعة؛ ما أحرص الإسلام على وقت أبنائه([50]).
2.
تربية النبـي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه على
الاستنباط وحل الألغاز:
قال ابن
حجر: "وفي هذا الحديث من الفوائد: منها: امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى،
مع بيانه لهم، إنْ لم يفهموه.. وفيه التحريض على الفهم في العلم، وفيه أيضاً أن
المُلغِّز ينبغي له ألا يبالغ في التعمية، بحيث لا يجعل للمُلَغَّز له باباً يدخل
منه، بل كلما قَرَّبه، كان أوقع في نفس سامعه"([51]).
ولا شك
أن السؤال مدعاةٌ للتفكير، وتنميته، ومدعاة للاشتياق لمعرفة الجواب، مما يكون أرسخ
في الذهن.. قال البغوي: "فيه دليل على أنه يجوز للعالم أن يطرح على أصحابه ما
يختبر به علمهم"([52]).
وعلى
المعلم أن يحسن اختيار المسائل التي يطرحها على طلابه، وكذلك له أن يسمح بالمناقشة
بين الطلاب، والإدلاء بالآراء، ألا ترى إلى قوله: (فوقع الناس في شجر البوادي)، أن
ذلك مشعِرٌ بأن الجميع قد ذهبوا في تحليل هذه المعضلة كلّ مذهب. قال الحافظ: أيْ
ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن
النخلة([53]).
والمتأمل
في المسألة التي طرحها النبـي (صلى الله عليه وسلم) عليهم، يجد أنها قد حفزت
هممهم، وبعثتهم على التفكير في الحل، وتلهفت أنفسهم لمعرفة الجواب الصحيح من رسول
الله (صلى الله عليه وسلم)، لما عجزوا عن حلّها.
3.
بناء القاعدة الفكرية:
هناك
معضلة يقع فيها كثير من القرّاء، وهي أنه في أثناء القراءة لا يحرص على بناء فكره،
وإحياء قدراته العقلية، ولا يستحثها للنظر والتأمل، وإنما يقع أسيراً ينتظر
التلقين من المؤلف، ويقف دائماً موقف المتلقي. ومثل هذا، وإن حصل كمّاً من
المعلومات، فإنه ليس قارئاً جيداً، لأنه لا يملك البصيرة، ولا القدرة على التمييز
والموازنة بين اجتهادات العلماء والمفكرين. "فالتفكير هو الذي يجعل ما نقرؤه
ملكاً لنا"([54]).
ونظير
ذلك من يعتني بالحفظ وحده، ولا يلتفت إلى الفهم. والحفظ - على الرغم من أهميته
وضرورته - فإنه لا ينبغي الاكتفاء به، بل يجب تسخيره لخدمة الفقه والفهم. وقديماً
عتب (الإمام أحمد) على بعض المحدثين بقوله: "ما أقلّ الفقه في أصحاب الحديث"([55]).
ومن
لطائف الأخبار في هذا الباب، ما ذكره (إسحاق بن راهويه)، حيث قال: (كنت أجالس
بالعراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين
وثلاثة، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا. فأقول: أليس قد صح هذا بإجماع
منا؟ فيقولون: نعم. فأقول: ما مراده؟ ما تفسيره؟ ما فقهه؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن
حنبل)([56]).
إن بناء
القاعدة الفكرية للقارئ من أشق المهمات التي تواجه القارئ الجاد، فليس كل كتاب
يمكن أن يبني فكر الإنسان، حتى بعض الكتب المفيدة، التي قد يستفيد منها القارئ
مادة علمية، قد لا تخدم ذلك البناء. وما أحسن قول الإمام ابن القيم: "الفكر
هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة"([57]).
وهنا
يأتي دور المعلمين والمربين في توجيه طلابهم، والأخذ بأيديهم في الطريق القويم.
وقديماً كان بعض العلماء يربّي فكر الطالب ببعض مسائل الحساب والفرائض، ويحاوره
بعويص المسائل، وهذا منهج نبوي أصيل في التربية والتعليم، فها هو ذا رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) يسأل أصحابه: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم،
فحدثوني ما هي؟).
وبهذا
يتبين أن القراءة الجادة هي قراءة التفهم والبصيرة والإدراك. ونعمة الفهم من أجلِّ
النعم التي ينعم الله تعالى بها على العبد، و"رُبَّ شخص يفهم من النص حكماً
أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مئتين"([58]).
وكم جرَّ
سوء الفهم على صاحبه من الخلل والاضطراب؛ وما أحسن قول الإمام (ابن القيم): "ما
أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة"([59]).
ثمرات
الكلمة الطيبة
الكلمة
الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة
والباطنة، فكل عمل صالح مرضيّ لله، ثمرة هذه الكلمة.. فلا ريب أن هذه الكلمة من
هذا القلب على هذا اللسان، لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى،
وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلِماً كثيراً طيباً، يقارنه عمل صالح، فيرفع العمل
الصالح بالكلم الطيب، كما قال تعالى: [إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ]([60])، فأخبر تعالى أن العمل الصالح
يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملاً صالحاً كل وقت([61]).
الكلام
فنٌّ وأدب وذوق، ومن لا يتقن هذا الفن يضيِّع الكثير من الفوائد والمغانم، فكم من
كلمة خبيثة لا يأبه العبد بها، تودي به إلى الذُّل والتهلكة، وكم من كلمة طيِّبة
قرَّبت بين المتباعدين، وأصلحت ما بين المتخاصمين، وجمعت شمل المتدابرين، فأورثت
صاحبها عزَّاً وحمداً بين الناس، لا يُمحى على مرِّ الأيام؛ لذلك أمر الله عباده
بأن يجمِّلوا ألسنتهم بالكلام الحسن، وضربَ لهم مثلاً حيَّاً، يصوِّر فيه قداسة
الكلمة الطيِّبة.
إن تصوير
المعاني في القرآن معجزة من معجزاته الكثيرة، فهو بأسلوبه المتميِّز يبعث الحياة
في الجماد، ويحوِّل المعنى المجرد إلى أمر شبه محسوس، والخبر الغيبـي إلى أمر
مُتَخَيَّلٍ شبه ملموس، ليقرِّبه من الأذهان، ويجلِّيه للأبصار، وينفي عنه الغموض،
فتكون الصورة أوضح، والدلالة أبلغ، والحكمة أنفع!!.
وهذه
إحدى صور القرآن الكريم ينقلها من العالم المجرَّد إلى عالم الحسِّ والإدراك، إنها
الكلمة الطيِّبة، وهي أشبه ما تكون بفاكهة لذيذة المذاق، كثيرة الفائدة، إنها
تُسعد قائلها وسامعها؛ فهي تخرج من القلب المزكّى، ويطلقها اللسان المنقّى، لتستقر
في القلب، وتُسعد الناس بما تخلقه من جوّ يفيض بالأُلفة والمودَّة، وتُنْعِشُهم
بأريجها الفوَّاح. إن الكلمة الطيِّبة ترجمة صادقة للشعور الطيِّب والإحساس
النبيل، تحمل بين حروفها دفء الحبِّ ولذَّة العطاء، وسعادة التواصل الرفيع بين
إنسان وإنسان؛ فهي رَوْح ورَيحان، كمثل شجرة مباركة، جذورها ضاربة في عُمق الأرض،
تمتصُّ منها غذاءها وأملاحها، وتحوِّلها إلى نُسغ يصعد إلى ساقها فأغصانها
فأوراقها، فترتعش فيها دفقة الحياة، وإذا بها تتطاول صاعدة في السماء، ثمَّ تزهر
وتثمر في موعدها المحدَّد، بإذن خالقها، فتتجمَّع حولها القلوب المتلهِّفة،
والنفوس المتعطِّشة، لجني ثمرها، والتنعُّم بخيرها المتجدِّد كلَّ عام. ولئن كانت
جذور الشجرة الطيِّبة تتفرَّع في جوف الأرض، فإن الكلمة الطيِّبة تتفرَّع في شغاف
القلب، وتلامس سويداءه، لتخلِّف مكانها أمناً وسلاماً، بينما تصعد فروعها إلى سماء
النفس فتجلوها، وإلى مرآة الوجدان فتصقلها، وتنشر على من حولها ظلال الإيمان
الندية، فهي لبنة أساسية في صرح السعادة الإنسانية([62]).
إن
الكلام الطيِّب رحيق الأنبياء، ولغة المؤمنين الصادقين.
والمؤمن
الحقُّ هو من تخلّق بخلق القرآن، فسما تفكيره، وتهذَّبت مشاعره، فانعكس هذا كلّه
على كلامه وتصرفاته، فهو هادئ، رزين، وقور، لا يلفظ إلا كلاماً موزوناً طاهراً
نقيّاً. فهو إمَّا أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وإمَّا أن يصلح بين الناس، أو
يعين على عمل نافع.
وقد
وجَّه القرآن إلى ما ينبغي أن تكون عليه مجالس المؤمنين بقوله تعالى: )لا
خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ]([63]).
كما
وجَّه القرآن إلى وجوب أن يكون كلامنا صادقاً، موزوناً، يراد به الوصول إلى
الحقِّ، وإلى إقامة المجتمع الصالح السليم البنية، قال تعالى: [يا أَيُّهَا
الَّذينَ آمَنوا اتَّقوا الله وقولوا قولاً سَديداً، يُصْلِحْ لَكُم أَعمالَكُم
ويَغْفرْ لَكُم ذُنوبَكم ومَنْ يُطِعِ الله ورسولَهُ فقد فازَ فوزاً عَظيماً]([64]). هذا فيما بين الإنسان وبين
إخوانه في الإنسانية.
أمَّا
فيما بينه وبين ربِّه، فلسانه دائم التسبيح والتحميد والتمجيد والدعاء، ولا يدور
إلا بكلمات الذِّكر والشكر لله. فالمؤمن قرآن متحرِّك، سلوكه سلوك الأتقياء،
وأقواله أقوال الأنبياء، لا غضب، ولا فُحش، ولا إسفاف، ولا مبالغة، ولا لغو، وإذا
غضب فإنه يملك نفسه، ويصونها عن الانزلاق في مهاوي السفاهة والابتذال.
قدوته في
ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، الّذي ملك قلوب الناس بكلامه الطيِّب، وقوله
الليِّن. أمَّا منهله، الذي يستلهم منه كنوز الكلِم، ولآلئه، فهو القرآن الكريم،
الّذي سبى القلوب ببيانه الأخَّاذ، وكلامه العذب السلسبيل.
الكلمة
الطيِّبة نفحة روحانية، تصل ما بين القلوب، وتربطها برباط المحبَّة والودِّ
والتآلف.
الكلمة
الطيِّبة تُزهر في النفس، لتتفتَّح بأجمل أزهار الخير والحبِّ، الّتي يعبق شذاها
فوَّاحاً في كلِّ زمان ومكان.
إن لشجرة
الإيمان جذوراً ضاربة في أرض الهدى ومحبَّة الله، من تمسَّك بها، فقد استمسك
بالعروة الوثقى، واكتسب ثباتاً وتصميماً لا زيغ فيه ولا ضلال.
وهكذا تثمر
الكلمة الطيبة بحسن نيّة قائلها.. أو بحسن ذاتها، أو لمحض رحمة الله عز وجل، بما
جعله من بركة العلم، مما قد يكون أضعافاً مضاعفة عن أجر العمل ذاته، وما قد تؤديه
لصلاح الخلق. وما أخصب تاريخنا الإسلامي بكثرة الخلق الذين انتفعوا بالمواعظ، ثم
صارو من قادة الأمة، وكتب الله لقائل الكلمة مثل أجور أعمالهم، من غير أن ينقص
منها شيئاً.
فهذا
التابعي (أبو محمد حبيب) يقبل على الآجلة، وينتقل عن العاجلة، بسبب موعظة الإمام (الحسن
البصري)، حيث وقعت موعظته في قلبه، وأقبل على العلم والعمل بعد الموعظة.
وهذا
التابعي الكوفي الثقة (أبو عبد الله زاذان الكندي)، الذي كان يضرب ويغني بالعود،
وكان له صوت حسن، فمرّ عليه عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) فقال: (ما أحسن هذا
الصوت لو كان بقراءة كتاب الله)، فتاب من ضرب العود، وكسره، ولازم (ابن مسعود) حتى
صار إماماً في العلم.
وانظر ما
حصل لسري السقطي وبشر الحافي.. وأمثالهما.
والكلمة
الطيبة، قد ينتفع بها سامعها المباشر. وقد ينتفع بها فيما بعد، بل قد يكون نفعه أشد
وأكبر.
وقد
تلاقي الكلمة قلباً صافياً، ونية صادقة، فتتمكن من القلب، وتثمر الكلمة بالنية،
كما تصادف البذرة الماء الصالح، والتربة الصالحة، فتؤتي الشجرة أكلها بإذن ربها.
وهكذا (فرّب مبلغ أوعى من سامع).
وأجر
الكلمة المعطاء، وما يكتبه الله عز وجل للسامع وللمبلّغ، بل ولسلسلة المبلّغين،
فلقائل الكلمة كِفْل منها، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، وهذا من فضل الله على
عباده، ومما فضّل به المتكلمين بالعلم عن غيرهم، إذ تبقى ثمرتهم منتجة، وعلمهم
مستمراً، وفضلهم دائماً، إلى ما يشاء الله.
والناس
في استقبال الكلمة أنواع: فمنهم من يسمعها ويعمل بها، ومنهم من لا ينتفع بها
إطلاقاً، ومنهم من يقوم بنقلها للغير.
وما ضرّ
المتحدث أن يتحدث بما يعلم، ويبلّغ الرسالة للناس، وينقل الكلمة الطيبة. فسوف يظل
الناس على هذه النماذج، ويجب أن لا يقف الصنف الثالث مانعاً من تبليغ العلم، ولا
حاجزاً في بث الكلمة الطيبة.
وقد شبّه الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذه
الأصناف الثلاثة في استقبال الكلمة الطيبة، بأنواع من الأرض، فقال (صلى الله عليه
وسلم): (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً، فكان
منها ثغبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء،
فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان
لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأً. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله
به، فعلم وعمل، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)([65]).
ضرب النبـي
(صلى الله عليه وسلم) لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام، الذي يأتي في حال
حاجتهم إليه، ومثّل قلوب الناس فيه، كمثل الأرض في قبول الماء. فأصبح هناك
ثلاثة طوائف:
الطائفة
الأولى: من حمل العلم، وتفقّه فيه، فأحيا قلبه، وعمل به،
وعلّمه غيره، فانتفع ونفع، فمثله كمثل الأرض في قبول الماء، فأصاب الأرضَ المطرُ، فانتفضت
حية بعد أن كانت ميتة، وتنبت الكلأ، فينتفع به الناس، والدواب، بالشرب والرعي
والزرع وغيرها.
الطائفة
الثانية: من حمل العلم والحديث، ولم يتفقه فيه، فهؤلاء لهم
قلوب واعية، لكن ليست لهم أفهام، ولا رسوخ لهم في العلم، يستنبطون به المعاني
والأحكام، ولا اجتهاد عندهم في الطاعة، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب متعطش لما عندهم،
فينتفع به. فهؤلاء نفعوا بما بلغهم، فهؤلاء مثلهم كمثل الأرض الصلبة، التي لا تنبت،
ولكنها تمسك الماء لغيرها، فهذه الأرض لا تقبل الانتفاع في نفسها، ولكن يستقر فيها
الماء، فينتفع به الناس والدواب.
والطائفة
الثالثة: من لا يحفظ العلم، ولا يحمله، ولا فهم له، وإذا
سمع العلم لا ينتفع به، ولا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لينتفع به غيره، فهذا
مثله كمثل الأرض السبخة، أو الملساء، التي لا تنبت، فهي التي لا تنتفع بالماء، ولا
تمسكه لينتفع به غيرها([66]).
وهكذا
ما على الداعية سوى أن يقول كلمته المعطاء الطيبة، ولا يهتم بكثرة الخاسرين، الذين
هم كالقيعان، فهناك من الناس من هم كالأرض الصلبة، سينقلون الكلمة الطيبة، وتنتفع
بها خلائق وبشر كثير، وقد تثمر في مكان آخر، أو تؤتي أكلها في زمن آخر. وقد يستمع
للكلمة أناس كالأرض الطيبة، لا تلبث أن تسمع مع صدى الكلمة تكبيرات مدوية، ولا
تمكث حتى ترى لنور الكلمة بريقاً يأخذ بالأنظار، فتحيا بالتكبير نفوس، وبالبروق
تبصر عيون، والأجر من بعد ذلك مكتوب لصاحب الكلمة.
ولعل هذه الكلمة الطيبة هي من أنواع ما عناه
سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله،
لا يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله،
لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)([67]).
وهذا التوجيه يضع لأدب التخاطب قاعدة متينة، تسير به على هدى ونور، ويوجّه المتكلم
إلى مراعاة الاتزان في كل كلمة ينطق بها، سواء تجاه نفسه، أو تجاه الآخرين. مما
يجعل التميّز بأدب التخاطب في الإسلام متّسماً بقيمةٍ رفيعةِ المستوى بين القيم
الحضارية البنّاءة.
وقد ركّز
العلماء السابقون على الشطر الثاني من الحديث، لكثرة المتحدثين في المجتمع
الإسلامي، ولم يتحدث عن شطره الأول إلا القليل، ومما قيل: "والكلمة التي ترفع
بها الدرجات، أو يكتب بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج عنه
كربة، أو ينصر بها مظلوماً..)([68]).
فكيف
بالكلمة التي تدفع عن مجموع المسلمين المظالم، وتدفع عنهم الكرب، بدعوتهم لإقامة
شرع الله؟ وكيف بالكلمة التي تقلع الظلم من جذوره، بتطبيق منهج الله؟ وكيف بعبارات
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وإذا كانت الدرجات ترفع بما يحقق المصالح
الدنيوية، فكيف بما يحقق المصالح الأخروية؟ وعلى الأدنى يقاس الأعلى، وكيف
بالكلمات التي تقود إلى قيام مجتمع مسلم.
إن الأجر
عظيم، والثواب جزيل – إذا صحت النية – في الكلمات التي تقيم خيراً، وتدفع باطلاً،
وتحيي سنّة، وتميت بدعة، بلْ ويزداد الأجر، ويرتفع الثواب، فيما يدفع العمل
الإسلامي وينميه، أو يدعو جمهور المسلمين لتبنيه، أو يدفع عنه السوء وما قد
يعتريه، فكيف إذن بما ينشئ العمل ابتداء ويغذيّه؟ ويعلّم الدعاة النظام وفنونه،
وقواعد العمل وأصوله؟ مما يؤدي إلى هداية الخلق الكثير، وإلحاقهم لركب الدعوة،
وإتمام المسير. ومع هذا يقال أيضاً: ما هو فضل الكلمات التي تقود - فوق ذلك كله -
إلى قيام مجتمع إسلامي؟ وكيف بما يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ أو تحويل
المجتمع من الجاهلية إلى الإسلام؟ وإقامة شرع الله في الأرض؟
ومن هنا
ينبغي للداعية أن لا يزهد أبداً بما عنده من العلم، أو يبتعد - بحجة الزهد - عن
تبليغ الأمانة، فما يدري أين يكون الخير؟ ومتى تؤتي كلمته عطاءها، بل ومتى تثمر؟
فالكلمة
الواحدة قد تنشئ دعوة، وقد تبني مؤسسة؟ وقد ينقذ الله تعالى بها قلوباً، أو يعمر
بها نفوساً، بل وقد يحيي الله بها أقواماً من السبات، أو يخرج بها الله عز وجل
أمماً من عالم الأموات، وما على الداعية إلا تبليغ الرسالة، ونقل الأمانة، والله تعالى
يختار الأرض الصالحة لها، ولو بعد حين، وينبتها نباتاً حسناً، ولو بعد سنين. وقد
تؤتي الكلمة ثمارها في المكان البعيد، حتى يكتب الأجر للداعية دون أن يشعر، ولعلّ
الله تعالى يكتب له أجر النية، ويبعده - بحكمته - عن سيئة الرياء.
وما على
الداعية إلا التبليغ، ولا يترك الفرصة تفوت من يديه، لعلّ الله تعالى يكتب له أجر
الكلمة المعطاء، التي لا يلقي لها بالاً وترفعه الدرجات، فلا يفّوت عليه الفرصة
رفيق السفر، ولا فرصة اللقاء العابر في وليمة أو مناسبة، ولا جلسة استراحة في ناد
أو مقهى، ولا جلسة المرافقة في الدائرة أو الدراسة، ولا يفّوت مجال الارتباط في
تجارة أو معاملة، ولا يزهد في الكلمة الطيبة الصغيرة في السوق، وعند الشراء، أو في
الحدائق عند الاسترخاء، أو في المسجد بعد الصلوات، أو عند التعارف مع الغير في
السفرات والخلوات، وأشباه ذلك مما قد ييسره الله، والموفق السعيد من وفقه الله
لكلمة الخير التي تنتشر في الآفاق، فيكتب الله له أجرها وأجر من يعمل بها إلى ما
يشاء الله([69]).
خصائص
هذه الشجرة
لا بدّ
من البحث عن صفات الشجرة التي شبهت بالكلمة الطيبة، والتي تظهر من الآية أنها
أربعة خصائص:
1. إنها
شجرة طيبة: شبّه الله تعالى الكلمة الطيبة كشجرة طيبة، والطيّب
من كل شيء البالغ النفع، الذي لا ضرر فيه.
"فالصفة
الأولى لتلك الشجرة كونها طيبة، وذلك يحتمل أموراً:
أحدهما:
كونها طيبة المنظر والصورة والشكل.
وثانيها:
كونها طيبة الرائحة.
وثالثها:
كونها طيبة الثمرة، يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة.
ورابعها:
كونها طيبة بحسب المنفعة، يعني أنها كما يستلذ بأكلها، فكذلك يعظم الانتفاع بها.
ويجب حمل
قوله: شجرة طيبة، على مجموع هذه الوجوه، لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب"([70]).
أنَّ
النخلة وُصفت في الآية بأنَّها طيّبة، وهذا أعمّ من طيب المنظر والصورة والشكل،
ومن طيب الريح، وطيب الثمر، وطيب المنفعة. والمؤمن أجلّ صفاته الطيب في شؤونه
كلِّها، وأحواله جميعها، في ظاهره وباطنه، وسرِّه وعلنه؛ ولهذا عندما يدخل
المؤمنون الجَنَّةَ تتلقّاهم خزنتها، وتقول لهم: [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]([71])،
وقال تعالى: [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ
سلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]([72])،
وقال تعالى: [إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ
مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَيِّبِ
مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ]([73]).
فالطيب
أجَلُّ صفاتهم، وأجمل نعوتهم، وأحسن حليتهم، في أحوالهم كلها، في أقوالهم وأعمالهم،
وفي حركاتهم وسكناتهم، وشؤونهم جميعها.
2. ثبات
أصلها وعمق جذورها: )أَصْلُهَا
ثَابِتٌ]
وأصل هذه الشجرة ثابت مستقر في الأرض، وجذورها -
التي تقوم عليها، وتعتمد عليها في بقائها واستمرار نفعها - ثابتة لا تزول، ولا
تستطيع العوامل الطبيعية أن تجتثه وتقتلعه، لأن الجذور تمتد إلى آماد بعيدة،
تستطيع أن تجلب لنفسها ما تحتاج إليه من الماء لتغذى به، فيزداد أصلها امتداداً
إلى أسفل، ويزداد ساقها امتداداً إلى أعلى، فتمتاز بالثبات والعلو([74]).
أنّ
النخلةَ شديدةُ الثبوت، كما قال الله تعالى في الآية المتقدمة: [أَصْلُهَا
ثَابِتٌ]، وهكذا الشأنُ في الإيمان إذا رسخ في القلب، فإنه يصير أشدّ ما يكون
من الثبات، لا يزعزعه شيء، بل يكون ثابتاً كثبوت الجبال الرواسي.
سئل
الأوزاعي - رحمه الله- عن الإيمان أيزيد؟ قال: "نعم حتى يكون كالجبال، قيل:
أينقص؟ قال: نعم، حتى لا يبقى منه شيء"([75]).
وسئل
الإمام أحمد عن زيادة الإيمان ونقصانه، فقال: "يزيد حتى يبلغ أعلى السموات
السبع، وينقص حتى يصير إلى أسفل السافلين السبع"([76]).
يقول
الأمام الرازي: "والصفة الثانية: قوله: [أَصْلُهَا ثَابِتٌ]، أيْ راسخ،
باق، أمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء، وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في
معرض الانقراض والانقضاء، فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه، إلا أنه يعظم الحزن
بسبب الخوف من زواله وانقضائه. أما إذا علم من حاله أنه باق دائم، لا يزول ولا
ينقضي، فانه يعظم الفرح بوجدانه، ويكمل السرور بسبب الفوز به"([77]).
حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام-
واحدة، تركّزت في الدعوة إلى التوحيد الخالص، وعبادة الله تعالى، وإقامة الحق
والعدل في الأرض، وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد، ندرك أيّ جذور ضاربة
تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان، وندرك أيّ رصيد من المنطق
العام الذي بناه الأنبياء تستند إليه، وأيّ رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية
البلاغ المبين. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أنا أولى الناس بعيسى
ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد). قال
(ابن حجر): ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع([78]).
فالكلمة
الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-. ولكن المشكلة أنّ
التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس، مما يجعل الخلط بينهما وارداً،
وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت.
ويؤخذ من
قوله: [أَصْلُهَا ثَابِتٌ]: أنَّ النخلة أصبر الشجر على الرياح والجهد،
وغيرُها من الدوح العظام تميلها الريح تارة، وتقلعها تارة، وتقصف أفنانها، ولا صبر
لكثير منها على العطش كصبر النخلة. فكذلك المؤمن صبورٌ على البلاء لا تزعزعه
الرياح، وقد اجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن
معاصيه، والصبر على أقداره المؤلمة، قال الله تعالى: [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ المُهْتَدُونَ]([79]).
وقال تعالى: [قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]([80]).
3.
وفرعها في السماء: ضمن صفات هذه الشجرة أن فروعها
تتفرع إلى مسافات بعيدة نحو السماء، وآخذة في جهة العلو بساقها، وما يتفرع عنه.
يقول
الأستاذ سيد قطب: "إنّ الكلمة الطيبة - كلمة الحق - كالشجرة الطيبة، ثابتة،
سامقة، مثمرة.. ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل، ولا تقوى
عليها معاول الطغيان - وإنْ خيّل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان -
سامقة متعالية، تطلّ على الشر والظلم والطغيان من علٍ - وإن خيّل إلى البعض
أحياناً أنّ الشرّ يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها، لأن بذورها تنبت في
النفوس المتكاثرة آناً بعد آن…"([81]).
وهكذا
تتبين عظمة هذه الشجرة الباسقة القائمة [وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء]، وهذا
الوصف يدلّ على كمال تلك الشجرة من وجهين:
الأول:
أن ارتفاع الأغصان، وقوتها في التصاعد، يدلّ على ثبات الأصل، ورسوخ العروق.
الثاني:
أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية، فكانت
ثمراتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب([82]).
4. نفعها
الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ].
فهي شجرة دائمة النفع، وبركتها وخيرها موجود في
جميع أجزائها، مستمر في جميع أحوالها، فمن حين أن تزرع ينتفع بها ثمراً وظلاً
ومنافع أخرى، لا تبخل بشيء من المنافع على طالب له، وذلك (بإذن الله) أيْ: بتيسير
وإرادة خالقها ومالكها ومدبر أمرها.
"والمراد:
أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة بهذه الصفة، وهي أن ثمراتها لا بدّ أن تكون حاضرة
دائمة في كل الأوقات، ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمرها حاضراً في بعض الأوقات
دون بعض"([83]).
إن هذه
الشجرة الطيبة التي ضربها الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة دائمة الثمار، وديمومة
عطائها نابعة من تناسق الصفتين السابقتين: ثبات الجذور، وبسوق فروعها في جو
السماء، والكلمة التي لا جذور لها لا تستطيع أن تصنع شيئاً. والأفكار التي تبثها
قصيرة العمر كزهور الربيع، والكلمة التي لا تنسجم مع لغة العصر، لا تستطيع ملامسة
أعماق الإنسان الذي تقرع سمعه، والذي وصفناه بأنه بالغ التعقيد. وقد ملّكتنا هذه
الآيات الكريمة المقياس الذي نتعرف به على الكلمة الطيبة، وهذا المقياس هو: [تُؤْتِي
أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ]، فنحن إذا أردنا من هذا المنظور أن نقيس أداء خطب
الجمعة في عالمنا الإسلامي، وآثارها في ترقية فهم الناس للإسلام، والتزامهم به،
وجدنا أنّ أطناناً من الورق تكتب أسبوعياً دون أن تؤتي الثمار التي تتناسب مع حجم
ذلك الجهد المبذول، ونعني به خطأ الأسلوب.
إنَّ
النخلةَ كلّما طال عمرُها ازداد خيرُها وجاد ثمرُها، وكذلك المؤمن إذا طال عمره،
ازداد خيرُه وحسن عمله. روى الترمذي عن عبد الله بن بُسر: أنَّ أعرابياً قال: يا
رسول الله من خير الناس؟ قال: (من طال عمرُه، وحَسُن عملُه)([84]).
إنَّ
النخلةَ، كما أخبر الله: [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ]، والأكل الثمر،
فهي تؤتي ثمرها كلَّ حين: ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، إمّا تمراً أو بُسراً أو
رُطَباً. وكذلك المؤمن يصعد عملُه أوّل النهار وآخره، قال الربيع بن أنس: [كُلَّ
حِينٍ]: "أيْ كلّ غدوة وعشية؛ لأنَّ ثمر النخل يؤكل أبداً، ليلاً ونهاراً،
وصيفاً وشتاءً، إمّا تمراً أو رطباً أو بُسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار
وآخره"([85]).
وقال
الضحّاك: [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ]: "تخرج ثمرها كلَّ حين،
وهذا مثل المؤمن يعمل كلَّ حين كلَّ ساعة من النهار، وكلَّ ساعة من الليل،
وبالشتاء والصيف، بطاعة الله"([86]).
وقد أورد
(ابن جرير) عن السلف عدّةَ أقوال في المراد بقوله تعالى: )كُلَّ
حِينٍ]، ثم قال: "وأولى الأقوال في ذلك عندي قول من
قال: عنى بالحين في هذا الموضع: غدوة وعشية، وكلَّ ساعة؛ لأنَّ الله تعالى ضرب ما
تؤتي هذه الشجرة كلّ حين من الأكل لعمل المؤمن وكلامه مثلاً، ولا شك أنَّ المؤمنَ
يُرفع له إلى الله في كلِّ يوم صالح من العمل والقول، لا في كلّ سنة، أو في كلّ
ستة أشهر، أو في كلِّ شهرين، فإذا كان ذلك كذلك فلا شك أنَّ المثل لا يكون خلافاً
للممثَّل به في المعنى، وإذا كان ذلك كذلك كان بيِّناً صحة ما قلنا. فإن قال قائل:
فأيُّ نخلة تؤتي في كلِّ وقت أكلاً، صيفاً وشتاء؟ قيل: أما في الشتاء، فإنَّ الطلع
من أكلها، وأما في الصيف، فالبَلَح والبُسر والرطب والتمر، وذلك كلّه من أكلها"([87]).
ثم روى
عن قتادة أنه قال: [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ]: "يؤكل ثمرها في
الشتاء والصيف"([88]).
إن مهمة
المسلم أن يعيش عصره ويكون مؤثراً لا متأثراً، وأن يكون له دور في صياغة لغة
العصر.
ولا ريب
أن وجود هذه الأوصاف الجليلة مما يدل على عظمة هذه الشجرة، وفخامتها، وأناقة
فضلها.
أنَّ
النخلة لا تبقى حيّةً إلاّ بمادة تسقيها وتنميها، فهي لا تحيا ولا تنمو إلاّ إذا
سُقيت بالماء، فإذا حبس عنها الماء ذبلت، وإذا قطع عنها تماماً ماتت، فلا حياة لها
بدونه. وهكذا الشأنُ في المؤمن، لا يحيا الحياة الحقيقية، ولا تستقيم له حياته،
إلاّ بسقي من نوع خاص، وهو سقيُ قلبه بالوحي، كلام الله وكلام رسوله (صلى الله
عليه وسلم)؛ ولهذا سمَّى الله الوحيَ روحاً، في نحو قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ
وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعِلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ
عِبَادِنَا]([89]).
وقوله: [يُنَزِّلُ المَلاَئِكَةَ بالرُوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَّشَآءُ
مِنْ عِبَادِهِ]([90])،
لأنَّ حياة القلوب الحقيقية إنَّما تكون به، وبدونه فإنَّ الإنسان يكون ميتاً، ولو
كان بين الناس من الأحياء: [أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا
لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُلُمُاتِ لَيْسَ
بِخَارِجٍ مِنْها]([91]).
ولذا يقول الله تعالى: [يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ
وِلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]([92]).
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فهذا وجه
شبهٍ ظاهرٍ بين المؤمن والنخلة، فالنخلة لا تحيا إلاّ إذا سُقيت بالماء، والمؤمن
لا يحيى قلبُه إلاّ إذا سُقي بالوحي، وكما أنَّ الأرض الميتة إذا أنزل الله عليها
الماء، اهتَزَّت ورَبَتْ وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ، فكذلك القلب الميّت، إذا سمع
الوحي وقَبِلَه، صَلُحَ وحسُنَ ونما فيه من الخير الشيءُ الكثير.
ولذا
لمّا حذّر الله في (سورة الحديد) من عدم الخشوع لذكر الله، كحال الذين أوتوا
الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، قال عقِب ذلك تعالى: [اعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]([93]).
وفي هذا إشارة إلى أنَّ الذي يُحيي الأرض بعد موتها بالماء، فهو كذلك يُحيى
القلوبَ بعد موتها بالوحي، ولكن ذلك إنّما يكون لمن عقل آيات الله.
وبهذا
يتبيّن أنَّ شجرة الإسلام في القلب، إن لم يتعاهدها صاحبُها بسقيها كلَّ وقت،
بالعلم النافع والعمل الصالح، والعود بالتذكّر على التفكّر، والتفكّر على التذكّر،
وإلاّ أوشك أن تيبس. يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إن الإيمان يخْلَقُ في
القلب كما يخلَقُ الثوبُ، فجدّدوا إيمانكم)([94]).
وبالجملة، فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك، ومن هنا تعلم شدّة حاجة
العباد إلى ما أمر الله به من العبادات، على تعاقب الأوقات، وعظيم رحمته، وتمام
نعمته وإحسانه إلى عباده، بأن وظّفها عليها، وجعلها مادة لسقي غِراس التوحيد الذي
غرسه في قلوبهم([95]).
كما أن
النخلةَ سهلٌ تناول ثمرها، ومتيسّر، فهي إمَّا قصيرة، فلا يحتاج المتناول أن
يرقاها، وإمّا باسقة، فصعودها سهلٌ، بالنسبة إلى صعود الشجر الطوال غيرها، فتراها
كأنَّها قد هُيّئت منها المراقي والدرج إلى أعلاها. وكذلك المؤمن، خيره سهلٌ قريبٌ
لمن رام تناوله، لا بالغرِّ ولا باللئيم.
وإنَّ
النخلةَ قد يخالطها دغلٌ ونبت غريبٌ ليس من جنسها قد يؤذي النخلةَ، ويضعف نموها،
ويزاحمها في سقيها؛ ولهذا تحتاج النخلة في هذه الحالة إلى رعايةٍ خاصّة، وتعاهدٍ
من صاحبها، بحيث يُزال عنها هذا الدغل والنوابت المؤذية، فإن فعل ذلك كَمُل غرسه،
وإن أهمله أوشك أن يغلب على الغرس، فيكون له الحكم، ويضعف الأصل.
وهكذا
الأمر بالنسبة للمؤمن، لا شك أنَّه يصادفُه في الحياة أمورٌ كثيرةٌ قد توهي
إيمانَه وتُضعف يقينَه، وتزاحم أصلَ الإيمان الذي في قلبه؛ ولهذا يحتاج المؤمن أنْ
يحاسب نفسَه في كلِّ وقت وحين، ويجاهدها في ذلك، ويجتهد في إزالة كلِّ وارد سيء
على القلب، ويُبعد عن نفسه كلَّ أمر يؤثِّر على الإيمان، كوساوس الشيطان، أو النفس
الأمّارة بالسوء، أو الدنيا بفتنها ومغرياتها، أو غير ذلك. والله يقول: [وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ]([96]).
إنَّ
النخلة لا تنبت في كلِّ أرض، بل لا تنبت إلاّ في أراضٍ معيّنةٍ طيّبة التربة، فهي
في بعض الأماكن لا تنبت مطلقاً، وفي بعضها تنبت ولكن لا تثمر، وفي بعضها تُثمر
ولكن يكون الثمر ضعيفاً، فليس كلُّ أرض تناسب النخلة.
ثم إنَّ
هذه الشجرة متفاوتة في قلوب المؤمنين تفاوتاً عظيماً، بحسب تفاوت هذه الأوصاف التي
وصفها الله بها، فعلى العبد الموفّق أن يسعى لمعرفتها ومعرفة أوصافها وأسبابها
وأصولها وفروعها، ويجتهد في التحقق بها علماً وعملاً، فإنَّ نصيبه من الخير
والفلاح والسعادة، العاجلة والآجلة، بحسب نصيبه من هذه الشجرة.
يقول ابن
القيم: "النخلة كلها منفعة، لا يسقط منها شيء بغير منفعة، فثمرها منفعة،
وجذعها فيه من المنافع ما لا يُجهل للأبنية والسقوف وغير ذلك، وسعفُها تُسقف به
البيوت مكان القصب، ويُستر به الفُرَج والخَلَلُ، وخوصُها يُتخذ منه المكاتل
والزنابيلُ وأنواعُ الآنية، والحُصُر وغيرها، ولِيفُها وكربها فيه من المنافع ما
هو معلوم عند الناس"([97]).
وهكذا
الشأن بالنسبة للمؤمن مع إخوانه وجلسائِه ورفقائه، لا يُرى فيه إلاّ الأخلاق
الكريمة، والآداب الرفيعة، والمعاملة الحسنة، والنصح لجلسائه، وبذل الخير لهم، ولا
يصل إليهم منه ما يضر، بل لا يصل إليهم منه إلاّ ما ينفع، كالكلمة الطيّبة،
والموعظة الحسنة، والخلق الجميل، والعون والمساعدة، ونحو ذلك، فهو كالنخلة ما
أخذتَ منه من شيء نفعك.
مثل
الكلمة الخبيثة:
ولما
كانت الأشياء تتميَّز بأضدادها ذكر الله لنا الكلمة الخبيثة بمقابل الكلمة
الطيِّبة، فلولا الظُلْمة لما عُرف فضل النور، ولولا القُبح لما ظهرت روعة الجمال،
لأنَّ تعوُّد الإنسان على رؤية الجمال وحده، يجعله باهتاً في نظره، ويفقده قيمته،
مهما كان جليلاً، فإذا ما صدمت عيني الإنسان دمامةُ القُبح، أدرك روعة الجمال،
وإذا ما أَدْمَتْهُ يد الشرِّ، أحسَّ بحنوِّ اليد الرحيمة، حين تمتدُّ إليه لتمسح
جراحه. وإذا كانت الكلمة الطيِّبة كشجرة طيِّبة، فإن الكلمة الخبيثة كشجرة مرٌّ
ثمرها، خبيث ريحها، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، جذورها متآكلة نَخِرَة، لفظتها
الأرض وطرحتها، فإذا بها تهوي جثَّة هامدة، وحطباً يابساً يُحرق أو ينبذ بعيداً.
والكلمة الخبيثة ألغام متفجِّرة في طريق المجتمع المتكاتف، تُفتِّت وحدته، وتقتلع
جذور الأخوَّة الّتي تثبِّت المحبَّة بين أبنائه، وتنشر مكانها بذور البغضاء
والأحقاد، فيعمُّ فيه
الفساد، وتنهار أواصره، وتتداعى مقوِّماته، ليصبح هباء منثوراً تذروه الرياح.
والكلمة
الخبيثة، وهي كلمة الشرك - وما يتبعها من كلام خبيث - فهي على النقيض من ذلك:
§
كلمة
ضارة غير نافعة، فهي تضرّ صاحبها، وتضرّ ناقلها، وتضرّ متلقيها، وتضرّ كلّ من نطق
بها.
§
وتسيء لكل سامع لها، إنها كلمة سوء لا خير فيها.
§
وكلمة
خُبْثٍ لا طيب فيها، وكلمة مسمومة لا نفع فيها.
§
فهي
كالشجرة الخبيثة، أصلها غير ثابت، ومذاقها مرّ، وشكلها لا يسر الناظرين.
§
تتشابك
فروعها وأغصانها، حتى ليُخيَّل للناظر إليها أنها تطغى على ما حولها من الشجر
والنبات.
§
إلا أنها
في حقيقة أمرها هزيلة، لا قدرة لها على الوقوف في وجه العواصف والأعاصير.
§
بل تنهار
لأدنى ريح، وتتهاوى لأقل خطر يهددها.
§
إذ ليس
من طبعها الصمود والمقاومة، وليس من صفاتها الثبات والاستقرار.
§
إنها
شجرة لا خير يرتجى منها، فطعمها مر، وريحها غير زاكية.
§
فهي شر
كلها، وخبث كلها، وسوء كلها.
وهكذا
الكافر، لا ثبات له في هذه الحياة ولا قرار، فهو متقلب بين مبدأ وآخر، وسائر خلف
كل ناعق، لا يهتدي إلى الحق سبيلاً، ولا يعرف إلى الخير طريقاً، فهو شر كله،
اعتقاداً وفكراً، وسلوكاً وأخلاقاً، وتطلعاً وهمة.
أمَّا
الكلمة الخبيثة فهي معول للهدم والتمزيق والتفريق، تعمل تخريباً في أوصال المجتمع،
فتهدُّ كيانه.
والكلمة
الخبيثة نتنة الرائحة، تصدر عن بؤر نفسية عفنة.
وإن
الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - كالشجرة الخبيثة؛ قد تهيج وتتعالى وتتشابك؛ ويخيّل
إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة، وأقوى، ولكنها تظلّ نافشة هشة، وتظلّ
جذورها في التربة قريبة، حتى لكأنها على وجه الأرض.. وما هي إلا فترة ثم تجتث من
فوق الأرض، فلا قرار لها ولا بقاء.
ونلحظ
هنا في وَصْف الكلمة الخبيثة بأنها كالشجرة الخبيثة؛ أن الحق تعالى لم يَقُلْ إن
تلك الشجرة الخبيثة لها فَرْع في السماء؛ ذلك أنها مُجْتثة من الأرض، مُخْلخلة
الجذور، فلا سَند لها من الأرض، ولا مددَ لها من السماء. ولذلك يَصِفها الحق تعالى:
)مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ]، أيْ:
ما لها من ثبات أو قيام، وكذلك الكُفْر بالله.
ليس هذا،
وذلك، مجرد مثل يضرب، ولا مجرد عزاء للطيبين، وتشجيع. إنما هو الواقع في الحياة،
ولو أبطأ تحقّقه في بعض الأحيان.
والخير
الأصيل لا يموت، ولا يذوي، مهما زحمه الشر، وأخذ عليه الطريق.. والشر كذلك لا يعيش
إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به - فقلّما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك
ما يلابسه من الخير، فلا تبقى فيه منه بقية، فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم
واستطال، إن الخير بخير! وإن الشرّ
بشرّ!
روي عن
قتادة في هذه الآية: (أن رجلاً لقي رجلاً من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة
الخبيثة؟ قال: لا أعلم لها في الأرض مستقراً، ولا في السماء مصعداً، إلا أن تلزم
عنق صاحبها حتى يوافي بها يوم القيامة)([98]).
وروي عن
ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ]([99])،
قال: ضرب الله مثل الشجرة الخبيثة كمثل الكافر. يقول: إن الشجرة الخبيثة اجتثت من
فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: الكافر لا يقبل عمله، ولا يصعد إلى الله، فليس له
أصل ثابت في الأرض، ولا فرع في السماء([100]).
ورد في
بعض الروايات أن الشجرة الخبيثة المذكورة في المثال هي شجرة الحنظل: [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ].
وروى
الطبري عن أنس (رضي الله عنه) في قوله تعالى: [وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ
اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ].
قال: تلكم الحنظل، ألم تروا إلى الرياح كيف تصفقها يميناً وشمالاً؟([101]).
وختم
الله تعالى بيان هذا المثل بقوله: [وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ]، فهذا تصريح بحكمة ضرب الله الأمثال، أيْ بيان
الصفات العجيبة وغاياتها للناس، الذين أعطوا التفكير والعقل، يرشدهم إلى النافع
فيأخذون به، والضار فيجتنبونه([102]).
وفي ضرب
مثل هذه الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني، فهي أمثال مصداقها واقع في
الأرض، ولكن الناس كثيراً ما ينسونه في زحمة الحياة.
الهوامش:
([84]) رواه أحمد
(5/40، رقم 20431)، والترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في طول العمر للمؤمن، 4/565
- 566، برقم 2330، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم (1/489، رقم 1256) وقال: صحيح
على شرط مسلم. والبيهقي (3/371، رقم 6317) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في طول
العمر للمؤمن، 4/565 - 566، برقم 2330، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق