02‏/01‏/2018

حول النبوءات المستقبلية

بقلم: أ. د. عماد الدين خليل
الذي يطالع نبوءات الساحر والمنجّم الفرنسـي المعروف (نوسترا داموس)، والتي يتحدّث فيها عما سيشهده العالم من وقائع وأحداث، وعمّا سيقع مستقبلاً، يأخذه العجب العجاب من تلك المقاربة المدهشة لما سيجري..
صحيح أن كل واحدة من تلك المقاربات التي كتبت قبل قرون، إنما كتبت بلغة تنطوي على الكثير من المعمّيات، والبعد أحياناً عن نسيج الواقعة.. إلا أنها في خطوطها العريضة ودلالاتها المؤكدة، تجيئ مطابقة - إلى حدّ كبير - لما سيشهده العالم من وقائع وكوارث وسياسات وعلاقات دولية، بما سيمرّ عليه من زعماء وطواغيت ومتجبّرين، قادوه إلى الويل والدمار، وألحقوا بشعوبهم، وربما بالعالم كله، الأذى والخراب..
عجيب أمر هذا الكتاب الذي ألّفه (نوسترا داموس)، وقام بترجمته الأخ الأستاذ (محمد جميل حمادة)، وهو يحكي – على سبيل المثال – عما سيفعله زعيم كهتلر، أو موسوليني، أو ستالين.. وعما سيشهده عالمنا العربي والإسلامي من زعامات وحكام، أمثال: القذافي، وعبد الناصر، وصدام حسين.. وعن النهايات الدرامية التي انتهوا إليها..
حتى ليقال إن أجهزة الاستخبارات في الدول الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفياتي؛ قبل انحلاله، وغيرهما، وضعوا في حساباتهم، ودوائرهم السرّية، معطيات هذا الكتاب، لكي يحسبوا حساباتهم الدقيقة لما سيشهده العالم من وقائع وردود أفعال وأحداث.
ومعروف أن العديد من زعماء العالم كانوا يضعون في دوائر مخابراتهم، شياطين السحرة الكبار، والمنجّمين المعروفين، من أجل أن يرسموا سياساتهم المستقبلية، في ضوء معطيات هؤلاء..
ومعلوم لدينا، نحن المسلمين، أن أحداث العالم قد صمّمت، مسبقاً، بعلم الله وإرادته، منذ لحظة خلق السماوات والأرض، وحتى يقوم الحساب: {... وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (سورة يونس: الآية 61)، {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (سورة هود: الآية 6)،  {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (سورة الرعد: الآية 39)، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} (سورة الحجر: الآية 4)، {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً، فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً، ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ، إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} (سورة الإسراء: الآيات 4-7)، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (سورة سبأ: الآيتان 2-3)، {... وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (سورة فاطر: الآية 11)، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (سورة ق: الآية 4)،  {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (سورة النبأ: الآية 29)، {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} (سورة الإسراء: الآية 104).
ثم تأتي الآية التي تحسم الأمر كله بكلماتها المعجزة: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (سورة الحديد: الآية 22).
وقد ناقشنا في غير هذا المكان مسألة عدم التعارض، في الضمير المسلم، بين قدر الله سبحانه وتعالى في الخلق، وبين حرية الإنسان.. بين علم الله المطلق، وبين مشيئة الإنسان الحرّة في الاختيار؛ داخل دائرة هذا العلم الشامل.. فلا مبرّر لإعادة القول فيها.
ويبدو في ضوء ما سبق، أن السحرة والمنجّمين يعتمدون محاولات الجن والشياطين لاستراق المعلومات هذه من الملأ الأعلى.. ولهذا وضعت الحواجز في طريقهم {رصداً}.. ومع ذلك فإنهم قد يحصلون – أحياناً –، ولحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، على بعض المعلومات، فيسخّرهم السحرة والمنجّمون لإيصالها إلى الناس، وإيهامهم بقدرتهم على اختراق الغيب، والاطلاع على ما سيشهده العالم من وقائع وأحداث.. ولهذا تأتي معلوماتهم هذه – كما هو الحال في كتاب نوستراداموس – وهي تنطوي على خليط من الوقائع المؤكّدة، والغبش، والمعمّيات، والضباب.. وهم - في نهاية الأمر- يوظّفون معلوماتهم هذه لتعبيد الناس المغفّلين حيناً، ولجرّهم إلى الكفر والفسوق حيناً آخر، ولتحقيق الكسب حيناً آخر، ولتبوّء المراكز المتقدمة لدى أصحاب السلطان حيناً رابعاً، والاستمتاع الشامل المنحرف حيناً خامساً.. بهذا الذي يضللون به الناس، ولجلب إعجابهم، والالتفاف حولهم، وللوقوف بوجه دعوات الأنبياء (عليهم السلام)، وإعلان الحرب عليها.. امتداداً لموقف إبليس، الذي أعلن الحرب ابتداء: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ، لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ، أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} (سورة النساء: الآيات 117-121)، {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (سورة ص: الآيات 75-85)، {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: الآية 102)، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} (سورة الأنعام: الآيتان 112-113)، {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ، وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (سورة الأنعام: الآيتان 128-129)، {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ، وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} (سورة الأعراف: الآيتان 38-39)، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ، فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلَا ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} (سورة سبأ: الآيات 40-42)، {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} (سورة فصلت: الآية 25)، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} (سورة فصلت: الآية 29).
وهذه الآيات تجيب بوضوح على سؤال، قد يعتمل في أذهان الملاحدة والمشككين: لماذا هذا كلّه، ما دام بمقدور الله أن يقطع الطريق على أية محاولة للاستراق منذ اللحظة الأولى؟!
إنها حتمية أن يكون هناك في الحياة الدنيا صراع بين الخير والشر.. بين الإنسان، وبين الجان والشياطين.. بين إرادة الله سبحانه وتعالى، وبين رغبات الجان والشياطين.. بين علم الله المطلق، وبين سعي هؤلاء لاقتباس - ولو شيء بسيط منه - لتحقيق أغراضهم، التي مرّت بنا قبل قليل.
إن المسألة تنسحب - أيضاً - على موقف الإنسان في العالم، والذي وضعت في طريقه شبكة من العراقيل.. وحزم من الأسلاك الشائكة.. ومجموعة هائلة من الإغراءات والإغواءات.. من أجل أن يتمرّس على المقاومة، وأن يشحذ في نفسه سلاح الردّ، وأن يخرج منتصـراً، بعزمه، وإرادته، وقدرته على المجابهة.. وإلا فإنه الكسل، والقعود، والاستسلام، الذي لا تستقيم معه حياة فاعلة، ولا تقوم حضارة مبدعة، على الإطلاق.
ولنستدع - مرة أخرى- الآيتين اللتين مرّ ذكرهما، ففيهما حسم لتساؤل المشككين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} (سورة الأنعام: الآيتان 112-113).
ومن أجل ذلك، وضع في الملأ الأعلى ما يمكن اعتباره سياج حماية ضد استراق السمع، كي لا يمضي الجان والشياطين، ومن ورائهم حشود الناس الوصوليين، أو المغفّلين، إلى أهدافهم الملتوية.. ومن ثم فإننا نطالع في كتاب الله مقاطع وآيات تحدّثنا عن هذا الذي تشهده السماء: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً ، وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ، وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} (سورة الجن: الآيات 6-9)، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} (سورة الملك: الآية 5)، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ، لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (سورة الصافات: الآيات 6-10).
وكما هو معلوم، فإن السحر، وخداع البصر، والتنجيم، والكهانة، وادّعاء العلم بالغيب، وما يسمى بتحضير الأرواح، وتبادل المعلومات بين الإنسان والجان.. إلخ .. إنما هي طبقات يعلو بعضها بعضاً.. تبدأ بالقضايا البسيطة، التي قد تخطئ وقد تصيب، وتنتهي بالكشف المدهش عن الحقائق القاطعة كالسكين.
وقد أتيح لي شخصياً أن أشهد العديد من هذه الممارسات، فرأيت العجب العجاب.. وهي جميعاً، على ضلالتها وانحرافها عن المنهج القويم، بل واتكائها على المعلومات الكونية، والتاريخية، المسترقة من الملأ الأعلى.. يمكن أن تقدّم لنا - نحن المؤمنين - تأكيداً مقترناً بوقائع حسية مختبرية – إذا صح التعبير – عن وجود عالمي الجن والشياطين بين ظهرانينا، بحيث لا تترك أيّ مجال للشك في هذا الوجود الذي يملك ثقله، وقدرته على الحركة، واختراقه للخبرات البشرية، بسبب من تكوينه الناري، فيما يصفع كل مقولات المشكّكين بعوالم الجان والشياطين.
عبر جلسة لتحضير الأرواح بالفنجان، وهي واحدة من أبسط عمليات التحضير الروحي، كما يقولون، حيث ترسم دائرة واسعة على قطعة من الكارتون، تقسم إلى أحرف، ويوضع الفنجان في بدايتها، ثم يوضع أصبع الوسيط على ظهر الفنجان، وتوجّه الأسئلة من الحضور إلى ما يعتبرونه أرواحاً، بينما هو في الحقيقة من كفرة الجانّ وشياطين الإنس، فإذا بالفنجان يتحرك دون أي جهد مبذول من الوسيط على هذا الحرف أو ذاك، لكيما تلبث مجموع الحروف المقروءة أن تعطينا الجواب على كل سؤال..
كنت أتابع العملية بكثير من الملل والشك، فإذا بالأجوبة تنصّب كلها على الوسيط عبر مجموعة من أقذر الشتائم والسباب.. وإذا بالوسيط يصفر وجهه، وينهض قائماً وهو يصـرخ: أقسمت بالله عليك أيتها الأرواح الشريرة أن تكفّي عن هذا العبث !!
وقلت في نفسي: لا يمكن لإنسان - مهما كان تافهاً - أن يوجّه لذاته مثل هذا السيل من السباب، وإذن فلا بد أن تكون هناك قوى خفية، ماكرة، تريد أن تعبث بهذا الإنسان..
وفي جلسة أخرى، أكثر تعقيداً، طلبت من الوسيط أن يسأل (أرواحه) التي يحضـرها، عن خطط بغداد في العصر العباسي الأوّل.. وكنت يومها طالب ماجستير في معهد الدراسات العليا ببغداد، وقد كلّفت من قبل أحد أساتذتي بكتابة بحث عن (خطط بغداد)، فإذا بالوسيط يجيبني، نقلاً عمّا يقال أنه روح الجاحظ، بجملة من الأجوبة، أذهلتني بدقة معلوماتها، وانطباقها على ما توصّلت إليه من نتائج، عبر تجوالي في خبرة هذا الأديب المعروف.
وثمة جلسة أخرى، نقل فيها الوسيط عن (أرواحه) التي استحضرها، العديد من وجهات نظر الشهيد (سيد قطب) في مفهوم المفاصلة، فإذا بها تأتي مطابقة تماماً لما قرأته في معطيات هذا المفكر الإسلامي الكبير.
والوسيط رجل لم يتجاوز في دراسته المرحلة المتوسطة.. فكيف أتيح له أن ينقل ما قاله (الجاحظ)، وما ردّده (سيد قطب)، وهو لم يقرأ في حياته سطراً واحداً مما كتبه هؤلاء !!
وغير هذه الوقائع الكثير الكثير، مما شاهدته بعيني، أو سمعته بأذني..
إنها - إذن - لعبة الأخذ عمّن يملك الكثير مما لا نملكه نحن البشر.. بسبب من قدرتهم على الحركة والاطلاع واختراق الحواجز واستراق المعلومات.. لكونهم – مرةً أخرى – أجساماً نارية، قديرة على الحركة السريعة، والإتيان بما يعجز البشر عن الإتيان به.. إنهم الجانّ والشياطين.. أمّا ما يدّعيه المحضرون والوسطاء، من أنها أرواح الموتى، فإنها – والحقّ يقال – أكذوبة يتحتّم ألا تنطلي على أحد.. ذلك أن أرواح الموتى أعزّ وأكرم من أن يعبث بها المحضرون والوسطاء..
والآن، وتأكيداً (لمختبرية) هذه الكشوف، التي يمثّل الجان والشياطين دور البطولة فيها.. فإن ديار الغرب تشهد حركة واسعة يسمّونها (الروحية الحديثة)، حيث تقام المؤسسات، وغرف التحضير، وصالات التجارب المتواصلة، على أيدي علماء كبار – بعضهم مّمن حصل في مجال تخصصه على جائزة نوبل – لكي تواصل كشوفها المدهشة في هذا الميدان.. ولكي تؤكد - بما لا يقبل مجالاً للشك - أننا نحن البشر لسنا وحدنا في هذا العالم، بل إن عوالم أخرى تعيش بين ظهرانينا من الجان والشياطين، ولكن أجهزتنا الحسيّة المباشرة لم تهيّأ للتعامل المباشر معها.. ولذا يلجأ هؤلاء إلى الطرق الملتوية للتواصل والتخاطب والحصول على المعلومات.. بحيث إن دوائر التحقيق الجنائي في الدول الكبرى، لجأت هي الأخرى إلى هذا الأسلوب للكشف عن الجرائم والمجرمين.. وحققت بذلك خطوات واسعة في أنشطتها التحقيقية.
ويبقى أن كلمة الفصل في الموضوع كلّه، تلك الآية المدهشة التي وردت في كتاب الله، والتي تتحدّث كيف أن مرور الزمن كفيل بالكشف عن الحقائق المطابقة تماماً للمعطيات القرآنية، فيما سيقود البشرية الضالة إلى مرافئ الإيمان: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (سورة فصلت: الآية 53).

وسواء جاءت هذه الرؤية عن طريق مناهج البحث الأصيلة، أم تلك الملتوية، فالأمر سواء.. وهو التأكيد الذي لا يقبل نقضاً، ولا جدلاً، على مصداقية ما ورد في كتاب الله، من تلك المساحات الكبيرة التي محضّت للجان والشياطين.. والتي لا يزال الكثير من السذّج والمغفّلين يرفضون وجودها باسم الروح العلمية، وهي منهم براء: {... إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (سورة طه: الآية 69).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق