02‏/01‏/2018

حمير تقدمّوا .. عقلاء تأخرّوا!

د. عبد الحكيم مختار
حدثني صديق عراقي، يعمل منذ سنوات عدّة طبيباً استشارياً في إنكلترا، قال:
كطبيب استشاري أشرف على مستشفى تخصصي في إنكلترا ، كل سنة يلتحق بمستشفانا عدد من الإنكليز من خريجي كليات الطب، ليتمرّسوا، ويُصبحوا بعد ستة أشهر يقضوها في مستشفانا في التدريب، ليتخرّجوا بعدها أطباء متمرسين.
في السنة المنصرمة، التحق بمستشفانا ستة من هؤلاء الطلبة الإنكليز. وبعد إكمالهم ستة أشهر في التدريب المتواصل، ومشاركتهم لي في إجراء عشـرات العمليات الجراحية، أقمنا حفلة تخرّج لهم في نادي المستشفى، ومنحتهم شهادة دبلوم الممارسة.
في اليوم التالي نصحتهم أن يجروا عمليات جراحية للمرضى القادمين الجدد، لكن – ولعدد من الحالات فقط – أن يشترك ستتهم في إجراء العملية، ثم ثلاثة ثلاثة، ثم كل جرّاح منهم يجري عملية جراحية بمفرده. واعتقدت أن فترة تدريبهم، وكثرة حالات العمليات الجراحية التي شاركوني فيها، جعلتهم فعلاً أطباء متمرسين، قادرين على الاعتماد كلّ على نفسه لأيّ حالة قادمة.
فعلاً قدم إلى المستشفى مريض مُسن بحاجة إلى عملية جراحية في صدره، وأوصيتهم – الستة – بالذهاب معاً إلى صالة العمليات، ليبدأوا عملهم كفريق عمل واحد، وإذا حصل أمر طارىء أن يتصلوا بي من خلال جهاز الإنذار المعلّق في خاصرتي.
لم تمض نصف ساعة حتى دّق جرس الإنذار عندي، فركضت مسرعاً إلى صالة العمليات، لأرى عجباً.. رأيت الأطباء الستة متخبطين لا يدرون كيف يسيطرون على وضع المريض.
أسرعت في المعالجة، وسيطرت على وضع المريض، وأرسلته إلى العناية المرّكزة، وكتب الله للمريض بهذا السبب عمراً جديداً.
أثناء قيامي بالسيطرة على وضع المريض – وأنا في أشد الانفعال والذهول – كنت أنطق بكلمات لم أنتبه لها إلا بعد أن أنهيت عملي، وذهبنا أنا والأطباء الإنكليز الستة إلى نادي المستشفى.. في النادي خاطبني أحدهم - وكان يبدو أنه أعقلهم، قائلاً: يا دكتور بعد أن اتصلنا بكم، وقدمتم إلى صالة العمليات، وأثناء انهماككم في السيطرة على وضع المريض، كنت تتفوّه بكلمات غريبة.. قلت: مثل ماذا؟ قال: قلت لنا، وأنت منفعل:
 Really, you all are donkeys. I don't know how you. Britain become the Empire which never sunsets down.
بمعنى: حقاً، كلكم كالحمير، ولا أعرف كيف أصبحت بريطانيا بكم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.
فقلت له: حقاً، فإنني جداً مستغرب من عقولكم، وكيف بعد أن أمضيتم معي ستة أشهر، وشاركتموني في إجراء عشـرات العمليات الجراحية، وما إنْ تركتكم لتعتمدوا على أنفسكم، أنتم الأطباء الستة، حتى أثبتم عكس ما كان متوقعاً منكم.. وعذراً، إذا كنت نعتتكم بالحمير.. ومع ذلك امتدت امبراطوريتكم يوماً إلى أن غدت لا تغيب عنها الشمس لسعتها.. حقاّ لا أعلم سّر هذا التناقض!!
قال الذي هو الأعقل بينهم: وماذا عن الحمار، إنه حيوان أليف مسكين ومطيع، فماذا كنت تقصد من وراء ذلك؟!. قلت: كل ذلك صحيح، ولكننا نحن الشـرقيين نقصد بالحمار أنه حيوان غبي، لا عقل له ولا ذكاء.. أنا آسف حقاً، ولكن هذا ما تبّين لي من عملكم معي، وتوضّح لكم ذلك مؤخراً فشلكم - أنتم الستة - في إجراء العملية الجراحية الأخيرة..
 بعد برهة من صمت وتفكير، أردف هذا الأعقل بينهم قائلاً:
حقاً كما تقول، فإنني أيضاً أفكر فيكم أنتم الشرقيين عموماً، حيث لا يمضـي على قدومكم إلى بريطانيا إلا سنوات قليلة حتى تصبحوا أعلاماً بارزين في مجالات الطب والهندسة والقانون... إلخ. وأضاف: وتبيّن لي أننا نحن الإنكليز 90% منا فعلاً كالحمير تابعون، لكن الـ10% الآخرون العقلاء هم الذين يحكموننا.. فالنتيجة أننا بهم تقدّمنا.. بينما أنتم 90% منكم عقلاء أذكياء، لكنكم  تابعون ساكتون، والآخرون الحمير الـ10% هم الذين يحكمونكم، فأصبحتم بهم هكذا متأخرين. وأضاف:
ألا ترى أن قطيعاً كبيراً من الخرفان، أو الحمير، المساكين، هل يستطيعون قيادة عاقل واحد؟ كلا.. ولكن هذا العاقل الواحد باستطاعته قيادة المئات لوحده. فلا أدري لمن يكون المستقبل عندكم، لأولاء أو لهؤلاء؟ .
لم أتحمل قوة تحليله، وجميل استنتاجه، فنهضت أقبّله من جبينه مراراً.
وحقاً تمّ التوصل إلى نظرية جديدة في علم الاجتماع السياسي، مفادها:
هنالك: العقلاء القلّة يحكمون، والآخرون – الأغبياء المحترمون الساكتون – يتبعون.. فيتقدّمون.
هنا: الأغبياء القلّة المحترمون يحكمون، والآخرون – العقلاء الساكتون – يتبعون .. فيتأخرون.
في عالمنا الثالث: فرض علينا أن نقدّم الشكر وعظيم التقدير والولاء للأغبياء المحترمين!
ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق