سعد الزيباري
قال الله تعالى في مُحكم كتابه: [هُوَ
الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلّا اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ]([1])،
وقال تعالى: [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ
لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ
عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ]([2]).
والإسلام خصُوصاً عند الأنظمة العَلمانيّة - تحت غطاءِ حريّة الفكر والثقافة - هو شهادةٌ تُخوِّل صاحبَها حُسن السّيرة، فالهجُوم على الإسلام قد تحوّلَ أخيراً إلى مُوضةٍ تقدميّة لدى المثقفين العَلمانيين أو اليساريين القُدامى، مِمّنْ تخلّوا عن مبادئِهم القديمة، واعتنقُوا أفكاراً جديدة رأسماليةَ النشأة والظهُور، وهذه الحريّة المقنّعة - الّتي تبطنُ وراءَها أفكاراً لائكية - لا تني في مساعيها لإزاحة الدّين عن مراكز التوجيه، وكأنّ فرضَ العَلمانيّة عنوةًعلى الجماهير من أبجدياتِ الحريّة التي يتشدّقُون بها، والحريّةُ التي يريدُونها هي حريّةُ التطاوُل على الدّين فقط لا حريّة التديّن، أمّا المجالات الأُخرى التي تحتاجُ مُمارستها إلى حريّةٍ كافية فإنّها لا تكاد تخطرُ لهم على بال، وكأنها منطقةٌ رماديّة لا يجوزُ الاقتراب منها، كالكَبْتِ السياسيّ، والاختناق الاقتصادي، والجمُود الثقافي، وأصبحتِ التيارات العَلمانية -الّتي لا تعرفُ الإسلامَ منهجاً وسلُوك حياة- تمارِسُ سلطتها الثقافية من خلال حِراب السُلطة السياسيّة، كما توظِّفُ قنواتِها الإعلاميّة المسيّسة في الإعلان عن أهدافِها ومبادئِها وآيديولوجياتِهاالوافِدة، وكأنها هي الممثِّل الشرعيّ للتيار الجماهيريّ العريض الذي يرفض ابتداءً أفكارها الغريبة الّتي جاءت إليها من وراء التخُوم.. ومن هنافـ"إنَّ دعاة التنوير في بلادنا كثيراً ما يرفعُون شعاراتِ حريَّة التعبير والتسامُح مع الرأي الآخر، وكأنَّ كليهما يجب ألاَّ يرد عليه أي قيد. فيدافعُ كثيرون - مثلاً - عن حقِّ الكاتب في التعبيرِ عمَّا يشاء، دون أن يكلّفوا أنفسَهُم عِبء قراءة ما كتبه هذا الكاتب، بافتراض أنَّ حريَّة التعبير مُطلقة، وأنَّ تقييدها يضرُّ في جميع الأحوال بنهضةِ المجتمع. وهُم كثيراً ما يبدون ترحيباً حارَّاً، ويحتفلون بكلِّ من يتجرّأ على التراث والتقاليد بالنقدِ والتهكّم، حتى في الحالاتِ التي يخلُو العملُ من أيِّ قيمةٍ فكريّة أو فنية تُذْكَر، افتراضاً منهم أنَّ التجديد مطلُوبٌ دائماً، وأنَّ التمرُّد على القديم والتقاليد فيه دائماً مصلحة المجتمع.. فالتذكير بأنَّ حريَّة التعبير ليست حقَّاً مطلقاً، وليس دائماً شيئاً مرغُوباً فيه... يجب أن يكون بإمكاننا التمييز بين عملٍ فكريّ أو فنيّ يخدِمُ النهضة الفكريّة فِعلاً، وعملٍ آخر يُعَطِّلُها، بين حقِّ التعبير عن الرأي وحقِّ توجيه السبِّ والقذفِ والتهكّم على المقدّسات.."([3]). هذا "وإنَّ الايمان بالمعتقداتِ الدينية والتحيّزات الدينيّة المسبقة ليستْ- بأيِّ حالٍ - من قبيل الإيمان أو التحيّزات التي يُمكن أن تفسِدَ العِلْم، وتؤدّي إلى الخروج عن قواعدِ المنطق والمنهج العلميّ والموضوعيّة. ومن ثمَّ فإنَّ اعتبار الدعوة إلى (تحكيم العقل)، والبُعد عن (التعصّب) وكأنها لا تعني إلاَّ التخلص من الاعتقاد الديني.. واعتبار الدعوة إلى (تحرير العقل) وكأنها مُرادفة لتحرير المرء من الاعتقاد الديني، أو كأنَّ تخلُّص المرء من عقيدته الدينيّة هو وحدَهُ كافٍ لانتصار العِلْم والموضوعيّة، هذا الموقف يتعيَّن رفضه وإظهار زيفه"([4]). والمعلوم بداهةً "أنَّ رفض الموقف الديني لا هو بالشرط الضروريّ الكافي للتخلّص من التعصّب الذميم؛ المؤدّي إلى أعمال العنف أو لانتصار العِلْم والموضوعيّة. فمن الممكن أن تكون متديّناً وعالماً ومُتسامحاً مع الآخرين، ورافِضاً لأيِّ صُورةٍ من صُوَرِ الاعتداء عليهم، ومن الممكن أنْ تكون عَلمانيّاً ومُعادياً للعِلْم وقاسياً كلَّ القسوة في التعامُل مع آراء المخالفين لك في الرأي ومواقِفهم.."([5]). ولنا في التاريخ العَلمانيّ مِنَ التعصُّب الذميم المفجِّر لألوانٍ مِنَ الفظائِع وأشكالٍ مِنَ المآسِي لا تقلُّ عدداً ولا قسوةً عمَّا نجدُ له من أمثلةٍ في التاريخ الديني (عِلماً أن التاريخ الديني لَمْ يعرفْ شيئاً اسمه العنف اللهُمّ إلاّ محاكم التفتيش التي عرفتها النصرانيّة). ويكفي أنْ نذكِّرَ القارئ بأمثلة التعصّب والقسوة التي ارتبطت بتاريخ الثورة الفرنسيّة، المَدِيْنة بأفكارها لحركة التنوير نفسِها، وتاريخ الحركات الاشتراكيّة والماركسيّة، وتاريخ الحركات القوميّة، وما فعله الأوروبيّون في مُستعمراتِهم باسم المدنيّة، وما شَهِدهُ القرن العشرون من حرُوبٍ باسم الديمقراطيّة، وما شَهِدته السنوات القليلة الماضية ضِدّ مُسلمي البوسنة والهرسك والشيشان وفلسطين والعِراق.."([6]). ومن هنا فليسَ غريباً أن نرى"مثقفي التنوير الآن في حياتنا الثقافية العربيّة المعاصرة، وهُمْ يمارِسُون نوعاً من القَهْر ومحاولاتٍ لكَبْتِ أيّ رأي يُخالِف هذا التقديس الشّائع للعِلْم، يُماثِلُ ما كانت تمارسه الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى، كما شاع مُؤخراً إضفاء نوع من القدسية على أعمالٍ فنية يُطلق عليها وَصْف (الإبداع)، حتى إن كانت خالية من أيّ قيمةٍ فنية تُذْكَر، ودَافَعَ أنصار (التنوير) عن أصحاب هذه الأعمال؛ وإنْ تضمَّنت عباراتٍ غاية في البذاءة ضدَّ الدين، وذلك باسم حريَّة الفكر وحقّ المبدعين في أن يفعلوا ما يشاؤون، وكأننا بصدد نصٍ مُقدَّس من النصُوصِ الدينية، وليس بصدد عملٍ فكريّ هزيل أو رواية تافهة كتبها شخصٌ خالٍ من الموهبة"([7]).
الفكر الإسلامي في محكِّ التأويل
الفاسِد
فما نجدهُ الآن يمثِّلُ علامةً بارِزةً
لازَمَتِ الفكر العَلمانيّ ولا تزالُ، فالمفكِّرُ العَلمانيُّ عادةً ما يجيدُ
ممارسةَ فنِّ النّقدِ والتّفكيك، دون أنْيُقَدِّم بديلاً فاعِلاً لمن يُطْلِق عليه
انتقاداتِه اللاذِعة التي قَدْ لا يبتغي من ورائِها سِوَى جَلْبِ الاهتمام لذاتِه،
وكأنّهُ لايَرْمِي من توجيه النقدِ إلى غيرِه سِوى لَفْتِ الأنظارِ إلى نفسِه التي
تشعرُ أحياناً وكأنها وُضِعَتْ في رفُوفِ النسيانِ الرَّهيب، وهي كي تخرجَ من هذهِ
العُزلة الشعوريَّة القاتِلة تُطلِقُ أصواتاً مدويَّة علّها تجدُ من يصيخُ لها السَّمع
ويحير لها الجواب، وكان الأحرى بها كي تطفوَ من قاعِذهولِها الوجداني أنْتزِنَ
الأمُورَ بميزانِ العقلِ السّليم والشّرع الحكيم لا بميزان المزاج والهوى العقيم؛
لأنّ الأمزجة تتغيّر والأهواء تتبدّل، فما أحرى بنا حين الشرُوعِ بتقييم الأمُور
أن نقيِّمها بناءً على منظُوراتٍ عقليَّة واعية، لا أنْ نُرخي العَنَانَ لأهوائِنا
المتضخِّمة بالأنا، تلك الأهواءُ التي تخبِطُ خبطَ عشواء في وضح النهار، وتحكمُ
على الأشياء بمنظُورٍ لا واعٍ ولا مسُؤول، وهذا الجرحُوالتعديل يُذكِّرني بمقولةٍ
رائعة للشاطبـي؛ مفادُها: "لقد كُنّا قبلَ شرُوقِ هذا النُّور نَخْبِطُ خَبْطَ
العَشْوَاء، وتجري عقولُنا في اقتناصِ مصالِحِنا على غيرِ السَّواء، لضَعْفِها عن
حَمْلِ هذهِ الأعباء، ومُشاركة عاجلات الأهواء، على ميدان النّفسِ الّتي هي من بين
المنقلبين مدارُ الأسواء، فنضعُ السمُومَ على الأدواء مواضِع الدّواء، طالبين
للشفاء، كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبحُ بينها في بحرِ الوَهْم فنهيم، ونسرحُ
من جهلنا بالدَّليل، في ليلٍ بهيم، ونستنتج القياسَ العقيم، ونطلبُ آثارَ الصِّحةِ
من الجسمِ السَّقيم، ونمشي إِكْبَاباً على الوجُوه، ونظنُّ أنَّنا نمشي على الصِّراطِ
المستقيم"([8]).
فما وصفهُ الشاطبـي ينطبقُ كثيراً على
تلك الأقلام اليساريّة التي كانت تحتفي بَلْ تحتفلُ بمجدِ ماركس ولينين في السرِّ
والعَلَن، ولكنها وجدتْ أخيراً - بعد كسادِ أيديولوجيتها في العالَمِ أجمع -
ملاذها الآمن في الإسلام، فدأبتْ تعملُ فيه معاوِلها، وتضربُ ضرباتٍ مُوجعة في
جسدِه تحت ذريعةِ إعادة قراءة الإسلام من جديد، فقدّمت ادّعاءاتِها على طبقٍ من
التحليل المغرِض والتأويل الفاسِد، زاعمةً من خلالِ طَرْحِ مقولاتِها؛ أنها تريدُ
الخيرَ للمسلمين، وقد انخدع بخطابها الكثيرُ من المسلمين، لحُسْنِ نيتهم أو رُبّما
لضحالةِ فكرِهم، وقد انتشر هذا الفكرُ عبر شبكات التواصُل الاجتماعيّ، فبدأَ كلُّ
من يعرفُ النّقْر على الحاسُوب، أو يجيدُ العبث بالهواتف الذكية يمتحُ بدَلْوِه،
فأصبحَ الإسلامُ بذلك مُلكاً مُشاعاً للجميع كلٌّ يُدْلي فيه بعِلْمٍ وفي غالبِ
الأحيان من غير عِلْم، يلتقطون شواهِدَ هُنا وهُناك، ويهرفون بما لا يعرفون،
ويَخْتَبِطُون ويَخْلِطُون فيما يقولُون ويكتبُون، بناءً على أهوائهم المريضة
وأمزجتهم المتقلِّبة، وقد وصلَ بهم الأمر إلى الترويج لفكرهم بالقذفِ والتشهيرِ
والسِّباب، وقد كنتُ أتابع صفحةً خاصّة في (الفيس) بعنوان (ساحة القرآنيين.. ونحن القرآنيّون)
فوجدتُ منشوراتٍ أقلّ ما يُقال في وصفِها أنها عديمة الأدب، بَلْ وجدتُ في بعضها
تجاوزاً عن كُلِّ القيم والمبادئ،والأنكى أنّي ألفيتُ فيها منشوراتٍ تدعُو إلى
الإلحاد جهاراً نهاراً، على الرّغم من أنها صفحة خاصّة بالقرآنيين، يُدوِّن فيها
يافِعُون لم يتجاوزوا مرحلة المراهقة الفكريّة بعدُ، ولما قرأتُ ذلِكَ هالني هذا
الوضع المأساوي الّذي بلغَتْهُ مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، فقلتُ في نفسي:
أهكذا تعاد قراءةُ الإسلام من جديد، أهكذا نعيدُ مجدُ الإسلام الضائع، أهكذا تعودُ
الحضارةُ الإسلاميّة تارةً أُخرى، أهكذا نكونُ في مصافِ الدّول المتقدِّمة حيث
التكنولوجيا والتطوّر في أعلى درجاته؟! فحزّ ذلِكَ في نفسي، ودفعني إلى المشاركة
في هذهِ الصفحة الخاصّة، فكتبتُ منشوراً، قلتُ فيه: أبهذا الأسلُوب الراقي علّمكم
القرآن أن تخاطبُوا غيرَكُمْ؟! أبهذا التعبير المهذّب تكون العودة الرشيدة إلى
منابع القرآن؟! فإذا كان القرآن لَمْ يُغيِّر بعدُ من أسلوبكم الرفيع هذا فأنتم لَمْ
تفهمُوا القرآن أصلاً!! هلمُّوا إلى القرآن من جديد كي تتهذّب ألفاظُكم، وتترقّى
أساليبكم، وتتسَامَى كلماتُكم!! ألا تعرفون أنّ جدالَكم - الذي يترامى إلى أسماعِنا
ويتهَادَى إلى أبصارِنا ليلَ نهار من صفحتكم هذهِ - إنّما جاء بالذي هو أخشن لا
بالّذي هو أحسن، كما هو ثابت في القرآن، ذلك الكتاب العظيم الذي تدعون إليه غيركم،
وتشدِّدون الوصية كي نسيرَ على نهجه وكفى، وندع الحديث جملةً وتفصيلاً، فأنا لم
أَجِد منكم إلا ألفاظاً نابيةً قاسية، وعباراتٍ شائهةً شائنة بحقِّ خصومِكُمْ. هذِّبُوا
ألفاظَكُم قبلَ أنْ تخاطِبُوا غيرَكُم، فالوحيُ القرآنيُّ علّمنا أن نغضّ مِنْ
أصواتنا، وأنْ نرتقيَ بكلماتِنا، فالغيثُ هو الّذي ينبتُ الزهور وليس الرعد والصوتُ
الجهُور، ألا تعرفون أنّ أناقة ألسنتِنا هي ترجمان حقيقيّ لأناقةِ أفكارِنا، فلا
ترفعوا أصواتَكُم على غيرِكُمْ بهذهِ الصُورة المنفرة بَلِ ارفعوا من مُستوى كلماتِكم
كما علّمنا ديننا ودينكم سواء بسواء.
العقل الفارغ وإنتاج المعرفة الفارغة
فالاعتمادُ على العقل قبلَ أوانِ نُضجه؛
كالاعتمادِ على الطِّفْل قبلَ اكتمالِ عقلهِ، وبالتالي فعلى الإنسان أيّاً كان أنْ
يتعهّد عقلَهُ بالعناية والسقاية والتشذيب والتهذيب، وذلك بإعمال فكرهِ وتنمية
بصيرته وإثراء رصيده المعرفيّ وإغناء مخزونه العلميّ بالتفكير والتأمّل والتدبّر
والقراءة المعمّقة، وإلاّ فإنه يكون كالطِّفْلِ الذي يهذي ويهرف من غير أن يعرف ما
يقُول، والمنطق العقليّ يؤكّد هذا النزوع المعرفيّ، وما أشدّ عجبـي حين أرى الدّين
وقد تحوّلَ إلى ألعوبة مُشاعة بيدِالنّاسِ جميعاً، يتصرّفون فيه كيفما يشاؤون دون
الاعتماد على شيء، سواء أكان عقلاً أم نقلاً، فالعقلُ الخالِص الناضِج أيضاً لا
يقبل هذا التلاعُب، وما وجدتهُ أيضاً ضعف الأساليب الكتابيّة التي امتلأتْ جوانب
أروقة صفحاتِ الشابكة، فكلّ إنسانٍ بإمكانه أن يمتحَ بدلوِه وأن يُدلي بطرحِه، وإن
لم يعرفْ عن النَّظْمِ والتأليف والنّحْوِ والتّركيب إلا كما يعرفه طفلٌ يتلاعبُ
بالمفردات بَتْراً وقَلْباً وتغييراً، فيُقدِّم بذلك أساليبَ شائهة مُهلهلة مُتهالكة،
فيكتبُ بها رأيَهُ الهزيل الّذي لا يكادُ يقفُ على سُوقه، فيحبُو مُترنحاً هُنا
وهُناك مُتوكِّأً على عُكازته المنخُورة على الفضاءِ الأزرق، ويصيحُ بصوتهِ المبحُوح
مُنْكِراً حُجيّةَ السُنّة، ومُدّعياً أنّهُ يُعْمِلُ عَقْلَهُ فيما يُواجهه مِنْ
قضايا عصريّة راهنة، ويقولُ: بيني وبينَكُمْ كتاب الله يحكمُ بيننا، مُبْطِلاً
السُنّة ومُصادِراً إيّاها، وهو ومُتّكِئٌعلى أريكتهِ الوثيرة ومُسْتَلْقٍ عليها،
وقد تنبَّأ الرسوُل (عليه الصّلاةُ والسّلام) بظهُورِ هذهِ الفئة الّتي تنكّبتْ عنِ
طريقِ الحقّ، وحادتْ عن الصِّراطِ المستقيم، فقال: (أَلا هَلْ عَسَى رَجُلٌ
يَبْلُغُهُ الحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حلالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ.
وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَاماً حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللّهِ
كَمَا حَرَّمَ اللّهُ)([9]).
وفي روايةٍ أُخرى؛ قال:(يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُكَذِّبَنِي وَهُوَ مُتَّكِئٌ
عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا
وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ)([10]).وفي
روايةٍ ثالِثة: (إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ، يُوشِكُ شَبْعَانٌ
عَلَى أَرِيكَتِهِ أَنْ يَقُولَ: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ هَذَا الْكِتَابُ، فَمَا
كَانَ فِيهِ مِنْ حَلالٍ أَحْلَلْنَاهُ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ
حَرَّمْنَاهُ، أَلا وَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ)([11]).
وجاءَ في روايةٍ رابعة؛ قَوْلُه: (لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئَاً عَلَى
أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ
عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِى كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ)([12]).
وقولـه (صلّى الله عليه وسلّم): (لاَ أُلْفِيَنَّ) أي: لا أجِدَنَّ. وهذا نهيٌ عن
تلكَ الحالةِ على سبيلِ المبالغة، و"أريكته" أي: سريره المزيَّن بأنواع
الزينات، وفيه إشارة إلى أنّ إنكار الحديث إنّما يأتي من المترفين، وهؤلاء شأنهم حبُّ
الشهوات، وعدم المبالاة بأحكامِ الشريعة. إنهم سيتركُون الكثيرَ من الدّين، فسيتركُون
الصّلاة وأحكامها، وسيعجزون عن امتثال أمر الله سبحانه: [وَآتُوا الزَّكَاةَ]([13])،
وسيهجرون الكثير مِمّا هو معلومٌ من الدِّين بالضّرورة([14]).
قال أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ (ت131هـ): "إذا حدّثتَ الرَّجُلَ بالسُّنَّة
فقال: دَعْنا من هذا، وحَدِّثنا مِنَ القُرآن، فاعلمْ أنهُ ضالٌّ مُضِل"([15]).
وقالابن حزم (ت456هـ): "فلا بُدّ مِنَ الرجُوع إلى الحديثِ ضرورةً، ولَوْ أنّ
امرأً قَـالَ: لا نأخذُ إلاّ ما وَجَدْنا في القرآن؛ لكان كافِراً بإجماعِ الأُمّة"([16]).
إنكار حُجيّة السُنّة النبويّة وإثباتِ
حُجيّة أفكارِهم
وثبت عنِ السّلف تمسّكَهُم بكتاب الله
وسُنّةِ نبيِّه، وقد حكمُوا على مَنْ أنكرَ السُنّة بالخرُوج عن الملّة، وتعجّبوا
منهم: كيف لا يقبلون بيان القرآن من رسُولِ الله (صلّى الله عليه وسلّم)، ويقبلون
بيانه من عند أنفسهم.والحقُّ أنّ الكثير مِنْ مُنكري السُنّة ليسُوا من عُلماء
الإسلام، والمعلُوم أنّ كُلَّ عِلْمٍ إنّما يُؤخذ من أهله، والغريب أنّ العديد من
مُنكري السُنّة في هذهِ الأيّام قد كتبُوا في غير تخصّصاتِهم، وإن كانتِ الألقابُ
لا تؤهِّلُ في حدِّ ذاتِهـا؛ فالأُستاذ في الهندسـة لا يحقّ له أن يفتحَ عيادة
لاستقبال المرضى، ولو فعلَها ما زارَهُ عاقل، ولو ذهبَ إليه جاهِلٌ فإنّهُ يضرّه
ولا ينفعُه. والمعروف أنّ أنظمة الدنيا جميعاً لا تسمحُ لأُستاذٍ في الهندسة، ولا لدكتور
في الاقتصاد أن يفتح عيادةً طبيّة([17])،
كما لا تسمحُ في الحالةِ نفسِها لطبيبٍ أنْ يُشْرِفَ على مشرُوعٍ هندسيّ.وفي هذا
قال الكاتِب رشيد الخيّون: "التقيت بالباحِث شحرور قبلَ سنواتٍ، وسألتُه: أنتَ
مُهندِس في العمارة (مدني) ما أتى بك إلى البحث؟ أجابني: لولا العمارة ما كنتُ باحِثاً.
ففهمتُ المعنى أنّ خطأ مهندس المباني يُكلف كثيراً؛ لأنه يبني عمارةً في الأرض
يصعب تصحيحها إذا أخطأ، لهذا يتّصف بالدقّة. وفي التركيز على قضية التَّاريخ،
أقول: الكتاب عِمارةٌ بحاجة إلى قياساتٍ صحيحة"([18])،
ولكن شحرور - مع الأسف - قد شيَّد عمارةَ كتابة على أساسٍ خاطئ، حسب عبارة رشيد
الخيّون. والمعلُوم أنّ الدكتور المهندس محمّد شحرور "عَرَضَ في مؤلّفهِ
(الكتاب والقرآن - قراءة معاصرة)، مجموعتينِ مِنَ الأفكار، أفكار أساسيّة في
قواعدِ الفهمِ والإدراك الّتي هي بمثابة الأساسات والقواعِد، وأفكار فرعيّة رتّبها
ونسّقها - كما يقول - على اعتبار أنّها ثمارٌ مُنبثقة مِنَ الجذور الأساسيّة. وبما
أنّ الكاتِب دكتورٌ في الهندسة المدنيّة، ومتخصّص في فحصِ التربة والأساسات،
فإنّهُ يُدرِكُ معنى القواعِد والمرتكزات الأساسيّة، يعلمُ بأنّ المبنى الشّاهِق
الجذّاب لا يلبثُ أنْ ينهارَ عندما تكون أساساتُه غير قائِمة بموجب المواصفات
المعتمدَة، أو عندما تكون التحليلات الإنشائيّة الّتي بُنيت عليها تصميماتُه
خاطِئة"([19]).
وقد وردَ في المثلِ الإنكليزيّ ما يماثِلُ هذهِ الفكرة؛ وهِيَ: أنّ خطأَ الطبيبِ
يُدْفَنُ تحتَ الأرض، وخطأَ المهندِس يقعُ على الأرض، أمّا خطأُ المعلِّمِ
فيَمْشِي على الأرض! فالطبيبُ قد يكونُ سبباً في وفاةِ أحدِ المرضى؛ نتيجةَ
التسرُّع والتشخيص الخاطِئ، أمّا المهندِس فيكون سبباً في انهيارِ بناية شاهِقة؛
نتيجةَ هندسةٍ خاطِئة، أمّا خطأُ المعلِّمِ فيتوارثهُ النّاسُ جيلاً بعد جيل! فكيف
إذا تعمّد المهندسُ تنفيذَ الخطأ وتحريف الخطّة الهندسية المقرّرة، تُرى ماذا
ستكون حالُ البناية التي يُشرف عليها؟!
ومِنْهُنا فإنّ الكثير مِنْ مُنكري
السُنّة لا يتورَّعون في تزييفِالحقائق وتحريفِها، بَلْ يتعمّدُون الـكَذِب لتحقيق
غايتِهم في إنكارِ الحديث: ومن تقوّلاتهم: أنّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حبس
ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء في المدينة على الإكثار من الحديث، ويستدلّون
على هذا الخبر بكتابِ"الإحكام في أصولِ الأحكام" لابن حزم، فلمّا
راجعتُه، وجدتُ ذِكْر الخبرَ، ولكنّي وجدتُه على العكس مِمّا تقوّلُوه، لقد وجدتُ
ابن حزم يحَكَمُ على هذا الخبر - الذي نقلُوه لتأييد فِكْرَتِهم -بالضّعْف. فقالَ
في إحكامِه: "وأعجبُ مِنْ هذا كُلِّه: إنّ المحتجِّين بأنّ عُمَر (رضي الله
عنه) حبسَ ابن مسعُود، وأبا موسى، وأبا الدرداء بالمدينة، على الإكثارِ مِنَ
الحديث؛ ينبغي لهم أنْ يحاسِبُوا أنفسَهُم... يقول: والروايةُ في حبسِ ابنِ مسعود
في ذلِكَ عنه ضعيفة، وإنّما صَحَّ أنّهُ تشدَّد في الحديث، وكان يُكَلِّفُ مَنْ
حدَّثهُ بحديثٍ أنْ يأتيَ بآخر سَمِعَهُ معهُ، وإنّما فعلَ ذلِكَ اجتهاداً
منه"([20]).
فهؤلاءِ ينبشون في كتبِ التراث علّهم يستخرِجُون منه ما يُناسِبُ أفكارَهُم من
نصُوصٍ واستشهادات بعد نزعِها من سياقِها الحقيقيّ، ووضعِها في سياقٍ جديد يخدمُ
أفكارَهُم التي يُسَوِّقونها وآراءَهم التي يُرَوِّجُون لها، عِلْماً أنّ المفردة
اللغويّة لا تأخذُ دلالتَها الحقيقيّة إلاّ في سياقِها الذي تتفاعلُ فيه مع بنى
لغويّة أُخرى سابقة لها أو لاحقة عليها، فالسياقُ هو الفيصُل في الحكمِ على
المعاني.
أمّا الّذين يَعْجِزُون عن قراءةِ
المدوَّناتِ التاريخيّة مِنْ نشطاءِ التيارِ العَلمانيّ، "فإنهم كثيراً ما
يهرعُون إلى سدنةِ هذهِ الأفكار من أمثالِ "شحرور" وغيره؛ لكونه يُوفِّر
ملاذاً لأفكارِهم العَلمانيّة، كما أنّ طرحَهُ يُمثِّلُ خيرَ سندٍ لِمَنْ يرفضُ الكثيرَ
من تقريراتِ الشّرع الثابتة في الكتاب والسنة، التي يتكفّل "شحرور"
بنسفِها والتشكيك حولها، بذريعة الاجتهاد، وخاصّة إذا عرفنا أنّهُ بدأ يُقَدَّم
للعالَمِ الإسلاميّ ليسَ باعتبارِه مجرَّد مُنظِّرٍ"عَلمانيّ" وإنما "مُفكِّر
إسلاميّ"([21]).
فالتيارُ العَلمانيُّ بدأ يُغيِّر من أسلوبِ خطابه كما كان معهُوداً في ستينيّات
وسبعينيّات القرن الماضي، وبدأ يُنمِّط خطابه بحيث يتناسبُ مع مُوضة العصر الجديد،
حتى يكون مقبُولاً عند المسلمين جميعاً، ويوفّر له بالتالي أرضيّةً مُناسبة
للتبشيرِ بأفكارٍ لم تتغيّر مضامينها والترويج لطروحاتٍ لم تتبدّل مقاصِدُها،
وإنّما الأساليب والعناوين هي التي تغيّرت وتبدّلت، فإعادة عرض العَلمانيّة في
ثوبٍ دينيّ يُوفِّرُ للعلمانيين الجُدُد استجابةً سريعة من لدن الكثير من المسلمين
من ذوي الخلفيات الثقافية السطحية والتجارب العرضيّة الواهية!
أقلامٌ فكريّة قَلِقة وشكُوكٌ مُثارة
حولَها
هُناك شكُوك كثيرة معقُولة ومقبُولة
تحومُ حولَ تلكَ الأقلامِ الفكريّة التي ظهرتْ فجأةً، وهي تحملُ كلَّ هذا الخزين
المعرفيّ الثرّ، وهذا الكمِّ من التأليفات، وهذهِ الشكوك الّتي تنبري هُنا وهناك
إنّما تتركّزُ حول صِحّة نسبة هذه المؤلّفات إلى أصحابِها ودرجة وثوقيتها، فنحن لَمْ
نجِدْ على طُولِ التاريخ الإسلاميّ مَنْ يخرجُ علينا مفكّراً مُكْثِراً بين عشيةٍ
أو ضُحاها، والذي يقرأُ الكتابَ الأوّل الّذي يُنسب إلى شحرور سيهوله كلّ هذهِ
المعلومات التي لَمْ توثق توثيقاً علميّاً، في وقتٍ يفرضُ عليهِ أبجديّات العِلْم
الحديث توثيق تلك المعلومات الكثيرة التي أوردها وساقها بالمصادر والمظان
المعرفيّة الّتي استفاد منها! والسؤال الجوهري ترى كيف يتأتى لإنسانٍ قضى طول عُمره
في دراسة الهندسة المدنية - والانكباب في الحصُول على الماجستير والدكتوراه في هذا
الاختصاص الصعب والدقيق([22])
- أنْ يُقدِّمَ كُلّ هذهِ المؤلّفات التي أسهمتْ في نَسْفِ مقوّمات الفكر
الإسلاميّ مِنْ أصولِه وبلغةٍ لا بأسَ بها. ومن يريدُ دليلاً على ضعف خطابهِ
اللغويّ، أنْ يستمِعَ إلى محاضراتهِ عبر الشّابكة حتى يَصِلَ إلى درجةِ اليقين
إزاءَ هذهِ الشكوك التي تحومُ حول صِحّة هذهِ المؤلّفات التي تمّ عرضُها على أنّها
اجتهاداتٌ من مفكِّر إسلاميّ، وقد أكّد هذا الأمر الأستاذ ماهر المنجِّد بقوله:
"ومِنْ نافلةِ القولِ أنْ أُشيرَ إلى أنّني دُعيت مِنْ قبل الأُستاذ الدكتور
نعيم اليافي إلى حضُورِ ندوةٍ علميّة خاصّة مع المؤلِّف الدكتور محمّد شحرور في
دمشق نظمها اتحاد الكُتّاب العرب منذ سنةٍ تقريباً (حوالي 1993)، وفي أثناءِ ذلِكَ
لاحظتُ أنّ السيِّدَ المؤلِّفَ كان على العكسِ تماماً مِمّا وجدناهُ في كتابِه
مِنْ تنظيمٍ وتقسيمٍ واصطلاحات.. فقد كان مُشتّتاً يتحدّثُ دون ترابُط سببـي في
كلامِه، فعندما طلبَ منهُ الدكتور اليافي أنْ يُقدِّمَ لنا فكرةً عن كتابه مِنْ
خلالِ ثلاث نقاطٍ رئيسة: تجربته مع الكتاب، مقولته في الكتاب، النتائج التي توصّل
إليها. تحدّث عَنْ كُلِّ شيءٍ إلاّ عن هذهِ النقاط!! وكان حديثُه مُبعثراً، ولغته
سقيمة ركيكة بحيث لا تكادُ تستقيمُ فيها جملةٌ فصيحة، فترى المرفُوع مجرُوراً
والمنصُوبمرفُوعاً.. حتّى الآيات القرآنيّة التي كان يستشهِدُ بها كان يغلطُ في
قولِها، فيردّه الحضُور مرّة، والدكتور اليافي مرّةً أُخرى، ثمّ كانتِ الطّامةُ
الكُبْرى أنّ سمّى نظريّة النَّظْمِ لعبدالقاهِر الجرجاني بنظريّة (النُّظم)
وكرّرَها أكثر مِنْ مرّة.. أضِفْ إلى ذلِكَ أنّ كتابَهُ يموجُ مَوْجاً بالأخطاءِ
اللغويّة والنحويّة التي لا يجوزُ أنْ يقعَ فيها التلاميذ([23]). وما يدعونا إلى تأكيد هذا الشكّ حول نسبة هذا الكتاب ما بيَّنَهُ
الأستاذ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني؛ بقولِه: "بعد أن أنهيتُ عملي في هذا
الكتاب (يقصدُ: التحريف المعاصر) زار مكّةَ لأداء العمرة أخونا الأستاذ الدكتور "محمد
سعيد رمضان البوطي"، والتقينا وتحادثنا في قضايا فكريّة إسلاميّة عامّة،
وسألتُه عن كتاب "شحرور" فذكرَ أنّهُ اطّلعَ عليه، وأبانَ لي أنّ مِنْ
رأيهِ إسقاط الكتاب بإهمالِه وعدمِ الردِّ عليه، لأنّهُ أقلُّ قيمةً مِنْ أنْ
يهتمَّ لهُ مُفكِّر إسلاميّ، فقلتُ لَهُ: يَغْلِبُ على ظنِّي أنّ جماعةً مِنَ
اليهُود هُمُ الّذين كتبُوا له هذا الكتاب، فذكرَ لي ما نشرهُ في كتابهِ:
"هذهِ مشكلاتُهم" فأنا أنقلُ من كتابهِ هذا ما يلي، قال: "زارَنِي
عميدُ إحدى الكُليّات الجامعيّة في طرابلس الغرب، في أوائِل عام 1991م، وأخبرنِي
أنّ إحدى الجمعيّات الصهيونيّة في النمسا فرغتْ مؤخّراً من وضعِ تفسيرٍ حديث
للقُرآن (كذا)، ثمّ أخذتْ تبحثُ عن دار نشرٍ عربيّة تنهضُ بمسؤوليّة نشرِه، وعن
اسمٍ عربيّ مُسلِم يتبنّاهُ مُؤلِّفاً له ومُدافِعاً عنه.. ولكنّها لَمْ توفّق إلى
الآن للعثورِ على المطلُوب على الرّغمِ مِنْ أنّها لَمْ تتردّد في الاستعانةِ
ببعضِ الرؤساءِ والمسؤولين العرب.."([24]).
أقول (والعُهدة للشيخ الميداني): يظهرُ أنّها ظفرتْ فتمَّ طبعُ كِتاب "الكتاب
والقرآن - قراءة مُعاصرة" باسم الدكتور "محمّد شحرور" سنة 1992م([25]).
والغريب أنّ مؤيديه على امتدادِ العالم
العربيّ "لا يُصدِّورنَه إلا كـ"مُفكِّر إسلاميّ" بل وكـ"عالِم
دين"، باعتبار أنّ ما يقولُه هو "اجتهاداتٌ" في الدّين؛ وذلك
لإدراكهم أنّ مجتمعَنا المسلِم في الداخل لم يعد يقبلُ منهم تلك الأطروحات العَلمانيّة
المجافية للدّين بشكلٍ صريح، والتي تريدُ اختزالهُ في المسجد كشعائِرَ تعبّدية، بل
أصبحَ الشباب يلتفتُ بشدّة لدينه منهجاً للحياة، ومِعياراً لمختلف القضايا
الاجتماعيّة والسياسيّة، ومن ثمّ فقد قدّموا محمد شحرور باعتبارِه "مُفكِّراً
إسلاميّاً"، يتحدّث بالقرآن واستناداً إليه"([26]).
وشحرور وأمثالهُ في هذا إنّما يُطبِّقُ
توصياتِ القائمين بإدارة شؤون العالم وَفق المنهج اللائكيّ، في عدم مواجهة الدّين
بصُورةٍ علنيّة مُباشرة، وتأكيداً على ذلِكَ فإنّ "مجموعةَ الوثائق الصّادِرة
عنِ الهيئة اليهوديّة المعرُوفة بـ"النورانيين" أو باسم "حُكماء
صهيون" - والتي تعدُّ المصدر التاريخيّ الأوّل لِمَا يُسَمّى اليوم
"بروتوكولات حُكماء صهيون" - تتضمّنُ توصيةً تُحَذِّرُ مِنْ مُجابهةِ
الأديانِ عامّة والإسلامِ خاصّة بأيِّ حَرْبٍ مُباشِرة مُعْلَنة، وتنصحُ بدلاً عن
ذلِك بتفريغِ النصُوص الدينيّة مِنْ معانيها الثابتة، ثمَّ ربطِها بمعانٍ وأفكارٍ
أُخرى مِنْ شأنِها أنْ تتعارَضَ مع رسالةِ الدّين وأهدافِه، وأنّ تبدّد الرؤية
إليه، ثمّ تيسّر سبيلَ الإعراضِ عنهُ والانفلاتِ منه"([27]).
هذا هو الغزو الفكريّ الّذي "لا نسمعُ فيه صليلَ السُّيوف، ولا أزيز
الرَّصاص، ولا أنين الجَرْحى؛ معركةٌ صامِتة، تريدُ أنْ تصرعَ الأُمّة فكريّاً،
فيسهلُ انهيارُها بعد أنْ تنحرِفَ عن أصالتِها. حربٌ مُبَرْمَجة، قادِرة على تزوير
الحقائق؛ لأنّ الفكرَ الأصيل يُعاني أبناؤُه إمّا مِنْ عجزِ الإمكانات، وإمّا مِنْ
سطحيّة الأبناء. حربٌ شمّرتْ عن ساقِها، ولَنْ تضعَ أوزارَها حتّى تترُكَ ضحاياها
مِنْ شبابِ أُمّتِنا بينَ أسيرٍ أو قتيلٍ، أو كسيح. حربٌ كحربِ السِّلاحِ تماماً،
أو هي أشدّ فتكاً، خصُوصاً بعد أنْ أخذتْ على عاتقِها تحقيق ما أرادَهُ مؤتمر
التبشير الّذي عُقِدَ في القاهِرة برئاسة صموئيل زويمر([28])
سنة 1906م: "لا بُدَّ للشّجرةِ من أنْ يقطعَها أحدُ أعضائِها"([29])،
أي تهديد الحصُون مِنْ داخلِها، بواسطةِ دِعِيّ مِنَ المسلمين أنفسِهم"([30]).
قراءةٌ بريئة مُعاصرة أم أجندات
خارجيّة مُسيّسة؟!
لا ريبَ أنّ هذهِ التوصية تتجسّدُ
واضحةً، لا سيّما في
السنواتِ الأخيرة، مِنْ خلالِ الشِّعار المتكرِّر المعرُوف الّذي تردّده طائفةٌ مُتميِّزة
مِنَ الكُتّاب والباحثين.. شعار: "قراءة معاصرة"! ويزيدُكَ يقيناً
بأنّهُ انصياعٌ مُلتزم دقيق لتوصية أولئك "النورانيين". ما هو واضِحٌ
وجليّ مِنْ أنّ هذا الشِّعار لا يُبرِز إلاّ لدى مُعالجة النصُوص الدينيّة كالقرآن
والحديث، على أنّ ارتباطَهُ بالقرآن أكثر([31]).
فما الدّافِع
إلى هذهِ "القراءة المعاصرة" قفزاً فوقَ ضوابط اللّغة، وفوقَ اصطلاحاتِ
العرب، وفوق قواعِد المنطقِ والعِلْم، بصددِ التعامُل مع القرآن فقط، دون أيِّ
مِنَ النصُوص الأُخرى. الدّافِع ما قد عَلِمْتَ مِمّا لا يخفى على ذي بصيرة قطّ.
إنّ التعليماتِ الخفيّة التي لَمْ تعدْ خفيّةً، والصّادرة عنِ
"النورانيين" حُكماء صهيون؛ تقول: إيّاكُمْ ومُحاربة الأديان عامّة
والإسلام خاصّة بالمجابهة المباشرة، ولكن عليكم أنْ تفرغوا النصُوص الدينيّة مِنْ
محتوياتِها، ثمّ تستبدِلُوا بها الأفكار المناقضة التي ستحقق آثارَها، باسمِ
الدّين وداخِل سُلطانِه([32]).
وهذا ما قامَ بهِ "شحرور"
أحسن قيام، فقد تكفَّل بنسفِ الدّين مِنْ أصُولِه، باعتبارِه مُجتهِداً إسلاميّاً
يسعى لتقديمِ الإسلامِ برؤيةٍ مُعاصِرة، وقد نال الحديثُ النبويّ قِسطاً وافِراً
من تأويلاتِه الفاسِدة وتخريجاتِه الباطِلة، بحجّة قراءتِه برؤيةٍ عصريّة، وقد
تأثر بطرحِه الزّائِف الكثيرُ مِنَ المسلمين مِمّنْ لَمْ يقرأوا أصلاً كتاباً
واحِداً في علم الحديث، ولَمْ تكن لديهم معلوماتٌ سابقة عن علُومه، وإنّما قرأوا
مؤخّراً في مظانٍ غير موثقة أو مُغرضة أو غير مُوضوعيّة، فجاءتْ أفكارُهم عن
الحديث عبارةً عن خليطٍ غير مُتجانس أو أمشاج هُلاميّة إسقاطيّة غير علميّة ولا موضوعيّة،
والطّريفُ أن الكثيرَ مِمّن يتسمّون بالقرآنيين يُنكِرُون الحديث النبويّ على
الرّغم مِنْ أنّهم لم يقرأُوا كتاباً مُعتبراً في عِلْمِ الحديث، فجاءُوا
يُفنِّدُون الحديث الشّريف، ويتبجّحون بإنكارِه جُملةً وتفصيلاً دون عِلْمٍ سابق،
بذريعة أنهم يستخدِمُون عقولَهم في فهم كتابِ ربّهم، وهم ليسُوا بحاجةٍ أصلاً إلى
مصدرٍ ثانٍ "يحلُّ رموزَه، ويُبرِز كنوزَه، ويفتحُمغلقه، ويقيِّدُ مُطلقه، ويُفصِّلُ
مُجمله، ويُوضِّحُ مشكله، ويزيلُ مُبْهَمَه، ويُميطُ اللثام عن عباراتِه، ويكشفُ
النقاب عن إشاراتِه"([33]).
وفي هذا قال الزركشي: "اعلم أنّ القرآن والحديث أبداً مُتعاضدان على استيفاءِ
الحقِّ، وإخراجه من مدارِ الحِكْمة، حتّى أنّ كُلّ واحدٍ منهما يُخصِّص عمُوم
الآخر ويبيِّن إجمالَه"([34]).
وقال الشيخ محمّد أبو زهرة: "وقَدْ وكّل الله إلى نبيِّه، أنْ يبلغ القرآن
للنّاس، وأن يُبيِّن لهم بقولِه وفعلِه ما يحتاجُ إلى البيان، والرسُول إذ يبيِّن
للناس كتابَ الله، لا يَصْدُرُ عن نفسِه، ولكنه يَتّبِع ما يُوحى إليه من ربِّه،
فالسُنّة النبويّة وظيفتُها تفسيرُ القُرآن، والكشف عن أسرارِه، وتوضيح مُرادِ
الله تعالى من أوامرِه وأحكامِه"([35]).
عندما يكون المزاجُ مقياساً في الحُكْم
على الأشياء!
وإذا واجهتهم بالأدلة والبراهين
واجهُوك بمقولاتِ "شحرور" في كتابهِ (السُنّة الرسُوليّة والسُنّة
النبويّة رؤية جديدة)، وكأنّه المصدرُ الوحيدُ الموثق الّذي كُتِبَ عن الحديث!
والسؤال المنهجيّ هُنا تُرى كيف يحقّ لِمَنْ لَمْ يقرأ مصدراً مُعتبراً أو مرجعاً
موثقاً في الحديث أنْ يجعلَ كتاب "شحرور" في السُنّة المصدر الأوحد،
والمرجعية التي ليستْ فوقَها مرجعيّة في الحُكْمِ على الحديث، أو بالأحرى في
التمييز بينها؟! فماذا يكون معيارُه في الحُكْمِ إذاً إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ معيارٌ
أصلاً؟ وما هو المقياسُ الّذي يقيسُ عليهِ صِحّة أحكامِ غيرهِ أو فسادِها، ما هي
ضوابطه التي تضبطُ عمليّة التقييس والمقايسة؟ فهل يكفي المتخصِّص قراءة كتاب واحِد
فقط في إنكار الحديث والتشكيك في حُجّيته؟! وهذهِ مشكلة الكثير من مُراهقي المعرفة
اليوم مِمَّنْ يتعاملُون مع السُنّة في هذا العصر الّذي أصبحَ فيهِ العِلْمُ
مُشاعاً لِكُلِّ من يريدُ العبث بهِ من غير عِلْمٍ ولا كتابٍ مبين. والعجيبُ أنّ
الكثيرَ مِنْ مُنكري الحديث الذي كان ولا زال المصدر الثاني من مصادِر التشريع
الإسلاميّ، لا يقِفُون موقِفَ المنكِر أو الرّافِض لمصادِر التشريع القانونيّة
التي قد ترجعُ إلى آلافِ السنين على الرّغمِ مِنْ مصادمتِها ومُناقضتِها للكثيرِ
مِنَ الأحكامِ القرآنيّة الصّريحة. وقد تجدهم يجادِلونك في ذلك بغير حقٍ أو بغير
برهانٍ أو دليل، وحُجّتهم أنّ من حقِّهم أن يُحاكِموا عقولَهم كلّما عنّت لهم
قضية، فالعقلُ هو الفيصل الأوّل والأخير في الحُكْمِ على الأشياء، وقد نسيَ هؤلاء
أو تناسَوا أنّ عقولَهم ليستْ خالِصة أو مُبرأة من الهوى والمزاج والطبيعة
والعصبيّة والميراث التاريخيّ المثقل، فالإنسانُ ابنُ بيئته، فهو يتأثرُ سلباً أو
إيجاباً بالظروف الاجتماعيّة المحيطة به، وقد أكّد القصيمي ذلِكَ بقولِه:
"إنّ تاريخَ جسدِك وما فيهِ من علاماتٍ سعيدة أو أليمة، قويّة أو ضعيفة،
ليتدخّلُ لصياغةِ مذهبك أو تفكيرِك أو أخلاقِكَ..."([36]).
فالظروف الاجتماعيّة هي التي تعيشُ فيك قبلَ أنْ تعيشَ فيها، وهي التي تتدخّلُ في
صياغةِ أفكارِكَ ومشاعرِك وأحاسيسك، وتتدخّلُ في تشكيل عقلِكَ الباطِن. فبيئتُكَ
هي التي تسهمُ بشكلٍ فاعِل في تشكيلِ عقليّتِكَ، ونمذَجَةِ أفكارِك، وتحديد
أذواقِكَ واتجاهاتِكَ، فأنتَ جزءٌ من هذِه البيئة التي نشأتْ فيها وترعرعت بينَ
أحضانِها، وتقلّبت في ملاعبها، لِذا فإنّ حُكْمَك الّذي تمخّضَ عن عقلِكَ إنّما هو
انعكاسٌ مُباشِر لهذا المحيط الخارجيّ الذي يلفُّ حولَكَ، ومحاكاةٌ لهذهِ البيئة
التي صاغتْ أفكارَك وشكّلت رُؤَاكَ ووجّهت آراءَك وحدّدت أذواقَك ونمّطَتْ
سلوكياتِك، ورسمتْ مساراتِكَ، فإذا تمرّدتَ على نظامِها ومنظُومتِها القيميّة
فأنتَ لا تعبِّرُ كذلك إلاّ عن ذاتِكَ التي تمرّدت لحظة تمرّدها لسببِ مُعيّن أو
ردّ فعلٍ مُحدّد.
نخلصُ من كُلِّ ذلِكَ أن ما يتمخّضُ أحياناً من
عقلِكَ ليست محاكمة عقلانيّة خالِصة بل محاكاةٌ خالِصة لما ورثته مِنْ آبائِكَ
وأجدادِكَ، وترجمة فوريّة من قاموس بيئتِكَ التي ربّتَك في أحضانِها، وغرست في
عقلِكَ أبجديّات تفكيرِكَ، أو هو ردُّ فعلٍ آلي ضِدّ شيءٍ مُعيّن أثار حفيظتَكَ،
وجعلكَ تفكِّر بعكسِ ما يُفكِّر به مجتمعُكَ ككلّ، وهذهِ البيئة الخارجيّة المحيطة
بك إنّما تتمثّلُ في مؤسسات التنشئة الاجتماعيّة ووسائلها من رياض الأطفال،
والمدرسة، والكلية، ووسائل الإعلام، والرياضة، والدّين الّذي يُؤدّي دوراً فاعِلاً
في حياةِ الإنسان وتوجيهه، حتّى إن يورغن هابرماس، وتشارلز تيلر، وكورنيل ويست
حرّروا كتاباً في هذا المجال أسموه "قُوّة الدين في المجالِ العام" في
الوقتِ الّذي نجدُ في العديد من الدول العربيّة والإسلاميّة تراجُعاً ملحُوظاً في
المظاهِر الإسلاميّة، رُبمّا نظراً لأن الحركاتِ الإسلاميّة تعرّضت في الآونة
الأخيرة إلى موجاتٍ مُمنهجة من القمعِ والتنكيلِ والتحجيمِ والاضطهادِ والملاحقةِ
والمضايقة الأمنية. فما نريدُ أن نقول هنا إنّ الإنسان مهما كانت ثقافته أو معرفته
مُوَجّه من قبل البيئة التي نشأ فيها، ومُنمّط في أروقة المؤسسات الاجتماعيّة التي
تسهمُ في صياغة أفكارِه، وتشكيل عقليتِه وتحديد توجّهاتِه، وقد لخّص هذهِ الفكرة
الرسوُل (عليه الصّلاة والسّلام) بقولِه: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)([37]).
ومعنى ذلك أنّ الإنسان مفطورٌ على الإسلام بالقوّة لكن لا بُدّ من تعلّمه بالفِعْل([38]).
ويحسنُ بنا هنا أن نعرّج إلى رأي "شحرور" في هذهِ المسألة، وهو ما
يتجلّى فيه فهمه القاصِر المسطّح، وذلِكَ في اعتقادِه بوجُودِ تعارُض بينَ عِلْمِ
الله بما سيفعلُ المرءُ في المستقبل وبينَ حريّة اختيار الإنسان، وهو لا يكتفي
بذلِكَ، بل يسخرُ ويهزأُ بالاعتقادِ بعِلْمِ الله المستقبليّ، ويُسمِّيه
بالكوميديا الإلهيّة([39])،
فيقول: "أنّه لو كان يدخلُ في عِلْمِ الله منذُ الأزل ماذا سيفعلُ
"زيد" في حياتِه الواعية، وما هِيَ الخيارات التي سيختارُها
"زيد" منذُ أنْ يُصبِحَ قادِراً على الاختيارِ إلى أنْ يموت. فالسُّؤالُ
لماذا تركَهُ إذا كان يعلمُ ذلِك"([40]).
فإذا كانتِ الإجابةُ على القولِ إنّ "زيداً" هو الّذي اختارَ لنفسِه
هذهِ الأفعال. فإنّ السيِّد المؤلِّف يردُّ قائِلاً: "إنّ هذا الطّرْحَ لا
يتركُ للخيارِ الإنسانيّ الواعِي معنًى، وإنّما يجعلُه ضَرْباً مِنَ الكوميديا
الإلهيّة، مَهْمَا حاولْنا تبريرَ ذلِك"([41]).
والحقُّ أنّ هذهِ المسألة هِيَ مِنَ
السذاجةِ بحيثُ لا تحتاجُ إلى مثلِ هذا النِّقاش، ولا ندري كيفَ فَهِمَ السيِّد
الباحِث أنّ عِلْمَ الله المسبق لأفعالِ الإنسانِ يتعارَضُ مع حريّة اختيارِ
الإنسان، بَلْ لا ندري كيف سنبسطُ لهُ المسألةَ حتّى يفهمَها. تُرى لو استطاع
"زيدٌ" أنْ يُشاهِدَ فِلْماً لَمْ يُشاهِدْهُ أحدٌ سِوَاه مِنَ البَشَر،
ثمَّ عُرِضَ هذا الفِلْمُ فيما بعد أمامَ النّاسِ، فإذا بـ"زيدٍ" يقول
إنّ البطلَ سيفعلُ كذا، وكذا، وإنّ رفيقَهُ سيختارُ كذا، وكذا، وإنّ خصْمَه سيكونُ
منه كذا، وكذا، فهَلْ عِلْمُ "زيد" المسبق بتفاصيل الأحداث وبكيفيّتِها
هو الّذي أجبرَ أصحابَ هذهِ الأحداث أنْ يفعلُوها؟!([42])،
ونضرِبُ مثالاً آخر فنفرضُ أنّ قِسْماً مِنْ أقسامِ الشرطة استطاع - بفضلِ عناصِره
السريّة - أنْ يعلمَ بتفاصيل عمليّة سطو ستجري مِنْ قبلِ عصابةٍ ما بعدَ عِدّة
أيّام، فاستعدّت الشرطة لذلِكَ ونصبتْ كميناً، وفعلاً جاءتِ العصابةُ وقامتْ
بالسطو، ثمّ قبضتْ عليها الشرطةُ بالجرمِ المشهُود.. فهَلْ عِلْمُ الشرطةِ المسبق
بما ستفعلُه العصابةُ هو الّذي أجبر الأخيرة على السّرقة والسّطو؟ وهَلْ تعارض
علمُ الشرطة المسبق مع حريّة اختيار العصابة. إنّ العِلْمَ صِفةٌ كاشِفةٌ لا
مؤثِّرة، وهذهِ الحقيقةُ معروفةٌ ما كان يجدرُ أنْ يجهلَها السيِّد المؤلِّف. ولا
نظنُّ بعد شرحِنا أنّ ثمةَ عاقِلاً يعتقدُ أنّ الاطّلاع على أحداثِ المستقبل
يتعارضُ مع حريّة اختيارِ الإنسان([43]).
الشطط العقليّ وإنتاج العبثِ والفوضى
هذا، وإنّ الشططَ العقليَّ قد يدفعُ
الإنسان إلى الخوضِ في قضايا فارغة لا تُجْدِي نفعاً ولا تُسْدِي خيراً؛ لأنّ
العقل إذا اشتطّ وغالى وتعسّف وتجاوز حدَّهُ المعقُول، وتُرك لهُ الحبلُ على الغارِب
قد يُودي به إلى إنتاجِ فكرٍ أقربُ إلى الجنون، وتقديم تخريفاتٍ وشطحاتٍ هي أقربُ
إلى العبثِ والسّفاهة، والعته والتّفاهة! وقد وجدنا العديد والعديد مِنْ هذهِ
النماذج الفكريّة التي كانت تفكِّر بعقلٍ مؤمِن وفكرٍ إيمانيّ تحوّلت إمّا إلى الجنون
وإمّا إلى الإلحاد بعد أنْ فقدتْ بوصلةَ حياتِها؛ وقد غذّى هذا الضياع والتية تلك
الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية التي عصفتْ بالمنطقة في السنواتِ الأخيرة،
فوجدنا الإنسان في دوّامة أزماته النفسيّة القاتلة يُلقي اللّومَ على الدّين
عمُوماً والإسلامِ خصُوصاً، وكأنه هو سببُ تقهقرنا الفكريّ، وعالة تراجعِنا
الحضاريّ، حتى وجدنا مؤلفات من قبيل (الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات) لعبدالله
القصيمي، الذي اشتطّ به عقلُه وأورده موارد الهلاك النفسيّ، فانحدر من قِمّة
السلفيّة إلى وَهْدةِ الإلحاد، حتّى تمرّد على منظومة القيم ككل، فهو في كتابهِ
هذا يستعرضُ مشكلة الشرّ في العالَم الإسلاميّ، ويسعى سعياً مُستميتاً لا هوادة
فيه إلى نزعِ الاحترام عن كلِّ القيم الإسلاميّة والإيمانيّة التي يؤمنُ بها
المسلمون وغيرهم من الديانات السماوية الأُخرى على مشارقِ الأرضِ ومغاربها، وتجدُ خلال
قراءتِكَ الكتاب أنّ المؤلِّف قد فَقَدَ الأمل كامِلاً من نهضةِ الإنسان ككلّ من
كبواتهِ الحضاريّة ومن نزعاته الشريرة، ولهذا تراهُ يستميتُ في التلويح بمعاوله
الفكريّة في تقويض بَلْ تدميرِ كُلّ القيم التي تواضعتِ الإنسانيّة على الإيمان
بها، وكأني به يُقدِّم خَرَفاً معرفيّاً في قالبٍ منطقيّ قد تجده مقبُولاً لدى
الدهماء والسّذج، ولكن هيهات أن يكون مقبُولاً لدى أناسٍ معرفيِّين غذوا عقولَهُم
برحيقِ الإيمان العميق. فالقلقُ الوجوديّ الذي انجرفَ هذا المفكِّر في دوّامتِه
العنيفة جعلَهُ يسيرُ في تفكيرهِ من غير هُدى ولا كتابٍ مُنير، فتجدُ المغالاة في
طرحهِ بَلِ الإسراف في القذفِ والتشهيرِ بالإنسانِ والقيمِ والمبادئ الإنسانيّة
النبيلة، فالملاكُ عنده قد تحوّل إلى كائنٍ منزوعٍ من علامات الرحمة وأمَاراتِ
الشفقة؛ لأنهُ هو الذي يتسبّبُ في نشرِ الآفات والأوبئة والعاهات والبراكين والزلازل
والفيضانات التي تودي بآلافِ الأرواح([44])،
ويدّعي أنّهُ بطَرْحه هذا هو أوّل من طرقَ هذهِ المسألة وبهذهِ الصورة الغريبة
الفريدة، ناسياً أنّ للكون سننَه وقوانينُه ونواميسَه التي وضعها الباري - عزّ
وجلّ - لغاياتٍ جليلة وحِكَمٍ جميلة قد لا نعرفها إلاّ في أوانِها، كما هو شأن
الكثير من الأمور التي تظلُّ مجهولةً لآمادٍ بعيدة ثمّ يستكشفها الإنسان الّذي
أُوتي مقدرةً خلاقة وزُوِّدَ بعقلٍ فريدٍ فاعِل لا يتوانى في كشف العديد والعديد
من المجهولات في هذا الكونِ الواسع الفسيح الرّحيب، ولا يأل جهداً في تعريةِ
المخفيات وإيضاح الغامضات، فالطبيعة أحياناً تُحْدِثُ هذهِ التغييراتِ لدفعِ فكرِ
الإنسان من جديد وإثارته وتعليمه وتلقينه كيف يُواجه الطبيعة وكيف يصنعُ الحضارة
من جديد، وكيف يبتكرُ ما يتيحُ له حمايةَ نفسهِ من خيراتِ الطبيعة التي تتهادى على
شكلِ فيضانات وزلازل وأعاصير عاتية، فالحاجةُ أمُّ الاختراع، فنحنُ رُبما لا نجدُ
في الفيضانات ولا الزلازل ولا الأعاصير إلاّ الوجه المدمِّر ولا نجدُ فيها الوجه
المشرِق المؤثر، تلك الطبيعة التي تتباهى بنفسها وتتهادى كسمفونيّة رائعة تذكِّرنا
بسمفونيّات بيتهوفن وباخ وموزارت وانطونيو فيفالدي وناني وغيرهم، وقد نخلص من
أفكارِه أنّ الإنسان في أصلهٍ مشروعٌ فاشِل، والحياة فانية، ومشكلة الشرّ دائمة،
والسلام معدوم، والرحمة والشفقة رياء وإعلام، والغنى طاغٍ، والظلم ليس له حدود،
والأنانية قاتلة، وهو في نزوعِه هذا يمثِّلُ انهزاماً نفسيّاً كاسِحاً، وهُزالاً
روحيّاً مريراً، وقلقاً وجوديّاً عقيماً، بَلْ وعودةً مُؤسية إلى الإلحاد من جديد
تحت مُسمّيات جديدة ويافطات مُتجدِّدة. هذا هو نِتاجُ العقلِ الطّائِش إذا
أُرْخِيَ لهُ العَنان، ومُنحت لهُ الحريّة المطلقة، هذا هو العقل الّذي يتجاوزُ
نفسَه بنفسِه، ويتحوّل إلى آلةٍ صمّاء لإنتاجِ العَبَثِ والفوضى، ومِنْ ثمَّ تسويق
الأحكامِ الاعتباطيّة، وترويج الأفكارِ الانتقائيّة!
الأحاديث النبويّة تحت رحمةِ التعميم
والانتقائيّة!
وهذا ما فعلَهُ "شحرور" بالضّبط في كتابهِ المذكُور الّذي حكمَ
فيه على الأحاديث بتعميمٍ وانتقائيّة بَلْ وبأحكامٍ إسقاطيّة، وهذا الكتابُ الذي
يعدّ آخر ما كتبه الآن، ما هو إلا تفصيلٌ لِمَا ذُكِرَ "مُختصراً" في
"الكتاب والقرآن" حول السُنّة، هذا وقد "عمد شحرور إلى إيراد كثير
من الأحاديث، بغضِّ الطرف عن أسانيدِها أو متونِها، ويُبيّن تناقضاتها مع التنزيل
الحكيم؛ فكثير من الأحاديث وُجدت لتبرير دوافع سياسية أو أيديولوجية"([45])،
فقد زعم أن الأطراف السياسيّة مدى القرون الخمسة عشر الماضية قد استخدمت الحديث
لأغراضٍ سياسيّة بحتة لإثبات شرعيّتِها وتثبيت حُكْمِها، وذلك من خلال
"التوظيف الانتقائيّ للحديث النبويّ كسلاحٍ يحسمُ النزاعاتِ مِنْ خلال إثباتِ
مزاعِم أحد الطّرفين، وإسباغ غطاء الشرعيّة عليها"([46])،
وفي هذا تعميمٌ وحكمٌ إسقاطيّ جائر بحقِّ الصحابة الذين كانوا يتورّعون ويحتاطون
كثيراً في نقلِ الأحاديث، فضلاً عن تعظيمِ الحديث وتوقيره، والإقلال من الرواية
والتحرّز فيها احتياطاً، فكيف بتوظيفها وتحميلها ما لا تحتمل. و"شحرور"
في شبهته هذهِ يعتمدُ على أدلة المستشرقين مِمّن زعمُوا أنّ الحديث بقي مائتي سنة
غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرّر المحدِّثون جمع الحديث، وقد ردّد عددٌ
من المستشرقين هذه الشبهة منهم المستشرق المجري اجْنَتْس جُولْدْتْسِيْهر(1850 -
1921)، والنمساوي لويس شبرنجر (1813 - 1893م)، والهولندي رَيِنْهَارْت دُوزِي
(1820- 1883م)، فقد عقد "جولدتسيهر" فصلاً خاصّاً حول تدوين الحديث في
كتابه "دراسات إسلامية " وشكّك في صِحّة وجود صُحف كثيرة في عهد الرسول (صلّى
الله عليه وسلّم)، ورأى "شبرنجر" في كتابه"الحديث عند العرب
"أن الشروع في التدوين وقع في القرن الهجري الثاني، وأنّ السُنّة انتقلت
بطريق المشافهة فقط، أمّا "دوزي" فهو يُنكر نسبة هذه "التركة
المجهولة" - بزعمه - من الأحاديث إلى الرسُول (صلّى الله عليه وسلّم).
المستشرقون والتشكيك في حُجيّة الحديث
النبويّ
وقد أراد المستشرقون من وراء هذه
المزاعم إضعاف الثقة باستظهار السنة وحفظها في الصدُور، والتشكيك في صِحّة الحديث
واتهامه بالاختلاق والوضع على ألسنة المدوِّنين، وأنهم لم يجمعُوا من الأحاديث إلا
ما يُوافق أهواءهم، وصارُوا يأخذون عمّن سَمِعُوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول
الواحد منهم: سَمِعْتُ فلاناً يقول سَمِعْتُ فلاناً عن النبـيّ(صلّى الله عليه وسلّم)،
وبما أنّ الفتنة أدّت إلى ظهور الانقسامات والفِرَق السياسية، فقد قامتْ بعضُ الفِرَق
بوضع أحاديث مزوّرة حتى تثبت أنها على الحق([47]).
أمّا الدارس لتاريخ السُنّة فيقول: نعم إنّ السُنّة لم تُدَوَّن إلاّ على رأس
المائة الأولى الهجرية إلاّ أنّ هذا لا يفيدُ أنّها لَمْ تكتب طيلة هذا القرن؛
فالتدوين شيء والكتابة شيء آخر.فالتدوين: ترتيب المعلومات، بمعنى أن ترتب الأحاديث
على موضوعاتها أو بحسب الراوي الأعلى، وكُلّ ديوان فمعناه الكتاب الذي رتبت مادّته.أمّا
الكتابة فهي: مُطلق خط الشيء.وعليه فقول العلماء: إن السُنّة لَمْتُدَوّن إلاّ على
رأس المائة الأُولى، معناه أنه لم تظهر الكتب المرتّبة، والمراجع المصنَّفة.
أمّامُطلق الكتابة - يعني دون ترتيب على الأبواب - فهذا موجُود ومتوفّر للسنة في
مجالس رسُول الله (صلّى الله عليه وسلّم)؛فلقد كتب(صلّى الله عليه وسلّم) كتباً
وأرسلها إلى حُكّام البلاد المجاورة، وكتب كتباً لعُمّالِه بيَّن فيها الكثير من الأحكام،
وكتب الصحابة أمامَهُ، وأقرَّهم (صلّى الله عليه وسلّم)، وأمر بالكتابة لبعضِهم([48]).
مغزى الحظر المبكر لكتابةِ الحديث
ومقاصده
والحق أنّ حظرَ النبـيّ (عليه الصّلاة
والسّلام) "كان يشيرُ إلى منعِ الحديثِ على الصّحيفةِ نفسِها التي اعتادُوا
أنْ يُدَوِّنوا عليها القرآن"([49])،
ويبدُو هذا التفسيرُ مُقنعاً؛ لأنّ ذكرَ كلمة قُرآن مرّتين في نصّ منع كتابة
الحديث، وأكثر من هذا فحقيقةً أنّ السّورَ القرآنيّة كانتْ لا تزالُ في مرحلةِ
التنزيلِ والوحي ولَمْ يكتمِلْ بعدُ نصُّه النهائي، وكان عُرْضةً للاختلاطِ
بأقوالِ النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم)؛ لأنّه النّاطِق بلسانِ كُلٍّ مِنَ القرآن
والحديث، يجعلُ التّفسيرَ السّابق مقبُولاً([50]).
ومِمّا لا شكّ فيهِ أنّ هُناكَ شبه إجماع على أنّ منع كتابة الحديث قَدْ نُسِخَ
بالتّصريح بجوازِ كتابتِه، وتمّ كتابةُ بعضِ أحاديث النبـيّ (صلّى الله عليه
وسلّم) في أُخرياتِ حياتِه. فالدّافِع الأساسيّ وراء حظرِ النبـيّ (صلّى الله عليه
وسلّم) لكتابةِ أقوالِه، هو المحافظةُ على نَقَاءِ النصِّ القرآنيّ، ففي المرحلةِ
الأُولى من نزولِ الوحي كان هُناكَ خوفٌ مِنْ أنّ كلماتِ النبـيّ (صلّى الله عليه
وسلّم) رُبّما تختلِطُ بالنصُوص القرآنيّة([51]).
هذا، ويدعّي أنّ هُناك جملةَ عوامِل أسهمتْ - حسب رأيه - في تضخيمِ كُتلةِ
ما يُسَمّى "الحديث النبويّ" ويذكرُ من ذلك إضافة أحاديث الصحابة
وتابعيهم وأئمة المذاهب وتلاميذهم إلى ما قالَهُ النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم)،
في كتبِ أهلِ السُنّة والجماعة، وفي كتبِ أهلِ الشيعة([52]).
والسؤال الذي ينهضُ هنا ترى: ما العيبُ في ذلِكَ إذا كان الصحابيّ حُجّة عند
علماءِ الحديث؟! أليس في أقوالهم إضاءاتٌ للحديث وتفسيراتٌ عليها وتبيين لمقاصدها
ومضامينها التي قد تخفى عن غيرِ أهل العلم، كما نجدُ ذلِكَ سواءً بسواء في
المدوّنات التشريعيّة والمتون القانونيّة التي تمّ شرحها بالعديد والعديد من
الحواشي والشروحات والتفسيرات؟! أمّا إذا كان قصدُه أن أقوالَهم قد تحوّلتْ إلى
مرتبةِ الحديثِ نفسِها ففي هذا تقوّل لا يقولُ به عالِم يحترمُ نفسه ويحترمُ علمه
الّذي يدعو إليه، إذ كيف عرفَ هو أنّ هذهِ المرويّات تعودُ إلى الصحابة والتابعين
وأئمة المذاهِب وتلاميذهم، أمّا عُلماء الحديث فقد كان هذا الأمرُ خافياً عليهم،
حتّى ظهر لهم في القرنِ الحادي والعشرين مَنْ يميّز لهم أقوال النبـيّ (عليهِ
الصّلاة والسّلام) من أقوالِ الصحابة والتابعين وأئمةِ المذاهبِ وتلاميذهم! و"شحرور"
في هذا متأثرٌ بالمستشرق (جولدتسيهر) الّذي يُقرِّر أنّ السُنّة لا تقتصِرُ على ما
صحَّ عنِ النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم)، بَلْ دخلها ما جاءَ عنِ الصحابة (رضي
الله عنهم)، فهو ينصّ على أنّ السُنّة هي جوهرُ العادات، وتفكير الأُمّة
الإسلاميّة قديماً([53]).
رواية الحديث بالمعنى وتضخيم كتلة
الحديث!
ويضيف أيضاً على العوامِل التي أسهمتْ في تضخيم كتلةِ الحديث: رواية الحديث
بالمعنى، على الرّغم من تأكيدهِ أنّ القومَ في ذلِكَ انقسمُوا قسمين: قسمٌ تشدّد
في السّماع، وأوجبَ التمسّك بألفاظِ الحديث كما قالها النبـيّ (صلّى الله عليه
وسلّم) بلا تبديلٍ ولا تغيير، ومن دون نقصٍ أو زيادة، ومن هؤلاءِ محمّد بن سيرين،
والقاسِم بن محمّد، ورجاء بن حيوة([54])،
وحجّتُهم في ذلِكَ قولُه (صلّى الله عليه وسلّم): (نَضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي
فوَعَاها وحَفِظها وبَلّغها، فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه). فقوله (عليه
الصّلاة والسّلام): (نَضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فوَعَاها وحَفِظها وبَلّغها)
يُوضِّح عظم أهميّة الرواية، وقوله:(فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه) فيه
بيان أهميّة الدراية. ويفيد قوله: (فرُبَّ حامل فِقْه إلى مَن هو أفقه منه)، أنَّ
راوي الحديث ليسَ الفقه من شرْطه، إنَّما شرْطُه الْحِفظ، أمَّا الفَهم والتدبُّر
فعلى الفقيه، وهذا أقوى دليل على ردِّ قَبول مَن اشترط لقَبول الرواية كون الراوي
فقيهاً عالِماً([55])،
هذا أوّلاً، وثانياً: لقد تميّز العربُ بامتلاكِهم ذاكرة حافظةً مُمتازة، على
الرّغم مِنْ انتشارِ كتابة الأقوالِ المأثورة، والشِّعْر، والصحيفة في العصر
الجاهليّ، إلاّ أنّ الثقافةَ العربيّةَ كانتْ شفهيّةً أساساً، وتميَّزَ العربُ
بقدرةٍ فائِقة في الحِفْظ معروفة للطُلاّب مِنْ دارسِي التّاريخ. ونحنُ نعرفُ
جيِّداً أنّ العربَ قبلَ الإسلامِ قدِ اعتادُوا أنْ يحفَظُوا عن ظهرِ قلب جداول
الأنساب والقصائِد الطّويلة الخاصّة بالأعمالِ الحربيّة لقبيلتِهم، وحتّى بَعْدَ
ظهُورِ الإسلام، فإنّ ذاكرتَهم التصويريّة لا تُبارى على مدارِ التّاريخ... وبسبب
هذهِ الذاكرة الخارِقة للعادة، لَمْ يكن غريباً ألاّ يُظْهِرَ العربُ اهتماماً ملحُوظاً
بالكتابة، وخاصّة بعد ظهُورِ الإسلام، وبعد الموقِف المشجع للنبـيّ (صلّى الله
عليه وسلّم)، وحتّى في الوقتِ الّذي أصبحتْ فيهِ الكتابةُ شائعةً إلى حدٍّ ما،
استمرّتِ الذاكرةُ تلعبُ دوراً حيويّاً، فسنن النبـيّ (عليه الصّلاة والسّلام)
وأحاديثه وكثير مِنَ المعلُومات الأُخرى المهمّة كانتْ تُحْفَظ في مخزنِ الذاكرة.
وأعمال السِّير الذاتية تحتوي على أسماءِ العشراتِ مِنْ عُلماءِ الحديث الّذين تميّزُوا
بحفظِ الآلافِ مِنَ الأحاديث التي كانت كبيرةً جدّاً لدرجةِ يتعذّر معها تصديقهم،
إلاّ أنّ النصُوصَ تُثبت أنّهم كانُوا يمتلِكُون ذاكرةً واعيةً قويّة. وحقيقةً أنّ
حِفْظَ عُلماء الحديث لعددٍ كبير مِنَ الأحاديث عن ظهرِ قَلْب ليستْ موضِع
استغراب، لَوْ نظرْنا إليها مِنْ منظُورٍ تاريخيّ؛ فالقانونُ الطبيعيُّ يقول: إنّ
الاستخدامَ المستمرّ لملكاتٍ إنسانيّة مُعيّنة يجعلُها أقوى وأكثر استجابةً، ولأنّ
العربَ الأوائِل أعطَوا اهتماماً للحفظ. فقد نَمَتْ هذهِ القُدْرة لتصلَ إلى
كامِلِ قُوّتِها، والاستخدام المستمرّ لهذهِ المَلَكة شجّع القدرة على الحِفْظ([56]).
حالات النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم)
من منظور "شحرور"
ويعمدُ"شحرور" إلى التفريق
بين ثلاث حالات للنبـيّ محمّد (صلّى الله عليه وسلّم)، ألا وهي:
-محمّد الرّجُل، وهذه الحالةُ ليس
مطلوباً فيها الاقتداء أو الاتباع والتأسي، مثل لعق الأصابع بعد الانتهاء من
الطعام، وخصف النعل، وحب الطيب والنساء، والاحتجام في المسجد، والاحتجام عموماً،
وتفضيل الثياب القصيرة واجتناب الطويلة...إلخ. فهذه الأحاديث وأمثالها ليس مطلوباً
فيها الاقتداء والاتّباع.
وهو في هذا متأثر بالمستشرق "جولدتسيهر"
الّذي طرح "شبهة العادة المقدّسة"، حيث زعم هذا المستشرق أنَّ السنَّة
النَّبوية هي جوهرُ العادات، وأنها تفكير الأمَّة الإسلامية قديماً، وتسمَّى
بالعادةِ المقدّسة والأمر الأوّل، كذلك فهو يصفُها بأنَّها "العواطِف القائمة
مقام غيرها"... مع العِلْمِ بأنَّ "جولدتسيهر" لم يكن الوحيد الذي
حاولَ تلك المحاولات، بل شاركه معاصرُه "صموئيل مارجليوث" (1858م -
1940م) حين أرجعَ معنى السنَّةِ إلى العُرْف القائم، ووافقه على ذلك جوزيف شاخت
(1902م - 1969م)، وسمَّاها بالأعرافِ السَّائدة، وغيرهم على مرِّ العصُور...والمعلوم
أنَّ حقيقةَ السنَّةِ عند المسلمين متجوهرةٌ في الطَّاعةِ المفروضة للنبـيّ(صلَّى
الله عليه وسلَّم - وليس في اللفظِ اللغويّ الذي انتزعوا منه حقيقةَ أقدميته، فلا
يشكُّ أحدٌ أنَّ السنَّة لها معانٍ في اللغةِ مُتعدِّدة([57]).
وقد ذكر
(جولدتسيهر) أنّ السُنّة هي العادات؛ فقال: السُنّة: العادة المقدّسة والأمر
الأوّل، والشكلُ الّذي وصلتْ بهِ إلينا هو (الحديث)، فهُما ليسا بمعنى واحِد،
وإنّما السُنّة دليلُ الحديث؛ فهو عبارةٌ عن سلسلة مِنَ المحدّثين الذين يوصلون
إلينا هذهِ الأخبار والأعمال المشار إليها طبقةً بعد طبقة، مِمّا ثبت عند الصحابة
على أنّهُ حازَ موافقة الرسُول في أمُورِ الدّين والدُّنيا... والسُنّة هي جوهرُ
العادات وتفكير الأُمّة الإسلاميّة قديماً، وتعتبرُ شرحاً لألفاظِ القرآن الغامِضة
التي جعلتها أمراً عمليّاً حيّاً([58]).
لقد توهّم المستشرقون أو تعمّدوا من
أمثالِ (جولدتسيهر وشاخت وغيرهما) في معنى السُنّة، فظنُّوا أنّها من باب العادات والتقاليد الموروثة مِنَ
الجاهليّة، واستشهدُوا على ما ذهبُوا إليهِ ببعضِ العاداتِ التي أبقاها الإسلام
مِنَ العاداتِ القديمة، وزعمُوا أنّ السُنّة ليستْ مِنْ مصادِر التشريع في
الإسلام، فإنّ الأوائِل لم يكونوا يرجعون إليها في المسائِل الدينية والفتاوى
الشرعيّة حتى ظهرَ بعضُ المسلمين في أواخِر القرن الثاني وأوائِل القرن الثالِث،
ونادوا بحجيّة السُنّة، وقد عقد لواء هذهِ الشبهة (جولدتسيهر)، لِذا فإنّ عرضَ شبهاتهِ التي أثارها، وما زاد عليه (شاخت) أيضاً ونقضها
هو نقضٌ لشبهاتِ الطّاعنين في السُنّة([59]).
- محمّد الرسُول، ويؤخذ من هذه
الأحاديث ما لا يتعارض مع التنزيل الحكيم، مثل: من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة
الكتاب، فهي خِدَاج([60])،
وإن الله يكره العبث في الصلاة، والرفث في الصيام، ومن مات وعليه صيام صام عنه
وليه، ومن غشّنا فليسَ منا، واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان...إلخ.
- محمّد النبـيّ، و"هذه الأحاديث
الواردة في مقام النبوة لا يمكن أخذها كمصدر للتشريع واتباعها على الرّغم مِنْ
أنها متوافقة مع التنزيل الحكيم، لأنها جاءت وفق شروط موضوعيّة مخصُوصة وموجّهة
لمن عاصره من أفراد مجتمعه فقط. مثال ذلك، الأحاديث المتعلِّقة بموضُوع النكاح
والطلاق في تنظيم العَلاقات الاجتماعيّة([61]).
وقد تحدّث عن هذا الأمر قبلَه الدكتور زكي مبارك؛ فقال: "إنّ شخصيّة محمّد
لَمْ تُدْرَس حقّ الدّرْسِ إلى اليوم في البيئاتِ الإسلاميّة؛ لأنّ المسلمين
يجعلُونه رسُولاً في جميعِ الأحوال، فهو لا يتقدّم ولا يتأخّر إلاّ بوحي مِنَ
الله، ولا يأخذ ولا يدعُ إلاّ بإشارةٍ مِنَ جبريل، ومعنى ذلِكَ أنّ شخصيّةَ محمّد
في جميعِ نواحيها شخصيّة نبويّة لا إنسانيّة"([62]).
وكلاهما متأثرٌ في الطرح والمنهج بأطروحات المستشرقين ومناهجهم.
وإذا راجعنا كتاب"الفروق اللّغوية" بين المفردات لأبي هلال
العسكريّ نجدُ الآتي "إن النَّبـي إلاّ يكون صاحب معجزة… والنُّبوة يغلب
عليها الإضافة إلى النَّبـي، فيقال نبوة النَّبـي؛ لأنّهُ يستحِقّ منها الصِّفة
التي هي على طريقة الفاعِل، والرِّسالة تُضاف إلى الله؛ لأنّهُ المرسل لها".فعدد
من الأنبياء جمعُوا بين النُّبوة والرِّسالة، ورسالة الإسلام: القرآن والكتاب
والفرقان، ورسائل سابقة عُرفت بأسمائها وبالصُّحف، والسُنّة: أقوال النَّبـي
الرَّسول وأفعاله؛ لأنّ النبـيّ والرَّسول واحد، فكيف تُصبِح سنتان؟ أما الرِّسالة
فهي الكتاب السَّماوي([63]).
تقسيمات مُختلقة ما أنزل الله بها من
سُلطان!
فـ"شحرور" هُنا إنّما اخترع تقسيماتٍ من عندِ نفسِه ما أنزلَ بها
مِنْ سلُطان، وقد وصفَ "طارق زيادة" منهجه بأنه "طرافةٌ في
التقسيم، وغرابةٌ في التأويل"([64])،
ويمكن الاعتراضُ منطقيّاً على تقسيمِه المتهافِت، والمعلُوم أنّ الاعتراضاتِ تكونُ في ثلاثة أمُور؛ إمّا اعتراضٌ على
التعريف، أو اعتراضٌ على التّقسيم، أو اعتراضٌ على البُرهان، فأنا حينما أعترِضُ
على إنسانٍ لا يجوزُ لي أنْ أعترِضَ على كُلِّ شيء، ولكنّي أعترِضُ إمّا على
التعريف؛ فأقول: إنّ تعريفَكَ غيرُ صحيح؛ لأنّهُ دخلَ فيهِ ما ليسَ منه، أو خرجَ
منه ما هُوَ منه! أي: إنّ تعريفَك غيرُ جامِعٍ ولا مانِع، أو اعترض على التقسيم؛
فأقول: إنّ تقسيماتِكَ غيرُ محصُورةٍ، لو قالَ شخصٌ: الكلمةُ إمّا اسمٌ وإمّا
فعلٌ، أعترِض وأقول: إنّ تقسيمَكَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنّهُ لم يحصُرْ كُلَّ الأجزاء، أو
يقول: الكلمةُ اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ وظرف، أعترِض وأقول: تقسيمُكَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنّك
أدخلتَ فيهِ ما ليسَ منه([65])،
وقد ثبتَ في عمليّةِ الاستقراء - وهو معرفةُ الكُليّاتِ بعد معرفةِ الجزئيّات -
أنَّ الكلمةَ تنقسُم إلى اسمٍ وفعلٍ وحرف، أو أعترِض على البُرهان؛ أي: القياس، والبُرهان: هو قياسٌ مُؤلّف من يقينياتٍ ينتجُ يقيناً بالذاتِ
اضطراراً. وقد أطلقَ "أرسطو"لفظَ البُرهان على "الاستنتاجِ العقليّ":
وهو ما تلزمُ عنه ضرورةً النتيجة عن المقدّماتِ (المبادئ). والبُرهان: هو عمليّةُ استدلالٍ
تهدفُ إلى تأكيدِ صدقِ (أو كذب) قضيّةٍ ما. والـ(استدلال) على زِنة (استفعال)؛ وتعني:
الدّلالة على الطّلب. والاستدلالُ هو: "طلبُ الدّليل لإثبات المطلُوب".
والاستدلالاتُ التي يُبنى عليها البرهانُ، والتي تترتّب عليها القضيّةُ منطقيّاً تُسَمَّى
"الحُجج". ومعروفٌ في المنهج العلميّ لكُلِّ العلُوم النظريّة
والتطبيقيّة أنّ رفضَ أيّ فكرةٍ أو واقعة مُبرهن عليها لا يتمّ إلاّ بنقضِ
أدلّتِها وإثباتِ ضعفِها، أو الإتيان بأدّلةٍ أُخرى أقوى مِنَ الأُولى ومُخالِفة
لها، وعند ذلِكَ يكونُ رفضُ الواقِعة أو الفكرة منطقيّاً يُؤخذ بهِ، وإلاّ كان
هراءً وسُخفاً وتضليلاً للمتلقِّي([66])،
وأيُّ منهجٍ علميّ يدّعيهِ يقبلُ منه أنْ يكذبَ على اللّغة، ويُخالِف دلالاتِها،
ويزعمَ فيها معانيَ ليستْ فيها؟ وهَلْ هُناكَ استخفافٌ بعقلِ القارئ أكثر مِنْ
ذلِكَ([67])،
على الرّغم من أنّه يدّعي الالتزام باحترام عقلِ القارئ، وفي ذلِكَ يقول:
"فإنّنا حاولنا جاهدين في كتابِنا احترام عقل القارئ أكثر مِنْ احترامِنا
لعواطِفه"([68]).
فـ"شحرور" إذاً في تقسيمه
اللامنطقيّ للقرآن إلى قسمين "القرآن"، و"أمّ الكتاب" يُلغي
دور الرّسُول (عليهِ الصَّلاة والسَّلام)، زاعِماً أنّهُ مُبَلِّغُ نصٍّ ربَّاني
فقط، أمّا تأويلُ قسم "القرآن" فأدّعى "شحرور" أنّ الرسُولَ
لَمْ يَكُنْ عالِماً به، وزعم مفترياً أنّ تأويلَ هذا القسم هو مِنْ اختصاصِ
الفلاسفة وعُلماء الطبيعة وعُلماء فلسفة التّاريخ، وعُلماء أصل الأنواع، وعُلماء
الكونيّات، وعُلماء الألكترونيّات، وزعمَ أنّ هذا القِسْمَ يخضعُ للمفاهيم
النسبيّة الزمنيّة. وأمّا تأويلُ قسمِ "أمّ الكتاب" فادّعى أنّ دورَ
الرسُولِ فيهِ دورُ مُجتهدٍ لأهلِ عصرهِ فقط، وليسَ مُبيّناً لِمَا أنزلَ الله
عليهِ فيما يخصُّ سلُوكَ النّاسِ جميعاً([69]).
ومِنْ هُنا فإننا "لا نستغربُ أنْ يدّعي أحدُهم أنه وحدَهُ القادر على تفسيرِ
القرآن الكريم!! فلقد ادّعى د.محمد السعيد مشتهري، رئيس المركز العالمي لدراسات
القرآن،والحاصِلُ على دكتوراه في الدراسات الاقتصاديّة - أنّهُ ليسَ في طوق رسول
الله (صلى الله عليه وسلّم) أنْ يفسِّر القرآن، ولا في طوق أبي بكر وعُمر (رضــي
الله عنهما) ولا في طوق الطبري والقرطبـي، ولا في طوق ابن كثير والآلوسي، ليس في
طوق هُؤلاء وأمثالِهم تفسيرَ القرآن، وإنما هو وحدَهُ الّذي يُفسِّر القرآن
الكريم!"([70]). فمشتهري
يدّعي صراحةً كما ادّعى شحرُور ضمناً أنّه وحدَهُ الّذي بإمكانِه أنْ يُفسِّرَ
القرآن.
الرؤية العَلمانيّة في التعامُل مع
الشريعة الإسلاميّة
وبالعودة إلى "شحرور"، نجد
أنّه أسّس لنظريّته العَلمانيّة في التعامُل مع الدّين بعزله عن قضايا القانون
والمجتمع والسياسة، من خلال فكرة "سنّة الرسالة" و"سنّة النبوّة"،
كما قرّرها في كتابه "السنة الرسولية والسنة النبوية".فالسنة النبوية - بحسب
شحرور - هي تعليمات خاصّة بعصر النبوة، ولا يمكن تعميمها لتصبح "أحكاماً
شرعيّة" واجبة الاتّباع. وهكذا يتحرّر "شحرور" من الكثير من أحكام
الشرع الثابتة، ويُرسّخ مذهبه العَلمانيّ الّذي يعزل الشريعة عن حياتنا المعاصرة([71]).
فحَوْلَ إحدى آياتِ فَرْضِ الحِجَاب:[يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ
يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ
وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا]([72])
تجدهُ يجيبُ أحدَ السّائلين، وهو عبدالله العُماني، وذلِكَ في موقعه الإلكتروني في
(2) أبريل 2013م؛ قائلاً: "فالآية تخصُّ ذاكَ العصر، والمؤمنين!([73])
هم مؤمنو ذاك العصر، حيث كانت النساء (تخرجن!)([74])
لقضاء الحاجة في العراء ويترصدهن المنافقون، فجاء الأمرُ لدرءِ الأذى عنهنّ،
والعبرةُ التي نأخذها أنَّ لباسَ المرأة يجب ألا يعرضها للأذى الاجتماعي، أي لا
يخرج عن المألوف. وهذا الأمر مُفصّل في كتابي (السنة الرسولية والسنة النبوية)،
فعندما يتمُّ التفريق بين سنة الرسالة وسنة النبوة تُصبِح الآية واضحةً تماماً"([75]).
والسؤال هنا: أي "مألوف"
يقصد؟ وهل ثمّة مألوف واحد أصلاً في بلدة صغيرة فضلاً عن مدينة كبيرة فضلاً عن
دولة وعالَمٍ فسيح؟!لدى أُسرة ما، المألوف هو "التنّورة"القصيرة على ألا
تُصبِح "بيكيني"! ولدى أُسرة أخرى المألوف هو "تنورة" تحت
الركبة وليس فوق الركبة! ولدى أسرة ثالثة يجب أن تصل "التنّورة"
للقدمين.. وهكذا، يحيلنا "شحرور" بتهرّبه من حُكْم الحجاب، الواضح في
القرآن والسنة وإجماع الأمة، إلى تقريرات غير مُنضبطة، لا يمكن الاتفاق عليها، ومن
ثم يُصبح استنباطه لتلك العبرة "أنّ لباس المرأة يجب ألا يعرضها للأذى
الاجتماعي أي لا يخرج عن المألوف" استنباطاً دون معنى أو دلالة واقعيّة،
ويختلف فيه الناس -خارج إطار الشرع- بدون حدود([76]).
الخلط بين سبب النزول وعِلّة التشريع!
وفضلاً عن ذلك، فقد خصّص "شحرور"
حكمَ الجلباب بعصر النبوّة دون دليل على التخصيص، وخَلَط بين "سبب النزول"
و"علّة التشريع"، فجعل سبب نزول الآية هو علّة تشريعها، وأبطل مفعولها
مع غياب العلّة بزعمه! مُتجاهلاً أنّ "أكثر أصُول الشرع خرجت على أسباب"
كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي في "المستصفى"، وكما يقول الإمام علاء
الدين السمرقندي في "ميزان الأصول": "أن عامةَ النصوص نحو آية
الظِّهار واللِّعان والقَذْف والزِّنا والسَّرقة، نزَلَتْ عند وقوع الحوادثِ
لأشخاص معلومين، فلو اختصّت بالحوادث لم تكن الأحكامُ كلها ثابتةً بالكتاب
والسنَّة تنصيصاً، إلا في حقِّ أقوام مخصُوصين، وهذا محالٌ عقلاً، ومخالفٌ لإجماع
الأمَّة، والمعقول يدلُّ عليه، وهو أنّ اللفظَ العامَّ يوجب العملَ بعمُومه، وإنما
يُترك بدليل التخصيص"([77]).
ومن ثمَّ فالقول بتخصيص آيات الأحكام
بالحوادث التي سبقت نزولها هو قولٌ بإبطال عدد هائل من الأحكام الشرعية الثابتة؛
ذلك أنّ معظم هذه الأحكام نزلت على أسباب وبعد حوادث خاصّة، وتقييدُها بها يعني تحويلَ
الشريعة إلى أحداث تاريخية ودفنَها مع انقضاء تلك الأحداث ودوران عجلة التاريخ،
وهي مُمارسة عَلمانيّة صرفة!ولهذا قال الفقهاء إنّ "العبرة بعمُوم اللّفظ لا
بخصُوصِ السّبب"، أي إنّ اللفظ العام هنا يشملُ جميع "نساء المؤمنين"،
في كُلِّ الأماكن والعصُور، وهو ما أكّدته آياتٌ أُخرى ونصُوص حديثية صحيحة كثيرة
وإجماع الصحابة وإجماع الأمة عبر أربعة عشر قرناً.والموضوع يحتاج لتفصيل، لكن
ينبغي الإشارة هنا إلى أن أسباب النزول مهمة في فهم سياق النص، وليس معنى الكلام
إهدارها، ولكن تخصيص الأحكام التي وردت بألفاظ عامّة ووُجّهتْ "للمؤمنين"
أو لـِ"نساء المؤمنين"بأحداث خاصة كانت سبباً في نزولها يحتاج إلى دليل،
وهو ما يفتقد إليه "شحرور"([78]).
على أنّنا نتعجّب هنا أيضاً من كون "شحرور"
يستخدمُ السنة النبويّة الواردة في كتب الحديث، وهو الذي يقول إنّ أقوال النبـيّ
حول المجتمع والسياسة والتنظيم والعادات واللباس والأخلاقيات "غير ملزمة"،
فكيف استخدم أسباب نزول الآية هنا (وهي سنّة نبوية منقولة في الكتب عن صحابته
رضوان الله عليهم)، وجعلها دليلاً على تخصيص الآية بتلك الأحداث؟ إذ لولا أنّه قرأ
هذه الرواية في كتب الحديث ونحوها لَما عرف للآية معنى، ولا عرف لها خصُوصاً
يزعمه! ولكنه استخدمها - بخلاف منهجه "المتّبع"- واستنبط منها "عبرة"
وهي - كما يقول -"أن لباس المرأة يجب ألا يعرضها للأذى الاجتماعي أي لا يخرج
عن المألوف"([79]).
ويرى "شحرور" أيضًا أنّ "كلّ
أقوال النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم) يُؤخذ بها إذا كانت مقبولة إنسانياً"،
فما هو معيار هذه "الإنسانية" لدى "شحرور"؟ ومن الّذي يُقرّر
ما هو "مقبُول إنسانيّاً"، وما هو "غير مقبُول إنسانيّاً"؟!
يتّضح إذن أنّها وسيلةٌ أُخرى يمكنه من خلالها تحكيم أهوائه في الشرع، فالمقبُول
إنسانيّاً هو في الواقع "أهواء" شحرور؛ ما وافق هواه من الشرع أخذ به
واعتبره "مقبُولاً إنسانيّاً"، وما خالف هواه وفكره العَلمانيّ رفضه
واعتبره "غير مقبُول إنسانيّاً"!ومن هُنا نُدرك أنّنا أمام مفكّر عَلمانيّ
بحت، قرّر مرجعيّته وأفكارَهُ ثمَّ توجَّه للقرآن كي يُطوِّع آياتِه؛ لتتلاءمَ مع
هذه المرجعيّة والأفكار([80]).
تشكيكاتٌ في حُجيّة تحريم الخَمْر
وردودها
ويُشكِّك الدكتور شحرور في حُجيّة تحريم الخَمْر،
ويقول: "وتجاوز حدود الله لا يمكن أنْ يكون
فيه أيّ منافع للنّاس؛ كقوله: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ
مَاذَا يُنفِقُونَ قُل ِالْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلّكُمْ
تَتَفَكّرُونَ]([81]). هُنا يبيِّن أنّ
الخَمْر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، فإذا كانت هذه من حدود الله فهل في
تجاوز حدود الله منافع للنّاس؟ هذا أولاً. وثانياً إذا كانت من حدود الله فلقد وضع
حالات سمح فيها بتجاوز حدوده في الطعام: [فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ]([82]). فلماذا قال: [فَمَنِ
اضْطُرَّ] في الطعام ولم تعمّم على الشراب؟ لم يقلها لأنّها ليست من الحدود! وإنما
نصحنا الله بتجنّب الخَمْر والميسر وكره لنا ذلك في قوله: [إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ]([83])،
[إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ
وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ]([84])،
[وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ]([85]). هنا تبيّن لنا أنّ
مَنْ قال إنّ الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق، لأنّ التحريم هو لحدود الله
كقوله: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ]([86]). وأن من يقول إن
الاجتناب أعلى من التحريم، فقوله من باب المزاودة فقط([87]).
هذا المنطق الذي
يتحجَّجُ به "شحرور" في التشكيكِ في حُجيّة تحريمِ الخَمْر يمكن
استعمالُه في كلِّ ما يخطرُ ببال الإنسان، فبإمكان المرءِ أن يُبرّر قتل الإنسان
بغير حق، لأنّ فيه بعضُ المنافع لبعض النّاس، وأن يُبرِّرَ كذلك اغتصابَ الأموال؛
لأن فيه كذلك تحصيلاً لبعضِ المنافع للجانحين إليه، وإنْ يُؤوّل حتى العَلاقة
اللاشرعيّة، لأنّ فيها منافع ماديّة أو معنويّة للطرفين، وهَلُمّ جرّاً، هذا إذا
اكتفينا بظاهر الآية الكريمة: [يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا
إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا]([88])،ويمكننا بناءً على هذا المنطق أنْ نُؤوِّلَ ما
نشاءُ مِنْ مسائِلَ بالتعويلِ على العديدِ مِنَ الأدلّة العقليّة التي لاتكادُ تقومُ
على سوقها، فضلاً عن تبريرِها بالعشراتِ من المعطياتِ الواضحة والحُجج اللائحة؛ لأن
الإنسان كما يُقال لا يعدمُ التبرير، فكلُّ تأويل صحيح أوزائِف يمكن تبريرهُ، وكلُّ
تبريرٍ يمكن تأويله، وكلُّ تأويلٍ يمكن تبريرهُ وهَلُمَّ جرّاً! ولكن إذا عرّجنا
إلى الآية الأخرى؛ وهي قولُه تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ]([89])؛ لاختلفتِ الصورةُ تماماً، فـ(الميسِر) هو القمارُ كما هو
معلُوم، (والأنصابُ) من الأوثان التي تُنصَبُ وتُعبَد، وقولُه (رِجْسٌ) أي نَجِسٌ،
(من عملِ الشيطان)؛ لأنه يَحْمِلُ على هذاالعَمَل فكأنَّهُ عَمَلهُ، والضميرُ في
قوله (فاجتنبوهُ) يمثلُ إحالةً قبليّة إلى "الرجسِ" أو إحالةً إلى "عملِ
الشيطان"، والمعنى: اجتَنِبوا الرِجسَ أو اجتنِبوا عَمَل الشيطان. وفي ذلك
قال الزمخشري في كشافِه: "أكّد تحريم الخَمْر والميسر وجُوهاً من التأكيد؛
منها: تصدير الجملة بـ(إنّما)، ومنها أنّه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنه قوله (عليهِ
الصَّلاة والسَّلام): (شارِبُ الخَمْرِ كَعَابِدِ الوَثن)، ومنها أنّه جعلهما رِجْساً،
كما قال تعالى: [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ]([90])، ومنها أنه جعلهما
من عملِ الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلاّ الشرُّ البَحْت، ومنها أنه أمَرَ
بالاجتناب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً، كان
الارتكاب خيبةً ومحقة. ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التعادي
والتباغض من أصحاب الخَمْر والقمر، وما يؤدّيان إليه من الصدِّ عن ذكر الله، وعن
مراعاة أوقات الصلاة"([91]).
والقصر المستفاد من (إنّما) - بعبارة ابن عاشور –قَصْرُ موصُوفٍ على صِفة، أي إنّ هذه
الأربعة المذكورات مقصُورةٌ على الاتّصافِ بـ"الرجس" لا تتجاوزُه إلى غيرِه،
وهوادعائيّ للمبالغة في عدمِ الاعتداد بما عدا صِفة الرجس مِنْ صفاتِ هذه الأربعة([92]). وهذه هي علةُ تصديرِ الجُملة بـ"إنّما" مع
اقترانها بعبادةِ الأصنامِ. وإذا صحّ ذلك الحكم الذي احتجّ به بعضهم صحّ أيضاً على
حكمِ "الميسر"، و"الأنصاب"، و"الأزلام"؟ فهل يصحُّ
في الأفهام يا ترى أن نتشكّك في حرمة الأصنام أياً كان نوعها. أما قولُه تعالى: [فَهَلْ
أنتُم مُنتَهونَ]([93])،
فقد تضمّن أبلغَ ما يُنْهى به([94]). وقد أكّد
الشوكاني أنّ في قوله: [فَهَلْ أنتُم مُنتَهونَ] زجرٌ بليغ يفيدهُ الاستفهام الدّال
على التقريع والتوبيخ، ولهذا قال عمر (رضي الله عنه) لَمَّا سَمِعَ هذا: انتهينا،
ثمَّ أكّد الله سبحانه هذا التّحريم؛ بقولِه: [وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا]([95])؛
أي مُخالفتهما، أي مُخالفة الله ورسُولِه ([96]).
وإضافةً إلى ذلِكَ
فإنّ "هُناك فرقاً كبيراً بينَ شارِبِ الخَمْر الذي يشربُها لا لاضطرارٍ
يدفعُه إلى شربها، وبينَ الّذي أباحَهُ الله مِنْ طعامٍ محظُور في حالاتِ
الدِّفاعِ عنِ النّفْس مِنَ الموتِ جوعاً؛ لأنّ حياةَ الإنسانِ مِنْ أعزِّ ما في
هذا الوجُود على الله تعالى. لذلِكَ قال في المحرَّماتِ مِنَ الأطعمة: [فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ]، مع الالتزامِ بالبُعْدِ عنِ البغي والعُدْوان
على حدُودِ الله، ومع سلامةِ النية في الاضطرارِ المفرَّغ مِنْ كُلِّ هدفٍ
مُتَدَنٍّ أو تعلّقٍ بمحرَّم. ولا شكّ أنّ الدِّفاع عنِ النّفْسِ البشريّة في
كُلَِّ مجالٍ في الشريعة يبيحُ المحظُور على حين لا اضطرار ولا ضرورة لشربِ الخَمْرِ،
فهي مِنَ الكماليّات وليستْ مِنْ ضروراتِ الحياة"([97]). وما أحرى بنا أن
ننظر هنا كيف يُحرِّف "شحرور" وأمثالُه كلام الله عَنْ مواضعه بتأويلِه
وتبديلِه وتغييره حسب أهوائه وأمزجته المتقلِّبة التي ما أنزل الله بها مِنْ
سُلطان. ولكن إذا أوّلنا القرآن وَفق مقاصدها وسياقها الحقيقي يظهرُ لنا عُقْم
تفسيراته المموَّهة المزيّنة بزُخرفِ القول غروراً. فالقراءة العبثيّة التي انطلق
منها "شحرور" في تفسير النصُوص هي التي سمّاها نصر أبو زيد
"القراءة التلوينيّة المغرِضة"، وهي: "القراءةُ التي تتجاهلُ
السِّياق المنتِج للدّلالة، وتقفِزُ إلى إضفاءِ أيديولوجيتِها الخاصّة زاعمةً
أنّها الدّلالةُ التي تنطِقُ بها النُّصوص، وإخضاع التأويل لأغراضٍ نفعيّة مُباشرة
خاصّة، أمّا القراءةُ التأويليّة المنتِجة؛ فهي القراءةُ التي تستنبِطُ الدّلالةَ
مِنْ خلالِ العودةِ إلى السِّياق، وتنتقِلُ انتقالاً هادِئاً مِنَ الدّلالةِ إلى المغزى...
والعودةُ إلى التراث والنصُوص لاكتشافِ ما سبقَ اكتشافُه تعبيرٌ عن العجزِ العقليّ
والكسل الذهنيّ"([98]).
النحو العربيّ وأثره
الفاعِل في فهم كتاب الله وسُنّة نبيّه
هذا، "وقدِ
انطلق المفسِّرُون لفهمِ كتابِ الله وبيانهِ من ضوابطِ النحوِ العربيّ وأحكامِه التي
جعلُوا منها أداةً مُساعِدة على فكِّ شِفراتِ النصِّ المعجز، والوقُوف على معانيه
الخفية. وكانوا يؤمنون إيماناً لا يعتورهُ شك أنّهُ لا يُمكن لأيِّ أحدٍ أنْ يفهمَ
كتابَ الله ما لَمْ تتوافرْ لهُ ناصيةُ اللّغة ويحط بأسرارِها([99])، فهذا أبُو حيّان الأندلسيّ يُؤكِّد العَلاقةَ بينَ
اللّغةِ والتّفسير وذلِكَ بقولِه: "اعْلَمْ أنّهُ لا يرتقي على التفسيرِ
ذروته، ولا يمتطي صهوته، إلاّ مَنْ كان مُتَبَحِّراً في علمِ اللِّسانِ، مُترقّياً
إلى رُتبةِ الإحسان... وأمّا مَنِ اقتصرَ على غيرِ هذا مِنَ العلُوم، أو قصّرَ في
إنشاءِ المنثورِ والمنظُوم، فإنّهُ بمعزلٍ عن فهمِ غوامِضِ الكتاب، وعن إدراكِ
لطائِفِ ما تضمّنه مِنَ العجبِ العُجاب"([100]). وكتبُ معاني القرآن وإعرابه ارتفعتْ بالإعرابِ
وجعلتْهُ فرعاً على المعنى، إذ يتّخذها النحويُّ قرينةً يستهدي بها على المعنى
ودلالاتِه([101]). ويختلفُ التأويلُ باختلافِ أوجُه الإعراب، وفي ذلِكَ
قال الطبري: "...لِمَا في اختلافِ وجُوهِ إعرابِ ذلِكَ مِنْ اختلافِ وجُوهِ
تأويلِه"([102]). وفي هذا تأكيدٌ لتلك العَلاقة الجدليّة القائِمة بينَ
النحو وأحكامِه وتأويلِ الخطاب القرآنيّ الذي يتعدَّد تأويلاتُه نظراً لتعدُّدِ وجُوهِ
الإعرابِ، وبالتالي تعدّدِ وجُوهِ المعنى. فـ"الآياتُ تختلفُ في معانيها
باختلافِ التراكيب، والسياقات، وجهة الخطاب"([103]). وهُنا سنعرّج إلى مجموعةٍ مِنَ القضايا اللغويّة
نستقري بها ذلك المنهج الّذي ادّعاه في كتابه، وزعم أنه اعتمده في بناءِ فصولِه،
ويمكن رصدُها في ثلاثة جوانب: جانب نحوي، وآخر معجمي، وثالِث صرفي، ففي الجانب
النحوي "يرى الباحِث أنّ الفرقان هو غير القرآن، ويأتي بآيةٍ يجعلُها دليلاً
على ذلِك، وهو قولُه تعالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ]([104]). ويُعلّق "شحرور" قائِلاً: "وبما أنّ
الفرقان جاءَ معطُوفاً على القرآن يُسْتَنْتَج أنّ الفرقانَ غيرُ القرآن، وهو جزءٌ
مِنْ أمِّ الكتاب (الرسالة)"([105]). والحقّ أنّ "كلمة الفرقان ليستْ معطوفةً على
القرآن؛ لأنّها مجرورةٌ بالكسرة لعطفِها على الهُدى، أمّا كلمةُ
"القرآن" فهي مرفوفةٌ بالضمّة؛ لنيابتِها عنِ الفاعِل. ثمّ إنّ
"واوَ العَطْفِ" أصلاً لا تختصُّ بعَطْفِ المتغايرات والمتباينات، وليسَ
وجُوباً أنْ يكون المعطُوف شيئاً غير المعطُوفِ عليهِ أو مُخالِفاً له، كما فَهِمَ
المؤلِّف، وبنى على هذا الفهمِ المغلُوط أمُوراً كثيرة ونتائِج خطيرة، فالأصلُ أنّ
"واو العطف" تفيدُ مُطلق الجمع، ولها خمسةَ عشرَ حُكْماً، أحدها أنّها
تعطِفُ الشيءَ على شبيهِه في المعنى"([106]). وفي الجانِب المعجميّ يُقرِّر السيِّد المؤلِّف، حينَ
أرادَ شرحَ تسميةِ القرآن. أنّها من فعلِ "قرن". ويقول: "والأساسُ
في اللِّسانِ العربيّ هو فعلُ "قرن"، فعند ابن فارس نرى أنّ فعل
"قرأ" اشتقّ مِنْ فعلِ "قرن"، ومِنْ هُنا جاءَ معنى القراءة
عند العرب، وهو العمليّة التعليميّة؛ لأنّها لا تكونُ إلاّ بالمقارنة، أي مقارنة
الأشياء بعضُها ببعض"([107]). ولا شكّ أنّ القارئ العادِي سيقتنِع تماماً، ولَنْ
يجرؤ على خِلافِ ذلِك بعدَ أنْ أَرْهَبَتْهُ عباراتٌ مثل "والأساسُ في
اللِّسانِ العربيّ... فعند ابن فارس...". والحقيقة أنّ الأُستاذ الدكتور
شحرور ينسُبُ إلى ابنِ فارِس ما لا عِلْمَ لَهُ به، وما لَمْ يقلْهُ في يومٍ مِنَ
الأيّام، والغريبُ حقّاً أنْ يتجرّأ على تزييفِ أمرٍ لا يحتاجُ التوثقُ مِنْ
صِحّتِه إلى أدنى جُهْد، فهذهِ معاجِمُ اللّغةِ بينَ أيدينا، وهذا معجمُ المقاييس
لا نجدُه يقول إنّ "قرأ" اشتقّ مِنْ "قرن"!!([108]). وإذا راجعنا "معجم مقاييس اللّغة"
وجدناه على عكس ما تخيّله "شحرور" تماماً، فابن فارس يقول: "قرى:
القافُ والرّاءُ والحرفُ المعتلّ أصْلٌ صحيح يَدُلُّ على جمعٍ واجتماع. مِنْ ذلِكَ
القَرْية، سُمِّيَتْ قريةً لاجتماعِ النّاسِ فيها... وإذا هُمِزَ هذا البابُ كان
هُوَ والأوّلُ سواءً... قالُوا: ومِنْهُ القُرآن، كأنّهُ سُمِّي بذلِكَ لجمعِه ما
فيهِ مِنَ الأحكامِ والقَصَص وغيرِ ذلِك"([109]). إذاً، فـ"قرأ" ليستْ مُشتقّة مِنْ
"قرن" كما تفضّل الأُستاذ "شحرور". أمّا الجانِب الصرفيّ
فيقرِّر السيِّد المؤلِّف أنّ "البركةَ في اللِّسانِ العربيّ تعني التكاثر
والتوالُد وتعني الثبات.. ووُصِفَ الكتابُ بأنّهُ مُبارَك يعني ثباتَ النصِّ،
وبمعنى الثبات جاءَ قولُه [تَبَارَكَ اللّهُ]([110])،
أي: ثبت ولَمْ يتغيّر"([111]).
هذا الكلامُ مِنَ الناحيةِ اللغويّة فاسِدٌ تماماً، ويدلُّ على عدم المقدرة
على قراءةِ المعجم، والجهل بعِلْمِ الصّرف، إذا اخترْنا احتمال عدم التعمّد،
فالبركةُ في اللّغةِ العربيّة لا تعني الثباتَ أبداً ولم تعنِها قطّ، إنّما
الثباتُ للبروكِ لا البركة، ولا أدري كيفَ ينسُبُ الباحِثُ الكريم كُلّ شيءٍ إلى
اللِّسانِ العربيّ؟ فالبركةُ في المعجماتِ اللغويّة جميعاً تعني النّماء والزّيادة
والكثرة في الخير([112]). بما فيما "مُعجم مقاييس اللّغة" لابنِ فارِس
الّذي ادّعى السيِّد المؤلِّف أنّهُ اعتمدَهُ على نحوٍ أساس يُعطي معنى النّماء
والزّيادة، وأمّا معنى الثبات فهو مِنَ الفِعْلِ برك يبرك بروكاً، وهو - والعفو
منكم - يُقال للبعير، ومعناه استناخ، كما تذكرُ كُلّ المعجمات، بما فيها المقاييس([113]). و"تبارك الله" معناها في اللّغة: تقدّس
وتنزّه وتطهّر، وتنصُّ المعجماتُ كُلّها على ذلِكَ حرفيّاً، أمّا القولُ بأنّ
"تباركَ الله" معناها: ثبتَ ولَمْ يتغيّر، فهذا معنى غير موجُود في
اللّغةِ العربيّة إطلاقاً، وهو معنى لَمْ يأتِ بهِ إلاّ السيِّد المؤلِّف، فلماذا
ينسبهُ إلى اللِّسانِ العربيّ ولا ينسبه إلى نفسِه؟([114]). أمّا كلمة "مُبارك" فلا تعني ثباتَ النصّ
كما زعم، فهي اسم مفعُول مِنَ الفعلِ "بَارَك"، وباركَ الله الشيءَ: أي
وضعَ فيهِ البركة، وهي عبارةُ المعجم، فالمعنى الّذي يحمِلُه "باركَ"
مُستقلٌّ تماماً عن معنى "بركَ"؛ لأنّ الألِف المزيدة في الأوّل أفادتِ
الإغناء عنِ المجرّد، أي أكسبتِ الفعلَ معنًى جديداً لا علاقةَ لهُ بالفعلِ
المجرّد الأصليّ. فأينَ اختفى عِلْمُ الفارسيّ وابن جنِّي، وما أرهبنا بهِ
المؤلِّف في مُقدّمتِه؟ وأين ما زعمَهُ مِنْ اعتمادٍ على خصائِص اللّغة العربيّة،
وعلى مُعجمِ المقاييس، واستنادٍ إلى الشِّعْرِ الجاهليّ([115]).
وبعد.. فنحنُ نحترِمُ وجهة نظر السيِّد المؤلِّف على أنّها تصوّراتٍ
وافتراضاتٍ خاصّة به، ولكن لا يجوزُ لهُ أنْ يفرضَ علينا هذهِ التصوّرات على أنّها
حقائِق علميّة ثابتة، فيُصادِر بذلِكَ المتلقِّي، كما لا يجوزُ لهُ أنْ يدّعيَ
أنّهُ إنّما ينطلِقُ مِنَ القرآن، ثمّ لماذا يجبرُ آياتِه على التعبيرِ عن هذهِ
الافتراضات الّتي لا تستنِدُ إلى دليلٍ علميّ أو بُرهانٍ عقليّ؟ فهو يفترِضُ أُموراً
مِنْ وحي خيالِه الفذ، ثمّ يجعلُها حقائِق مُسلّمة يُفسِّر القرآن في ضوئِها، مِنْ
خلالِ تجاوز حدُود اللغة وأنظمتِها التعبيريّة ودلالاتِها التركيبيّة([116]). وقد رأينا كيف تجاوزَ السيِّد المؤلِّف أبجديّات اللغة
العربيّة في مُستوياتِها الثلاثة المعجميّة والصرفيّة والنحويّة، فضلاً عن المستوى
البلاغيّ، واخترع لنا معانٍ ودلالات لألفاظٍ وكلماتٍ ليست معهودة ولا مألوفة في
المعجمات العربيّة، وإنّما جاءتْ من وحي خيالِه الخصب، ومتى كان من حقِّ الباحِث
أن يخترِع من نفسِه المعاني والدلالات للألفاظِ والكلمات العربيّة المعروفة؟!
ومن تفسيراتِه الغريبة قولُه "إنّ آية [عَلّمَ الْقُرْآنَ]([117]) لا تعني أنّه علّمه للآخرين بمعنى العمليّة التعليميّة،
ولكنّها تعني أنّه وضعَ اسمه الرحمن علامةً للقرآن لكي يميّز"([118]). إنّ المؤلِّف في تفسيرِه هذا يتجاهلُ السِّياق الّذي
وردتْ فيهِ الآية تماماً، والسِّياقُ كما نعلم: [الرَّحْمَنُ * عَلّمَ الْقُرْآنَ
* خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلّمَهُ الْبَيَانَ]([119])،
وهذا التجاهُل لا يجوزُ في منهجٍ يحترِمُ نفسَه؛ لأنّ فيهِ تزييفاً لحقائِق اللّغة
ومدلولاتِها، فالكلمةُ لا تكتسِبُ معناها الكامِل إلاّ في سياقِها وارتباطِها بما
قبلَها وما بعدَها، ومتى جرّدت مِنْ سياقِها لم يعدْ لها أيّ قيمة، إنّما تأخذُ
قيمتَها ودلالتَها الحقيقيّة مِنْ خلالِ التركيب النحويّ.. وفي الحقيقة أنّ هذا هو
جوهرُ نظريّة عبدالقاهِر الجرجانيّ، فلماذا لَمْ يُطبّقْها الكاتِبُ هُنا، وهو
الّذي زعمَ أنّها أحدُ أركانِ منهجه؟ بَلْ لِمَ كان يخدعنا ويرهبنا بأسماء رنّانة
لعُلماء اللّغة دون أنْ يُطبِّق منهجهم؟([120]).
معروفٌ في الآيةِ الكريمة أنّ الجُمَل: [الرَّحْمَنُ * عَلّمَ الْقُرْآنَ *
خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلّمَهُ الْبَيَانَ] هي أخبارٌ لمبتدأ واحِد هو
"الرّحمن" الّذي تعودُ إليهِ الضمائِر المستترة لفواعِل هذهِ الأفعال،
ومِنْ هُنا وجَبَ أنْ تكون مُتساوِقة مُتناسِبة خالية مِنَ التناقُض مُكمِّلة
بعضها بعضاً لتُسْهِمَ جميعاً في أداءِ المعنى، وتكون قرائِنَ لفظيّة تؤكِّدُ
توجّه الدّلالة المعنويّة إلى وجهِها الصّحيح. إنّ تجاهُل السِّياق على هذا النحو
هو مسخٌ للّغة لِمَا تحملُ مِنْ معانٍ، بَلْ هو قبلَ ذلِكَ تحطيمٌ لنظريّة
الجرجاني التي أكّد المؤلِّف أنّهُ اعتمدَها في منهجِه([121]).
إنّ نصُوصَ القرآن هِيَ قبلَ كُلِّ
شيءٍ تشكيلٌ لغويّ له ضوابط منطقيّة وأنظمة دقيقة، وأي معنًى يُوضع لآيةٍ يجب أنْ
يستوعبَهُ تشكيلها اللّغويّ بقوانينه المعجميّة والصرفيّة والنحويّة والبلاغيّة.
بيدَ أنّ السيِّد المؤلِّف يفترِضُ المعاني والأفكار مِنْ خارجِ النصِّ، ويُلقيها
بصيغةٍ يقينيّة، ثمّ يسوقُ آياتِ القرآن زاعِماً أنّها تعبِّرُ عن أُطروحاتِه،
وبالأحرى زاعِماً أنّ أُطروحاتِه يستنبطُها مِنَ القرآن، ومِنْ هُنا ينشأُ انفصامٌ
حادٌّ بينَ التشكيل اللغويّ لهذهِ الآياتِ وبينَ المعاني المتوهَّمة التي
يفترِضُها، فلا ندري بعد ذلِكَ العَلاقة بينَ التشكيل والمعنى؛لأنّها تنهارُ
انهياراً فظيعاً. ثمّ إنّ مثلَ هذهِ الافتراضاتِ التي تبتعِدُ عنِ المنهجِ
العلميّ، حينَ لا تستنِدُ على أيِّ دليلٍ علميّ أو بُرهانٍ عقليّ أو قرائِن
لفظيّة، تقرّبُنا مِنَ التفكير الخرافيّ([122]).
وأخيراً، فإنّ إحياء
هذهِ الطرُوحات العقيمة وغيرِها إنّما أتتْ في وقتٍ يعيشُ فيهِ العالَمُ الإسلاميّ
في فراغٍ قاتِل في ظلِّ أنظمةٍ سياسيّة قمعيّة توتاليتاريّة بعد فشلِ ثوراتِ
الربيع العربيّ في مُعظمِ الدول العربيّة الإسلاميّة، فسعتْ تلك الأنظمةُ إلى
تضييقِ الخناق على المواطنين العُزّل؛ فأحدث بعضُهم جرّاء ذلِكَ تمرّداً على مُستوى
القيم والأفكارِ والمبادئ، فلم يجدُوا ملاذاً لهم إلاّ في إنكارِ الحديث وإلغائِه
ومُصادرته ومُصادمته، أو اختلاقِ شيءٍ يُبدِّد عنهم شبحَ ذلِكَ الفراغ العقيم، الّذي
بدأ يلفّهم ويجعلهم في حيرةٍ من أمرِهم، أو رُبّما يخفِّف بعضاً مِنْ آلامِهم، أو
يكون عزاءً لهم لِمَا هُمْ فيهِ من شقاءٍ وعناءٍ وعَنَتٍ وكَبْتٍ ونَصَبٍ ووَصَب،
وكأنّ التخفّف مِنَ أعباءِ العباداتِ - حسبَ ظنِّهم - راحةٌ لهم من آلامِهم ومُشكلاتِهم
الّتي يعانون منها في ظلِّ الأنظمةِ الدكتاتوريّة، وكأنّي بهم من خلالِ دعواتهم يُعلنون
عن رفضٍ ضمنيّ أو احتجاجٍ معنويّ أو مُعارضة داخليّة لتلك القيم التي ورثوها من
آبائِهم وأجدادِهم تقليداً أو مُحاكاة لا عن عِلْمٍ وإيمانٍ ومُحاكمات! وكان
الأحرى بنا جميعاً أنْ نُركِّزَ اهتمامَنا ونكثِّفَ جهُودَنا في المجالات العلميّة
والتقنية علّنا نخرجُ مِنْ وَهْدةِ التخلّف التي تلفّنا، ونتحرّرُ من قيُودِ
الاستتباعِ الّتي تكبِّلُنا، ونعيش أحراراً نقرأ في كتابِ الله المسطُور، وفي
كتابِ الله المنظُور، نجوبُ الآفاق وننبشُ في الأعماق، حتّى نكون في مصافِ الدّول
المتقدِّمة بابتكاراتِنا واختراعاتِنا لا بمجادلاتِنا العقيمة ومجاملاتِنا
الحميمة، فمنِ امتلك ناصيةَ العِلْم امتلكَ ناصيةَ العالَم!
الهوامش:
[8]- الموافقات، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبـي
(ت790هـ)، ضبط نصّه وقدّم له وعلّق عليه وخرّج أحاديثه: مشهور بن حسن آل سلمان،
ط(1)، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، الخُبْر - السعوديّة، 1417هـ - 1997م، ص3.
[9]- رواه الترمذي، تحـ: شاكر: 5/ 38.عَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي
كَرِبَ، "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ" "حكم
الألباني": صحيح
[10]- مسند أحمد ط الرسالة (28/ 429). "تعليق شعيب الأرنؤوط":
حديث صحيح.
[11]- صحيح ابن حبان: 1/ 189. "تعليق الألباني": صحيح –
"الصحيحة" (2869)، "المشكاة" (163).
[12]- رواه أبو داود في سننه.عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ
عَنْ أَبِيهِ.
[14]- منكرو السنة.. الخطر اللاديني الجديد، منكرو السنة النبوية
لعبدالمُهدي عبدالقادر عبدالهادي، http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?3607- منتدى التوحيد.
[15]- كتاب الكفاية في علم الرواية، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت
المعروف بالخطيب البغدادي (ت463هـ)، دائرة المعارف العثمانية، 1357،ص16.
[16]- الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمّد علي بن أحمد بن سعيد بن
حزم، (ت456هـ)، ط(2)، طبعة محققة على النسخة التي حققها الأستاذ أحمد محمّد شاكر،
قدّم له: الأستاذ الدكتور إحسان عبّاس، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت -
لبنان، 1403هـ- 1983م: 2/ 80.
[18]- عندما يشيد محمد شحرور عمارة
كتابه على أساس خاطئ، رشيد الخيّون، http://alarab.co.uk/article/
العرب.
[19]- تهافت القراءة المعاصرة، د.محامي
منير محمّد طاهر الشواف، ط(1)، الشواف للنشر والدّراسات، ليماسول - قبرص، 1993م،
ص11.
[20]- الإحكام في أصول الأحكام: 2/ 141.
[21]- ينظر بتصرّف: محمد شحرور شيخ العلمانيين، شريف محمد جابر، https://www.sasapost.com/opinion/mohamed-shahror/ ساسة
بوست.
[22]- محمد ديب شحـرور، تاريخ الولادة: دمشق – 1938م، سافر إلى الاتحاد
السوفياتي ببعثة دراسية لدراسة الهندسة المدنية في موسكو عام 1959، وتخرّج بدرجة
دبلوم في الهندسة المدنية عام 1964م.أوفد إلى جامعة دبلن بإيرلندا عام 1968م
للحصول على شهادتي الماجستير عام 1969م، والدكتوراه عام 1972م في الهندسة المدنية -
اختصاص ميكانيك تربة وأساسات.
[23]- الإشكالية المنهجية في الكتاب
والقرآن.. دراسة نقدية، ماهرالمنجِّد، ط(1)، دارالفكر، دمشق- سورية، 1415هـ - 1994م،
ص182- 183.
[25]- التحريف المعاصر في الدين.. تسلل في الأنفاق بعد السقوط في
الأعماق، عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني، ط(1)، دار القلم، دمشق – سورية، 1418هـ -
1997م، ص22.
[26]- محمد شحرور شيخ العلمانيين، شريف محمد جابر، (من النت).
[27]- الدنيا لعبة إسرائيل، للكولونيل وليم كار: ص25 وما بعدها، نقلاً
عن كتاب: هذهِ مشكلاتهم،ص246.
[28]- صموئيل زويمر (1867م- 1952م) مُبشِّر أمريكي، رئيس بعثات
التّبشير في المشرق، حرّر مجلة (العالم الإسلامي)، والتي عُرِفَتْ بعدائِها
السّافِر للإسلامِ والمسلمين.
[29]- الغارة على العالم الإسلامي، ص46.
[30]- قراءة علميّة للقراءات المعاصرة، للدكتور شوقي أبو خليل، ط(1)،
دار الفكر، دمشق – سورية، 1411هـ - 1990م، ص8- 9.
[33]- حرز الأماني ووجه التهاني، المعروف «بالشاطبية» في القراءات
السبع للإمام أبي القاسم الشاطبـي،ص3.
[35]- الحديث والمحدثون، محمد محمد أبو زهرة، ط(2)، الرئاسة العامة
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض – المملكة العربية
السعوديّة، 1404هـ - 1984م، ص37 - 38.
[36]- الإنسان يعصي لهذا يصنعُ الحضارات،عبدالله القصيمي، ط(2)، مؤسسة
الانتشار العربي، بيروت – لبنان، 2008م، ص8.
[38]- المولود يولد على
الفطرة، مجلة البحوث الإسلامية، العدد (الأربعون)، الإصدار: من رجب إلى شوال لسنة
1414هـ - 1994م.
[40]- الكتاب والقرآن – قراءة
معاصرة، محمد شحرور، ط(6)، دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – سورية،
1994م،ص389.
[45]- الرؤية الشحرورية للسنة النبوية، معاذ بني عامر، http://www.mominoun.com/articles مؤمنون بلا حدود للدراسات
والأبحاث.
[46]- السُنّة الرسُوليّة والسُنّة النبويّة رؤية جديدة، د.محمد شحرور،
ط(1)، دار الساقي، بيروت - لبنان، 2012م: ص15.
[49]- علوم الحديث، لابن الصلاح،ص20. والحديث والمحدّثون: 124. دلائل
التوثيق المبكر للسنة والحديث،ص259.
[50]- دلائل التوثيق المبكر للسنة والحديث، د.امتياز أحمد، ط(2)، دار قتيبة
للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق - سورية، 1431هـ - 2010م، ص259.
[52]- م.ن، ص16.
[53]- شبهات المستشرقين في مفهوم السنة، د. سعد عبد الله الحميد، ص6.
[54]- السُنّة الرسُوليّة والسُنّة النبويّة رؤية جديدة، ص16. وقال:
وقسمٌ تساهل في السّماع، وأجاز رواية الحديث بالمعنى، ولم يرَ بأساً في تبديل
ألفاظِ الحديث بمرادفاتٍ لها بحيث لا يختلف المعنى. ينظر: المصدر نفسه،ص16.
[57]- نظرة المستشرقين للسنة النبوية المطهرة، الشيخ مثنى الزيدي،
الألوكة الشرعية، http://www.alukah.net/sharia/0/30210/
[58]- العقيدة والشريعة في الإسلام.. تاريخ التطور العقدي والتشريعي في
الدين الإسلامي، اجنتس جولدتسيهر، نقله إلى العربية وعلّق عليه: الدكتور محمّد
يوسف موسى، والدكتور علي حسن عبدالقادر، والأستاذ عبدالعزيز عبدالحق، ط(2)، الناشر
دار الكتب الحديثة، مصر، ص49.
[59]- شبهات المستشرقين في مفهوم السنة، د. سعد عبد الله الحميد، ص6.
[62]- صحيفة (الرسالة) المصرية، ج(7/ 507) في (القرآنيون وشبهاتهم حول
السُنّة)، خادم حسين إلهي بخش، ط(2)، مكتبة الصديق للنشر والتوزيع، الطائف -
المملكة العربية السعودية، 1421هـ - 2000م، ص120.
[64]- طرافة في التقسيم وغرابة في التأويل، طارق زيادة، مجلة (الناقد)،
العدد (45)، آذار 1992م. في الإشكالية المنهجيّة في الكتاب والقرآن.. دراسة نقدية،
ص83.
[65]- شرح متن إيساغوجي، موضوع (القسمة
والتقسيم) للأستاذ الدكتور نشأت علي محمود، في 15/ 2/ 2017م. جمع وإعداد: سعد صهيب.
[66]- الإشكالية المنهجية في الكتاب
والقرآن.. دراسة نقدية، ص106- 107.
[68]- الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة،
ص45.
[69]- التحريف المعاصر،ص125.
[70]- منكرو السنة .. الخطر اللاديني الجديد، منكرو السنة النبوية، (من
النت).
[72]- سورة الأحزاب، الآية: 59.
[73]- كتب: والمؤمنين، والصحيح: والمؤمنون، والواو: للاستئناف،
والمؤمنون: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الواو؛ لأنه جمع مذكر سالم.
[74]- كتب: تخرجن، والصحيح: يخرجن؛ لأنه لا يجوز نحوياً الجمع بين
علامتين من علامات التأنيث، أي: بين تاء التأنيث ونون النسوة.
[81]- سورة البقرة، الآية: 219.
[82]- سورة الأنعام، الآية: 145.
[87]- الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة، 476- 477.
[88]- سورة البقرة، الآية: 219.
[89]- سورة المائدة، الآية: 90.
[90]- سورة الحج، الآية: 30.
[91]- تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل، لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر بن محمّد الزّمخشري (ت 538هـ)، رتّبه
وضبطه وصحّحه: محمد عبدالسّلام شاهين، ط(3)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان،
1424هـ - 2003م: 1/ 660- 661.
[92]- تفسير التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، (د.ط)،
الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م: 7/ 23.
[93]- سورة المائدة، الآية: 91.
[95]- سورة المائدة، الآية: 91.
[96]- فتح القدير الجامع بين فني
الرواية والدِّراية من علم التفسير، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، (ت1250هـ)،
اعتنى به وراجع أصوله: يوسف الغُوش، ط(4)، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع،
بيروت – لبنان، 1428هـ - 2007م، ص393.
[97]- الرد الشافي عن كتاب (الكتاب
والقرآن.. قراءة معاصرة)، الدكتورة نشأة ظبيان، ط(1)، دار التقدم طباعة، نشر،
توزيع، دمشق – سورية، 1418هـ - 1998م، ص23- 24.
[98]- المنهج النفعيّ في فهم النصوص
الدينيّة، د.نصر حامد أبو زيد، مجلة (الهلال)، العدد (3) مارس، 1992م. في
الإشكالية المنهجية في الكتاب والقرآن.. دراسة نقدية، ص74.
[99]- الأحكام النحويّة بين النحاة وعلماء
الدلالة دراسة تحليليّة نقدية، د.دليلة مزوز، ط(1)، عالم الكتب الحديث للنشر
والتوزيع، عمان – الأردن، 1432هـ - 2011م، ص165.
[100]- البحر المحيط، دراسة وتحقيق
وتعليق: عادل أحمد عبدالموجود وآخرون، ط(1)، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان،
1413هـ - 1993م،: 1/ 109.
[101]-
الأحكامالنحويّةبينالنحاةوعلماءالدلالة: 171.
[102]- جامع البيان في تأويل القرآن: 1/
109.
[103]- الأحكام النحويّة بين النحاة وعلماء
الدلالة: 187.
[104]- سورة البقرة، الآية: 185.
[105]- الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة،
ص65.
[106]- الإشكالية المنهجية في الكتاب
والقرآن.. دراسة نقدية، ص94.
[107]- الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة،
ص94.
[108]- الإشكالية المنهجية في الكتاب
والقرآن.. دراسة نقدية، ص94 – 95.
[109]-معجم مقاييس اللغة،
لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا، (ت395هـ)، تحـ: عبدالسّلام محمّد هارون، دار
الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ط)، 1399هـ - 1979م، ينظر: مادة
"قرى" 5/ 78- 79.
[110]- سورة الأعراف، الآية: 54.
[111]- الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة،
ص49.
[112]- ينظر: لسان العرب، والصحاح،
والقاموس المحيط، مادة "برك".
[113]- الإشكالية المنهجية في الكتاب
والقرآن.. دراسة نقدية، ص96.
[114]- م.ن، ص96- 97.
[115]- م.ن، ص97.
[116]- م.ن، ص104.
[117]- سورة الرحمن، الآية: 2.
[118]- الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة،
ص118.
[119]- سورة الرحمن، الآية: 1- 4.
[120]- الإشكالية المنهجية في الكتاب
والقرآن.. دراسة نقدية، ص117.
[121]- م.ن، ص118.
[122]- م.ن، ص105.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق