عبد الباقي يوسف
كل آيةٍ من آيات القرآن، تُشكّل عالماً مُستقلاًّ، تتفرّد
به دون غيرها، وما تريه لك، لا تريه لك غيرها، ما تكشفه لك، لا تكشفه لك غيرُها، وما
تُدهِشكَ به، لاتُدهِشكَ به غيرُها. فكل آية فيها أشجارها، وزهورها، وأشواكها، وليلها،
ونهارها، وشمسها، وقمرها، وأجواؤها الجديدة. حتى لو رأيتَ آيةً مُكَرّرة بكلماتها،
لكنها تكون جديدة بمعانيها، فلا يكون ذلك تكراراً، رغم أن الكلمات هي ذاتها في ذات
الآيتَين، لكنك تكون هناك في أجواء، وهنا تكون في أجواء أخرى، وما تذيقك هذه الآية
من عسل اللغة، وعسل المعنى هنا، لم تذقك إياه الآية السابقة هناك.
الإشراف على دخول عالم آيةٍ قرآنية جديدةٍ، هو كالإشراف على
دخول مدينةٍ جديدةٍ لم ندخلها من قبل،
وسوف نرى فيها مجتمعاً جديداً، أبنية جديدة،
روائح جديدة نستنشقها لأول مرة، حافلات جديدة نصعدها لأول مرة. لذلك لا بدّ من التهيئة
للدخول إلى عالمها، ولا بدّ قبل كل شيءٍ من إتاحة أكبر قدرٍ ممكنٍ من صفاء الذهن، والهدوء،
والسَكينة، والصمت، حتى تُدخِلك الآية إلى عالمِها، وإلاّ ستلبث على الباب، مهما قرأتها،
دون أن تتفتّح لك أوراق زهورها، دون أن تنسم عليك نسائم دوحتها.
مع البدء بالكلمة الأولى من الآية، تبدأ بالدخول إلى أولّ
حيٍّ من أحياء المدينة الجديدة، ومع انتهاء الكلمة الأخير منها، تكون قد خرجتَ من آخر
حيٍّ من أحياء هذه المدينة، لتنتقل إلى مدينة جديدة، وأحياء جديدة، ضمن دولة السورة
الجديدة التي أنتَ في رِحابِها.
فمن أراد أن يزداد صلاحاً واستقامة، فليقرأ القرآن قراءات
تدبّرية، استنارية، وليستمع إليه بتدبّر واستنارة، لأن القلب يطمئن مع آيات الله، ويزداد
إيماناً، والعين ترتاح عندما تقع على آيات الله، والأذن، والجوارح كلّها، تمسي في حالة
خشوع.
وما هو هام بالنسبة لنا، هو أن التفاصيل والأحداث القرآنية،
تتكرّر، سواء على مستوى الدول، أو على مستوى الجماعات، أو حتى على مستوى الأفراد. أي
هي ليسَت مقتصـرة على أناسٍ دون غيرهم، أو مكانٍ دون غيره، أو زمانٍ دون غيره.
لماذا؟ لأننا أمام كتابٍ تشريعي، تُستَخرج
منه الأحكام الشـرعية في كل زمانٍ ومكان، وكتابٍ يُتعبَّد به، وهو كِتابُ الله لِعِباده
ليُحسّن لهم حياتهم، فلا يكتفوا بقراءته فحسب، بل يعملوا بِما هو كامنٌ فيه، لأنه تشريع
الله تعالى فيهم.
وهذا هو لبّ الفرق بين الوثائق التي يوثّقها القرآن الكريم،
وبين الوثائق التي توثّقها الكتب. فما توثّقه الكتب، هو للعبرة، والعظة، والحكمة، والمعرفة،
وللتأريخ، أمّا ما يوثّقه القرآن المجيد، فهو إضافة إلى ذلك كتابٌ تشـريعي فيه الأحكام
الإلهية، وفيه الحلال والحرام، وهو كتابُ عِبادة. والأمر الآخر أن القرآن ينتقي الوقائع
التي تلبث تتجدّد وتتكرّر في الناس، وهو بذلك يلبث كتاب الساعةِ في كل ساعة. ذلك أن
الله حي، والملائكة أحياء، والناس الذين هم امتداد لأولئك الآباء والأجداد، أحياء،
وهذا من شأنه أن يقوّي صلة الإنسان بربّه. فما وقع، يمكن له أن يقع، وكما أن معجزاتٍ
إلهيةٍ صَنَعَت أحداثاً استثنائيّة عبر التاريخ الإنساني، فإن ذلك يلبث قابلاً للوقوع،
لأن الله، هو جلّ شأنه، والملائكة، هم الملائكة
عليهم السلام، والناس، هم الناس.
فهذا هو التأسيس القرآني لشخصيّة الإنسان المسلم، وهذه هي
مدارج التربية القرآنية التي تفصح له عن الحقائق الكُبرى، والصُغرى، حتى تُنظّفه، وتُنَقّيه
من الداخل، فيُستَخلَص من ذلك إنسانٌ جديد، يكون بطلاً حقيقياً في حياته، يكون شامخاً
وصاحب مواقف إنسانيّة كُبرى، فقد اصطفاه الله، ليكون مُنتِسباً إلى أمّة الرجل الذي
اصطفاه الله تعالى ليكون خاتم أنبيائه ورسله في الأرض، فالمسلم الحق يُدرك، ويعيش معنى
أنه الإنسان المُصطَفى الذي ينتمي إلى النبي المُصطفى، عليه الصلاة والسلام.
لا شيء كالقرآن، لا كلمات كالكلمات القرآنية، لا حدائق تحفل
بِما تحفل به حدائق القرآن، لا كتاب يكتنز بِما ينفعك، كما يكتنز القرآن. كل آيةٍ قرآنية، هي قصة جديدة تقرأها لأول مرةٍ،
قصّةٌ من فصل السورة في كتاب القرآن المجيد. وأيّ محظوظ، أيّ مُنعَمٍ عليه، هو ذاك
الذي تتبرّك عيناه بقراءة كتاب القرآن المجيد، قراءة الازدهار، قراءة الاستنارة، قراءة
الانشـراح، قراءة التطهّر. لو عَلِم الإنسان عظمة فضل القرآن عليه، لصلّى بعد قراءة
كل آية ركعتين شكراً لله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق