03‏/01‏/2018

النص القرآني وإشكالية التحديد من الجمال إلى الجلال

الدكتور اليامين بن تومي
أكاديمي وباحث من الجزائر
ما معنى أن نجعل النص القرآني في صدر البحوث الجمالية من الوجهين؛ الفينومولوجي والأنطولوجي/ الشكلي، أقصد النص كبناء، وليس كخطاب، ذلك أن هناك فرقاً جوهرياً بين النص والخطاب، فالنص أولاً هو ما ثُبِّت بالكتابة، كما يقول (رولان بارت)، أيْ نقصد به النَّسيج معنى التركيب؛ النص فيما هو وحدة بنيوية بارزة تَنُصُّ نفسها، على اعتبار أنها وحدة لسانية منتجة، تدخل ضمن شبكة علاقات إنتاجية، كما تُعرِّفه (كريستيفا)[1]،  ويعرّفه (القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان) بقوله: "هو سلسلة لسانية محكيّة، أو مكتوبة، وتشكّل وحدة لسانية"[2].
والفرق الجوهري بين النص و الخطاب، أن الخطاب لا يكتفي بالبنية اللغوية المغلقة بقدر ما يخرج للتمثّل، أي
ينتقل من البنية إلى الوضعيات الخارجية/ السياقية التي تحكمها إحداثية (الزمان و المكان)، وهذا ما يُحلله (تودوروف)، في كتابه المهم (مفاهيم سردية)، حين يقول: "نسمّي وضعية الخطاب مجموع الظروف التي يجري فيها فعل التلّفظ، مكتوباً أو شفهياً، يجب أن نفهم المحيط الفيزيائي والاجتماعي في الوقت نفسه، حيث يأخذ هذا الفعل مكانه، فالصورة التي هي عند المتكلمين هويتهم، الفكرة التي يكّونها الواحد عن الآخر.. ونسمّي أحياناً هذه الظروف: السياق"[3].
وعموماً ما يعنيني هنا أن أنظر إلى النص القرآني  على اعتباره بنية مكتملة، أو "هو ما ازداد وضوحاً عن الظاهر"[4]، فاكتمل ضمن إطاره ووحدته، واتّصف بالكمال على سبيل أنه الحدّ الذي ليس بعده، لأنه يتعلّق بالختم المطلق للديانات التوحيدية قاطبة، فكان الكمال في وجهين: كمال في الدين، وكمال في الحجيّة؛ كما في قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي  ورضيت لكم الإسلام دينا}[5].
والمكتمل في ذاته لا يحتاج إلى زيادة، والاكتمال يرتبط بختم التشـريع، فلا تبديل فيه ولا تغيير، أي إن الكمال يوجب الاتّباع بهذا الاعتبار. والمكتمل في ذاته حجّة في نفسه، ومحاججٌ عن حامله، نبيّاً كان، أم متّبعاً، لِلُزومه الحق الظاهر، فلا يغلب عليه متكبّر ولا مدّع.
ولما كان ذلك كذلك؛ أردت أن أعرض هذا البيان على الدرس الجمالي المعاصر، من أجل أن نُخَرِّجَ النص مع ما يتجانس معه، حيث إنني استشكلت الحكم الذي يتصوّره البعض حول النص القرآني فيعتبرونه (نصاً جميلاً)، فهذا الحكم  - في منظور الدرس الجمالي - حُكمٌ مَتَعجِّل وسابق لأوانه، لا ينمُّ عن مقدرة علمية رصينة.
و هنا نشتغل على تثوير فضلتين مهمتين:
-أولاً: أن نعيد تأمّل درس الإعجاز القرآني في ضوء الدرس الجمالي المعاصر، لنعيد إحياءه في مصبّ مغاير تماماً.
- ثانياً: أن نُصوِّب الفهوم التي وقعت أحكامها في الزلل، جرّاء إسقاط عبارة إعجازية على أخرى غير إعجازية، من دون سبر عميق للمعجز: ماذا يعني أصلاً؟
ما نريده بلغة (هوسرل) الفينومينولوجية، أن نمارس نوعاً من الردّ الماهوي للقرآن، أيْ إنْ نردَّهُ لذاته، لنرى هل يمكننا الحكم عليه بالجميل، أم بخلافه؟ ألا يوقعنا القول بالجميل للنص القرآني، في نوع من الإسقاط بين بِنيَتين: إعجازية وغير إعجازية، أيْ حين أقول إن النص القرآني جميل، فهذا في الأصل حكم، و لا يصدر الحكم إلا عن خبرة سابقة، والخبرة السابقة هي جملة المعايير و التقاليد التي انطلقنا منها للحكم على الشيء أنه جميل. بمعنى أن الجميل هو؛
- ما انطلقنا فيه من خبرة سابقة.
-أن الجميل لا يكون كذلك إلا إذا كان بالقياس على شيء كان لنا نموذجاً.
-أن الجميل حكم.
-أن الجميل هو ما تعارف عليه المجموع في زمان معين، ومكان معين، أنه كذلك. فالجميل هو ما شكّله الوعي لدى جماعة في ظرف معين. نسمّيها هنا: التقاليد الجمالية.
وعليه، فالجميل لا يكون جميلاً، إلا إذا كان لنا عنه رصيد سابق، ننطلق منه لنحكم على ما تبدّى لنا جماله الآن.
لذلك يطرح (pierre sauvanet  بيار سوفانيي) في كتابه المهم: (éléments d’esthétique ) عناصر الجمالية،  وهي: التجربة الجمالية l’expérience esthétique والمسافة الجماليةla distance [6]esthétique  .
أيْ إن أيّ حكم جمالي ينطلق أساساً من التجربة، وهي الخبرة وكليّة الوعي الجمالي الذي تربّى عليه الفرد في فترة معينة، أيْ إن هناك مسافة تُشكِّل الذوق الجمالي من جيل إلى جيل، فكل تجربة تتمخّض عن زمانية معينة تَمُدُّ الذوق العام بنمط معين من الأحكام المتواترة، هذه الأخيرة تنعكس على الفرد، لتتحكم في ذوقه بشكل عام، لكنها تتبدّل نتيجة طفرات أو منعطفات تحصل في لحظة زمنية معينة، تتغيّر معها كل الأحكام الجمالية في فترة أخرى. وهكذا يدخل الحكم الجمالي في صيرورة زمنية. 
ويحلّل (غادامير) هذه الوضعية المتقلبة للفهم والوعي الجمالي فيقول: "بناء على ذلك، تكتسب المسافة التاريخية معنى جديداً، ومختلفاً، باعتبارها زمكانية إيجابية وإنتاجية للفهم، فالزمن لم يعد فجوة ينبغي عبورها، لأنه يمثّل حدّاً فاصلاً، لكنه - في الحقيقة- الأساس المدعم للعملية التي يتأصّل فيها الحاضر. إنها ليست هاوية، لكنها ممتلئة باستمرارية العرف والتراث، التي في ضوئها يتمّ استحضار كل ما كتب في الماضي إلينا"[7].
هاهنا سننظر في القرآن على مستوى المسؤولية التاريخية للأشكال الأدبية، لأن الإعجاز الذي نلاحقه في شكل الاكتمال البنائي، معجز في كليّته الوحدوية. ولعلّ مسائل الإعجاز قد طرحت كثيراً في تاريخنا الإسلامي، كما وصف ذلك (محمود محمد شاكر)، في كتابه (مداخل إعجاز القرآن)، حيث وقف عند الدلالات اللغوية للفظة المعجز والإعجاز والتحدي، وقام بالبحث عن المجالات الدلالية للمصطلحات، ليصل أن لفظة الإعجاز دخلت مجال الحقل التداولي العربي الإسلامي، في حدود القرن الثالث للهجرة، مع الجاحظ، وكتابه (نظم الإعجاز)، الذي يرى فيه أول ما كتب، ثم تلاه (أبا عبد الله الواسطي) المعتزلي، فكتب كتاباً وسمه بعنوان: (إعجاز القرآن)[8].
 ولكن (الباقلاني) يرى في (الجاحظ) استمراراً لبحوث سبقته، يقول: "وقد صنّف الجاحظ في نظم القرآن كتاباً، لم يزد فيه على ما قاله المتكلّمون قبله، ولم يكشف عمّا يلتبس في أكثر هذا المعنى"[9].
 والإعجاز من أهم الأبواب التي شغلت العلماء، وقد نقلت إلينا الكثير من الرسائل، أهمها رسائل: الرماني، والخطابي، وعبد القاهر الجرجاني، والتي جمعها كلٌّ من: (محمد خلف الله أحمد)، و(محمد زغلول سلام)، في كتاب سمّوه بـ(ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرماني والخطابي وعبدالقاهر الجرجاني).

هذا الباب مهم جداّ، في تصوّري، لإعادة تأمّل ميراثنا الأدبي والنقدي والكلامي، للخروج من المعضلة المنهجية والتأملية التي عصفت بنظرتنا للتراث، لأن تراكم مفهومات الإعجاز ليست واحدة، بل هي كثيرة ومتنوعة، ومداخلها متعددة، فكان مبتدأ الأمّة أن أعجزهم على مستوى بيانه، وفصاحته، ثمّ على مستوى الكمال والختم، ثم على مستوى النبوة، أيْ تدّرج بهم من الإلهيات إلى النبوات، ثم على مستوى التخصيص الجزئي للآيات الربانية في الآفاق.
وهكذا توالت صور الإعجاز لا تهدأ ولا تتوقف، ولأن الوجه والمنظور متعلّق ابتداءً ببناء الإعجاز فيه، فهو معجز في التعدد وعدم الانتهاء.
لزم أن نعيد تأولّه خارج دائرة الفصاحة، ونلقي به في ضوء نظرية القوالب، أو الأجناس الأدبية. ولعلّ البعض يتخوّف أن نَغُوصَ في الأمر مخافة الزلل، لكن حُجَّتنا في ذلك منطلقها: إنْ كان القرآن معجزاً فهو مفحم، ولا نخاف عليه من جهة كونه كذلك، إذ الإعجاز نقطة نووية فيه، لا يتحرك إلا بها و إليها.
وهنا نطرح سؤالاً جوهرياً، على مستوى الرؤية والبناء:
-  أليس القرآن كلام خرق كل أنظمة العرب البلاغية والنحوية؟ هل يمكننا أن نتصوّر القرآن خارج الخرق الأسلوبي لنظام كلام البشر وقوانينهم في الصناعة الكلامية؟ هل يتراكب أن يخترق المعجز، ما ليس بمعجز؟
إن المسألة تحمل في داخلها تركيباً مزدوجاً عن كلام ليس بمعجز كان هو السائد، والجاهز، كالشعر و السجع، وبين كلام معجز شكَّل الطَّفرة، أي إن نظام القرآن لم يكن من مقول العرب، ولا من السَّائد عندهم من جهة البناء، فهو ليس متاحاً لهم من جهة النَّسج، أي إنه في خانة المتفرد و المتميز، لقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[10].
وقوله كذلك، متحدّياً الثقلين معاً، على أنه ليس في مقدورهم أن يكون القرآن من جنس كلامهم، ولا من مُتَعَيَّنِ خطابهم: قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}[11]. وفي قوله كذلك:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[12] .
 وهنا يعلّق (الباقلاني)، في كتابه المهم (إعجاز القرآن): "فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله، دليلاً على أنه منه، ودليلاً على وحدانيته"[13]. فالمجال التداولي للإعجاز قائم على التحدي وكسر التوقّع، وهذا ما أثاره (محمود محمد شاكر)، في كتابه (مداخل إعجاز القرآن): "ولفظ التحدّي وضعه المتكلمون، واصطلحوا عليه، لتصوير موقف مشركي العرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تلا عليهم القرآن، وجاهرهم بأنه كلام الله يوحي به إليه، وأنه هو وحده الدليل على أنه نبي الله أرسله إليهم"[14].
ولخّص (الباقلاني) وجوه الإعجاز في ثلاثة أوجه:
-أحدهما يتضمن الإخبار عن الغيوب.
-ثانيهما أنه كان معلوماً من حال النبي أنه كان أميّاً لا يكتب، ولا يحسن أن يقرأ.
- ثالثهما أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناهٍ في البلاغة، إلى الحدّ الذي يعلم عجز الخلق عنه.[15]
أيْ إنه لم يخرق معهود الكلام فحسب، بل خرق كل الأفق الجماليl’horizon esthétique ، أيْ تجاوز مفهوم ما هو جميل عند العرب. تجاوز أعرافهم، والتقاليد التي توارثوها.
وهنا تتداخل مفاهيم من قبيل؛
-           الجميل؛ إشكالية المصطلح: الجميل، والرائع، والجليل. ثم سأضيف مصطلحاً توّغل كثيراً في الفقه الجمالي الإسلامي، و هو يتجاوز ما حدّده (كانط)، والذي قصدته هنا بـ(الجلال)، وهو ليس (الجليل) المعروف عند (كانط).
-                   إشكالية الوعي الجمالي، وخرق الأفق الجمالي.
-                   في تقويض الجميل لصالح الجليل، وتقويض الجليل لصالح الجلال.

إن الجميل، بالمفهوم العربي، كانت تحكمه القبيلة، وتقاليدها المتوراثة كابراً عن كابر، بينما القرآن هو ما ليس بجميل، إذا قيس بكلام العرب. لأن العرب، إذا ولد عندها الشاعر، جعلته على رأس الناس، وقدّمته، كيف لا وهو من يذبّ عنها، وينافح عن أحسابها وأنسابها.
 فالقرآن  يعتبر من جهة الابتداء، أول من قوّض تلك التقاليد القديمة، حيث قلب نسق الشعر، وقوَّض أساساته، وما بقي منه نقل ايديولوجيته من نموذج الكذب إلى نموذج الصدق، بل زحزح مكانة السجع في شخص الكاهن، والشعر في شخص الشاعر، إلى القرآن، وشخص النبي، وما كانت تمضي عشرون سنة حتى كان القرآن هو الظاهر على ألسنتهم، و الغالب عليها. وكتب التراث غنيّة بالأدلة على ذلك.
إذاً، العرب تمتلك تقاليد جمالية حسية، تتناقلها أباً عن جد، تلك التقاليد تحكم للشاعر بالفحولة، أو دون ذلك، بل صنّفت العرب شعراءها في شكل كُنى عَلِقت بطبيعة الشعر، فقالت: مهلهل، ونابغة، وو .. وغيرها من الألقاب، حتى لما جاء القرآن رجعت عن ذلك، وصار الشعر نصاً ثانياً شارحاً للقرآن، ومُعزّزاً له، لا أكثر.
لأنه (القرآن) صار أرفع درجة من الجميل، صار المفارق والمتجاوز لكل جميل، لا تنظّمه أحوال الجميل، ولا معانيه، يتجاوز كل مفاهيم الشكل، وحدّ الجنس الأدبي؛ من شعر وحكاية وسجع للكهّان، هو كل هذا، وليس كل ما يدّعي وصله به، وليس هو. هو فقط هو، على غير صفة، ولا جنس، ولا حدّ، مما تعيّن باعتباره صفة، أو جنساً، أو حدّاً. لذلك كان معجزاً. فما صفة إعجازه، إن لم يكن بالجميل؟ أيْ لم تنظمه تقاليد الجميل المعروفة من جنس أو نوع؟ فأيّ حكم جاهز حوله، لا يعدّ طريقاً لفهمه؟
يقول (كانط): "لكي نعرف إن كان أي شيء جميلاً، أو لا، فنحن لا نحيل إلى تمثّله للموضوع بواسطة الفهم، مع نظرة إلى المعرفة، بل نحيل - بواسطة الخيال - إلى تمثّل الذات، وشعورها باللذة، أو الألم، وحكم الذوق ليس معرفياً، وبالتالي ليس منطقياً، بل حكم جمالي."[16]
وعليه، فالتذوق هو ملكة حكم على موضوع ما، أو نمط ما، تمثّل عن طريق رضا أو قنوط، بمعزل عن أي مصلحة، ويسمّى موضوع هذا الرضا بالجميل.. فهل يمكن أن تتنزل من هذه الأحكام القبلية على القرآن، لنحكم عليه بالجميل، نتيجة ما يخلّفه فينا من رضاً، أو أنه ما لا يشكّل رضًا أساساً.
السؤال الذي ينبغي أن نطرحه: هل يكون الرضا خارج أحكامنا القبلية، التي خبرناها قبلاً، أم أن أحكام الرضا تستلزم أن تكون جميلة دائماً؟ فالرضا هو ما يوافق العرف، ما يُمكننا أن نحكم عليه بالجميل، فما بالنا بما ليس بعرف، أو بما نقض العرف؟
لا يمكننا البتة أن ننطلق في الحكم على القرآن انطلاقاً من أحكام الرضا القبلية، التي تمثلناها على سبيل الحكم. إذاً، فهذا النَّص لا يصلح مع التعامل بالأعراف التي تصنع حكمنا على الجميل، لأنه - ومن ناحية شكلية بحتة - لا يمكننا أن نصفه في خانة الشعر، ولا النثر.
أيْ إن جميع أحكامنا القبلية عن النوع الأدبي، هي في خانة اللاحكم، لأنه القرآن؛ ما لا ليس بجنس ،فهو على غير مثال، ممّا نعرفه من حكم قبلي؛ شعراً كان أو نثراً.. هذا من ناحية شكلية، فكيف يمكننا تذوّق النص من جهة النوع، وهو خارج عن مدركنا ووعينا بالنوع؟! فإذاً نحقق من منطلق الرضا أيّ حكم يمكننا أن نسمّيه بالجميل. فالجميل هو ما يمكن أن ينسجم مع الخبرة الواقعية المتمثّلة، والقرآن ما ليس بخبر سابق، هو ما قوَّض كل الفُهوم السابقة للخبرة عن الجميل الذي يمكن أن نعاينه.
هو ما ليس بشكل في حالة الخبرة، لأنه – بإيجاز - نص معجز..
 فما المعجز، في صدر الحكم الجمالي؟ أو كيف يمكننا - من وجهة شكلية بحتة - أن نثبت للنصّ حدّ الشكل، لأن النفي سيقطع النص من الاتصال الإعجازي، عند زرعه زرعاً بشـرياً، أو القطع مع النص، من جهة تحديد شكله، سيجعله في قطع عن التواصلية، التي هي أسّ دَوَرَانِه، أيْ هو في الاعتبار ما يقطع خارج الحكم، لعدم توفّر إمكانية أن نصدر باتجاه أيّ رضا، لعدم توافر الخبرة التي نصدر عنها.[17]
فنحن نصدر عنه، إمّا باتجاه حكمنا على نص الشعر، أو نص النثر، وهو ما ليس بهذا، ولا بذاك. وعليه، فالحكم هنا منقوص من جهة الاكتمال، وعلّته.
وفي تصوّري إن مجال بحث القرآن ليس مبحث الجماليات، لأنها لا توفّيه حقّه من التعيين والتحديد، لقصور الحكم على وقفه، ولعدم انضباطه بما يتساكن داخل الجميل من أفاهيم، فهو قطعاً ما ليس بجميل.. نحتاج هنا لضبط عميق للمعنى المعجز.؟
المعجز هو ما شبّ عن الطوق، وكسر الحدود، وخرق المعهود والمثال والنسق، أيْ ما كان على غير مثال، وركّب ممّا يفهمونه، ما لا قبل لهم الإتيان به.. و قد يقول القائل:
 هناك من يستطيع أن يكون له من كلامهم ما يعجزون عن الإتيان به؟ فإن صحّ التخمين الثاني، قال لمن يأتي أن يحقّق الرضا من جنس ما يعرفه الناس، لأن المثل يثير الخيال فقط، ولكن القرآن يوهم السَّامع بالنقيض، كما يقول (ابن سينا)، يَعرفُون منه القول، ولا يعرفون الجنس، فجلّ معانيهم سفليّة.. أيْ أن ما فعله القرآن من جهة شكلية، كسر حدّ الكلام/ القالب/ الجنس/ عندهم: حدّ الشعر، وحدّ السجع، و بذلك كسر كل الأفق الجمالي للعصر الذي ظهر فيه.
 وهنا، ولرتيب مبحث الأحكام، يمكننا أن نسمي مبحث الدائرة الجمالية للقرآن، أنها دائرة الجلال، إنه ما يمكن أن نسمّيه جلالاً، وهو بخلاف الجميل، والجليل.
والجليل قد يتضمّن الجميل، أيْ قد نعبر من الجميل إلى الجليل، ولكنه - من جهة الحكم - هناك فرق بينهما: يحمل الجليل مفهوم الهيبة العليا، يحمل التفرّد، والمخالف، والاستثنائي، بل يدلّ على مدلول الطفرة.. إنه ليس بالحسّ، ولا التأمّل، بل موضوعه العقل، بل هو مساوٍ للعقل.
الجميل دائرته الحسّ والتأمّل.
الجليل دائرته العقل.
الجلال دائرته القلب والتسليم.
هنا نجد أنفسنا بصدد التوليف بين أمرين: ما ليس بصورة محسوسة مطلقاً، وما هو بفكرة عقلية.. فهل يكون الجليل؛ ما كان عقلانياً، ذلك أن العقل وحده مَنْ في ممكنه أن يكون مماثلاً للجليل. يقول (كانط): إن الجميل يحمل معه مباشرة شعوراً بالسموّ بالحياة.. وبالتالي، فهو يتساوق مع الافتتان، والخيال الذي يلعب ويمرح، بينما يكون الشعور بالجليل لذة، لا تنبثق على نحو غير مباشر. بينما الجلال ما تجاوز أوهام الخيال؛ إنه يرتع في عالم الحقيقة الكلية، لأنه على شاكلتها. لذلك لا تجب به الهيأة الموجبة للتصوّر، بل يقتضي التسليم.
من منظور توجيهي، نجد أن القرآن هو – هو؛ في ذاته يحمل ما في الشعر،  وليس بشعر، ويحمل ما في النثر، وليس بنثر.. وبالتالي، لا نملك حكماً تأمّلياً، ولا تجريبياً، يمكننا أن نتكئ عليه للحكم على النص. كل ما يمكننا أن نعضده هنا، هو أن الشكل القرآني يُخلف في النفس صدمة، من جهة البناء.
 وعليه نكون بإزاء تعقّل هذا الشكل، ممّا يجعله مساوياً للعقل في كونه رسالة. أمّا من جهته النصية، فهو مقوّض للأعراف التي تعارفنا عليها سابقاً. فهو – ككتلة - فوق أيّ حكم عقلي.
و بالتالي، يتحقّق رضاً عقلاني بالجديد الوافد، ليعيد ترتيبه، ووضعه وضعاً شكلانياً، ليستوعبه العقل.. وهذا ما جعلني أتنّزل القرآني فيما يسمّى بالجلال، و هو  إذًا ما يقوّض بنية الجميل والجليل، لأنه على شاكلته.. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
أيْ ليس على مثاله شيء، و لا ينبغي ذلك.. فالتنزيه هنا ليس في الذات فقط، بل فيما يلحقها كذلك في سائر الأفعال والأسماء. والدليل: هو التأكيد الذي يدحض النقيض، في قوله: وهو السميع البصير، هذا الدحض في كل ما يلحق الذات، باعتبارها جوهر التنزيه، مما يستحيل معه الشبيه والمماثل.
ولما كان ذلك كذلك، استحال أن يكون للكلام شبيه أو مماثل له، لذلك حين أراد أن يدحض استشراف أيّ مماثلة قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[18].
فإنْ تحقّقت القدرة على المثال في البناء، لكان خالصة الإعجاز ليس في الكثير الذي يوهم الكمال، بل في القليل الذي يثبت المماثلة، وهذا ممّا يقطع به المُحال، وفيه فائدة دقيقة أن البناء الذي يوصف بالمعجز، هو في العلوّ  في مرتبة مرسله، لزم أن يكون متّصفاً باسميّته، متنزّهاً بها، لذلك أَقترح تشقيق مصطلح الجلال، كبديل عن أيّ من المصطلحات التي توهم الفاحص بالبحث، لكنه من قبيل المشابهة والمماثلة والتعطيل، وهذا مما اجتمع عليه أوّل الأمّة، وآخرها، بركنيته في الاتّباع.
والجلاليُّ ليس درجة في سلّم الجميل، فهو ما تجاوز السلّم، لأن العقل ليس في مقدوره أن يتصوّره، أو يحدّه، إلا ما خصّ الله به ذاته.. وجاء في (لسان العرب): "الله الجليل، سبحانه ذو الجلال والإكرام، جل جلال الله، وجلال الله عظمته، ولا يقال الجلال إلا الله"[19].
هذا التخريج يحقّق نزعتين؛
-                   أن نعيد ترتيب الوضع البنيوي للنص القرآني، بما يتناسب ووضعه البنيوي والحضاري.
-          أن درس الجلاليات يعيد للنص وقاره، وسمته الذي يميّزه عن الأشكال الدنيا الأخرى، التي توصف وصفاً جمالياً، والأشكال الفنية التجسيدية، التي توصف بالرائع، والأشكال الديونزسية، التي توصف بالجليل. ومن حقنا أن نُشقّق اصطلاحاً بحثياً جديداً، يهتم بمباحث القرآن التي توصف بالجلالr





1.       جوليا كريسطيفا ،علم النص، ترجمة: فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى 1991. الفصل الأول من الكتاب. [1]
2.       أزوالد ديكرو وجان ماري سشايفر، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، ترجمة: منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت. الطبعة الثانية 2007. ص:533 [2]
3.       تزيفنتان تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة: عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر .ص: 53.[3]
4.       محمد فتحي الدريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة 1997، بيروت. ص: 67.[4]
5.       سورة المائدة الآية 3.[5]
6.       [6] -pierre sauvanet, éléments d’esthétique ;édition Ellipses 2014.pp 28/33.
7.       ماهر عبد المحسن حسن، جادامير: مفهوم الوعي الجمالي في الهرمنيوطيقا الفلسفية، دار التنوير، بيروت 2009. ص: 177.[7]
8.       محمود محمد شاكر، مداخل إعجاز القرآن، مطبعة المدني القاهرة، 2002.ص:28.[8]
9.       الباقلاني، إعجاز القرآن، ص 7.[9]
10.   البقرة 23/24[10]
11.   الإسراء88[11]
12.   [12] - هود 13.
13.   أبو بكر محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة. ص: 23.[13]
14.   محمود محمد شاكر، مداخل إعجاز القرآن. ص: 29 [14]
15.   الباقلاني، المرجع السابق .ص : 51.[15]
16.   امانويل كانط، نقد ملكة الحكم، ترجمة: سعيد الغانمي، منشورات الجمل، أبو ظبي 2009.[16]
17.   يرجع في مفهوم الخبرة لكتاب: سعيد توفيق، الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة هيدجر، سارتر، ميرلوبونتي، دوفرين، انجاردن .[17]
18.   سورة هود الآية 13. [18]
19.   ابن منظور، لسان العرب، المجلد 2 ، دار الحديث، القاهرة، 2013. ص :179[19]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق