تمهيد
جاءت فكرة تأليف الدكتور (زكي نجيب محمود) كتاباً عن (جابر
بن حيان)، طُبع في (مصر) ضمن الأعداد الأولى لسلسلة (أعلام العرب) سنة 1961، ضمن
محاولةٍ للإفادة من مناهج العلماء العرب، وعِلمِهم، في الحديث عن فلسفة العلوم
الطبيعية ومناهجها. وعلى الرغم من أنَّ الدكتور (محمود) يعترف بالصعوبات التي
واجهته في الكتابة عن (جابر)، وفي مقدمتها أنه لا يوجد بين أيدينا إلا عدد قليل من
مؤلفاته الكثيرة، في الوقت الذي لا بُدّ للباحث أن يطّلع على النسخ المخطوطة من
هذه المؤلفات، والمبعثرة في مكتبات أوروبّا، قبل الشروع في الكتابة، خاصةً وأنَّ (جابر)
يحذّر قُراءه في مواضع كثيرةٍ من رسائله بعدم دراسته قبل جمع مؤلّفاته كلّها، إذ إنَّ
الاكتفاء ببعضها لا يُمكِّن من الاستدلال على مذهبه.. إلا أنَّ الدكتور (محمود)
يبرّر تأليفه هذا الكتاب بالإشارة إلى أنَّ (جابر) نفسه كثيراً ما يشير في مؤلّفاته
إلى أنَّ طريقته في التأليف هي أن يعيد في كلّ كتابٍ ما قد أورده في سائر كتبه،
فكأنما كتبه يوضح بعضها بعضاً، ولا يضيف بعضها إلى بعض، فضلاً عن أنَّ تأجيل
الكتابة عنه
لحين تكامل مؤلّفاته كلّها يعني إهماله أمداً طويلاً من الزمن.
وينبّه الدكتور (محمود) - منذ البداية - إلى أنَّ جامعات
أوروبّا لم تكد تعرف مراجع تُدْرَسُ في علم الكيمياء حتى القرن الخامس عشر
الميلادي إلا كتب (جابر)، موضحاً أنَّ الأخير استمد أصوله الفكرية من التراث
اليوناني، وبنى عليها ما شاءت له قدرته أن يبني من علمٍ جديد، ومن هذا التراث أخذ
فكرة الطبائع الأربع التي نشأت منها الكائنات جميعاً، وهي: الحرارة والبرودة
واليبوسة والرطوبة.
ويتحدّث الدكتور (محمود) عن نظرية (جابر) في تحويل
المعادن بعضها إلى بعض، والتي تقوم على أنَّ للمعادن مقوّمين أساسيين هما: الكبريت
والزئبق، اللذان تكوَّنا في جوف الأرض من العناصر الأربع (النار والهواء والأرض
والماء)، وما من معدنٍ إلا وهو تركيب من الكبريت والزئبق، ولكن بنسبٍ مختلفةٍ،
وعملُ (الكيميائي) في تحويل المعادن هو نفسه عمل الطبيعة في تكوينها، غير أنَّ
الطبيعة استغرقت آماداً طوالاً في تكوين الذهب والفضة والنحاس وغيرها، بخلاف (الكيميائي)
الذي بإمكانه - عبر تجاربه - أن يختصر الزمن إلى برهةٍ وجيزة.
ويشير الدكتور (محمود) إلى أنَّ (جابر) لم يكن كيمائيّاً
فحسب، بل وفيلسوفاً أيضاً، وله محاولة لجمع أشتات الكون في بنيةٍ واحدة، يدعمها
بجدلٍ فلسفيٍ من الطراز الأوّل.
وفي ختام مقدّمته يشيد الدكتور (محمود) بذكرى المستشرق (باول
كراوس) (Paul Eliezer Kraus)، الذي جلب إلى (مصر) مجموعة من كتب (جابر)
المخطوطة، جمعها من مكتبات أوروبا، وقام بتحقيقها ونشرها في كتاب: (مختار رسائل جابر
بن حيّان)، فضلاً عن تأليفه مجلدين عن (جابر)، تناول فيهما بتفصيل كتبه ومذهبه.
التعريف بـ(جابر)
تناول الدكتور (محمود)، في الفصل الأوّل من كتابه، شخصية
(جابر)، فتحدّث بعض الشيء عن حياته، اعتماداً على ما ذكره بعض مؤرّخي العلوم
العربية الإسلامية القدامى، كـ(النديم) في كتابه (الفهرست)، و(القفطي) في كتابه (إخبار
العلماء بأخبار الحكماء)، و(الجلدكي) في كتابه (نهاية الطلب)، فضلاً عن بعض
المستشرقين المحدثين كـ(كارا دي فو) Carra
de Vauxالذي كتب مادة (جابر بن حيّان)
في (دائرة المعارف الإسلامية)، و(هولميارد) Holmyard في كتابه (Chemistry to the Time of Dalton)، و(كراوس) في كتابه (Jabir Ibn Hayyan).
ويستشهد الدكتور (محمود) - بادئ الأمر - برأيٍ لـ(النديم)
حول حقيقة (جابر)، وردِّه على المنكرين لوجوده، ثم يتناول الاختلاف في كنيته ومسقط
رأسه، ويعرض جملة آراءٍ حول المدّة الزمنية التي عاش فيها، وينبّه إلى الاختلاف في
حقيقة انتمائه المذهبـي والفكري، ويخلص إلى نتيجة مفادها أنه شيعيّ سياسةً،
وفيلسوفٌ جدلاً، وكيميائيّ عِلماً، كما يتحدّث عن صلته بـ(جعفر الصادق).
وفي معرض حديثه عن منزلة (جابر) في علم الكيمياء، يعرض
الدكتور (محمود) جملة آراءٍ لقدامى ومُحدثين من المؤرّخين عن (جابر)، ويقف عند
وجهة نظر (برتلو) Berthelot الذي يُقسّم نتاج (جابر) إلى قسمين: أحدهما
فيه الدسم العلمي، وينسبه إلى مؤلفٍ مجهولٍ، انتحل لمؤلّفاته اللاتينية في العصور
الوسطى اسم (جابر)، ليحتمي بسمعته وشهرته، والآخر فيه التفاهة والغثاثة، وهو الذي
يجوّز نسبته إلى (جابر) العربي، كما يشير إلى زعم (برتلو) Berthelot، الذي يخلص -
بعد تحليله للمؤلفات المنسوبة لـ(جابر)- إلى أنَّ بعضها عربي خالص، وبعضها لاتيني
له أصل عربي، وبعضها لاتيني لا توجد له صورة عربية.
منهج (جابر) في البحث الكيميائي
وفي الفصل الثاني يعرض الدكتور (محمود) لآراء بعض
العلماء القدامى حول بطلان واستحالة الكيمياء، كالكندي وابن سينا، أو إمكانها:
كأبي بكر الرازي والطغرّائي، ومن وقفوا موقفاً وسطاً بين الاستحالة والإمكان،
كالفارابي، ويستشهد بآراء (جابر) نفسه حول إثبات علم الكيمياء، ثم ينتقل للحديث عن
مصدر العلم، ويشير إلى مذهبين مختلفين في تفسير التعليم: أحدهما يرى أنَّ العلم
لدُنّيّ ينبع من الفطرة، والآخر يرى أنه كلّه آتٍ من الخارج بالتحصيل والتلقين..
وينبّه إلى أنَّ (جابر) يذكر هذين المذهبين، ويضيف إليهما مذهباً ثالثاً يقع بَين
بَين، وخلاصته أن يكون في نفس المتعلّم استعداد للتلّقي، ثمّ تأتي العوامل
الخارجية فتوظّف ذلك الاستعداد الفطري، وهذا يعني أنَّ الفطرة ليست (علماً)، وإنما
(تهيّؤ) لقبول العلم.
وبعد أن يقف الدكتور (محمود) في سياق حديثه عن تعريف
الألفاظ عند كتاب (الحدود)، ينتقل إلى موضوع التجارب العلمية، ويشير إلى أنَّ لـ(جابر)
منهج تجريبـي في البحث الكيميائي يقوم على المشاهدة ثم الامتحان والتجربة، ويفيض
في الكلام عن الاستنباط والاستقراء عند (جابر)، مبيّناً أنَّ مذهبه في خطوات السير
في طريق البحث العلمي، وهي الخطوات التي تطابق ما يتّفق عليه معظم المشتغلين
بالمنهج العلمي اليوم، تقوم على "مشاهدات توحي بفروض، ثم استنباط للنتائج
التي يمكن توليدها من تلك الفروض، ثم مراجعة هذه النتائج على الواقع"(ص58).
ووفقاً للدكتور (محمود)، فإنَّ (جابر) يعتمد الاستنباط
والاستقراء معاً في منهجه، وإن كان لا يجمع بينهما في عملية منهجية واحدة. أمّا
فلسفته الكونية، فهي فلسفة عقلية تربط الأشياء بالروابط السببية الضرورية، التي
يكشف عنها التحليل العقلي.
(جابر) وتصنيف العلوم
وفي الفصل الثالث يتحدّث الدكتور (محمود) عن تصنيف
العلوم عند (جابر)، والذي تجلّى في كتابه (الحدود)، موضّحاً أنَّ تاريخ الفلسفة
شهد أكثر من محاولة لتصنيف العلوم، وأنَّ الفلاسفة اختلفوا في تصنيفهم للعلوم
لاختلافاتهم في وجهة النظر، ولاختلاف العلوم نفسها عصراً بعد عصر.
وفي مجمل ملاحظاته على تصنيف (جابر) للعلوم يرى أنّه
فرّق بين العلم الديني والعلم الدنيوي على أساس زمن الانتفاع بالثمرة، فإذا كان
الانتفاع بعد الموت كان علماً دينياً، وإذا كان الانتفاع قبل الموت كان علماً
دنيوياً. كما أنّه ميّز في علوم الدين بين ما هو قائم على النصّ، وبين ما هو قائم
على الأحكام العقلية، فضلاً عن اهتمامه بـ(علم الصنعة)، أيْ (الكيمياء)، وجعله قطب
الرّحى في علوم الدنيا.
نظرية (جابر) اللغوية
ووفقاً للدكتور (محمود) فإنَّ من أهم الأسس التي اعتمد
عليها (جابر) في فهمه للطبيعة، هو أساس اللغة وتحليلها. وهذا يعني أنَّ معرفتنا
بالحروف والكلمات، وما لها من طبائع وخصائص، تمكِّننا من معرفة طبائع الأشياء
وخصائصها. ويوضّح الدكتور (محمود) أنَّ هذه الفكرة ليست وليدة (جابر)، بل هي قديمة
ترجع إلى عصور السحر والكهانة، حيث كان للكلمات والحروف مشاركة في طبيعة الأشياء
التي يُرمز إليها بها.
ويقف الدكتور (محمود) عند محاورة (أقراطيلوس) حول نشأة
اللغة، وهي محاورة نقلها إلى العربية (حُنَيْن بن إسحاق)، وتدور حول قضية "هل
الأسماء دالّة على مسمّياتها (بطبيعتها)، وبحكم خصائص نابعة من الرمز اللغوي نفسه،
تجعله ملائماً للشيء المرموز إليه به، أمْ أنّها تكتسب قوتها الدلالية بحكم (الاتفاق)
الذي يصطلح عليه الناس في عملية التفاهم؟ فإذا كانت الأولى، كان لا مندوحة لنا عن
اسمٍ معيّنٍ للشيء المعيّن. وإن كانت الثانية، كان أمر الاختيار متروكاً لنا، وكان
الأمر جزافاً"(ص114-115). ويبيّن الدكتور (محمود) أنَّ (جابر) كان موافقاً لـ(أقراطيلوس)
في أنَّ اللغة مسايرة للطبائع، موضّحاً أنَّ الكتاب الذي وازى فيه (جابر) بين
الحروف والطبائع هو كتاب (التصريف)، وذلك تشبّهاً بما يسمّيه النحويون: تصريفاً،
على اعتبار أن لا فرق بين تصريف الكلمات وتصريف طبائع الأشياء. أما منهج (جابر) في
هذا المجال، فهو الطابع المميّز لمدرسة (برتراند رسل) في المنطق، والمعروفة باسم (الذرّيّة
المنطقيّة)، والتي تتلّخص في أنَّ العالم الطبيعي يقابل عالم اللغة، وإذا كان علم
الطبيعة الذرّي قد فتّت الأشياء، وحلّلها إلى ذرّات، فعلم المنطق الذرّي هو الذي
يقابله في عالم اللغة.
وفي سياق شرحه لـ (ميزان الحروف)، يعرض الدكتور (محمود)
لرأي (جابر)، الذي يشير فيه إلى أنَّ اللغة لو بلغت كمالها المنطقي، لجاءت
مفرداتها مقابلة تمام المقابلة لما في الطبيعة من أشياء، بحيث لا تدلّ الكلمة
الواحدة إلا على مقابل طبيعي واحد، كما لا يقابل الشيء الواحد في الطبيعة إلا كلمة
واحدة في اللغة، ومثل هذه اللغة الكاملة منطقياً تخلو من الغموض وازدواج المعاني. ولكنّ
اللغة المتداولة تفتقد هذا الكمال: فهناك كلمات زادت حروفها عن الأصل المطلوب،
وهناك كلمات نقصت حروفها عن الأصل المطلوب، ولذلك فلا بدّ - لكي نستشفّ طبائع
الأشياء الخارجية من أسمائها في اللغة - من إسقاط الزوائد من الكلمات، أو إضافة
النواقص إليها.
وينوّه الدكتور (محمود) إلى أنَّ (جابر) شرح في كتاب (الحاصل)
قضية تشابه وتباين اللغات في تسميتها للشيء الواحد، فاستعرض العربية والرومية
والاسكندرانية والفارسية والحميرية.
فلسفة الكون عند (جابر)
وقد خصّ الدكتور (محمود) الفصل الخامس من كتابه للحديث
عن (فلسفة الكون)، فتحدّث بادئ الأمر عن مراحل الكون، وذكر أنَّ (جابر) كان يرى
أنَّ العناصر الأربعة هي أوّل ما كان في الأزل، ثم طرأت عليها حركة وسكون، فتكوّن
منها تركيبات منوعة، ولم يُتح لخروج الكائنات التي نراها من حيوان ونبات وحجر،
لولا مبدأ الكميّة التي تدخل في عملية الامتزاج. وهذا يعني أنه وفقاً لـ(جابر)
فمراحل الوجود هي: كيفيّات، فحركة وسكون، فكميّة، بهذا الترتيب. ويخالف (جابر)
المذهب الأرسطي، فهو لا يذهب إلى وجود هيولي سابق على العناصر الأربعة، ليس هذا
فحسب بل هو يتناول هذا المذهب بالنقد، مقيماً الدليل على استحالته.
ويفهم الدكتور (محمود) من التقسيمات الرباعية، التي تشعّب
بعضها عن الأصول الأربعة الأولى، كالعناصر الأربعة، والفصول الأربعة، والأخلاط
الأربعة التي في بدن الإنسان، والأعضاء الرئيسة الأربعة في جسم الإنسان، أنَّ (جابر)
يشبه العالم بالإنسان، فالكون إنسان كبير، والإنسان كون صغير.
ويقف (جابر) عند خمس مقولات لـ(أرسطو) لا بدّ من توفّرها
لكي يتكون في العالم شيء ما، وهي: الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان. وبعد أن
يشرح الدكتور (محمود) بنية الكون عند (جابر)، يخلص إلى القول: "هكذا تكون
بنية الكون كما يتصورها (جابر) بن حيان: دوائر يحوي بعضها بعضاً؛ فدائرة العلّة
الأولى، تتلوها من الداخل دائرة العقل، وهذه تتلوها من الداخل دائرة النفس، وهذه
تتلوها من الداخل دائرة الجوهر، وهذه تتلوها من الداخل دوائر العناصر الأربعة،
وأخيراً تجيء دائرة خلاء؛ ولقد اتّخذ الكون شكل الدائرة لأنَّ الدائرة أكمل
الأشكال الهندسية، وما جاء على صورتها يكون قليل الآفات وغير هالك، إلا أن يشاء
الله صانعه أن يهلكه؛ وهو الذي فوق العلّة الأولى وتحت مركز الدائرة الصغرى من هذا
العالم، ولذلك كان هو الأوّل والآخر"(ص170-171)".
فعل الكواكب والبروج
وفي الفصل السادس يتحدّث الدكتور (محمود) عن "فعل
البروج والكواكب"، ويشير إلى أنَّ (جابر) يرى تلازم الظواهر الطبيعية
والكواكب؛ وأساس التلازم هو طبيعة الكواكب نفسها، وما تستتبعه من أحداث تلائمها.
كما يعرض لآراء (جابر) حول الآثار التي تنجم عن تفاعل البروج والكواكب، والآثار
التي تتركها العناصر الأولية ومواضع النجوم ومختلف البروج في طبائع البلدان.
الكيمياء الجابريّة
وقد خصّص الدكتور (محمود) الفصل السابع للحديث عن (علم
الكيمياء)، فعرض بادئ الأمر لبعض آراء (أرسطو) عن الطبيعة، والهيولي، والكيفيات
الأربع...إلخ، موضّحاً أنَّ انتقال مركز العلم من (اليونان) إلى (الإسكندرية) كان
سبباً في امتزاجه بالتصوّف، فكان أن امتزجت الكيمياء بالسحر. وينقل عن (هولميارد) Holmyard رأياً يوضّح
مدى التغيّر الذي أحدثه ظهور الإسلام، وما أعقبه من فتوح لمصر وسوريا وفارس، من
عناية بالمعرفة، وازدهار لحركة الترجمة، وكان للكيمياء نصيبها في هذا المجال. كما
ينقل عن (هولميارد) Holmyard أيضاً ما مفاده أنَّ فلسفة (جابر) أرسطية
معدَّلة، شأنه شأن جميع المسلمين، كما أنَّ نظريته في تكوين المادة هي نفسها – في
جوانبها الهامة كلّها – نظرية أرسطو، ولكنه آثر الجوانب العملية في الكيمياء على
شطح الخيال، فقدّم آراء واضحة ودقيقة.
ويشرح الدكتور (محمود) - اعتماداً على نصوص (جابر) –
فكرتي: الوجود بالقوة، والوجود بالفعل، وهما فكرتان أرسطيّتان، ويفهم من بعض هذه
النصوص أنَّ الكيمائي يحذو حذو الطبيعة في تكوينها للأشياء، ولكن في الوقت الذي
تعمل فيه الطبيعة من تلقاء نفسها، فإنَّ الكيميائي يعمل بتجربة مدبرة، وباستطاعته
أن يؤدّي كلّ ما يمكن أن تؤدّيه الطبيعة من عمليات تحويل الأشياء بعضها إلى بعض،
وإنْ كان بحاجة إلى التبصّر والحذر، إذ لا يمكن أنْ يتمّ التحويل أحياناً إلا
بخطوات متدّرجة، ليس هذا فقط بل إنَّ بمستطاع الكيميائي أن يكوّن بعض الأشياء خلال
فترة وجيزة، مقارنة بالفترة التي يستغرقها تكوينها في الطبيعة.
وينتقل الدكتور (محمود) إلى مفهوم (الإكسير)، وهو
الوسيلة التي يُخرج بها الكيميائي شيئاً من شيء آخر، ولكن ذلك لا يتم دون معرفة
الموازين، أيْ: معرفة ممّ يتركّب الشيء المراد تحويله، وكيف يتركّب، وممّ يتركّب
الشيء المراد الحصول عليه، وكيف يتركّب. وينقل عن (هولميارد) Holmyard إشارته إلى
أنَّ الأصالة الحقيقية التي تُنسب إلى (جابر) في الكيمياء تكمن في نظريته في
الإكسير وفي الميزان. ووفقاً للدكتور (محمود) فالإكسير، أو تحويل الكائنات، – عند (جابر)
-، لا يقتصر على المعادن فحسب، فردّ المريض سليماً لا يختلف عن ردّ النحاس إلى
ذهب، ومن هنا جاءت الصلة بين الكيمياء والطب، فالكيمياء تعالج المعادن الخسيسة
لتردّ معدناً نفيساً، والطبّ يعالج الأبدان المريضة لترتدّ صحيحة، وأساس العمل في
الحالتين واحد، وهو الإكسير.
بعد ذلك ينتقل الدكتور (محمود) إلى موضوع (الخواص
والموازين)، ويبيّن أهميّة دراسة خواصّ الأشياء، سواء أكانت حيّة أو جامدة، ولذلك
فقد اهتم (جابر) بدراسة الخواص، وأفرد لها أكثر من كتاب، أهمها كتاب (الخواص
الكبير). ويفهم الدكتور (محمود) من كلام (جابر) عن معنى (الخاصيّة) أنه يكاد
يجعلها مرادفة لما يسمى في الفلسفة بـ(الماهيّة). فتعريفه لها يدلّ على أنَّ
معناها هو الوظيفة التي يؤدّيها الشيء. ويستطرد الدكتور (محمود) في الحديث عن هذا
المعنى عند (جابر)، موضّحاً أنَّ الموازين تبنى اعتماداً على خصائص الأشياء، ويوضّح
أنَّ فكرة (الميزان) هي أدّق وأعسر وأهمّ فكرة عند (جابر). وينقل عن (هولميارد) Holmyard قوله عن
نظرية (جابر) في طبيعة المعادن: إنَّ (جابر) قد تقدّم على النظريات العلمية
اليونانية، وعلى الصوفية الملغزة التي تركتها مدرسة الإسكندرية، وأنَّ علم
الكيمياء يسجّل له كشوفاً هامة، فهو مكتشف الماء الملكي (Aqua Regia)، وزيت
الزاج أو حامض الكبريتيك (Sulphuric
Acid)، وماء
العقد (Nitric Acid)، وحجر جهنّم
أو نترات الفضّة (Nitrate
of Silver)، ومن المرجّح
أنه هو الذي ركّب الزرنيخ، وحجر الكحل من الزرنيخ، والإثميد (Ithmid).
وعندما ينتقل الدكتور (محمود) إلى نظرية التكوين عند (جابر)،
يوضّح أنَّ (جابر) يرى أنَّ العالِم الكيميائي بمقدوره أن يحول أيّ كائن إلى أيّ
كائن آخر، سواء أكان معدناً أو حجراً أو نباتاً أو حيواناً أو حتى إنساناً، وإنْ
كان يستغرب كيف أنَّ رجلاً يعتقد في ديانةٍ تجعل خلق الإنسان من شأن الله وحده،
ويحاول صناعة إنسان!
(جابر) فيلسوفاً
وفي الفصل الثامن من الكتاب، يتحدّث الدكتور (محمود) عن
فلسفة (جابر)، ويشير إلى أنه كان فيلسوفاً يصطنع جدل الفلاسفة، فضلاً عن كونه
عالماً يؤسّس علمه على المشاهدات والتجارب، وينوّه إلى أنّه يعدّ (سقراط) مثله
الأعلى. وبعد أن يستشهد ببعض نصوص (جابر) التي تؤكد أهميّة الفلسفة، وتعدّ أكثر
الأنبياء فلاسفة، كنوح وإدريس وفوثاغورس وثاليس القديم والاسكندر، يعرض جملة مبادئ
تعبّر عن التفكير الفلسفي عند (جابر).
(جابر) بين العلم والخرافة
وفي الفصل التاسع، وهو الفصل الأخير من الكتاب، والمعنون:
(بين العلم والخرافة)، يتحدّث الدكتور (محمود) عن (فعل الطلاسم)، ويوضّح كيف أنَّ (جابر)
يعد الطِّلّسمْات من العلوم المعترف بها، والمهمّة، لأنّها تُمكِّن العالِم من
إخراج ما يريد من كوامن الأشياء، وبعد أن يقف – مستغرباً - عند موضوع (طبيب البحر)،
وهو حيوان على خلقة الإنسان، يدّعي (جابر) أنه رآه، ويذكره في كتاب (السبعين)،
يعرض تحت عنوان: (ابتهال العلماء) وصيّة يراها (جابر) كبيرة النفع لطلاب العلم، تعلمها
من أستاذه (جعفر الصادق)، وتنطوي على الانعزال في الصحراء، والانشغال بالصلاة
والدعاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق