د. سعد سعيد الديوەچي
ليس
من السهل الكتابة عن شخصية مثل سيد قطب، الذي يُعدّ أحد المفكرين الكبار في القرن
الماضي، خصوصاً بعد ما أُثير لغط كثير حول آرائه الإسلامية، ومن ثمّ انتهاء حياته
على المشنقة بعد أن ترك بصمات على الفكر الإسلامي القلق.
ولن
نخوض في بدايات حياته ونهايتها، وتعدّد انتماءاته بين حزب الوفد المصري بقيادة سعد
زغلول والعقاد وطه حسين، ثم قيادياً في حركة الإخوان المسلمين، إلا بالقدر الذي لا
يؤثر فيه على عنوان المقال.
لقد
تنوّعت اهتماماته بين الشعر والمقالة والقصة والنقد الأدبي، ولم يكن للتاريخ نصيب
في هذه البحوث إلا بشكل سطحي غير عميق، حيث بلغ نتاجه أكثر من ثلاثمائة مقالة
ودراسة في هذه الأبواب، ثم اشتهرت كتبه ذات المنظور الإسلامي، وترجمت إلى لغات
عديدة، وهي: (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، و(معالم في الطريق)، وتفسيره
للقرآن
الكريم (في ظلال القرآن)، بالإضافة لكتب أخرى، وتصب كلها في مصب واحد، تشكّل
المثالية الإسلامية فيها - كما تخيّلها هو - هدفاً منشوداً، بدون مراعاة للظروف
التاريخية المؤثرة على مسيرة الفكر الإسلامي.
استغلّ
سيد قطب براعته الأدبية بتقديم أفكاره حول قضايا إسلامية مهمة بصورة مثيرة لا مثيل
لها، خصوصاً بعد ما وضعها في أسلوب أدبي متميز.
وفي
معظم كتاباته كان موقفه ضبابياً من التاريخ الإسلامي، غير عميق، ولم يكن كاتباً
واقعياً لأحداث عصـره، عندما حصـر أسباب تأخّر المسلمين في ابتعادهم عن الدين ولا
غير، ناسياً أن ما تكون عليه المجتمعات من تقدّم وتأخّر له ارتباط ووشائج
بالاقتصاد والسياسة والصناعة والزراعة ... إلخ، وقد يأتي الدين والمعتقد في آخر
القائمة، وكذلك إجراء البحوث العلمية، واستغلال الطاقات الخلاقة للعلماء، وتنظيم
العمل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، والقضاء على الفساد، وغيرها.
وفي
العصر الحديث، صار الامتزاج بين هذه النواحي أمراً حتمياً، فهذه الأمور ترعاها
مراكز البحوث، والشركات، والجامعات، وما تضعه من خطط ومشاريع علمية في سبيل رقيّ
الأمة فكرياً ومادياً.
فسيد
قطب يحشر التجربة الإسلامية بحقبة البعثة النبوية، ومن بعدها فترة الخلفاء
الراشدين، مع إسقاط فترة خلافة عثمان (رض)!، وهو أمر في غاية الغرابة من مفكر
إسلامي!.
فهو
يَستلّ من الحدث التاريخي ظواهره، وما يوافق رأيه، بدون أن يرجع للرأي المضاد، أو
يناقشه. وهذه المسألة من أخطر المآزق الفكرية عند من يخلطون الحدث التاريخي
بالعاطفة الدينية.
وهو
متأثر بالروايات السلبية ضد بعض الصحابة، كالتي يرويها المسعودي، وغيره، والتي
تتحدث عن عثمان (رض)، بأنه كان غنياً مترفاً تاركاً الأمور على عواهنها. فيقول:
"...وكان من سوء الطالع أن تدرك الخلافة عثمان وهو شيخ كبير ضعفت عزيمته عن
عزائم الإسلام، وضعفت إرادته عن الصمود لكيد مروان، وكيد من ورائه". (انظر: العدالة الاجتماعية ص 186 الطبعة
الخامسة).
وهذا
الرأي فيه إساءة شخصية لعثمان (رض)، بصورة عامة، وفيه استخفاف بفترة مهمة جداً من
التاريخ الإسلامي، صاحبتها أحداث جسام مسّت المجتمع الإسلامي الناشئ، داخل وخارج
الجزيرة العربية، وانتهت بأحداث الفتنة الكبرى، والدولة في حالة نشوء واتّساع، وهي
مسألة معقدة ذات جوانب عديدة.
لقد
اتخذ سيد قطب من حادثة أبي ذر(رض) مع عثمان سبباً للتهجم على عثمان (رض)، وكأنّ
أبا ذر رجل معصوم، لأنه نادى بنوع من الاشتراكية التي توافق هوى سيد قطب.. كذلك اتّخذ
من تفضيل عثمان، وعمر (رضي الله عنهما)، مجالاً للطعن بالصحابة من المهاجرين
والأنصار، من أهل بدر وبيعة الرضوان وأهل الشورى، لأنهما كانا يفضلونهم في العطاء،
فيقول: "وعليه من الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن علي (رض)". ثم يقول:
"ولقد كان من الطبيعي ألا يرضى المستنفعون عن علي رضي الله عنه، وألا يقنع بشـرعة
المساواة من اعتادوا التفضيل ومن مردوا على الاستئثار، فانحاز هؤلاء في النهاية
إلى المعسكر الآخر" (العدالة الاجتماعية ص 193/ الطبعة الخامسة).. فهذا
الكلام يعدّ تجريحاً كبيراً للصحابة.. ثم يقول: "وبرّأ الله علياً من هذا
الباطل والإفك"، فكأنما قد ارتكب عمر وعثمان (رضي الله عنهما) باطلاً وإثماً
كبيراً، ولم يعر لمسألة الاجتهاد في هذه القضية وغيرها أي اعتبار، حيث لم يرد فيها
آية أو حديث.
ويضيف
قائلاً، باستخدام التعابير الأدبية الطنانة والرنانة، التي لا تغني من الحق شيئاً
في عالمي السياسة والتاريخ: "إنه لمن الصعب أن نتّهم روح الإسلام في نفس
عثمان، ولكن من الصعب كذلك أن نُعفيه من الخطأ الذي هو خطأ المصادفة السيئة في
ولايته، وهو شيخ موهون تحيط به حاشية سوء من أميّة". ثم يردف: "ففي زمنه
ذهبت روح الإسلام".
والقارئ
المتمعّن لأفكار سيد قطب يراها غريبة، وفي الكلام تطاول وتجريح بعثمان (رض)، ولم
يقله أحد من أهل السنة، ناهيك أن الخلافة الراشدة استمرت بعده على عهد علي (رض)،
ولا ندري من أعطاه المهمة للحكم على عثمان (رض)، وصحابة الرسول، والتابعين، بهذه
الأحكام القاسية اللامسؤولة.
لقد
استعمل ما نطلق عليه في أيامنا هذه بالأفكار الاشتراكية في أبسط صورها، فنمت عنده
كراهية الأغنياء، حتى لو كانوا من الصحابة، ومن أقرب المقربين للرسول (صلى الله
عليه وسلم)، ولم يلتفت لكون عثمان (رض) استلم الخلافة بعد استشهاد عمر (رض)،
وبطريقة الشورى.
فالدوافع
الاشتراكية، بصورتها الساذجة، عميقة في فكره، قبل وبعد انتمائه لحركة الإخوان
المسلمين عام 1952، حيث كتب في مجلة (الاشتراكية) مقالاً بعنوان (كفاحنا اليوم مع
الاستعمار وليس مع الشيوعية)، العدد 29 ص6-7، في 5 سبتمبر 1951، و"أيها
الباشوات لا تتمسحوا بالإسلام"، نفس المجلة، العدد 32 ص7، في نوفمبر 1951،
وغيرها من المقالات التي تصب في هذا المجال.
ومن
الأخطاء الفادحة لسيد قطب، نتيجة القراءة المجتزأة للتاريخ، استخدام أو استعارة
المصطلحات الإسلامية المستخدمة في صدر الرسالة، كالجاهلية، والحاكمية، كما وردت
نصاً أثناء بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي مجتمع بسيط، جديد، ناشئ على
أنقاض مجتمع آخر، متناسياً المعطيات الاجتماعية، والقبلية، والأعراف الدينية، التي
كانت من الأمور الهامة في تحديد مفاهيم هذه المصطلحات آنذاك، ثم تغيّرت كثيراً بعد
الفتوحات. وبعد أن نمت عنده فكرة موت روح الإسلام بعد الخلافة الراشدة، فلا تجد في
مئات المقالات التي كتبها مقالاً واحداً عن رموز الأمة الإسلامية، سواءً في
الحروب، أو الفتوحات، أو في المسائل العلمية، أو الفقهية، أو في التاريخ،
والتفسير، وكل مجالات العلوم الأخرى، لأن في هذه الفترات كان المسلمون خارج روح
الإسلام، حسبما يردّد ذلك في كل كتاباته.
فعند
سيد قطب فإن روح الإسلام قد انطفأت بعد الخلافة الراشدة، كما ذكرنا ذلك سابقاً.
وعليه، فكل ما حدث - على مدى أربعة عشر قرناً - كان ظلاماً دامساً، لأنه خارج هذه
الروح. وهذه إساءة تاريخية، وعلمية، لما وصل إليه المسلمون من تقدم في الآداب
والشعر والفنون والعمارة والصناعة، ولا تعني إلا أن الإسلام ميت منذ أربعة عشر
قرناً!.
من
هذا المنطلق التاريخي الضيق، فقد اجتزأ سيد قطب مفهوم الجاهلية ليضع الأمة
الإسلامية في الواجهة الفكرية مع كل المجتمعات البشرية المعاصرة.. فالمجتمع
الجاهلي هو كل مجتمع "غير المجتمع المسلم"، لا يخلص عبوديته لله وحده،
وكذلك هي كل مجتمعات الأرض، والتي تزعم أنها مسلمة، وأنها تعبد الله ولا غير،
ولكنها تدخل في هذا، لأنها تقدّم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً، أيْ إنها لا
تدين بالعبودية لله وحده في نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداتها وتقاليدها،
وكل مقومات حياتها تقريباً، استناداً لقوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا
عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)] (سورة المؤمنون).
وهذا التعميم مفهوم لنا، كمسلمين، عقائدياً، على مستوى الإيمان.. وبعد اكتمال
الرسالة، ومن تنوع المجتمعات في العالم، فإن ما يجب أن يتبعه المسلم بالتعامل مع
الآخر، يكون بالاستناد للآية: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا
وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ](الحج: 17).
خصوصاً
وأن الآيات الواردة أعلاه كانت تخاطب أهل الكتاب. أمّا اتهامه للمجتمعات الإسلامية
بجرّة قلم عريضة، لأنها لا تقيم عاداتها وموازينها وتقاليدها، كما تخيّلها هو،
ووضعها في خانة الكفر مع المجتمعات الكافرة – حسب رأيه – فهي جناية ما بعدها
جناية، وتعدٍّ تاريخيّ، قبل أن يكون عقائدياً، فالمجتمعات الإسلامية منقسمة إلى
طوائف وتيارات مذهبية عديدة عبر هذا التاريخ الطويل، وبينها اختلافات واجتهادات
كثيرة، ومن المحال اثبات رأي فصيل واحد على الباقين، ثم إطلاق اسم (النموذج
الإسلامي) المطلوب عليه، وإلا سنرجع إلى حالة قتال وخصومة بالغة بين الفرقاء
المسلمين، ناهيك عن حالة الصدام والتوتر الدائم مع باقي المجتمعات.
لقد
وقع سيد قطب، في طرحه لمبدأ الحاكمية لله بصورته البسيطة جداً، في مطبّ التعصبّ
للنصّ، بدون مراجعته عملياً وتاريخياً.
فالحكم
بما أنزل الله، بالنسبة للأمور الشرعية، لا نقاش حوله بالنسبة للمسلم الملتزم، متى
ما استطاع المجتمع تحقيق الأجواء الحقيقية، واستيفاء شروطها، قبل تنفيذ الحكم.
فعمر
(رض) أوقف قطع يد السارق في عام الرمادة، ومنع العطايا عن المؤلفة قلوبهم، فالأمور
الدينية والدنيوية متداخلة في كثير من الأحيان، وتحتاج مسألة تطبيق الشريعة إلى
التأني والدراسة العميقة.
وفي
هذا المجال، قفز سيد قطب على المسائل السياسية المعقدة التي تتحكم بمسار التاريخ،
والتي هي في غاية الأهمية، لوجود ظروف معقدة ومتغيرة على مدار الزمن.
إن
الطريقة التي طرح بها سيد قطب مبدأ الحاكمية لله، هي نفس الطريقة التي اتّبعها
الخوارج بعد معركة (صفين)، وقبول علي (رض) بالتحكيم، وجعلوه خروجاً عن نص الشريعة.
ويمر
سيد قطب على الحادثة المعروفة التي أرسل فيها علي (رض)، ابن عمّه عبد الله بن
عباس، ليحاور الخوارج، ويثنيهم عن رأيهم وتمسّكهم الحرفي بالآية [قُلْ إِنِّي
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ
بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ](الأنعام:
57)، مرور الكرام، لأنها لا تتفق مع تفكيرهم الحدّي المتطرف، ولا يذكرها في مُجمل
طروحاته.
أراد
ابن عباس أن يلفت نظر الخوارج إلى الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ
هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ
ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ
عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ](المائدة:
95)، فقال ابن عباس للخوارج: (فنشدتكم الله، أحكم الرجال في أرنب ونحوها من الصيد
أفضل، أم حكمهم في دمائهم، وصلاح ذات بينهم؟ وأن تعلموا أن الله لو شاء لحَكم، ولم
يصيّر ذلك إلى الرجال)!، ثم ذكّرهم بالآية التي تتكلم عن الخلاف بين المرأة
وزوجها، فقال عز وجل: [وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ
اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا](النساء: 35). وبذلك
صار حكم الرجال سنّة مأمونة، ولم تنزل آية بهذا المجال، لأنها أمور دنيوية تتكرر
مع مرور الزمن بأشكال مختلفة وصور عديدة.
ومع
تعقّد الحياة في كل نواحيها، والسياسة بتوجهاتها، فإنه من الصعب جداً إسدال مصطلح
(الحاكمية لله)، على كل شيء، لأن الأمور الدنيوية معقدة جداً، ومتغيّرة بحكم
الزمان والمكان والانتماء للعرق والجنس. وإهمال هذه العوامل يعتبر تغاضياً عن
مسألة الاختلاف في الآراء، وهي مسألة حتمية لا يمكن القفز فوقها، ناهيك أن لو صار
الحكم لبشر، فيكون باجتهاد وقياس أصلهما العدل.
وكذلك
أخذت فكرة (الجاهلية)، بسياقها التاريخي، بكل تلابيب تفكير سيد قطب، مع
(الحاكمية)، في سبيل مجتمع مثالي.. فإلى قيام الساعة سيكون الناس منقسمين بين صالح
وطالح، والمدينة الفاضلة كهدف منشود لن تقوم أبداً، فالله تعالى يقول: [وَيَوْمَ
تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ](الروم: 12)، وهذه الآية تدل - بدون
مواربة - أن الأرض لن تخلو من مؤمن وعاص حتى قيام الساعة، وأن المجتمعات الإسلامية
الحاضرة لا يمكن وصفها بالجاهلية مطلقاً، فلا أصنام تعبد، ولا شرك ظاهر، وأمّا
ممارسات البعض بمخالفة الشريعة، فتلك ممارسات شخصية ولا غير، لم تختف يوماً ما في
كل المجتمعات الإسلامية منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم).. وبهذا فتح الباب
أمام المتعصبين، وأنصاف المتدينين، للاجتهاد وتقرير من هو مؤمن ومن هو كافر.
فهذه
التعاميم لا تدل إلا على نظرة ضيقة للتاريخ الإسلامي من زاوية معيّنة بعد ربطها
بآيات معيّنة، وحتى بدون الرجوع لأسباب النزول، وهي مسألة في غاية الأهمية.
لقد
وضع سيد قطب حداً فاصلاً بين ما كل هو إلهي وما هو بشـري، ونسـي أن البشـر ليسوا
مخلوقات صماء، ولذلك فهو يقول بأنه يجب التمرّد على كل وضع يحكم فيه البشـر،
وتحطيم مملكة البشـر، وإقامة مملكة الله في الأرض.
لقد
وقع سيد قطب في فخ التعميم، وفي استخدامه لمصطلحات المجتمعات الحالية بما ينطبق
على المجتمعات القديمة قبل الرسالة، وذلك لضعف ثقافته التاريخية، والنظر للإسلام
من زاوية معينة، وكأنه كتلة صماء حسبما يفهمها هو. عندها تأخذه الجرأة للقول:
"إننا الذين نقدّم الإسلام للناس، ليس لنا أن نجاري الجاهلية في شيء من
تصوراتها". وبهذا جعل نفسه وصياً وحَكَماً لكل رأي يخالف رأيه.
وفي
قراءته المتسرّعة لهذه المفاهيم اعتبر سيد قطب، عن جهل أو عمد، بأن المجتمع الذي
يعتبره مثالياً - كما ذكرنا سابقاً - هو المحصور بين مكة والمدينة، وفي فترة عدّة
عقود، ويهمل انتشار المسلمين من الصين إلى إسبانيا، وبلغات وعادات مختلفة، وأصول
ثقافية متغيّرة، وانتماءات جنسية متعدّدة، ويضع كل ما مرّ على الأمّة خلال أربعة
عشـر قرناً في سلّة المهملات!.
لقد
تأثّر سيد قطب بالأوضاع الاجتماعية السائدة في مصـر، والعالم، خصوصاً في الأربعينات
من القرن الماضي، مدعيّاً أن الإسلام له السبق على كل المعتقدات الوضعية في هذا
المجال. حيث إن القرآن الكريم وسنّة الرسول هما المرجع الأساسـي، والإسلام - كما
نعلم - أساسه العدل في كل شيء، وعليه فمن السذاجة مقارنته بالمناهج الأخرى، لأنها
ترمي إلى نفس الهدف، وهي مسألة محسومة لا جدال حولها.
ونحن
نعتقد بأن سيد قطب وقع في فخ الخلط بين الإسلام وبقية المعتقدات، وخصوصاً
الاشتراكية، وأن مسألة وضع الاشتراكية كهدف قد أثر على استنباطاته السياسية بشأن
بعض الأمور الهامة في التاريخ الإسلامي، فتخيّلَ نفسه نصيراً للفقراء وعدواً
للأغنياء، وهي الاشتراكية الساذجة. ولو بقي حياً لرأى نهاية الاشتراكية في العالم،
وأن كثيراً من المجتمعات حققت أهدافاً اجتماعية راقية بدون اشتراكية مزعومة، كمعظم
الدول الأوروبية.
لقد
قادت الحدّية المطلقة لسيد قطب في وصفه للمجتمعات الإسلامية، ولمفاهيم صدر
الإسلام، مع بعض المفاهيم الحديثة، إلى أخطاء فادحة، فاعتقد أن الاشتراكية هي
المساواة، وهي غير ذلك تماماً، فلا يمكن مساواة من يعمل بجد وإخلاص وهدف منشود،
بالكسول المتراخي الذي لا يعمل.
فهو
يتعاطف مع موقف أبي ذر(رض)، بسطحية مفرطة، عندما ناقش عثمان (رض)، في موضوع رأس
المال، كما ذكرنا.. ولكن عندما يريد أن يمتدح بعض النقاط المضيئة، حسب اعتقاده، في
التاريخ الإسلامي، الذي انطفأت روحه بعد الخلافة الراشدة - كما يعتقد - فهو لا يرى
إلا (الثورة) الكبرى على عثمان، و(ثورة) القرامطة، وسواها، ضد الاستغلال، والسلطة
الجائرة، وفوارق الطبقات، وما يزال الروح الإسلامي يصارع هذه الاعتبارات جميعاً،
على الرغم من الضربات القاصمة التي وجهت إليه، كما تخيّل ذلك عن رؤية أحادية مفرطة
في السذاجة.
فحتى
طه حسين سمّى الأحداث التي أدت إلى استشهاد عثمان (رض) بالفتنة الكبرى، بينما
يضعها سيد قطب في دائرة الثورة، والثورة لا تقوم إلا على الظالمين!، وقد شرحنا ذلك
سابقاً.
وأمّا
ما ذكره عن القرامطة (العدالة الاجتماعية/ ص223، مثلاً)، فيعدّ جهلاً عميقاً
بالتاريخ الإسلامي لا مثيل له، دفعه إليه حديثه وتعصبه لآرائه.. فالقرامطة
إسماعيلية باطنية، صلتهم بالإسلام هي صلة الساعي لهدمه باسمه. وسنقف وقفة سريعة
أمام بعض ما فعلوه تجاه الحجيج، علماً بأنه لا خلاف بين المؤرخين بأنهم كانوا
الجناح العسكري للباطنية الإسماعيلية.
وكانت
إحدى مهامهم منع الحجاج للذهاب لبيت الله، والإغارة عليهم، وقتلهم، وسلبهم. ففي مستهلّ الشهر
الأخير من عام 317هـ - كانون الثاني 930م، وما أنْ بدأت شعائر الحج يوم التروية في
الثامن من ذي الحجة، دخل القرامطة، بعد صـراع عنيف مع المدافعين، إلى المسجد
الحرام، وقاموا بكل الأعمال المنكرة من زنا وشرب الخمر وتدنيس الحرم وقتل الحجيج.
يقول
المؤرخ الشهير (دي خويه): دخل أبو طاهر الجنابي (قائد القرامطة)، إلى المسجد،
فتشبث الفقهاء الأتقياء والشيوخ بغطاء الكعبة الشـريفة، وتراكضت النسوة جزعاً هنا
وهناك، وفي وسط الخضم البشري أخذ جنود أبي طاهر الشرسين يقتلون ويدوسون كل شيء،
ويصيحون بضحاياهم بسخرية ووحشية: (يا حمير! أليس قلتم في هذا البيت من دخله كان
آمناً؟، أين حرمته وأمنه الآن؟).
ويستطرد
(دي خويه)، وكل من كتب عن هذه المأساة، كيف أعمل أبو طاهر وجنوده النهب في كل شيء،
وعوقبت أدنى مقاومة بالسيف، وأُسر عدد كبير من الرجال والنساء، تمّ توزيعهم بين
الغزاة. وكانت ثالثة الأثافي اقتلاع الحجر الأسود، وغيره من الأشياء النفسية، من
المسجد، ونقله إلى عاصمتهم (هجر) في الإحساء. وقد بلغ مجموع القتلى في المسجد وحده
1900شخصاً، وبلغ مجموع القتلى في كل مكة ثلاثين ألفاً..
وكما
قال (دي خويه)، فإن ما أراد أن يثبته القرامطة هو أن الحجر الأسود قد تمّ اختطافه،
وأن الأماكن المقدسة ظلّت مهتوكة الحرمات، ولم تتدخل القوى الإلهية لإنقاذه.
وعليه، فإن شعائر مكة، وبالتالي كل دينهم، خرافات ليس إلا..
هذا،
وقد بقي الحجر الأسود عندهم في مدينة (هجر)، على ساحل الخليج العربي، إلى عام
329هـ!.
ويستطرد
(دي خويه): لم يكن من الممكن أن توجّه إلى الإسلام ضربة أوجع من اختطاف الحجر
الأسود. ويعتقد بعض المؤرخين المسلمين أن هدف القرامطة، كان استبدال الإحساء بمكة،
وجعلها مقصد الحجاج.
فهل
قرأ سيد قطب شيئاً عن القرامطة، أم اكتفى بالسماع عن ثوريتهم، ليضعهم في خانة
الإسلام؟!
إن
وضع القرامطة، وما قاموا به، داخل الإطار الثوري العميق في الإسلام، لهو الجهل
المطبق بعينه بالتاريخ الإسلامي، ما بعده جهل.
إن
التاريخ لن يغفر لسيد قطب ما ذكره بشأن القرامطة، كما لن يغفر له مروره على من صنع
مجد الأمّة مرور الكرام، أمثال: صلاح الدين، ونور الدين، ومحمد الفاتح، وغيرهم
الكثير، لأنهم عاشوا في زمن انطفاء روح الأمة، بحسبه.
لقد
تعمّدنا الإطالة بعض الشـيء في هذا الموضوع، لأنها واحدة من أعظم النكبات في
التاريخ الإسلامي التي يذكرها المسلمون بالتياع بالغ، بينما يضعها سيد قطب في باب
الثورية الإسلامية لفئة إباحية متهتكة، ولواحدة من أكثر الفرق إيذاءً وعداوة
للإسلام.
هذه
نظرة سيد قطب للتاريخ الإسلامي، وهي نظرة غير متوازنة، عمادها انطفاء روح الإسلام،
حسب رأيه، ثم التمجيد بقتلة عثمان (رض)، والقرامطة، وهم الأساس الذي قامت عليهم
فرقة الحشاشين الباطنية، الذين قاموا باغتيال قادة الأمة. ولله في خلقه شؤون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق