عبد الباقي يوسف
عندما تذهب إلى بيت شخص ما، فإنّك ترتّب نفسك، وتتطيَّب،
وتتمشَّط، وترتدي ثياباً جديدة، وتتهَندَم، وما إلى ذلك، فتكون بذلك قد أخذتَ زينتك
[عِندَ كُلِّ] بيت من البيوت التي تدخلها. ولكنك عندما تذهب إلى بيت الله - وكل مسجد
هو بيت من بيوت الله - لعلّك لا تفعل نصف ما تفعله بالنسبة للاستعدادات في الذهاب إلى
بيوت الناس، والبعض يذهب ببيجامة نوم مهترئة، أو بثياب بالية، أو متّسخة، تفوح منه
روائح كريهة، ويكون شعره أجعد، وشعرات ذقنه مشتّتة، ويكون وجهه جَهماً، على نقيض ما
يذهب إلى أيّ بيت من بيوت الناس. فتلك الاستعدادات، وذاك الإشراق، وذاك الوجه المبتَسم،
وتلك الثياب الجديدة، وذاك العطر، وما إلى ذلك، فكلّه مُخَصّصٌ لبيوت الناس، أمّا بيوت
الله، فلا شيء من ذلك، بل على النقيض.
في هذه الآية الكريمة، ينبّهك الله تعالى إلى هذه المسألة،
فالأولوية في كل تلك المظاهر، وكل تلك الاستعدادات، تتّخذها وأنت متّجه إلى بيت الله،
وهو أَولى بهذا الحُسن المادّي والمَعنَوي من أيّ بيت دونه. ويُستَحسَن أن يغار المؤمنون
على بيوت الله كغيرتهم على بيوتهم أو أكثر، فيحافظوا على حاجات المسجد، كل بمقتضـى
استطاعته، فإن انتبهتَ إلى سجّادة مهترئة، استبدلتها بجديدة، إن وجدتَ إبريقاً مثقوباً،
استبدلته بإبريق جديد، إن وجدتَ صنبوراً عاطلاً، استبدلته بجديد، إن وجدتَ مصباحاً
لا يضـيء، استبدلته بجديد، وما إلى ذلك، ممَا يمكن أن يقوم به كل فرد وفق استطاعته،
دون أن يُخبر أحداً. فترى بعض الميسورين الذين يرفلون ويتقلّبون في نِعَم الله، لا
يحرّكهم ساكن وهم يرون مسجد الحي مَعدوماً من وسائل الراحة والنظافة، وبئس الأحياء
التي تكون بيوتها فخمة راقية، ومساجدها فقيرة معدومة. فَمِنَ الأغنياء، أغنياءٌ لا
يرضون أن يكون أثاث بيوتهم أفضل من أثاث بيت الله في حَيّهم، لا يرضون أن تكون زينة
بيوتهم، أفضل من زينة بيت الله، فيخجلون من الله تعالى، ويحسبون حِساباً لساعة يلقون
فيها الله، فيسألهم هذا السؤال، فهؤلاء تقشعرّ أبدانهم حياءً من الله. فكم مِن بادرة
لطيفة عند رجل مقتدر، وهو يرى شخصاً فقيراً يدخل المسجد بثياب رثّة، فيأخذه بسيارته،
ويبتاع له ثياباً جديدة ثمينة، حتى يأتي بها إلى المسجد، فكم مِن مواقف نورانية يمكن
للإنسان أن يفعلها، وهو يعبّر عن حبه لله، وعن غيرته الشديدة على بيوت الله. فذاك الغني
لم يرفل له جفن وهو في بيته ينظر إلى فخامة الأثاث، وإلى ألوان السجّاد، وأناقة الديكور،
وزخرفة البناء، ويتخيّل ما عليه بيت الله من فقر، فيخرج من بيته في اليوم التالي، ويقرّر
ترميم بناء المسجد بزخرفة لا تقل عن زخرفة بيته، وكسوة لا تقل عن كسوة بيته، وهو يقول:
خجلتُ يا رب أن أقيم في بيت أجمل من بيتك. فلعلّ موقفاً واحداً يُعادل عمراً من العبادة،
فإن كنتَ كريماً، يبيّن الله بأنك لستَ أكرم منه، وأنه أكرم منك، فيجازيك بما هو أكثر،
وإن غرتَ على بيته، يكون أكثر غيرة على بيتك، فهناك أناس من أصحاب المواقف الكبرى التي
يحفظها الله لهم. يستخلصهم من سائر الناس، فهذه أمور واردة، وهي تكون لأناس استثنائيين
تقرّبوا إلى الله بأعمال استثنائية خالصة لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته، فحفظها الله
لهم.
عن أبي أمامة: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"وَعَدَنِي رَبِّي سُبْحَانَهُ أَنْ يُدْخِل الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ
أَلْفاً لا حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلا عَذَابَ، مَعَ كُلّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً،
وَثَلاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي عَزَّوَجَلَّ").
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
امضوا إلى المساجد بإشراق، بزهو، بلياقة، بخطوات واثقة، بعز، بافتخار، فلا بيوت، ولا
أمكنة قط أفضل من هذه التي تمضون إليها.
[وَ] في ذلك [لاَ تُسْـرِفُواْ] لا تنفقوا أموالكم فيما لا
طائل منه، والإسراف كالهدر، أيْ تهدر ممَا أنعم الله عليك، فلا تحرم نفسك، ولا تزيد
عن حاجتك {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْـرِفِينَ}. حتى لا تخرجوا من محبة الله لكم،
فتنقلبوا من النعيم إلى الشقاء، فحافظوا على محبة الله لكم بعدم الإسراف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق