محسن جوامير
كما
هو معلوم، فإن استقالتي من تلكم (الكوردايهتي)
الهشة، التي أعلنتها قبل أشهر، ومازلت متمّسكاً بها، جاءت على خلفيّة أنني لم أر
في الأفق أن السلطة الكوردية تتعاطى مع إحدی أهم القضايا التي تواجه الكورد
جميعاً، بشيء يمكن أن نأمل فيه بعض
الخير، ألا وهي قضية اللغة الموحّدة، التي تشكّل الرابط الأهمّ لشدّ مفاصل أيّ
أمّة ببعضها، مهما بعدت أقطارها، وتباينت - بالتالي - بيئات أفرادها، واختلفت
عقائدهم، وتوجهاتهم، وإلا صارت الأمّة شراذم بين بني آدم، مهما قربت أقطار
أفرادها، وتشابهت – بالتالي- بيئاتهم،
وتماثلت عقائدهم وتوجهاتهم..
الأوروبية، خير مثال على ربط القريب بالبعيد، بفضل وحدتها التي أعطتها قوّة الجذب، وجمعت الجميع تحت مظلّتها، بالرغم من آلاف اللهجات التي تحتضنها.. ولدينا المثال العكس البائس، وهو اللغة الكوردية، بعد أنْ جعلها الآخذون بزمامها عامل تنفير وابتعاد، بفضل تبنّي صراع اللهجات، بدل الإصرار على جعل لهجة سائدة؛ أساساً لبناء لغة متينة جامعة لكلّ الكورد، ومانعة من كلّ تصدّع لغوي، وهزّة مؤكدة.. حيث هناك جهود، على أكثر من صعيد، للتهشيم، وبحدّة.
وفي هذا السياق، أری من الخطر الجسيم أن نسكت
على حالة مخزية، لم أسمع ولم أقرأ بوجودها حتى في (أفريقيا)، ذلك خوفاً من إثارة
الانتقادات، أو تحاشياً للتعرّض لسهام الذين يتّهمون دعاة اللغة الموحّدة بالضرب
المزعج، والمكرّر، أو الممل، على وتر (الدعوة لتوحيد اللغة) من أجل (عدم الترويج
للهجات).. وكأنّهم في غفلة عن كون المسألة مسألة بقاء أو فناء أمّة، لا شكّ من
حدوث أحدهما، ما لم تكن السلطة على مستوی عال من المسؤولية {وتعيها أذن واعية}..
(غينيا
كوناكري)، البلد الذي مات رئيسه (لانسانا كونتي) قبل فترة، فإنّه لكثرة
تشابك لهجاته،ومن باب
أضعف الإيمان، لجأ إلى (الفرنسيّة)، وجعلها لغته، وبذا أراح وارتاح. وفي المقابل، نجد بين الكورد من يدفع، ويحفّز،
أصحاب اللهجات إلى الانقلاب على ما هو موجود، وملاحقته، بتقديم العرائض، والكتابة في الصحف، للمطالبة بجعل لهجاتهم يدرّس
بها في المدارس بصورة رسمية، بحجّة أنهم لا يفهمون لغة الكتابة السائدة، أو
بادّعاء أن الدراسة بلهجة الأم حقّ من الحقوق التي يجب أن يتمتعوا بها.. وهذا - كما
أسلفت – ما لن نجد مثيلهفي حتّى
أحاجي وحكايات (غينيا)!!
فأيّ
مصلحة قومية، يا تری، تترشّح من أن يدرس أبناء الكورد في إقليم واحد بلهجتين، أيْ:
بلغتين تماماً!!.. ومن ثمّ يأتي تلميذ من (دهوك)، أو (زاخو)، وهو لا يفهم على بني
قومه في (أربيل)، أو (هورامان)،
إلا عن طريق مترجم، أو لغة ثالثة؟!!.. وكذلك العكس!! في حال أنّ الكلّ يدّعي أنه كوردي،
وآباؤهم قد تعلّموا (العربية)، بعسر أو يسر!! وفي أنحاء كوردستان ثمّة اليوم مدارس
تركية، وأجنبية، مليئة بأبناء المسؤولين، ولا أحد يحوقل ضجراً بين البريّة، وقد تركوا
أبناء عامّة الناس بين سلاسل وأغلال اللهجات المؤقتة!!.. أليس هذا بكفر وطني، أو
هرطقة!!
ثمّ
أين أصبح الوعد الذي قطعه رئيس
الإقليم، قبل عامين، بالبحث عن الحلول اللازمة؟! ولماذا تراجع عن التصدّي للأزمة؟
فهل تحولت القضية إلى مجرّد قرار مع وقف التنفيذ، دون تبرئة الذمّة؟
إنّ
ثنائية اللهجة في الدراسة والإدارة والإعلام، تعني أنّ ما يقال عن الكورد ـ
كشعب غير مكتمل النضوج، ولا تتوفر فيه شروط الأمّة - قد يكون مسألة فيها وجاهة ونظر، ويجب أن تؤخذ بنظر
الاعتبار، لأن هناك ثغرات في كياننا وجدت مع سبق إصرار.
إضافة
إلى أنّه ناهيكم عن ضياع لغة كوردية تجمعهم، فإنّ الجيل الجديد قد حرم من تعلّم
لغة عالمية، كان بإمكانها أن تلّم شعثهم، من (زاخو) إلى (خانقين)، ألا وهي (العربية).
وقس على هذا بقيّة اللغات الرئيسية
في البلدان التي يتواجد فيها الكورد.. يا حسرة على الكورد، وهم يخرّبون بيوتهم
بأيديهم!.. فكما ظهرت قراصنة البحار، هكذا ظهر على براري كوردستان قراصنة كبار،
عيونهم تقدح بالشرر، وكلّ واحد صار تأبّط شرّاً للغته،ونفر،
وشغلهم الشاغل أن يستأسدوا عليها، ويفرّقوا القوم شذر مذر!!.. كلّ ذلك جرّاء عدم
جدّية السلطة الكوردية، وحدّيتها، في هذهالمسألة
الحساسة، التي لن تجد على ظهر البسيطة حكومة رصينة لم تبحث لها عن حلّ، أو جعلتها
في سلّم أولوية أولوياتها على الأقلّ.. بل الأصح القول إننا لا نری أمّة في هذا
القرن، تعاني مثل الكورد من وباء الألسن، مع العلم كانت لنا ـ ولحدّ الآن ـ لغة
لها قابلية الجمع، لا الطرح، ولا القمع!
وما
قاله أحد أعضاء ما يسمّى بأكاديميّة
اللغة الكوردية، في إحدی الندوات حول اللغة الكوردية الموحّدة في (هولير)، أخيراً،
مدافعاً عن بقاء حالة اللهجات والتشتّت، بأنهلا
يقبل أن يفرض طرف ما لهجته على بقيّة
الكورد، ما هو إلا دليل ساطع على سوء القصد، وضحالة العلم، وعدم قراءة المستقبل
الباهت الذي يواجه لغة
الكورد..
لذا،
وفيما يخصّ اللغة، لا بدّ من التركيز على المطالبة بجعل كوردستان الفيدرالية هي
المقتدی في الوحدة اللغوية، لا التشذرم اللهجوي، بحكم صفة الدولة، والسمة الرسمية
والدستورية التي تحملها، بعيداً عن دغدغة المشاعر والعواطف من دون رويّة، تارة
باسم الأقليّة، وأخری باسم الأكثرية.. وكذلك جعل هذا الأمر مفروغاً منه، سواء أشاء
الذين يتموقعون من أجل تقسيم الكورد إلى لهجات لا تزيدهم إلا ضعفاً وهواناً، أو لم
يشاؤوا، ورفعوا شعارات لا عين رأتها، ولا أذن سمعتها، ولا خطرت على قلب بشر عاقل
وحضاري!!
كم
أضحك باكياً حينما أسمع دعاة إحياء اللهجات، بدل التوحيد، وهم يقاتلون من أجل
تشكيل الدولة الكوردية، ويدعون إلى تأجيل الخوض في مشكلة اللغة لما بعدها، من دون
أن يدركوا أنهم بدعوتهم تلك، من دافنيها قبل أن تولد!!.. وأری حالهم الغريب كحال
من يمشي إلى الوراء وهو يظن أنه سائر
نحو الأمام والهدف. بل في حال بقاء اللهجتين في الدراسة، يعني أن نضال قرن من الزمان
دخل في خانة الصفر، وأصبحت الكوردستانية والكوردية هباء منثوراً..
أرجو
أن لا يكون هذا الموقف محلّ دهشة وعتاب القارئ الكريم، فالكلام لم يأت من فراغ،
والخيال لا يجدي نفعاً، ومشكلة الكورد دائما هي أنّهم يتستّرون على عيوبهم
وأمراضهم ليوم تقضي فيه عليهم، منها وباء اللهجات، الذي لم يجد التاريخ الكوردي لهمثيلاً،
لغاية هذه الأيام .. هذه الظاهرة
الخطيرة التي تتفاقم باستمرار، دفعت بكاتب هذهالسطور
أن يجعل ـ مع إطلالة العام الكوردي الجديد 2709 ـ ما تحت البساط؛ فوقه، أيْ أنْ يكون صريحاً، وواضعاً يده على
موضع الخلل، من دون أن يخشى الخطب الجلل، إلى يوم الأجل، وفي حدود {لا يكلّف اللهنفساً
إلا وسعها}، والتي حدّدها ربّنا عزّ وجلّ.. وكان هذا من ضمن مفردات مشروع ما بعد
الاستقالة من تلكم (الكوردايهتي)
المشوّهة، التي كانت – وما زالت - ترقص على مسلخ اللغة الكوردية، انتهاكاً لحرمتها
التي لا تقبل الاستثناء حتّى في الأوقات العصيّة!
بتقديري
إنّ بين الكورد ـ في كلّ بلدانهم ـ من يفهم أبعاد ومخاطر الدعوات اللهجويّة
والمناطقيّة المشتعلة، وتداعياتها المدمّرة والحارقة على الكورد كأمّة واحدة.. وقد
كتب بعضهم حولها، وما زالوا يتعرّضون لها بالنقد والتحليل، وكلّ على حدة.. ولكن
هذا لا يكفي، بل نری ضرورة التحوّل إلى جبهة تتصدی لها من دون تلكؤ، أو ملل من
مواصلة الطريق، لإنقاذ لغتنا وأمّتنا من كارثة محقّقة، وركود قاتل، أشدّ من الأزمة
المالية العالمية المتوقعة.. وعدم تسليم القضيّة للكسبة من أنصاف الكتّاب، وجعل
الدعوة للغةٍ كورديّة موحّدة موجودة ـ انطلاقا من الإقليم الفيدرالي ذاته ـ من أساسيّات عمل المثقفين والعلماء والمفكرين،
بمختلف ألسنتهم، وتباين لهجات أمّهاتهم، أفراداً وجماعات، حتى لا تكون ضحيّة
الأجندات السياسية، ولا تتحوّل إلى شمّاعة لتعليق الأهداف الحزبية عليها..
لا
أدري هل هو من سخرية القدر، أو القلم، أن يأتي أحدهم ويكتب مقالة يدعو فيها
المسؤولين بضرورة وضع خطّة لتشجيع غير الكورد على تعلّم اللغة الكوردية، وفي آخرها
تتفتّق عبقريّته بالإخفاق،
في الأرض وفي الآفاق، فيقول إنّه لا
تهمّه في هذا النداء لهجة بعينها، يتعلّمها
هذا الغير، فليتعلّم تلك التي تعجبه!! يلقي الكاتب هذا الكلام على عواهنه، من دون أن يكون على بيّنة من الأمر، ويدري أن للكورد أكثر من 20
لهجة ولسان، من بنين وبنات، إضافة للأحفاد، كغيرها من اللغات!! ولكن الفرق بين
الكورد وغيرهم هو أن لهجات الغير لها أمّ حنون!! ومن الجهل ما قتل!! وهذا درس فيهالكثير
من العبر، لمن شاء منّا أن يتعقّل أو يتذكّر..
ثمّ
لو سلّمنا جدلاً بالواقع، وفتحنا الطريق أمام كلّ اللهجات لتصبح لغات مستقلّة،
فأين هو موقع اللغة الكوردية - كلغة جامعة - من هذهالفوضى؟
ثم ماذا سيكون الرابط الذي يربط كورد مختلف الأقاليم ببعضهم؟ إذا قيل هي الأرض،
فهذا الرّد مرفوض، لأن الأرض الواحدة تربط الكورد بغيرهم كذلك، أيْ بالعرب والترك
والفرس أيضاً. ومن يتحجّج بـ(سويسرا)، فهو كاذب، ومن يتحجّج بـ(النرويج)، فهو
مخطئ، لأن ما في الأولى شعوب وليس لهجات، وما في الثانية اختلاف كاختلاف لهجة أهل
العمارة عن البصرة. ومن يظن أن علاج الكورد في صعوبة فهمهم لبعضهم، يكمن في تعلّمهم
لهجات بعضهم البعض، فإن هذا المدّعي إمّا جاهل بحقيقة الأسس التي عليها يتشكّل
الشعب الواحد، واللغة الموحّدة هي عصبه الرئيس، أو مخادع يسعى من خلال مغالطاته
إلى فسح الطريق أمام انكسارات قومية
مؤدية إلى خلق أقوام وقبائل جديدة من رحم الأمّة الكوردية، كما نری جليّاً
معالمها، من خلال ما ينشر وما يقال..
وإذا
كان (ساطع الحصري) قد دعا إلى فرض نظرية (العروبة أوّلاً)، فأفرح بها الكثير،
وأغضب بها الشعوب المجاورة للعرب، لما فيها من انعكاسات سلبيّة، وهضم للحقوق،
وبالتالي تصعيد للكراهية والكرب.. فإن دعوة (اللغة الكوردية الموحّدة أوّلاً)
رسالة برقية للكورد، تتلّخص في مطالبة الكلّ بالتأكيد والعمل على فرض لغة واحدة
مزدانة ببقيّة اللهجات، وإملاء كوردي واحد، انطلاقاً من (أربيل) العاصمة، على الإقليم
الفيدرالي كلّه، كي
تبدأ من هناك خطوات الوحدة الكوردية في الفهم والتفاهم اللساني، من خلال معصم لغوي
واحد موحّد، دون الحاجة المعيبة إلى ترجمان، أو اللجوء إلى لسان آخر، أو التقوقع
في سجون أو سوق اللهجات، والترويج لها بين بني كوردستان.. مع الاعتراف بحقّ كلّ
شعب مجاور في معانقة لغته الجميلة
المنمنمة، سواء كانت صاحية، أو باتت في خدرها نائمة.
----
هذا المقال من أرشيف الأستاذ (محسن جوامير، وقد أرسله
إلى مجلة (الحوار)، وخصّها بنشره.. وتاريخ كتابة المقال هو: 2709 الأحد 29 مارس / آذار
2009.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق