خليل محمّد الزيباري
السعادةُ
مطلبُ كُلِّ إنسانٍ على وجهِ هذهِ الأرض، وطرُق البحثِ عنها تتباين وتتفاوت من
شخصٍ إلى آخر، ولا يُلامُ أحدٌ إذا ما أخفقَ في طلبها، أو أخطأ في البحثِ عنها،
فكلُّ بني آدم خطّاء. ولكن المطلُوب الاجتهاد والسعي في سبيل الوصُولِ إليها،
وكلُّ إنسانٍ ينظرُ إلى السّعادةِ من زاويتِه الخاصّة، فمن النّاسِ مَنْ يرى
السّعادةَ في الزّوجةِ والأولاد، ومنهم مَنْ يراها في الاختراعاتِ العلميّة
والكشوفاتِ الطبيّة، وفريقٌ يراها في الصِحّة والمال، أمّا المسلم الحقّ فيراها في
سيادةِ الدّين الّذي يُعطي كُلّ ذي حقّ حقّه، ويسهمُ في تكريسِ العدل والأمان.
وإذا رُمنا شاهِداً من تاريخِ الإسلامِ، تجلّى لنا عُمر بن الخطّاب الّذي تولّى
قضاءَ المدينةِ سنتينِ، وعلى امتدادِ هاتينِ السّنتينِ لم تُرْفع إليه قضيّةٌ
واحِدة، فالإنسانُ إذا علِمَ يقيناً أن العقُوبةَ تنتظِرُه، فإنّه لن يقدمَ على
ارتكابِ الجريمةِ مهما كانت صغيرةً أو كبيرة. أمّا الّذي لا يخافُ مِنَ العقُوبة؛
فإنّه لن يرعوي من ارتكابها على قاعدةِ (مَنْ أمِنَ العِقابَ أساءَ الأدب)، وإنْ
أفلتَ من
العقُوبةِ والحِساب، فإنّه يعلمُ أنّ عقُوبةَ الآخِرة أشدُّ وأخزى، فلا
يخافُ من أحدٍ، ولا يخافُ منه أحد. وهذِه هي جنّةُ الله على الأرض.
ولن يكون هناك استقرارٌ وسلامٌ في ظلِّ الأنظمةِ
الوضعيّة الجائِرة، وإنْ تشدّقَ أصحابُها بالحريّة والمساواة وصون حقوقِ الإنسان،
فإنّ اللوائِح شيء والتّطبيق شيءٌ آخر، فكم من الأنظمةِ الّتي ادّعت صيانة حقُوقِ
الإنسان، إلا أنّها كانت الأكثر جَوْراً وظلماً، فالتاريخ ما زال يروي فظائع
بريطانيا الّتي حكمت مستعمراتِها بالحديدِ والنّار، وقدِ امتدّت حدُودها حتّى
عُرِفت بالدّولةِ الّتي لا تغيبُ عنها الشّمس. أمّا فرنسا، فحدِّث ولا حرج، فإنّها
قد تسبّبت بمقتلِ مليون مسلم جزائري، حتّى سُمّيت بوطنِ المليون شهيد، وقد حكمت
الجزائِر قُرابة قرنٍ مِنَ الزّمان، ولم تخرُج منها إلا بقوّة شعبٍ أراد الحياة،
وأراد الحُريّة والمساواة. وكم من الدّول الّتي تدّعي الديمقراطيّة وليسَ لها منها
ناقةٌ ولا جمل، حتّى إنّها أساءت إلى مفهُومِ الديمقراطيّة الحقيقيّة. وقد سُئِلَ
الشّيخ محمود غريب - رحمه الله - إمام وخطيب (جامع البنيّة) الأسبق ببغداد: هل
للديمقراطيّة أصلٌ في الإسلام؟ فأجاب: إنّها سِتّون نوعاً! فعن أيِّها تسأل؟!
ولعلّ الجوابَ في قولِ الخطيبِ الشّهير يُوافِق قول الشّاعِر:
وكُلُّ يدَّعِي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا
ففي الدّول الصناعيّة المتقدِّمة تفوزُ - عادةً - الطبقة
العُليا مِنْ أهلِ الثراء والسُّلطة، فهؤلاءِ هم القائِمون على سنِّ القوانين
الّتي تحلُو لهم، وتنفعهم، وتنفعُ أتباعَهم، فيزدادُون ثراءً، ويزدادُ الفقراءُ
فقراً وفاقة، ويجمعون مثلما جمع قارون، بل (أشد منه قُوّة وأكثر جمعاً).
ومن الإنصافِ القول إنّ الحضارةَ الغربيّةَ قد قطعتْ في
الصّناعة والتكنولوجيا ما أدهشَ العقلَ، وإذا جرّدناها من المظاهِر الماديّة
الخادِعة، وجدناها كبحرٍ مِنَ المياهِ الآسِنة يتحاشاها كُلّ عاقِلٍ رشيد، ولا
يرضى بها إلا مُتجاهِلٌ بليد.. ترى ماذا نقولُ لحضارةٍ بلغت أوج التقدُّم: لا
يُساعِدُ فيها الغنيُّ أولادَهُ إذا بلغُوا سُنّ الرُّشد، ولا يعتني بزوجِه إذا
كانت فقيرة، ولا يمنحُ والدَيْهِ مالاً إذا كانا مُحتاجين؟! على خلافِ ما في
الإسلامِ من قيمٍ ومبادئ، فالإسلامُ قد أعطى المرأة منزلةً لا توازيها منزلةٌ في
غيرِه مِنَ الشـرائِع والأنظمة، فقد قرّر على لسانِ رسُولِنا - عليه الصّلاة
والسّلام -: (الجنّةُ تحتَ أقدامِ الأُمّهات)، و(رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه
في سخطهما)، فأيّ مكانةٍ رفيعة بلغته المرأةُ في ظلِّ الإسلامِ الحنيف، فالزّوجةُ
لا تنفقُ شيئاً على نفسِها وولدِها، وإنْ كانت من أهلِ الغِنى والثراء. وفي نظرِ
الإسلامِ لا تفاضُل بين المرأة والرّجُل إلا في التقوى.
وكم من الأنظمةِ الدكتاتوريّة الّتي تدّعي الديمقراطيّة
الشكليّة، وتمارسُ أبشع أنواعِ الظّلم بحقِّ مُواطنيها العُزّل، فهي تختلفُ في
نمطِ دكتاتوريتها، ولكنّها مُتّفقة في شكليّةِ ديمقراطيّتها المزعُومة، على قاعدةِ
ما قالَهُ البوطيّ - رحمه الله -: "اختلافٌ شكليّ، واتّفاقٌ ضمنيّ"!
ومن ثمارِ
الحضارةِ الغربيّة الفجّة النِّظام الربوي، فقدّ تكدّست - حسب هذا النِّظام -
الأموالُ في أيدي الأغنياء، وتضخّمت ثرواتهم تضخّماً فاحِشاً، وقد أثبتت
الدِّراساتِ الاقتصاديّة أنّ حوالي (20%) مِنْ سُكّانِ الأرضِ يسيطِّرُون على
(80%) من ثرواتِ العالَم.
وقد نظّر لهذا الجَوْر العالميّ بعضُ الفلاسفة
الغربيِّين، حتّى إن (نيتشه)، الفيلسُوف الألمانيّ، قال يوماً: المساواةُ بين
القادِر والعاجِز أمامَ القانون ظلمٌ لا معنى له! ومن شأنِ هذا أن يتسبّب في عدم
تطوّرِ الحياة نحو الأفضل، وقالَ أيضاً: إنّ مُقتضـى العدلِ أنْ يستخدِمَ صاحِبُ
السّلطةِ سُلطتَهُ فيما يشاء، وأنْ يستفيدَ الغنيُّ مِنْ أموالِه كما يطيبُ له،
وليذهبِ الفقيرُ إلى الجحيم!
وقد ذكر الفيلسُوف (روجيه غارودي): إنّ الفرقَ بينَ دخلِ
الدّول الغنيّة والفقيرة وصلَ إلى حدِّ (150, 1)، ويموتُ (400,000) شخص في كُلِّ
عامٍ جُوعاً! والأدهى من ذلِك أنّ أمريكا ترمي في قاعِ البحرِ آلافَ الأطنانِ مِنَ
القمح، وتفعلُ هولندا كذلِك بالألبان، والبرازيل تفعلُ ذلِك بالقهوة، لتبقى
الأسعارُ مُرتفِعةً، فالاقتصادُ خيرُ وسيلةٍ للسّيطرةِ على العالَم إلى جانبِ
القُوّة العسكريّة. وقد صرّح ثلاثةٌ مِنْ رؤساءِ أمريكا بالسيطرةِ على العالَم،
فهذا (روزفلت) قال بعد الحربِ العالميّة الثانية: "الآن يجبُ أمركة
العالَم"! وقال (إيزنهاور): "لقد جاءَ بنا القدرُ لنقُودَ
العالَم". أمّا جورج بوش فقال: "فمن ليسَ معنا فهو ضِدَّنا"!
ومن نتائِج هذه
الحضارة المتآكلة العنف والإرهاب، ففي الحربِ العالميّة الأولى بلغ عدد الضحايا ما
يقارب الـ(10,000,000,000) ملايين، وفي الحرب العالميّة الثانية بلغ عددهم
الـ(50,000,000,000) مليون. وقال الخبراء: لو أُنْفِقت تلك الأموال في مجالِ
البناءِ والعمران، لامتلكَ كُلّ إنسانٍ قصـراً مُؤثّثاً بأحدثِ وسائِل الترفيه!
وقد ذكر القرضاوي في كتابه (الإيمان والحياة) أنّ (لينين) قالَ في رسالةٍ له إلى
أحدِ رِفاقِه: إنّ قتلَ ثلاثة أرباعِ العالَم أمرٌ هيِّن، مِنْ أجلِ أنْ يكونَ
الرّبع الباقِي شيوعيّاً. وهذا ما يُشبِه مكافحة الجرادِ في المزروعات!
وفي مجالِ القيم والأخلاق، فحدِّث ولا حَرَج. فقد عقدتِ
الأُمم المتّحدة، ما بين الأعوام (1950 - 2000)، سبعة اجتماعاتٍ في مجالِ المرأة.
وكانت القراراتُ الصّادرة عنها كالآتي:
- يحقُّ للمرأةِ أنْ تلِدَ دُون زواج، وليسَ لأحدٍ أنْ
يُعاقبَها، بل على الدّولةِ أنْ تُعيلَ طِفلَها.
- يحقُّ للرَّجُل أنْ يُكوِّن أُسرةً بالزّواجِ مِنْ
رَجُلٍ مثلَه، وللمرأةِ أنْ تُعاشِر فتاةً مثلها.
- يحقُّ للإنسانِ أنْ يغيِّرَ جنسَهُ بعمليّاتٍ جراحيّة.
وقد ذكر الأستاذ علي بابير في كتابه (مسائِل عصـريّة):
أنّ نسبةَ المواليد الّذين لا يعرفُون آباءَهم وصلَ إلى حدِّ (75%). وبيّن الأستاذ
محمّد صالح كريم خان في كتابه (الداروينيّة): أنّ نسبةَ (80%) من نساءِ السّويد
يمارسن العَلاقة الحميمة كاملةً قبلَ الزّواج، وهذا ما أدّى إلى كثرةِ الطّلاق
وكثرة اللقطاء! وقد نقل بابير أيضاً عن الكاتب (جيسكار) بياناتٍ، نصّ فيها على أنّ
ثلث العالَم في حالةِ حرب، وأن هُناك ما يقرب من ثلاثين مليون شخص مُصاب بفايروس
(الآيدز)، في أفريقيا وحدَها! وأنّ الأمريكيّين يُنفِقون حوالي (10) بلايين دولار
على الأفلامِ الإباحيّة. ويقدّر عدد
الرقيق في العالَم حوالي (27) سبعة وعشـرون مليون شخص. ويتمّ صرف ما مقداره (5, 2)
دولار على كُلِّ بقرةٍ في الاتّحاد الأوروبي يوميّاً، ولو صُرِف هذا المبلغ على
القارّة الإفريقيّة لأسهم في إعاشةِ حوالي (75%) منهم. ويُذكر أنّ حوالي (000,
250, 1) مراهِقة حامِل سنويّاً في الدّولِ الأكثر تقدُّماً، مثل أمريكا وبريطانيا.
وأنّ عدد المنتحرين يفوقُ عدد ضحايا المنازعاتِ المسلّحة، ويتعرّض للجوع حوالي
(800) مليون شخص، وتتسبّبُ الألغامُ في قتلِ شخصٍ واحِد في كُلِّ ساعة، وتتعرَّضُ
حوالي (000, 120) امرأة للاتِّجار في أوروبا الغربيّة في كُلِّ عام!!
وتتجّلى إزاءَ هذهِ الحضارة المنخورة، حضارةُ الإسلام
الّتي رفعتْ من شأنِ إنسانيّة الإنسانِ، وكرامتِه، وأعادته إلى فطرتِه الّتي فطر عليها،
حتى إن العلامة (لويس) قال: "يا أيّها المسلِمُون لا تتخلّوا عن تصوّراتِكُم
الإسلاميّة، ولا تتطلّعُوا إلى الحضارةِ الغربيّة، تطلّع الممجّد لها، المعظّم
لشأنِها".
وقال محمّد إقبال: "إن حضارَتَكُم سوفَ تقتلُ
نفسَها بنَصْلها، فالعشُّ لا يثبتُ على غُصنٍ رَطِب ضعيف مُضطرب، فهي حضارةٌ
جاسئةُ القلب، ضائعةُ الرُّوح! لذا فما أحرى بالمسلمين أن يعودوا عودة صادِقة إلى
الإسلامِ الصّحيح، وأن يقيموا دولةَ القرآنِ في قلوبهم، حتّى تقومَ في أرضِهم. فشعبٌ
من غيرِ عقيدةٍ، ورقٌ تذرّيه الرِّياح. فالعقيدةُ ستبقى كالجبلِ الرّاسِخ، لا
تؤثِّر فيها الرِّياح مهما كانت عاتية. وقد حُورِب الإسلام في كُلِّ أرجاءِ
العالَم، وما زالَ يُحارَب، إلا أنّه بقي كالطّود الأشمِّ، ولو حُورِبَ دينٌ أو
منهجٌ غير الإسلام عُشـر ما شُنَّ عليهِ مِنَ المحاربة، لما بقي له أثرٌ في عامٍ
واحِد. فالتاريخُ يذكرُ أنّ الشيوعيِّينَ الرُّوس قتلُوا مِنَ المسلمين حوالي (20)
مليون شخص، وكذلِك فعلُوا في الصّين، وفي الهند، ومع ذلِكَ بقي الإسلام صامِداً،
وبقي المسلمون صامدين.
قال (عصمت أنونو)، عند موتِه: ماذا نفعل! لقد بذلْنا
كُلَّ ما في وُسعِنا مِنْ أجلِ العَلمانيّة، فانتشرَ الإسلام!
وقال سيِّد قطب: "البشـريّةُ من صنعِ الله، لا تفتح
مغاليق فطرتها إلا بمفاتيحَ من صُنعِ الله، ولا تعالج أمراضها إلا بدواء من صنع
الله. جعل في منهجه مفاتيح كُلّ مُغلق، وشفاءَ كُلِّ داء".
المراجع:
- الإيمان والحياة، د.يوسف القرضاوي.
- الأيدي المتوضئة، صهيب الزيباري.
- مجالس الذكر الحكيم في القرآن والسنة، فريد الأنصاري.
- مسائل عصرية، علي بابير.
- اليقظة الإسلامية - المسلمون أمام تحديات الغزو
الفكري، إبراهيم النعمة.
- الإنسان والداروينية، محمّد صالح كريم خان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق