02‏/01‏/2018

جابر بن حيان وعلوم عصره من خلال قراءة المستشرق الفرنسي بيير لوري

عرض وتلخيص: د. نبيل فتحي حسين
ضمن الجهود المعاصرة لدراسة الكيمياء العربية الإسلامية قام المستشـرق الفرنسـي المعروف بيير لوري (Pierre Lory) بتحقيق رسالة (الحدود) لجابر بن حيان، ونشـرها ضمن كتاب (مجموعة مصنفات في الخيمياء والإكسير الأعظم)، الذي صدر عن دار ومكتبة بيبليون في لبنان (2008)، فضلاً عن إعداده دراسة عن جابر بن حيان وعلوم عصـره، مع اهتمام خاص برسالته (الحدود)، نُشرت كمقدمة لتحقيق رسالة (الحدود) (ص5-53).
ونظراً لأهمية دراسة (لوري)، التي يُفترض بأيّ متخصصٍ بالكيمياء العربية الإسلامية، وبـ(جابر) على وجه الخصوص، أن يقرأها، ونظراً لصعوبة أسلوبها، في بعض المواضع - نوعاً ما-، فقد ارتأيتُ تلخيص وإعادة عرض القسم المتعلق منها بجابر، ونظريته في الموازين، دون القسم المتعلق برسالة (الحدود)، محافظاً على أهم الفِكَر الرئيسة التي وردت فيها.
يلفت (لوري) - بادئ الأمر - إلى أهم الأعمال التي أنجزت في مجال تصنيف العلوم في القرون الوسطى الإسلامية، وتحديداً تلك التي قام بها كلٌ من: الفارابي في كتابه (إحصاء العلوم)، وإخوان الصفاء في (رسائل إخوان الصفاء)، والخوارزمي في كتابه (مفاتيح العلوم)، والغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين)، وابن خلدون في (المقدمة) (ص5). وبعد أن يعرض لبعض ملامح المنهج العام لهذه الأعمال، كالتمييز بين العلوم الأساسية أو (الأصول)، والعلوم المشتقة أو (الفروع)، والاهتمام الخاص بالمنطق، والرياضيات، والإلهيات...إلخ (ص5-6)، يبيّن أن ترتيب العلوم من وجهة نظر عالم خيميائي لا يخلو من بعض الطرافة والغموض، مقارنة بالتصانيف الفلسفية. ذلك أنَّ الخيمياء لا تقدم نفسها كممارسةٍ عطارية، بل كرؤيةٍ كاملة للعالم، لها مُسلَّمَاتُها ومَنْطقُها وغايَتُها الخاصة بها، ويرجع أصلها البعيد إلى الهِرْمِسية الإسكندرانية (ص6)، التي تمثل المذهب الفلسفي الباطني المعروض في مجموعة الرسائل المنسوبة إلى هِرْمِس، والتي تمّ تأليفها في الإسكندرية خلال القرون الأولى للميلاد. (ص6-7، هامش رقم 2)
ووفقاً للوري فالخيمياء لا تسعى إلى تفسير القواعد المتحكِّمة في العالم وحسب، بل إلى السيطرة عليها والتصرُّف بها، كما أنَّ الخيميائي يسعى من خلال محاكاته لقوانين الكون، إلى تغيير بعض عناصر العالم المحسوس – كالمعادن مثلاً – وتحويلها بطريقةٍ أسرع من تطورها الطبيعي، ولذلك أطلق المترجمون العرب مصطلح (علم الصنعة) لوصف علم الخيمياء الإسكندرانية، كما أطلقوا على من يمارسها اسم (الصانع) (ص7-8).
ويرى لوري أنَّ طموح الخيمياء، عندما تدَّعي أنها "نهاية ما في الفلسفة" أو "الحكمة"، لا يتوقف عند هذين الهدفين، وإنما يتعداهما من خلال السعي لإيصال الإنسان السالك إلى أعلى درجات المعرفة الممكنة، وإلى إلهامٍ حقيقي، لا بل منحه نوعاً من البقاء الدنيوي، على الرغم من أنها تصب جُلَّ اهتمامها على تحضير الأكاسير، وذلك لأنَّ الخيميائيين لا يعدُّون الإلهام الصوفي العلمي (الولادة الثانية)، ثمرة التأمل والانعزال عن العالم، بل نتيجة دراسة تطورات العالم والمادة المتواجدة أمامنا (ص8-9).
ويخلص لوري إلى وجود ثلاثة وجوهٍ متضمنة في العمل الخيميائي، تفسـّر التناقضات الظاهرية لتصانيف العلوم التي يقدمها جابر، وهي: تفسير قوانين العالم، وتحويل المادة، وتطوير الذهن (ص9).
ويشير لوري إلى أنَّ لدى جابر أنموذجين لتصنيف العلوم، يحاول أولهما جمع مجمل ميادين المعرفة في بنيةٍ سببيةٍ موحدةٍ مشتركة تُدعى (علم الموازين)، تهدف لاكتشاف قوانين كليّة يمكن تطبيقها على عمل الصانع في مَخبره. ويقسِّم ثانيهما العلوم عبر مقابلتها مع بعضها البعض، وفقاً لتسلسل معيّن، لغرض إيصال (الباحث) السالك إلى مستوى أعلى من الوعي والوجود (ص9-10).
وفي معرض حديثه عن (علم الموازين) ينبّه لوري أول الأمر إلى أنَّ مجموعة المؤلفات الخيميائية الضخمة المنسوبة إلى جابر لا تمثِّل عرضاً منهجياً منظماً، بل هي أبحاث قصيرة، أساليبها ومضامينها ومقاصدها شديدة الاختلاف، مبعثرة، تقدِّمُ أحياناً بعض التضارب من حيث بيان العمل الخيميائي نفسه (ص11). وبعد أن يحدد لوري المدة الزمنية التي يُفترض أن يكون جابر قد عاش فيها (القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي)، يلفت إلى رأي مستشرقٍ معروفٍ مهتم بالكيمياء وهو باول كراوس (Paul Eliezer Kraus)، مفاده أنَّ جزءاً هاماً من هذه المؤلفات لم يكن بالإمكان كتابتها قبل نهاية القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، لا بل بداية الرابع الهجري/ العاشر الميلادي (ص11-12).
 وكما يرى لوري فإنَّ كون هذه المؤلفات نتاج عمل طائفةٍ أو تيارٍ من الخيميائيين قاموا بتأليفها على مدى أجيال عديدة، لا يضر بالوحدة الفكرية والتجانس في مجموعة مؤلفات جابر، ذلك أنها من بدايتها إلى نهايتها، تتضمن فكرة ظلت محافظة على وحدتها من حيث مبادئها وتطبيقاتها الأساسية (ص12).
أما التناقض والاختلاف في مؤلفات جابر، فيرجعه لوري إلى مسألتي المستوى الكلامي والمنظور الأبستيمي أكثر من التعارض الحقيقي في نقاط عدة، موّضحاً أنَّ جابر يرفض متعمّداً، عرض وجهات نظره بوضوح، فيبعثرها ويفجّر عناصرها إلى حشدٍ من التلميحات أو الرموز، تاركاً للقارئ همَّ اكتشاف التركيب الإجمالي (ص12). ويعرض لوري عدّة طرقٍ للترميز الذي أدخله جابر في مؤلفاته الخيميائية، كالمصطلحات الفنية، والكنايات، والمجاز، وتبديد عناصر المعلومات في مواضع عديدة من المؤلفات (ص12-13، هامش رقم (1)).
عندما ينتقل لوري إلى إحدى الفِكَر الأساسية في مؤلفات جابر، وهي (مفهوم الميزان)، فإنه يستهل شرحها اعتماداً على ما يرد في كتاب (التصريف) بقوله: "كان جابر واثقاً بأنَّ كلَّ ما يحدث في عالم المحسوسات والعوالم العليا الروحانية ناتج عن ترتيب مُنَظَّم، عن تركيب متناغم من الحركة والسكون يختلف كَمَّاً، ويمكن قياسُه، عن (تأليف عددي) يعود إليه بُنى جميع الموجودات ونظام جميع العوالم والأجناس. هذا ما يقدِّمه (كتاب التصـريف) في شكل أسطورة النفس الكلية المتيَّمَة بالجوهر الذي يشغل الدائرة التي دونها مباشرة. تحتلُّ النفسُ هذا الجوهَر وتَعْتَوِرهُ، ومنْ ثَمَّ تتداخل مع الدوائر الأربع التي يضمّها هذا الجوهر: دوائر الحرارة واليبوسة والرطوبة والبرودة. فيحدث خليط من هذه المركبات الستة حتى يصل إلى عالم المحسوسات. كلُّ ما يظهر هناك يكتسب صفاته الخاصة، حسب نسبة الطبائع وشدة النفس التي يمثِّلُها. إن نظام النَسبِ هذا هو ما يُشار إليه بعبارة (الموازين الطبيعية)". (ص13-14).
وفي الوقت الذي يوضح لوري أن الموازين تشمل ما هو محسوس وما هو غير محسوس، فإنه يشير إلى أن جابر لا يُلمِّح إلا بصورة عابرة لما هو غير محسوس (ص14).
وضمن بيانه لأهمية الموازين العليا يشير لوري إلى أنها تشكّلُ موضوع العلم الإلهي الذي هو الهدف النهائي للحكيم الخيميائي، وهذا ما لا يتحدث عنه جابر إلا باختصار، ذلك أنَّ معرفة الموازين تنتج عن تجربة روحية يعجز عنها الوصف، ولا تُتْقَنُ علومُها إلا بعد تعلم الموازين السفلية (ص15).
ويوضح لوري أنَّ الموضوع المباشر لنظرية جابر الخيميائية، والذي خصص معظم مؤلفاته له، هو الموازين الطبيعية، التي تمثل علم الموازين بالمعنى الدقيق (ص15).
وينبه لوري إلى تأثر ما يسميه "النظرية العامة للخيمياء الجابرية" بـ"مفاهيم الفيزياء المعتمدة عند علماء اليونان" (ص16)، ويشير إلى استخدام الأطباء العرب لتصنيف جالينوس (Galenus) لشدة الطبائع الأربع في المواد المعدنية والنباتية والحيوانية، وذكر جابر لهذا التصنيف، واستعماله عند اللزوم، وتطويره، باعتماد منهجٍ دقيقٍ ومضمون، وهو ميزان الحروف، الذي صرح جابر أنه أخذه عن تراث القدماء، وزعم أنه خَبِرَ صحته وفعاليته عملياً (ص16-18).
وعن هذا الميزان يقول لوري: "إنه ينطلق من مبدأ أن الاسم الذي يشير إلى مادة ما يعبِّرُ تماماً عن طبيعة الجوهرية، بموجب المماثلات العامة في الخلق بين الظاهر والباطن، وبين المعاني والحروف" (ص18-19). ويبيّن لوري أنَّ جابر يقسّم حروف الأبجدية الثمانية والعشـرين على مجموعات أربع، تتشكل كل منها من سبعة حروف تقابل الطبائع الأربع ودرجات الشدة الثمانية والعشرين الممكنة (ص19).
وبعد أن يشرح لوري كيفية العمل في (ميزان الحروف)، ويشير إلى المشكلات العويصة التي واجهت جابر فيه، يوضح أنَّ جابراً اعتبر (ميزان الحروف) حجر الزاوية للبحث العلمي، ارتكازاً على تصور عام للغة الإنسانية، ينظر إليها باعتبارها ليست نتيجة صدفة أو اتفاق قام بين أفراد المجموعات الاجتماعية، وإنما هي في طبعها تتجانس مع كنه الأشياء التي تدل عليها (ص22).
ويتحدث لوري عن نظرية لجابر عامة في اللغة مفادها "إن اللغة بحدِّ ذاتها تماثل الخيمياء. وكما أنَّه لا بُدَّ من وجود عدة حروف لتحقيق لفظٍ ما، وكما أنَّ تكوين الكلام المتماسك المفيد يتطلَّب ترتيباً محدوداً لمفردات اللغة، كذلك يكوّن مزاج الطبائع المواد البسيطة، وتراكيب هذه المواد تولد الأكاسير" (ص23-24). ووفقاً للوري فإنَّ اللغة في رأي جابر ترتبط بالبنية الأصلية للشيء، وتعبّر عن أهم ما في كُنْهِهِ، واللغات ليست نتائج اتفاق إنساني، بل هي جواهر قائمة بذاتها (ص24). ويشير لوري إلى أن كل اللغات الإنسانية بإمكانها أن تستعمل في الخيمياء لميزان الحروف، وأنَّ جابر يعطي أمثلةً على ذلك انطلاقاً من الفارسية واليونانية والإسكندرانية والحميرية، وإن كان يعد اللغة العربية هي الأكثر توافقاً مع هذا الاستعمال (ص25). ويتناول لوري موقف جابر من تصنيف النحويين الثلاثي للمفردات، وإفادته من علم العروض، مستشهداً برأي (باول كراوس) حول تطبيق جابر لعلم العروض اليوناني (ص26).
إنَّ العديد من التلميحات والاستطرادات في أهم نصوص جابر – كما يرى لوري – تكشف لنا كيفية إدخاله العلوم الأخرى، الدنيوية والباطنية الخفية، في منهجه النظري العام (ص27).
ويرى جابر أنَّ الموازين تشرح أغلب العلوم التي تسمى بـ(العلوم الباطنية) أو (الخفية)، وتمكِّن من تطبيقها، ومنها: علم الخواص، والطلسمات، وعلم استخدام العلويات السماوية (ص30). ويبين لوري أنَّ كل هذه العلوم، في رأي جابر، تعود إلى ظواهر طبيعية، ويمكن أن تفسر بواسطة قوانين موازين الطبائع الأربع (ص30-31). وكمثال على ذلك فالسحر، وما يشابهه حقائق واقعة، وهو ناتج عن تطورات طبيعية بسيطة، أسبابها مجهولة، لأنها غير مرئية ولا محسوسة، وإنَّ التوصل إلى معرفة الموازين التي تحكم ماهية الأشياء، ومطابقتها مع خواصها الخفية، يمكِّن من استخدام هذه العلاقات السحرية (ص31). ووفقاً لجابر فهذا كله غير ممكن دون استعداد فطري وإرشاد معلم حقيقي (ص31).
هنا يصل لوري إلى بيان الفكرة الأكثر خطورة عند جابر، وهي كيف أن التحكم بالقوى الخفية للجواهر الأرضية يمكن ليس فقط من صناعة الجواهر المعدنية - وهذه هي الخيمياء بحد ذاتها - وإنما أيضاً الحيوانات والبشـر(ص31). ويرى لوري أن جابر تأثر في مبادئ علم التكوين ببعض النظريات الوثنية القديمة، كما يوضح أنه استلهم في نظريته الموازينية من العلوم الخفية القديمة، التي سرعان ما طبعت بالطابع العربي الإسلامي، خصوصاً في الأوساط الشيعية الهامشية (ص32).
ويقرر لوري أنَّ ما يسميه بـ(علم الكونيات) عند جابر، وتقسيم العلوم، يجمع بين مبادئ أفلاطونية مُحْدَثَة وهِرْمِسية وغَنُّوصِيّة، على اعتبار أنها كانت القاعدة الفكرية المشتركة لعدد كبير من المناهج الفلسفية في ذلك العصر (ص34)، وإن كان لوري يرى أن ما يُلاحظ عند جابر هو الخطوة الأولى العملية، والربط بين الخيمياء واللغة (ص34). يقول لوري: "إن الاتفاق المتميز بين دلالات اللغة الإنسانية ودلالات المظاهر الطبيعية في فكر جابر هو، بصورة ما، نوع من الحرص على إيجاد فعالية عملية" (ص34).

ويخلص لوري إلى القول: "ولنلاحظ مِنْ ثَمَّ أنَّ المنهج الجابري للموازين يدلُّ على ثقةٍ عميقة بقدرة العقل الإنساني على فَهْم الواقع وتحويله، فالطبيعة ليست بالنسبة له دَفْقاً هيرقليطياً لا يُدرك، والأفلاطونية المتضمِّنَة في تفكيره تجعله يؤمن بدقة القوانين الكلية وصرامتها، دون أنْ تكبح جماحَ اشتغاله بالمحسوس والخاص. في هذا المستوى الأوَّلي لا يحتوي الفكر الجابري على عناصر مشبوهة في نظر المذهب الرسمي للموحِّدين، إسلاميين كانوا أم مسيحيين. إنَّ علم الكلام سيؤكِّد بالطبع قدرةَ الإله المباشرة على المخلوقات، وسيدحض الاعتقاد الدَهْرِيّ في نظام آلي للكون، أطلقه خالقٌ بعيدٌ لا مبالٍ. ولكن جابر لا يُدْلي مُطْلَقاً بآراء ذات طابع مذهبي في هذا الموضوع. غير أنَّ جرأتَهُ واضحةٌ في نظرية علم التكوين. فإنَّ فكرةَ توصُّل المرء إلى تكوين كائن حي هي فكرةٌ غريبةٌ مُفْزِعَة بالنسبة للمبادئ القرآنية في مفهومها الشائعة. ولكن أن يجعل من هذا الكائن كائناً عاقلاً. فذلك يُعَبِّرُ عن أنتروبولوجيا مرفوضةٍ، سواء من قبل الفلاسفة أو المتكلمين" (ص34-36) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق