03‏/01‏/2018

عبق الكلمات/ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ

عبد الباقي يوسف
يثبت الزمن أن مضامين القرآن متجدّدة، يعيشها الناس في كل زمان ومكان، ويرون صلاحهم فيها. وهنا نقف مع الكيل والميزان، وقد جاء في الآية 85، من (سورة الأعراف): [قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ].
اعدلوا في كيلكم إذا كلتم، وميزانكم إذا وزنتم. وجاءت كلمة [فَأَوْفُواْ بمعنى: أَعطوا تمام البضاعة التي قبضتم ثمنها، ولا تنقصوا منها شيئاً من خلال التحايل في [الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ]. فإن استطعتم أن تتحايلوا على الناس، فلن تستطيعوا أن تتحايلوا على رب الناس. وكلمة البخس تذكير بقلّة النفع من هذا الاعتداء على أموال الناس بالتحايل من خلال[الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ]. فالبخس هو القليل النفع، فترفّعوا عن هذا التحايل.
إذن تعلّمك الآية الكريمة بأنك عندما تقبض قيمة بضاعة جيدة من شخص، ثم تعطيه بضاعة ما دون ذلك،
فتكون قد بخسته، أيْ هي بضاعة ليست وفق القيمة التي دفعها لك، فتكون بذلك قد بخسته. ومثل ذلك ما يضع البائع بضاعة جيدة من الخضار والفاكهة أو ما شابه، في الواجهة، ثم يخفي في أسفلها ما دون ذلك، بحيث لا تكون ظاهرة للعيان، فيضع لك الوزن الذي تريد في الكيس من تلك البضاعة الخفيّة، وإن مدَدتَ يدك إلى حبّة لتضعها في الكيس، منعك، لأنه يكون قد وضع ذلك ليستجرّ به الناس ويخدعهم. فذلك كالمصيدة التي يصطاد بها الناس، حتى يبيع من خلالها بضاعته الرديئة بسعر البضاعة الجيدة، وعندما تعود إلى البيت، تكتشف ذاك الغَث، فتضطر أن ترمي نسبة في الحاوية، وأحياناً تكون النسبة مرتفعة قد تشمل ثلاثة أرباع ما قد بخسك به، وقد أخذ منك قيمة كاملة عن بضاعة جيدة سليمة. ولذلك نرى أن يتجنّب البائع هذا الشكل في البيع، وأن يدع المشتري ينتقي ما يريد، فإن انتقى حبّة فاسدة، فيكون هو الذي انتقاها. ثم أنه يفرز البضاعة ما دون الجيدة، فيعرضها للبيع ظاهرة للعيان بسعر منخفض، لأنه قد لا يأمن أن تمتد يده إلى حبّة فاسدة، فتضعها في الكيس في لحظة طَمَع. فلسدّ هذا الباب، يعرض البضاعة كاملة وظاهرة للعيان، ويعفي نفسه من مسؤولية الانتقاء. وقد توعّدهم الله تعالى بالويل: [وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسـِرُونَ] المطففين1،3.
جاءت كلمة (أشياء) جامعة ومفتوحة، لتشمل كل شيء يمكن أن يبخس فيه البائع على حق المشتري، وإن كان الميزان يعني الثقل الموازي للوحدة، الذي يمكن أيضاً أن يبخس البائع من خلاله المشتري من خلال إحداث خلل في هذه الوحدات، فإن الكيل يعني جودة البضاعة التي قد لا تخضع للميزان، مثل الأقمشة، والأثاث، ومختلف الأدوات التي يمكن للبائع أن يبخس بها [النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ] على أنها أصلية، وتكون ما دون ذلك.
ما هو مهم أن تعلم بأن هذا الكلام ليس موجهاً من النبي شعيب (عليه السلام) إلى قومه بشكل خاص، بل هو مثال لجميع البشر، أينما كانوا، وحيثما وُجِدوا، فلو كان الكلام مقتصراً على قوم دون غيرهم، لَما كان من وجوده في القرآن من معنى، لأن الناس كانوا سيقرؤونه دون أن يجدوا فيه نفعاً. فاعلم أن كل أنبياء ورسل الله (عليهم الصلاة والسلام)، هم أنبياء ورسل للناس جميعاً، وأن في قصصهم عبرة وموعظة للناس جميعاً. فلا يجوز لك أن تقول بأنني لستُ مَعنيّاً بهذا الكلام، وأنه كلام خَصّه نبيّ لقومه. ولذلك جاء خاتم أنبياء الله ورسله (عليهم الصلاة والسلام)، مصدّقاً لِما جاء الأنبياء والرسل من قبله، وهذه الأحداث والوقائع يقصّها الله تعالى لك من خلال رسوله، والغاية من قَصّها، أن تنتفع بها، وتتعظ بها. ولذلك فإن كل كلمة في القرآن، تلزم الإنسان، وما من كلمة احتواها القرآن، لا تلزم الإنسان.

   إن الله غني في أمثلته للناس، ويبيِّن لهم أن الغَلَبة لن تكون للفساد، بل للصلاح. ومهما كثر المفسدون، ومهما امتدّت رقعة الفساد، فإن الله يُعاقِب المفسدين بفسادهم، ويجعلهم يمنون بالهزيمة، وينصر عليهم قوماً صالحين، ويورّثهم الأرض. فهي إذن دروس حتى يصلح الإنسان من شأنه، ويبلغ قناعة بأن الخير له ولأبنائه يكون في الصلاح، وأن بركة الله تكون في الصلاح، وأن الفوز في الدنيا والآخرة لا يكون إلاّ بالصلاح .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق