الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة
والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وآله وصحبة أجمعين.
وبعد:
فإن من مظاهر الوسطية الإسلامية التيسير ورفع الحرج في الدين، واجتناب المغالاة
والتشدد فيه، وقد أمر الله (عزَّ وجلَّ) عباده بالاستقامة والاعتدال ونهاهم عن الغلو والانحلال، وإن الدين
الإسلامي يعارض التطرف والتعصب، ويحترم التعددية الثقافية والدينية والحضارية
وينبذ العنصرية، ويدعو للوسطية.
الإسلام سمح سهل مرن معتدل، متوسط بين الإفراط والتفريط، وليس
الإسلام متشدداً ضيقاً حرجاً، فلا
إعنات ولا مشقة ولا إحراج في تعاليم الإسلام
وأحكامه كلها، سواء منها أحكام العقائد أو العبادات والمعاملات ونظام الأسرة وجميع
التكاليف الشرعية، وكذلك مبادئ الاقتصاد في الكسب والادخار والتوزيع والإنفاق تقوم
على التوسط بين الإسراف والتبذير، وبين الشح والبخل والتقصير.
فكل
من خالف ذلك فاستبدل الرحمة بالنقمة، والتيسير بالتعسير، والتبشير بالتنفير، والاختيار
بالقهر، والجمع بالتفريق، والاعتدال بالغلو أو التقصير، فليس في دين الله من شيء
وإن ادعى وتشدق، وإنما يعود ذلك إلى فساد في تفكيره أو تربيته، وعلة في فهمه، وإن
زاد ذلك عنده بسبب تدينه فهذا قيل: مثله كمثل البطيخ والحنظل يسقيان بماء واحد
فيزداد هذا حلاوة وهذا مرارة.
إن
الأصل في هذا الدين هو الوسطية واليسر والسماحة والرفق، فلا مكان للتشدد فيه، ولا
يمكن أن يحسب تشدد الغلاة من الدين، بل هو مخالف للدين، وإن أُلبِس لباس الدين
زوراً وبهتانًا.
لهذا
الموضوع أهمية كبيرة في حياة المسلمين اليوم، وخاصة الدعاة والمفتين والمربين؛ حيث
جهل الكثير – في عصرنا الحاضر – منهج الإسلام في التيسير؛ واختلط معنى التيسير
بالتساهل، وصار المتشدد في الأحكام يتهم من يتبع منهج التيسير – وهو في الأصل منهج
الإسلام – بالتساهل، ويرجع ذلك إما إلى التعصب للمذهب أو للآراء أو لأفراد
العلماء، أو التمسك بظاهر النصوص، أو من باب المبالغة في سد الذرائع، أو المبالغة
في الأخذ بالأحوط عند كل خلاف، علماً بأن الأخذ بالأحوط سائغ في حق الإنسان في
نفسه لما فيه من الورع، أما أن يلزم العامة به ويعتبره منهجاً في الفتوى، فأمر قد
يفضي إلى الضيق والحرج الذي نفاه الله تعالى عن هذا الدين الحنيف.
إن
الإسلام دين رحابة وسماحة، وداعية تبشير وتيسير، نسخ شرائع الأغلال بوسطية محكمة،
ورفع الآصار عن الكواهل باعتدال موزون، وهما الجناح الرفاف الذي طار به كل مطار،
والآية المبصرة التي فتحت أعين الناس على قيم الحق والخير والجمال، فاستوت
الإنسانية بعد إكباب، وأشرقت الأرض بنور ربها بعد إدلاج([1]).
لهذه
الأسباب كتبت هذا البحث عن التيسير في الإسلام، وعن منهج الوسطية في الرخص
الشرعية، وعن الغلو ومظاهر التطرف، أسأل الله (عزَّ وجلَّ) أن يتقبله منا، وأن
يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به إخواننا المسلمين، إنه على ذلك لقدير.
مفهوم
التيسير وتأصيله ومجاله
اليُسْرُ
لغة: ضد العُسْرِ. ومنه "الدِّين يُسْرٌ"، أيْ: سهلٌ سَمْحٌ قليل
التشديد([2]).
واليسر:
اللين والسهولة، والانقياد، ضد العسر. والتيسير: مصدر يسّر الأمر، إذا سهله ولم
يعسره، ولم يشق على نفسه أو غيره فيه([3]).
وقال
في النهاية - باب الياء مع السين: (اليسر ضد العسر. أراد أنه سهلٌ سمحٌ قليلُ
التشديد) (أي: دين الإسلام)([4]).
واليسر
من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميت اليد اليسرى تفاؤلاً، أو لأنه يسهل له الأمر
بمعاونتها لليمنى([5]).
والتيسير أو اليُسْرُ بسكون السين وضمّها، والمَيْسُور ضد المعسور، وقد
يَسَّرَهُ الله لليُسْرَى، أيْ وفقّه لها([6]).
أما
في الاصطلاح: فهو تطبيق الأحكام الشرعية بصورة معتدلة، كما جاءت في كتاب الله وسنة
نبيه (صلى الله عليه وسلم)، من غير تشدُّد يُحرِّم الحلال، ولا تميُّع يُحلِّل
الحرام. ويدخل تحت هذا المسمى السماحة والسعة ورفع الحرج وغيرها من المصطلحات التي
تحمل المدلول نفسه.
وهو
موافق لمعناه اللغوي، وهو: عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم، أو بعبارة أخرى: هو
عمل فيه يسر وسهولة وانقياد([7]).
و(اليسر
من السهولة، ومنه اليسار للغنى. وسميّت اليد اليسرى تفاؤلاً، أو لأنه يسهل له
الأمر بمعاونتها لليمنى: قولان)([8]).
واليسر
هو سهولة العلم بالدين، كما قرّر الشاطبـي - في كتاب (الموافقات) – "أن
الشريعة - شريعة الإسلام - أميّة. يعني: في تشريعاتها، وفيما يطلبه الشارع من
أهلها، راعى فيها حال الأكثرين، وهم الأميّون([9])،
كما قال النبـي (صلى الله عليه وسلم): (إنّا أمّة أميّة)([10]).
وإذا علّقت الأحكام بما لا يدركه إلا الخواص، كان هذا قدحاً في الشريعة؛ لأن
الأحكام التي يحتاجها الناس جميعاً هذا لا يعلق بها معرفة الخواص".
وإن
من مظاهر الوسطية التيسير ورفع الحرج في الدين، واجتناب المغالاة والتشدد فيه. فالإسلام سمح سهل مرن معتدل، متوسط بين الإفراط والتفريط،
وليس الإسلام متشدداً ضيقاً حرجاً، فلا إعنات ولا مشقة ولا إحراج في تعاليم
الإسلام وأحكامه كلها، سواء منها أحكام العقائد أو العبادات والمعاملات ونظام
الأسرة وجميع التكاليف الشرعية، وكذلك مبادئ الاقتصاد في الكسب والادخار والتوزيع
والإنفاق تقوم على التوسط بين الإسراف والتبذير، وبين الشح والبخل والتقصير.
والأخلاق والسلوكيات فيه أيضاً وسط، تتميز بالسماحة والتخفيف واليسر،
وترك التنطع والتشدد، والغلظة والاستكبار. لذا لم يُمدح نبـي الإسلام (عليه الصلاة
والسلام) بمثل ما مدح بصفة الخلق والرحمة، فقال الله (عزَّ
وجلَّ) عنه: )وَإِنَّكَ
لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(([11]). وقال (عزَّ
وجلَّ) واصفاً رسالته ومهامه: )وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(([12]).
التأصيل
الشرعي للتيسير
والتيسير مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية، ومقصد أعلى من مقاصد التشريع
الإسلامي؛ فما من حكم من الأحكام الشرعية العملية إلا والتيسير لحمته وسداه، والذي
يتأمل التشريع الإسلامي يوقن بهذه الحقيقة يقيناً لا يخالطه شك ولا ريب. وقد قال (ابن
تيمية): "لا أحد أحبّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين،
ولا ييسّر آمِرٌ على مأموريه، ويرفع عنهم ما لا يطيقونه، إلا والله (عزَّ
وجلَّ) أعظم تيسيراً على مأموريه، وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه
عنهم، وكل من تدبر الشرائع، لا سيّما شريعة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وجد هذا فيها أظهر من الشمس"([13]).
لقد
تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة، وآثار الصحابة، وإجماع الأمة، على أن التيسير
ورفع الحرج أصل من أصول الشريعة الإسلامية. فكما قال الإمام (الشاطبـي): "إن
الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع"([14]).
والمتأمل في القرآن والسنة يجدهما يفيضان بذلك حقاً؛ فبعد تشريع الصيام
قال (عزَّ وجلَّ): )يُرِيدُ
اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا
اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ(([15]).
ولا يقال إن الآية نزلت في شأن الرخص في الصيام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب، كما هو مقرر عند أهل العلم. قال (أبو حيان): "وظاهر اليسر والعسر
العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية"([16]).
فالله سبحانه يريد التيسير والرأفة، وتسهيل
طرق الهداية والعبادة، حتى يأخذ بيد الإنسان إلى طريق الفلاح والرشاد.
وهذه
هي القاعدة الكبرى في تكاليف الإسلام
كلها. فهي ميسّرة لا عسر فيها. وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في
أخذ الحياة كلها؛ وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا
تعقيد. سماحة تؤدي معها كل التكاليف، وكل الفرائض، وكل نشاط الحياة الجادة، وكأنما
هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء. مع الشعور
الدائم برحمة الله وفضله
وبرّه، وعظيم نعمائه على عباده، وإرادته اليسر لا العسر بعباده
المؤمنين([17]).
وتبيّن
هذه الآية أن الله (عزَّ وجلَّ) أراد بتشريعه الأحكام: اليسر والتخفيف والرحمة
ونفي الحرج، ونحو ذلك، والآية وإن كانت واردة في شأن الرخص في الصيام، إلا أن
المراد منها العموم، كما صرّح بذلك غير واحد من المفسرين.
قال
(القاسمي) في تفسير الآية: "قال الشعبـي: إذا اختلف عليك أمران، فإنّ أيسرهما
أقربهما إلى الحق، لهذه الآية"([18]).
وبعد إباحة مُلك اليمين للزواج قال الله (عزَّ
وجلَّ): )يُرِيدُ
اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا(([19]). وهذا تذكير بأن الله يوالي رفقه بهذه الأمة، وإرادته بها اليسر دون
العسر. والضعف المشار إليه هو ضعف الإنسان أمام الشهوة الجنسية ؛ لأن الآية تتحدث
عن ترخيص الله (عزَّ وجلَّ) بنكاح
الإماء المؤمنات، لمن عجز عن زواج الحرائر.
وبعد أحكام الطهارة قال - عزّ من قائل-: )مَا
يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْـكُرُونَ(([20]).
وقال (الطبري): "يعني جلّ ثناؤه بقوله: مَا
يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ: ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء، إذا قمتم إلى صلاتكم، والغسل
من جنابتكم، والتيمم صعيداً طيباً، ثم عدمكم الماء، لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ: ليلزمكم في دينكم
من ضيق، ولا ليعنتكم"([21]).
وقال (ابن كثير): "وقوله مَا يُرِيدُ
اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ، أيْ: في الدين الذي شرعه لكم، وَلَكِن يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ: فلهذا أباح التيمم،
إذا لم تجدوا الماء، أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد، وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْـكُرُونَ: ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم.."([22]).
وقال أيضاً: "وما جعل عليكم في الدين من حرج، أيْ: ما كلفكم ما
لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء فشقّ عليكم، إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً، فالصلاة
التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً، وفي السفر تقصر
إلى اثنتين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة، كما ورد به الحديث، وتصلى رجالاً
وركباناً، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة
وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض، فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى
جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات، في سائر الفرائض والواجبات"([23]).
وبعد أن عذر الضعفاء والمرضى في الجهاد قال (عزَّ
وجلَّ): )لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَـى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا
يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِـنِينَ مِن سَبِيلٍ(([24]).
وبعد الأمر بالجهاد قال: )هُوَ
اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ(([25]).
ورفع عن الأعمى والمريض والأعرج الحرج في أن يأكل من بيت أبيه أو أمه... إلخ، فقال: )لَيْسَ
عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى أَنفُسِـكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ(([26]).
بل رفع عنهم الحرج مطلقاً، فقال (عزَّ
وجلَّ): )لَيْسَ
عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ(([27]).
ولما زوَّج الله رسـولَه (صلى الله عليه وسلم) بزوجة مولاه زيد، بعد أن طلّقها، قرّر أن الغاية من ذلك رفع الحرج
على المؤمنين في أزواج أدعيائهم، فقال: )لِكَيْلا
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنّ
َوَطَرًا(([28]).
وفي هذه الآيات دلالة ظاهرة على رفع الحرج على هذه الأمَّة، وأنَّ
الله لم يجعل في التّشريع حرجًا، وبعض هذه الآيات، وإن كانت خاصّة في أحكام
معيّنة، ولكنَّنا نجد التّعليل عامًّا، فكأنّ التّخفيف ورفع الحرج في هذه الأحكام
والفروض بإعادة الشيء إلى أصله، وهو رفع الحرج عن هذه الأمَّة، فكل شيء يؤدّي إلى
الحرج لسبب خاصّ أو عامّ فهو معفوّ عنه، رجوعًا إلى الأصل والقاعدة.
والسنَّة
النبوية المطهرة فيها ما فيها من مظاهر التيسير في حياة النبـي العملية والقولية، بل
إن فيها أوامر صريحة به من النبـي (عليه صلوات الله وسـلامه).
فعن
أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم
النبـي(صلى الله عليه وسلم): (دعوه وهرِيقوا على بوله سَجْلاً من ماء، أو ذَنُوباً
من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين)([29]).
وفي
رواية أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللّه (صلى
الله عليه وسلم) إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللّه (صلى
الله عليه وسلم): مَهْ مَهْ([30])،
قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم): (لا
تزرموه([31])،
دعوه)، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) دعاه فقال لـه: (إن هذه
المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر اللّه، والصلاة،
وقراءة القرآن)، أو كما قال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم).
قال
(الباجي) عند شرح هذا الحديث: هذه سنّة من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، لا سيما لمن قرب عهده بالإسلام، ولم يعلم منه الاستهانة به، فيعلم أصول
الشرائع، ويعذر في غيرها، حتى يتمكن الإسلام من قلبه؛ لأنه إن أُخِذَ بالتشديد في
جميع الأحوال خيف عليه أن ينفر قلبه عن الإيمان، ويبغض الإسلام، فيؤول ذلك إلى
الارتداد والكفر الذي هو أشد مما أنكر عليه([34]).
ووصل
من رحمته (صلى الله عليه وسلم) وتيسيره على أمّته، وكرهه للمشقّة عليهم، ما يفيده
هذا الحديث: فعن أنس (رضي الله عنه) أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إني
لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبـي، فأتجوّز في صلاتي، مما
أعلم من شدة وجد أمّه من بكائه)([35]).
انظر
كيف كان رفيقاً (صلى الله عليه وسلم) يستشعر حال الناس، ويقدّر ظروفهم، وما يمنعه
شيء عن رحمتهم والإحسان إليهم.
ومن
أساليبه في ذلك نهيه،(صلى الله عليه وسلم) لأصحابه عن أعمال تؤدي إلى المشقّة
والعسر:
فقد
جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: (إنّي لأتأخرّ عن صلاة الصّبح
من أجل فلان مما يطيل بنا)، قال أبو مسعود الأنصاري راوي الحديث: فما رأيت النبـي (صلى
الله عليه وسلم) غضب في موعظة قطّ أشدّ ممّا غضب يومئذ، فقال: (أيّها الناس إن
منكم منفّرين، فأيّكم أمَّ النّاس فليوجز، فإنَّ من ورائه الكبير، والضعيف، وذا
الحاجة)([36]).
وعن أنس (رضي الله عنه)قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسجد، فإذا حبل مدود بين ساريتين. فقال:
(ما هذا الحبل؟) قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: (حلّوه،
ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد)([37]).
والحديث يدلّ على أن النساء لم
يكنّ أقلّ حرصًا من الرجال على التزوّد من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلّى
ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول (صلى
الله عليه وسلم) لم يقرّ هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع([38]).
وقال
أنس بن مالك (رضي الله عنه): (كنّا عند عمر (رضي الله عنه) فسمعته يقول: "نهينا
عن التّكلّف)([39]).
قال
الدكتور صالح بن حميد: (هذه الصّيغة، وإن كان لها حكم المرفوع، غير أنَّها تدلّ
على أنّ البعد عن التّكلّف هو منهج عمر وغيره من الصّحابة)([40]).
هذا
وقد أوضح النبـي (صلى الله عليه وسلم) أن الصبغة المميزة (المُعَرَّفَة) للإسلام
هي التيسير على الناس، وتخفيف الأحكام الدينية عليهم، مراعاة لضعفهم البشري
الفطري، وإشاعة لروح التسامح والسلام.
إذا
تأملنا في هذه الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، ومثلها كثير جدًا، ثم نظرنا إلى
الدعاة اليوم في المساجد، ووسائل الإعلام، حيث يمتلئ حديثهم بالتخويف والتهديد
بالويل والثبور وعظائم الأمور، علمنا كم ابتعد دعاة الإسلام وأصحاب الرأي... من
مظاهر التشدد، وتثبت كل صاحب رأي برأيه في القضايا الخلافية، التي تحتمل أكثر من
رأي، وتختلف وجهة النظر فيها،
ويؤدي هذا التثبت إلى التفرق والنزاع الذي يهدد وحدة الأمة، ويصيب عامة الناس
بالتحيّر، الذي قد يفضي بهم إلى الضلال. ولذلك حذّر رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وهو يعطيهما وصاياه، عندما بعثهما إلى
اليمن، بقوله: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)([41]).
تطاوعا:
ليبذل كل منكما جهده في طاعة صاحبه، فلا يتشبث برأيه، بل يجتهد في الوصول إلى حلّ
وسط، أيْ: مواضع اتفاق مع صاحبه، متنازلاً عن بعض رأيه فيما لا دليل قاطع عليه
بحسم النزاع (ولا تختلفا).
وقال
الرسول(صلى الله عليه وسلم): (إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) رضي لهذه الأمَّة اليسير
وكره لها العسير)([42]).
فهذه
الوصايا النبوية الشريفة موجهة إلى كل من يتولى مناصب الحكم والسلطة السياسية
والقضاء والدعوة (الإعلام)، وهي – إذن – موجهة إلى كل صاحب رأي أو قرار يخاطب أو
يواجه جمهور الناس، وهي – بالقطع – ليست خاصة بالصاحبين: معاذ بن جبل (رضي الله
عنه)، وأبي موسي الأشعري (رضي الله عنه)، ولذلك عبّر عن هذه الوصايا النبوية
العامة بصيغة الجمع في الحديث النبوي الشريف، الذي يقول: (يسّروا ولا تعسّروا،
وبشّروا ولا تنّفروا([43]))([44]).
إن
الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعو أولي الأمر والدعاة وأصحاب الرأي إلى تجنّب
التشديد على الناس، والتضييق عليهم في حياتهم، حتى لا يغريهم ذلك – في النهاية –
إلى الخروج على أحكام الدين، إذا وجدوا أنها تنغصّ عليهم معيشتهم، وتسبب شقاءهم،
وتتعارض مع نوازعهم الفطرية التي زرعها الله في أنفسهم.
ومعنى
بشّروا: حدّثوا الناس عن رحمة الله الواسعة التي شملت كل شيء، وأنها قريبة المنال،
وحثّوهم على العمل للظفر بها. "ولا تنفروا": ولا تبالغوا في الإنذار
والتخويف من عذاب الله، لأن ذلك يفضي إلى تنفير الناس من رحمة الله، وإبعادهم عن
خالقهم الرحمن الرحيم.
وقال
الإمام النّوويّ في شرح قوله (صلى الله عليه وسلم): (يسرّوا ولا تعسّروا...):
"فيه تأليف من قرب إسلامه وترك التّشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من
الصّبيان، ومن بلغ ومن تاب من المعاصي، كلّهم يتلطّف به ويدرجون في أنواع الطّاعة
قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التّكليف على التّدريج، فمتى يسّر على
الدّاخل في الطّاعة أو المريد للدّخول فيها سهّلت عليه، وكانت عاقبته غالباً
التّزايد منها، ومتى عسّرت عليه أوشك ألّا يدخل فيها، وإن دخل أوشك ألّا يدوم، أو
لا يستحليها.. وفيه: أمر الولاة بالرّفق واتّفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا
من المهمّات فإنّ غالب المصالح لا يتمّ إلّا بالاتّفاق)([45]).
في
هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبـي (صلى الله عليه
وسلم) في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقتٍ
والتعسير في وقت، ويبشّر في وقت وينّفر في وقت آخر، فلو اقتصر على (يسّروا) لصدق
ذلك على من يسِّر مرّة أو مرّات، وعسّر في معظم الحالات، فإذا قال: ولا (تعسِّرُوا)،
انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في (يسّرا
ولا تعسرا، وبشّرا ولا تنّفرا، وتطاوعا ولا تختلفا)؛ لأنهما قد يتطاوعان في وقت
ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبـي (صلى الله عليه
وسلم) قد حثّ في هذه الأحاديث، وفي غيرها، على التبشير بفضل اللّه وعظيم ثوابه،
وجزيل عطائه، وسعة رحمته، ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير
ضمها إلى التبشير، وهذا فيه تأليف لمن قرب إسلامه وترك التشديد عليه، وكذلك من
قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم، ينبغي أن يتدرج معهم
ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف
على التدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سهلت عليه
وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها،
وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها([50])،
وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبـي (صلى الله عليه وسلم)
يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم([51]).
فصلوات
اللّه وسلامه عليه فقد دلّ أمته على كل خير، وحذّرهم من كل شرّ، ودعا على من شقّ
على أمته، ودعا لمن رفق بهم، كما تقدّم في حديث (عائشة)، وهذا من أبلغ الزواجر عن
المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم([52]).
وعن
عائشة رضي الله عنها: (ما خيّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين في
الإسلام إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإنْ كان إثماً كان أبعد الناس منه)([53]).
فهذا
الإثم، الذي كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أبعد الناس عنه، هو المرفوض من سمات
القطبين المتناقضين، لأنه الظلم والباطل والتطرف، والمنحاز بعيداً عن العدل والحق
واليسر والاعتدال.
قال
ابن عبد البر: "في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من
أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه، إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبداً،
فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله ورسوله"([54]).
وقَالَ
رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا
العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه)([55]).
فهذا النبـي (صلى الله عليه وسلم) يتحلّى بخلق
اليسر، فما سُئل يوم منى عن تقديم أو تأخير بين الحلق والرمي والذبح، إلا قال افعل
ولا حرج، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنه) قَالَ:
(وَقَفَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)
فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ فَقَالَ:
(اذْبَحْ وَلا حَرَجَ) ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ
أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ: (ارْمِ وَلا حَرَجَ) قَالَ
فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلا
أُخِّرَ إِلاّ قَالَ افْعَلْ وَلا حَرَجَ)([56])،
فاليسر من أهم الخصائص التي يمكن أن يتحلى بها المسلم المرن، فيجمع الناس من حوله،
ويملك عليهم قلوبهم وعقولهم.
وقال
(صلى الله عليه وسلم): (عليكم هدياً قاصداً، فإنه من يغالب هذا الدين يغلبه)([57]).والهدي
القاصد هو الهدي الوسط حيث لا إفراط ولا تفريط.
وقال
(صلى الله عليه وسلم): (القصد القصد تبلغوا)([58]).
أيْ عليكم بالقصد من الأمور في الأقوال والأفعال، والتزموا التوسط والاعتدال من
غير غلّو أو جفاء، تصلوا إلى النجاة وتفوزوا بالجنان والرضوان، والقصد هو الوسط
بين الطرفين.
وما
أجمل الوصية النبوية العامة لكلّ المكلّفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا
يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدّة، فيقهرهم. فالتوازن طريق
النجاة والسلامة، والبلوغ إلى المراد، والوصول إلى دار القرار.
وعن
أَبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبـي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إِنّ الدين يسر،
ولن يشادّ الدين أحد إِلاّ غلبه، فسددوا، وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة
والروحة، وشيءٍ من الدلجة)([59]).
والمشادة: المغالبة، والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية،
ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع، فيغلب.
إلا
غلبه": أيْ غلبه الدين، وعجز ذلك المشاد عن مقاومة الدين، لكثرة طرقه.
قوله:
(فسدّدوا) أيْ: ألزموا السداد، وهو الصواب من غير إفراط، ولا تفريط. قال أهل
اللغة: السداد التوسط في العمل. قوله: (وَقَارِبُوا) أيْ: إنْ لم تستطيعوا الأخذ
بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه. قوله: (وأبشروا) أيْ: بالثواب على العمل الدائم،
وإنْ قلّ. قوله: (واستعينوا بالغدوة) أيْ: استعينوا على مداومة العبادة لإيقاعها
في الأوقات المنشطة. وَالْغَدْوَةُ بالفتح: سير أول النهار، وَالرَّوْحَةُ بالفتح:
السير بعد الزوال. والدُّلْجة: بضم أوله وفتحه وإسكان اللام: سير آخر الليل"([60]).
ومعناه:
استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون
العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم، كما أن المسافر الحاذق يسير في هذه الأوقات،
ويستريح هو ودابته في غيرها، فيصل المقصود بغير تعب.
ولهذا
أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في آخر الحديث بالتسديد والمقاربة والتوسط،
ليتحقق المقصود، ألا وهو الثبات على الدين بلا انقطاع ولا تخلف. فتبيّن بذلك أثر
الغلو في الدين على الاستقامة عليه، فكان لا بد من نبذ الغلو لتحقيق الاستقامة على
الحق والدين القويم. فالغلو والتفريط وما بينهما وسط.
مجال
التيسير
من الحقائق المُسَلّمة أن الشريعة الإسلامية قد وسعت العالم الإسلامي
كله، على تنائي أطرافه، وتعدد أجناسه، وتنوع بيئاته الحضارية، وتجدد مشكلاته
الزمنية.
وأنها - بمصادرها ونصوصها وقواعدها - لم تقف يوماً من الأيام مكتوفة
اليدين، أو مغلولة الرِّجْلين، أمام وقائع الحياة المتغيِّرة، منذ عهد الصحابة،
فمَنْ بعدهم، وأنها ظلت القانون المقدس المعمول به في بلاد الإسلام حوالي ثلاثة
عشر قرناً من الزمان، إلى أن جاء عهد الاستعمار الغربي الذي استبدل بها تشريعاته
الوضعية، فأحَلَّ بها ما حَرَّم الله، وأبطل ما فرض الله.
وإنما استطاعت الشريعة الإسلامية أن تفي بحاجات كل المجتمعات التي
حكمتها، وأن تعالج كافة المشكلات في كافة البيئات التي حَلّت بها، بأعدل الحلول
وأصلحها، لأنها - بجوار ما اشتملت عليه، من متانة الأصول التي قامت على مخاطبة
العقل، والسمو بالفطرة، ومراعاة الواقع، والموازنة بين الحقوق والواجبات، وبين
الروح والمادة، وبين الدنيا والآخرة، وإقامة القسط بين الناس جميعاً، وجلب المصالح
والخيرات، ودرء المفاسد والشرور، بقدر الإمكان - قد أودعها الله مرونة عجيبة
جعلتها تتسع لمواجهة كل طريف، ومعالجة كل جديد، بغير عنت ولا إرهاق([61]).
والتيسير وإن كان مبدأ أصيلاً في التشريع الإسلامي، ومقصداً أعلى في الشـريعة
الإسلامية إلا أن له مجالاً يعمل فيه، ومجالاً لا يعمل فيه؛ فالتيسير أو التغيير والتخفيف
لا يدخل في أصول الدين وكليات الشريعة التي بها بقاء الدين ودوامه. قال الإمام الشافعي:
"كلّ ما أقام الله به الحجة في كتابه، أو على لسان نبيّه، منصوصاً بيّناً، لم
يَحِلَّ الاختلاف فيه لمن عَلِمَهُ"([62]).
فأصول الدين، وكليات الشرع وثوابته، وأصول الحلال والحرام، وأصول الأخلاق
والآداب، لا يجوز أن يوضع شيء منها موضع الخلاف والجدل، وإلا اندرست معالم الشريعة،
فلا يدخل فيها التيسير، إلا لعارض الضرورة، بالمعنى الأصولي للكلمة. وأما ما سوى ذلك
من الفروع والجزئيات والمتغيرات، وكل ما لم يقم عليه دليل صحيح صريح قاطع؛ فهذا يدخله
التيسير، بضرورة وبغير ضرورة، بما لا يتعارض وأصول الشرع والأخلاق والحلال والحرام.
قال الإمام الشافعي: "وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرَك قياساً،
فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل
إنه يضيق عليه ضيقاً لخلاف في المنصوص"([63]).
وللإمام (ابن القيم) في هذا السياق كلام يؤكد هذا التقسيم؛ فيقول: "الأحكام
نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد
الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو
ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير
بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛
فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة"([64]).
يتبيّن من ذلك أن التيسير لا يكون في أيّ مجال في الشريعة، بل له مجال
لا يتخطاه، ومدى لا يتعداه، ونحن إنما نكون مع الأصول في صلابة الحديد، ونكون مع الفروع
في ليونة الحرير، بما لا يتعارض مع المقررات الشرعية الكبرى. وفي
ضوء هذا المضمون للوسطية الإسلامية الجامعة، نقرأ أحاديث رسول الله (صلى الله عليه
وسلم): (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق)([65]).
ما
أجمل هذا التوجه النبوي لمن أراد أن يسلك طريق هذا الدين في جني ثماره اليانعة،
وينهل من معينه الذي لا ينضب، ويجانب السقطات والعثرات حتى يأتيه اليقين وهو على
جادة الفهم السوي، والصراط القويم؛ لأن هذا الدين كالبحر العظيم الذي يجدّف فيه
ألوف البشر، وكلٌ يريد السلامة والوصول إلى شاطئ الأمان، لكن هذا لن يكون إلا إذا
رافق ذلك اتخاذ أسباب محاطة بالرفق والأناة والتفكير العميق الواعي المتزن.
وقال
الغزالي: أراد بهذا الحديث أن لا يكلف نفسه في أعماله الدينية ما يخالف العادة، بل
يكون بتلطف وتدريج، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبدل، فإن الطبع
نفور، ولا يمكن نقله عن أخلاقه الرديئة إلا شيئاً فشيئاً، حتى تنفصم تلك الصفات
المذمومة الراسخة فيه، ومن لم يراع التدريج، وتوغّل دفعة واحدة، ترقّى إلى حالة
تشقّ عليه، فتنعكس أموره، فيصير ما كان محبوباً عنده ممقوتاً، وما كان مكروهاً
عنده مشرباً هنيئاً، لا ينفر عنه، وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق، وله نظير في
العادات، فإن الصبـي يحمل على التعليم ابتداء قهراً، فيشقّ عليه الصبر عن اللعب،
والصبر مع العلم، حتى إذا انفتحت بصيرته، وأنس بالعلم، انقلب الأمر، فصار يشق عليه
الصبر عن العلم([66]).
وقال
(صلى الله عليه وسلم) في حديث محجن بن الأدرع: (إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) رضي لهذه
الأمَّة اليسير وكره لها العسير)([67]).
وقال: (إنكم أمة أريد بكم اليسر، وإن خير دينكم أيسره)([68]).
وعن
معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)"
إذا عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم.. فقلت: واثكل
أماه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم
يصمتونني سكتّ.. فلما صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأبي هو وأمي ما رأيت
معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما نهرني، ولا ضربني، ولا شتمني.
قال: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنَّما هو التسبيح والتكبير
وقراءة القرآن.
(إن
اللّه لم يبعثني معنّتاً) أيْ شقاء على عباده (ولا متعنّتاً) بتشديد النون مكسورة،
أيْ: طالب للعنت، وهو العسر والمشقة. (ولكن بعثني معلّماً) بكسر اللام مشددة (ميسّراً)
من اليسر، قال الحرالي: وهو حصول الشيء عفواً بلا كلفة.
وعلق (النووي) على هذا الحديث بقوله: "فيه بيان
ما كان عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من عظيم الخلق الذي شهد الله (عزَّ
وجلَّ) له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمّته، وشفقته عليهم. وفيه التخلق بخلقه (صلى
الله عليه وسلم) في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف به، وتقريب الصواب إلى
فهمه)([71]).
وهذه
الأحاديث صريحة في بيان يسر هذا الدّين وسماحته.
يقول
القاضي عياض في شرحه للحديث: "فيه الأخذ بالأيسر والأرفق، وترك التكلّف، وطلب
المطاق، إلا فيما لا يحلّ الأخذ به كيف كان، ويحتمل أن يكون التخيير هنا من الله
تعالى مما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو فيما
يخبره فيه المنافقون من المواعدة والمحاربة، أو أمّته من الشدة في العبادة أو
القصد. وكان يذهب في كل هذا إلى الأيسر. ويأتي قولها: "ما لم يكن إثمًاً"
استثناء مما يخبره فيه الكفار والمنافقون على وجه. وإن كان التخيير من الله، أو أمّته،
فيكون إستثناء منقطعًا؛ لأنه لا يصح تخييره هنا فيما فيه إثم"([72]).
قال
ابن عبد البر: "في هذا الحديث دليل على أن المرء ينبغي له ترك ما عسر عليه من
أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه، إذا لم يضطر إليه، والميل إلى اليسر أبداً،
فإن اليسر في الأمور كلّها أحبّ إلى الله ورسوله"([73]).
يقول
الشيخ (محمد عبد العزيز الخولي): "هذا أدب الرسول (صلى الله عليه وسلم) في
التعامل مع مفردات الحياة، فاختيار الرسول (صلى الله عليه وسلم) الأيسر دائماً،
ليعطي لهذه الأمة درساً في فقه الواقع، فهو القدوة، ولهذا خيّره ربّه بين الإفطار
والصيام في السفر أو المرض، فاختار الأيسر. وخيّره بين مقابلة السيئة بمثلها
والعفو، فاختار العفو. وخيّره فيمن تحاكموا إليه غير مخلصين، في الحكم بينهم أو
الإعراض عنهم، فاختار ما رآه أسهل. وخيّره بين أن يقوم نصف الليل أو ثلثه أو يزيد
على النصف، فكان يختار ما يراه أيسر على نفسه. وخيّره بين أن يفتح له كنوز الأرض
أو يجعل رزقه الكفاف، فاختار ليتفرغ لعبادة ربّه والدعوة إلى ربّه والدعوة إلى
دينه. وكذلك إذا خيّره أهل بيته بين أمرين، اختار أيسرهما. فإذا خيّروه بين
طعامين، اختار أدناهما كلفة، وإذا استشار أصحابه في أيّ الطرق يسلك في سفرة أو
غزوة، وفي أيّ الأماكن ينزل، أو في أيّ البقاع تكون المعركة، فأشاروا بأمرين،
اختار الأيسر منهما، وهكذا دأبه، ما لم يكن أحد الأمرين معصية، فإنّه يكون أبعد
الناس منه"([74]).
وما
أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا
يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم.
وعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ
الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا،
وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ
مِنَ الدُّلْجَةِ)([75]).
قوله:
(فَسَدِّدُوا) أيْ: ألزموا السداد، وهو الصواب من غير إفراط، ولا تفريط، قال أهل
اللغة: السداد التوسط في العمل. قوله: (وَقَارِبُوا) أيْ: إن لم تستطيعوا الأخذ
بالأكمل، فاعملوا بما يقرب منه. قوله: (وَأَبْشِرُوا) أيْ: بالثواب على العمل
الدائم وإنْ قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل، لأن العجز إذا لم يكن
من صنيعه لا يستلزم نقص أجره، وأبهم الْمُبَشَّرَ به تعظيماً له وتفخيماً. قوله: (وَاسْتَعِينُوا
بِالْغَدْوَةِ) أيْ: استعينوا على مداومة العبادة لإيقاعها في الأوقات المنشطة.
وَالْغَدْوَةُ بالفتح: سير أول النهار، وقال الجوهري: ما بين صلاة الغداة، وطلوع
الشمس. وَالرَّوْحَةُ بالفتح: السير بعد الزوال. وَالدُّلْجَةُ: بضم أوله وفتحه
وإسكان اللام: سير آخر الليل، وقيل: سير الليل كله، ولهذا عبّر فيه بالتبعيض؛ ولأن
عمل الليل أشق من عمل النهار. وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر، وكأنه (صلى الله
عليه وسلم) خاطب مسافراً إلى مقصد، فنبّهه على أوقات نشاطه، لأنّ المسافر إذا سافر
الليل والنهار جميعاً عجز وانقطع، وإذا تحرى السير في هذه الأوقات المنشطة أمكنته
المداومة من غير مشقة. وحسن هذه الاستعارة أن الدنيا في الحقيقة دار نقلة إلى
الآخرة، وأن هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة([76]).
والحديث
نصّ في أن الدين يسر، وأن الدين قصد وأخذ بالأمر الوسط، فلا يفرط المرء على نفسه،
ولا يفرط. قال الحافظ ابن حجر: "والمعنى: لا يتعمّق أحد في الأعمال الدينية،
ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع فيغلب"([77]).
ولهذا
أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في آخر الحديث بالتسديد والمقاربة والتوسط،
ليتحقق المقصود، ألا وهو الثبات على الدين بلا انقطاع ولا تخلف. فتبيّن بذلك أثر الغلو
في الدين على الاستقامة عليه، فكان لا بدّ من نبذ الغلو لتحقيق الاستقامة على الحق
والدين القويم. فالغلو والتفريط وما بينهما وسط.
قال
الحسن البصري رحمه الله: إن دين الله وضع على القصد، فدخل الشيطان فيه بالإفراط
والتقصير، فهما سبيلان إلى نار جهنم. وعنه: إن دين الله (عزَّ وجلَّ) وضع دون
الغلو وفوق التقصير.
وقال
ابن عباس (رضي الله عنه): قيل للنبـي (صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله! أيّ
الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: (الحنيفيَّة السَّمحة)([78]).وَنَحْوُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ (رضي الله
عنه) مَرْفُوعـًا:(بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)([79]).
ومعنى
"السمحة": السهلة، أيْ أنها مبنيّة على السهولة، فجمع بين كونها حنيفيّة
وكونها سمحة، أَيْ: بُعِثْتُ بالشريعة المائلة عن كل دين باطل. فهي حنيفية في
التوحيد، سمحة في العمل، كما قال الإمام (ابن القيّم)([80]).
وقال
لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمّا بعثهما إلى اليمن: (يَسِّرا ولا تُعسِّرا،
وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا..)([81]).
وفي
هذا الإطار ذكر العلماء أنه مما ينبغي للداعية في مراعاة أحوال المدعو، أن يختار
له ما يناسبه، فإذا كان في حالة يأس واستعظام لما هو فيه، وتصور انقطاع ما بينه
وبين الله، استحسن أن يعالجه بنصوص الرجاء وسعة رحمة الله، وجبّ التوبة للذنوب،
ونحو ذلك، وإذا كان في حالة استهتار وأمن من مكر الله، وتماد في الرجاء، كان
المناسب له نصوص الخوف والانتقام وعظيم عذاب الله في الدنيا والآخرة.
وعن
جابر بن سمرة (رضي الله عنه) قال: (كنت أصلّي مع النبـي (صلى الله عليه وسلم)
الصلوات، فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً)([82]).
أيْ متوسطة، ليست طويلة ولا قصيرة.
إن من طبيعة شريعتنا الغراء أنها تعامل مع واقع
الأفراد في إطار سماحة الإسلام، مع مراعاة
الطبيعة البشرية المحدودة طاقتها المادية، بحيث جاءت الشريعة في حدود هذه الطاقة: )لاَ
يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاّ وُسْعَهَا(([83])،
)لا
يُكَلِّفُ الله نَفْسَاً إِلا مَآ آتاهَا(([84]).
ولو
جمح المسلم نتيجة توهج إيماني طامح بما يتجاوز هذه الطبيعة، فإن الإسلام يردّه إلى
المسار الوسطي، معتبراً طموحه هذا خطأ، بل خروجاً على هدي الإسلام، وغلّواً غير
مقبول. وحديث الرهط الثلاثة الذين دفعتهم الرغبة في التفوق التعبدي على الآخرين،
لدرجة اختطاط مسالك خاصة في التعبد، عن أنس (رضي الله عنه) قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت
أزواج النبـي (صلى الله عليه وسلم) يسألون عن عبادة النبـي (صلى
الله عليه وسلم)، فلما أخبروا كأنهم تقالّوها،
فقالوا: وأين نحن من النبـي (صلى الله عليه وسلم) ، وقد غفر الله له ما تقدم من
ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلّي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم
الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا. فلما
علم الرسول (صلى الله عليه وسلم) بمقالتهم أنكر عليهم، وبيّن المنهج الوسطي
الإسلامي المتناسب مع الطبيعة البشرية ذات الاحتياجات المادية المشروعة، التي لا
يجوز الجور عليها، ولو بالإغراق في المسالك الروحية التعبدية، فقال (صلى الله عليه
وسلم) في هذا الرهط الذين تقالوا عبادته قياساً إلى عبادتهم: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما
والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛
فمن رغب عن سنتي فليس مني)([85]).وهذا هو عين الوسطية والحكمة
والاستقامة والاعتدال والعدل.
قال الحافظ (ابن حجر): "وقوله:
(فمن رغب عن سنتي، فليس مني)، المراد بالسنّة الطريقة، لا التي تقابل الفرض. والرغبة
عن الشيء: الأعراض عنه إلى غيره. والمراد: من ترك طريقتي، وأخذ بطريقة غيري، فليس مني،
ولمّح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم اللهI، وقد عابهم بأنهم ما وفوا بما التزموه. وطريقة
النبـي (صلى الله عليه وسلم) الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على
الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس وتكثير النسل"([86]).
"فهذا موقف من مواقف الغلّو يجلّي لنا سبب
هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزوّد من الخير، التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب
النبـي (صلى الله عليه وسلم) في عبادته، فلما علموا، رأوا
أن ذلك قليل، فقالوا ما قالوا. ولكن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يقرّ هذا الاتجاه، فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله
وتقواه؛ فبيّن أنها ليست بالتضلّع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل
بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال
والعدل"([87]).
بهذا الأسلوب المتزن كان الرسول
يوجه أمته دائمًا، ويبيّن لهم أن دينهم دين يسر لا دين عسر، دين فطرة ورحمة، لا
دين شقاء وعناء، فَلِم بعد هذا البيان الشافي والتقرير الوافي يجنح نفر من هذه
الأمة بفكر أو عبادة أو منهج ما، ويريد من خلال طرحه بين العامة والخاصة أن يلزم
به الناس، زاعمًا أن هذا هو الحق فلا حق سواه، وأن هذا هو النور وما سواه ظلام،
وأن هذا ما يرضي الله ورسوله، وما سواه إلى الجحيم؟! ما هكذا تورد الإبل، ولا هكذا
تؤكل الكتف، علينا أن نتقي الله بادئ ذي بدء، وأن نعي الكتاب والسنة، كما وعاها
وأدركها سلف هذه الأمة، وأن نستوعب - من خلال عقيدتنا وإسلامنا - الواقع الذي
نعيش، فنتفاعل معه تفاعلا إيجابيًا، نثبت من خلاله أننا النفر القادر على طرح
الإسلام: فكرًا، ومنهجًا، وأسلوب حياة، بعقلانية نيّرة مفعمة بروح المبادرة إلى كل
خير، والمشاركة فيه باعتدال واتزان وفهم سوي.
ويعلق (سيد قطب) على هذا الحديث
وأمثاله فيقول: "والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية، هو كالذي يحاول
أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة؛ كلاهما يخرج على سواء فطرته، ويريد من نفسه ما لم
يرده الخالق له، وكلاهما يدمّر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو
محاسب أمام الله على هذا التدمير. وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس
تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظامًا بشريًا لا تُدَمَّرْ فيه طاقة واحدة من طاقات
البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في
غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل.
وكل طغيان يقابله تدمير"([88]).
فالحديث
دالّ على أنه ليس منه (صلى الله عليه وسلم) مَنْ عزمَ على أنواع الشدة والمشاق
التي كانت في الأمم السالفة، فخففها الله (عزَّ وجلَّ) عن هذه الأمة([89]).
وفي
هذا الحديث تتجلى جميع معاني ومدلولات الوسطية، لأنه لا بد من التوازن والاعتدال
حتى في دائرة التعبد، كما قال الإمام (الحسن البصري): "ضاع هذا الدين بين
الغالي فيه، والجافي عنه".
يقول
(ابن القيم): "فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط،
الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلوّ المعتدين، وقد جعل الله (عزَّ
وجلَّ) هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل، لتوسّطها بين الطرفين المذمومين، والعدل
هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط، والآفات إنّما تتطرّق إلى الأطراف، والأوساط محميةٌ
بأطرافها، فخيار الأمور أوساطها"([90]).
ومن
أجل ذلك قاوم النبـي (صلى الله عليه وسلم) كل اتجاه ينزع إلى الغلّو في التدين،
وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي
جاء به الإسلام، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا،
وبين حظّ النفس من الحياة، وحقّ الربّ في العبادة، التي خلق لها الإنسان.
لقد
شرع الإسلام من العبادات ما يزكّي نفس الفرد، ويرقى به روحياً ومادياً، وما ينهض
بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل، دون أن يعطّل مهمة الإنسان
في عمارة الأرض، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس
الوقت، فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به،
شعورياً وعملياً، ومن هنا لم يشرع الإسلام (الرهبانية) التي تفرض على الإنسان
العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر الأرض كلها
محراباً كبيراً للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهاداً، إذا صحّت فيه النيّة،
والتزمت حدود الله (عزَّ وجلَّ)([91]).
وعن
ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم): (الهدي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وأربعين
جزءًا من النبوة)([92]).
قال
الإمام (الشعبـي): "إذا اختلف عليك أمران، فان أيسرهما أقربها إلى الحق،
لقوله (عزَّ وجلَّ):)يُرِيدُ
الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ(([93]).
وقال
(سفيان الثوري): "إنما العلم أن تسمع الرخصة من ثقة، فأما التشديد، فيحسنه كلّ
أحد"([94]).. فتأمل
كيف اشترط في الرخصة أن تكون صادرة من ثقة، حتى لا يكون الميل إلى مطلق التخفيف،
ويقابله في الطرف الآخر التشديد، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وقال (إبراهيم النخعي):
"إذا تخالجك أمران، فظن أن أحبها إلى الله أيسرها"([95]).
ويقول
العلامة (ابن عاشور): "استقراء الشريعة دلّ على أن السماحة واليسر من مقاصد
الدين"([96]).
ومن
مظاهر الغلو التي تجانب النهج الإسلامي للوسطية، التعصب للرأي، وعدم الاعتراف
بالرأي الآخر، وجمود الشخص على فهمه، جموداً لا يسمح له برؤية واضحة المعالم
لمصالح الأمة، ولا لمقاصد الشرع وظروف العصر، يصل أحياناً إلى محاولة فرض الرأي
على الآخرين، واتهامهم بالابتداع أو الكفر.
إن
ضعف البصيرة بحقيقة الدين، وقلّة البضاعة الفقهية، والجهل بحقيقة الأحكام ومقاصد
الشريعة، لهي من الأسباب الرئيسية التي تقود إلى التطرّف عند بعض المسلمين، ومن ثمّ
تكون سبباً لإنكار الدعاة الذين يبتغون اليسر والوسطية والاعتدال في دعوة الناس([97]).
ضوابط
التيسير المعتبر
من المؤكد أن كل تيسير لا يعد معتبراً في شريعة الإسلام؛ فمن التيسير
ـ كما سبقت الإشارة ـ ما لو تتبعناه لاندرست معه معالم الشريعة؛ ولذلك فهناك بعض الضوابط
الحاكمة للتيسير حتى يكون تيسيراً متوافقاً مع مقاصد الشريعة ومع روح التشريع، ومنها:
الأول: أن يكون التيسير مضبوطاً بالدليل، وهو من أهم الضوابط، وأخطر الشروط للتيسير في الفتوى؛ فالقول بالتيسير
لا بد له من دليل يسنده ويؤيده من أدلة أصول الفقه المعروفة، أما أن يُفتى بالتيسير
دون ضابط من دليل كتاب أو سنة أو اجتهاد؛ فهذا ما لا يقرّه الشرع، وهو عينه الذي يقع
فيه كثير من المفتين ـ أو بالأحرى نقلة الفتاوى ـ في هذا العصر.
فالتيسير لا بد أن يكون ثابتاً بأحد الوحيين، حتى يتسنى للمسلمين
العمل به واعتماده، لا أن يكون التيسير بحسب الهوى والتشهّي واستحسان العباد
واستقباحهم. فكل تيسير لا يستند إلى الكتاب أو السنة فهو تيسير ملغى مطّرح ؛ لأن
الشرع لا يثبت بمجرد الاستحسان العقلي دون التقيد بأي دليل. كما ينبغي أن لا يكون
التيسير ناتجاً عن ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو واقع لم يصنعه
الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم،
إنما هو واقع صُنع لهم وفُرض عليهم في زمن غفلة وضعف وتفكّك منهم . فليس معنى
التيسير أن نحاول تسويغ هذا الواقع على ما فيه، وجرّ النصوص من تلابيبها لتأييده.
ومثال ما له دليل: زكاة الفطر هل تُخْرَج حبوباً أم نخرج القيمة؟ فيها
الرأيان، ولكل دليله ووجهته، الحبوب هي رأي الجمهور، والقيمة هي مذهب عمر بن عبد العزيز،
وأبي إسحاق، وأبي حنيفة، وجمهور من علماء العصر؛ فعلى المفتي هنا أن يراعي الأيسر على
الناس في بيئة من البيئات، أو زمن من الأزمنة، وأن يراعي أيضاً الأنفع للآخذ مادام
في المسألة رأيان، ولكل رأي دليله المعتبر شرعاً.
الثاني: عدم تتبّع الرّخص، وهو من الشروط والضوابط المهمة أيضاً؛ لأن المفتي لو أفتى الناس بالرّخص
في كل شيء، وفي كل حال، ولكل شخص، لذاب الدين بين الناس، وأصبح الأصل هو الترخص لا
العزيمة؛ ومع أن الله (عزَّ وجلَّ) يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه؛ فإنه (عزَّ
وجلَّ) لا يرضى لعبده أو من قام مقامه في الفتيا أن يتتبع
الرخص من كل مذهب، ويفتي الناس بها؛ لأنه بذلك يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة.
يقول ابن سريج: سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إليَّ
كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف
هذا زنديق؛ فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رُويت، ولكن من أباح المسكر
لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل
العلماء، ثم أخذ بها، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب([98]).
فلا بد من مراعاة الدليل للترخص، وحسن تقدير الحالة التي يفتى فيها هل
يصلح لها الإفتاء بالرخصة أم لا؟ وكذلك الشخص المستفتي هل يصلح له الترخص المنضبط أم
أن له العزيمة لزجره، وهكذا بحسب الحال والشخص وغيرذلك.
الثالث: ألا يتتبع الحالات الخاصة بوقائع معينة، أو ما كان استثناء من الأصل لبيان معنى معين، فلا يجوز للمفتي أن يعمم
وقائع خاصة بأشخاص معينين إلى غيرهم من أفراد الأمة، كذلك الصحابي الذي أجاز النبـي
شهادته منفرداً، واكتفى بها دليلاً، مع أن الأصل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين؛ فهذه
خاصة به لا تتعدى إلى غيره من المسلمين.
وكذلك ما جاء لا على الأصل، ولكن على سبيل الاستثناء، لإبراز معنى معين
والتأكيد عليه؛ وذلك مثلما فعله النبـي (عليه السلام) من جمع بين الصلوات دون عذر من سفر أو مطر أو مرض، كما روي عن
ابن عباس (رضي الله عنه) قال: صلى رسول الله(صلى
الله عليه وسلم) الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف
ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس
(رضي الله عنه)كما سألتني فقال: (أراد أن لا يُحرِج أحداً
من أمته)([99]).
فهذا الفعل فعله النبـي (صلى الله عليه وسلم) كي يبين مدى اليسر في الشريعة الإسلامية، ويؤكد على أن رسالته
إنما جاءت لترفع الإصر والأغلال التي كانت على البشر قبل مجيء الرسالة الحنيفية السمحة.
ومع ذلك فقد ذهب فقهاؤناy مذاهب شتى في تأويل الحديث، حتى لا
يخرج قصر الصلاة عن أعذاره المعروفة، فقال (ابن قدامة) بعد ذكر الحديث: ولنا عموم أخبار
التوقيت، وحديث ابن عباس (رضي الله عنه) حملناه على حالة المرض، ويجوز أن يتناول من عليه مشقة: كالمرضع،
والشيخ الضعيف، وأشـباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع، ويحتمل أنه صلى الأولى في آخر
وقتها، والثانية في أول وقتها، فإن (عمرو بن دينار) روى هذا الحديث عن جابر بن زيد
عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال عمرو: قلت لجابر:
أبا الشعثاء أظنه أخَّر الظهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء. قال: وأنا أظن
ذلك([100]).
وهذا
الإمام النووي يورد تأويلاً لهذه الحالة بأنها محمولة على المطر، ثم يقول: ولكن هذا
التأويل مردود برواية ابن عباس (رضي الله عنه): (جمع
رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالمدينة من غير خوف ولا مطر)([101]).
وهذه
الرواية من رواية حبيب ابن أبي ثابت، وهو إمام متفق على توثيقه وعدالته والاحتجاج به.
قال البيهقي: هذه الرواية لم يذكرها البخاري مع أن حبيب بن أبي ثابت من شـرطه. قال:
ولعله تركها لمخالفتها رواية الجماعة([102]).
وأياً ما كانت تأويلات الفقهاء، فإن النفس تطمئن إلى أنه ثابت عن النبـي-عليه
الصلاة والسلام-بيقين أنه جمع بلا عذر([103])،
حتى يؤكد على المعنى الذي أشرنا إليه سابقاً. ولكن ليس معنى
هذا أن يفتي المفتون بذلك، ويجعلوه أصلاً، وينسوا الأصل، وهو الجمع بأعذاره المعروفه؛
ولهذا قال (الشوكاني): إن الجمع يجوز مطلقاً، بشرط أن لا يتخذ ذلك خُلُقاً وعادة([104]).
قال (ابن حجر): "وممن قال به ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر،
والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث"([105]).
وعليه فلا يجوز للمفتي أن يعدي حالة خاصة إلى الناس ويعممها عليهم، أو
يفتي بحالة استثنائية، وينسى الأصل؛ ويجعلها هي الأصل؛ بدعوى التيسير على الناس.
الرابع: أن يكون هناك ما يدعو للتيسير، وليس هذا شرطاً أساسياً من شروط التيسير في الفتوى؛ لأن التيسير أصل
من الأصول التي بنيت عليها الأحكام، ولكن إذا كان هناك ما يدعو للتيسير الظاهر، تأكّد
التيسير في الفتوى وتحتّم، كضرورة من الضرورات، أو وقوع مشقة من المشقات، وهكذا.
فالأصل أن يأخذ المكـلفون بالعزيمة ما لم يدعُ داعٍ إلى التحول من العزيمة
إلى الرخصة، وهـذا الضابط يدخل فيه النوعان اللذان أشار إليهما الإمامان: الشـافعي،
وابن القيم من قبل؛ ففي النوع الأول - الكليات والأصول- يدخل التيسير فيه بالضرورة
المعتبرة شرعاً؛ فالضرورة هنا هي التي دعت إلى التيسير، وفي النوع الثاني ـ الفروع
والمتغيرات ـ يدخل التيسير باختيار الرأي الأيسر مادام له دليل، وقد يكون التيسير فيه
راجعاً إلى الضرورة أيضاً، ولا يلزم للتيسير في هذا النوع وجود الضرورة، وربما يليق
للمفتي أن يفتي بالتغليظ والتشديد لمن يناسبه ذلك، طبقاً لتغير الأحوال واختلاف الأشخاص،
زجراً للعامة، ولمن قلّ دينه ومروءته، بشرط أن تكون فتياه طبقاً لمقتضى الأدلة الشرعية
وأصول الفتيا([106]).
لذلك
فإن تغير الأحكام يكون بناء على الضرورة والحاجة، ولقد راعت الشريعة الضرورات
والحاجات، وكل ما من شأنه أن يوقع المكلف في الحرج والمشقة، فالشرع جاء بأحكام
أصلية تنظيماً للحالات العادية، ثم أذن في تغييرها تغييراً وقتياً في الحالات
الاستثنائية، معالجةً لحالات الضرورة التي يترتب عليها الهلاك والضياع، لذا جاز
كشف العورة لضرورة التداوي، وجاز أكل لحم الخنزير والجيف للمضطر، وشرب الخمر
للغصة، وغيرها.
دلالات
نصوص اليسر والسماحة
وبإمعان
النظر في النصوص التي سقناها آنفا، من الكتاب والسنة وأقوال السلف، وما لم نذكرها
مما في معناها، نستنبط منها جملة من الدلالات - غير التي سبقت الإشارة إليها في
ثنايا عرض النصوص - منها ما يلي:
· إن اليسر والسماحة وانتفاء الحرج من أكبر مقاصد
الشريعة، والتيسير ورفع الحرج أصل عظيم في الدين، وركن من
أركان شريعة المسلمين شرفنا الله (عزَّ وجلَّ) به، فلم يحملنا إصراً ولا كلفنا في
مشقة أمراً.
يقول الإمام (الشاطبـي): "رفع الحرج
مقصود للشارع في الكليات، فلا تجد كليّة شرعية مكلفاً بها وفيها حرج كلّيّ أو
أكثري البتة...، ونحن نجد في بعض الجزئيات النوادر حرجاً ومشقة، ولم يشرع فيه
رخصة، تعريفاً بأن اعتناء الشارع إنما هو منصرف إلى الكليّات"([107]).
وقد أجمعت علماء الأمة على عدم وقوع المشقة
غير المعتادة في التكاليف الشرعية، ولو كان واقعاً لحصل في الشريعة التناقض
والاختلاف، وهي منزهة عنه([108]).
· إن اليسر والسماحة من خصائص الشريعة الإسلامية:
وذلك:
أولاً: لأن
الله (عزَّ وجلَّ) أراد للشريعة الإسلامية أن تكون شريعة عامة للناس كافة في جميع
أنحاء المعمورة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فاقتضى ذلك أن يجعل الله فيها
من اليسر والسماحة والتخفيف ما يلائم اختلاف الناس وطبائعهم، في مختلف الأزمان،
وتباين البقاع، حتى يكون تنفيذها بين الأمة سهلاً ميسوراً، ولا يتأتى ذلك إلا إذا
انتفى عنها التشديد والإعنات([109]).
ثانياً: لأنها
شريعة الفطرة، وفي فطرة الإنسان حب اليسر والرفق والسماحة، والنفور من الشدة
والإعنات، فإن طبيعة البشر العادية تنفر من التشديد ولا تحتمله، ولا تصبر عليه،
ولو صبر عليه بعضهم لم يصبر عليه عامتهم، والشريعة إنما خاطبت الناس جميعا. وقد
ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الإسلام، وتقبّل الناس له على مر العصور.
ثالثاً: ولأن
هذه الأمة أمة وسط في جميع المجالات، منها مجال شرعها الحنيف؛ لأن السماحة في
الشريعة تعني سهولة التكليف والمعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل،
وهذا راجع إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. والوسطية
مما تميزت به هذه الأمة من بين سائر الأمم، كما قال جل شأنه: )وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(([110]).
وعلى
ذلك، فإن من نعمة الله (عزَّ وجلَّ) على هذه الأمة أن جعل دينها وشريعتها حنيفية
سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، لا إصر فيها ولا الأغلال التي كانت
على الأمم السالفة، كما وصف بذلك نبيها (صلى الله عليه وسلم) في التوراة والإنجيل:
)الّذِين
َيَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(([111]).
قال
الحافظ (ابن كثير) في تفسير هذه الآية: "أيْ إنه جاء بالتيسير والسماحة...
وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم، فوسّع الله على هذه الأمة أمورها،
وسهلها لهم... إلخ"([112]).
وقال
(القرطبـي): "ولم يكن في دين محمد (صلى الله عليه وسلم) الرهبانية والإقبال
على الأعمال الصالحة بالكليّة، كما كان في دين عيسى (عليه السلام)، وإنما شرع الله
(عزَّ وجلَّ) حنيفية سمحة خالصة عن الحرج، خفيفة على الآدمي"([113]).
·
إن اليسر
والسماحة ورفع الحرج تشمل جميع أعمال المكلّف،
الدينية منها والدنيوية، ما لم يخالف حكماً شرعياً. فليس للمسلم أن يشدد على نفسه
بما لا يحتمله من العبادة، ولا أن يضيّق على نفسه في أمور الدنيا، بزعم التقرب إلى
الله (عزَّ وجلَّ) بذلك، فليس التضييق على النفس في الحلال من القربة إلى الله (عزَّ
وجلَّ) والزهد؛ لأن وجهة الإسلام العامة هي التيسير، فمن يبغي الشدة والتعنت إنما
يعاند روح الإسلام([114]).
·
إن الأمر
بالتيسير والسماحة يعم جميع المكلّفين، كلّ
فيما يخصّه، فنرى - مثلا- أن الأئمة مأمورون بتخفيف الصلاة، مراعاة لظروف وأحوال
من وراءهم من المأمومين. والمعلمون والمربون مطالبون بالتيسير والرفق بالمتعلمين،
فينبغي أن يرفقوا بهم، ويأخذوهم باللين واللطف، لا بالشدة والعنف الذي ينفّرهم من
الحق. ويستأنس لذلك بما حكاه الله (عزَّ وجلَّ) عن موسى (عليه السلام)، وهو في مقام
التعلّم من الخضر (عليه السلام): )قَالَ
لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا(([115]).
وكذلك الدعاة ينبغي لهم
أن يتحلوا بالرفق واللين والسماحة، حتى تعطي دعوتهم ثمارها المرجوة. روي أن رجلاً
دخل على (المأمون)، الخليفة العباسيّ، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، فأغلظ له
القول، وقسا في التعبير، ولم يراع أن لكل مقام مقالاً يناسبه، وكان (المأمون) ذا
فقه، فقال له: يا هذا، ارفق، فإن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمره
بالرفق، بعث موسى وهارون، وهما خير منك، إلى فرعون، وهو شر مني، وأوصاهما كما أمر
الله (عزَّ وجلَّ)
موسى وهارون عليهما السلام بقولـه: )اذْهَبَا
إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلّهُ يَتَذَكَّرُ
أَوْ يَخْشَى(([116]).
كما يجب على الأمراء والولاة والعمال، وكل من
تولى شيئاً من أمور المسلمين، أن ييسّر على من تحت أيديهم ويرفق بهم، فقد قال (صلى
الله عليه وسلم): (اللهم من
ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق
به)([117]).
والمفتون كذلك ليس لهم أن يفتوا بما فيه حرج وشدة على المستفتي، ما دام يجد له
مخرجاً شرعياً صحيحاً. وهكذا باقي فئات المجتمع.
أ-
الخوف من
الانقطاع عن العبادة، وبغض العبادة، وكراهة التكليف. وينتظم تحت هذا المعنى الخوف
من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
ب-
الخوف من
التقصير عند مزاحمة الحقوق والواجبات والوظائف المتعلقة بالعبد، المختلفة الأنواع،
فإنه ربما أوغل في رعاية جانب على حساب جانب آخر، فغفل عنه، كما تدلّ عليه قصة
سلمان الفارسي مع أبي الدرداء رضي الله عنهما([119]).
وكما هو مقرر عند الأصوليين أن
الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فمن انتفت في حقّه هذه العلل فله ذلك، كما نقل
عن حال بعض السلف من هذه الأمة، ممن يسّر الله (عزَّ وجلَّ) لهم طاعته، وسهّل
عليهم تحمّل المشاق في طاعته وعبادته، كما نبّه عليه الإمام (الشاطبـي)([120]).
· وأخيراً، يجب التنبيه هنا على أنه ليس المراد
بيسر الدين وسماحة الشريعة ترك العمل، أو تتبّع مواطن الرخص، بعيداً عن الغاية
الحقيقية من خالص الخضوع والطاعة لله وحده، والأخذ بالأسهل من الأمور تبعاً للهوى،
مما قد يؤدي بصاحبه إلى الانسلاخ من الأحكام، والتهاون في مسائل الحلال والحرام في
المطاعم والمشارب والمعاملات المالية وغيرها، بدعوى يسر الدين وسماحته وعدم الحرج
فيه([121]) ،
بل المراد تجنّب المشقة غير المعتادة بعدم التشديد في العبادات بنية التورع،
وتحاشي التعمق في المسائل بزعم الطلب للأحوط وترك الشبهات.
الهوامش:
([9]) قِيلَ لِلْعَرَبِ
أُمِّيُّونَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِيهِمْ عَزِيزَة، قَالَ اللهُ تَعَالَى
{هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ}، وَلَا يَرُدُّ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْتُبُ وَيَحْسِبُ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ
كَانَتْ فِيهِمْ قَلِيلَةً نَادِرَة، وَالْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ
النُّجُومِ وَتَسْيِيرهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا
إِلّا النَّزْرَ الْيَسِير، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ،
لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِير، وَاسْتَمَرَّ
الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، بَلْ
ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلًا،
وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - صلى اللهُ عليه وسلّم -: " فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ
فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ " وَلَمْ يَقُلْ: فَسَلُوا أَهْلَ
الْحِسَاب، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْعَدَد عِنْدَ الْإِغْمَاءِ يَسْتَوِي
فِيهِ الْمُكَلّفُونَ، فَيَرْتَفِعُ الِاخْتِلَاف وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ.. وَقَدْ
ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى أَهْل التَّسْيِير فِي ذَلِكَ، وَهُمْ
الرَّوَافِضُ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ مُوَافَقَتُهُمْ، قَالَ
الْبَاجِي: وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْن بَزِيزَةَ:
وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ، فَقَدْ نَهَتْ الشَّرِيعَةُ عَنْ الْخَوْضِ فِي عِلْمِ
النُّجُومِ، لِأَنَّهَا حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ، لَيْسَ فِيهَا قَطْعَ وَلَا ظَنٌّ
غَالِب، مَعَ أَنَّهُ لَوْ اِرْتَبَطَ الْأَمْرُ بِهَا لَضَاقَ، إِذْ لَا
يَعْرِفُهَا إِلّا الْقَلِيل. (فتح الباري: 6/156).
([33]) رواه مسلم بلفظه في كتاب
الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأن الأرض
تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، برقم 286، ورواه البخاري، بمعناه مختصراً في
كتاب الوضوء، باب ترك النبـي (صلى الله عليه وسلم) والناس الأعرابي حتى فرغ من
بوله في المسجد، برقم 219، وروايات بول الأعرابي في رواه البخاري في عدة مواضع
منها: برقم 219، 220، 221، وقبل الحديث رقم 222.
([35]) رواه البخاري
"709" في الأذان: باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبـي، ومسلم
"470" "192" في الصلاة: باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في
تمام... فالمسجد إذاً روضة يجتمع فيها الصغير والكبير ويرتادها الرجل والمرأة، وقد
كان السلف الصالح رضوان الله عليهم في ارتيادها يستبقون الخيرات فيذكرون ربهم،
ويأخذون العلم عن نبيهم، وكان المسجد المدرسة الأولى، والجامعة الأم التي تنشر
العلم، وتشيع المعارف بين الناس، وهو المكان الأفضل والأمثل لهذا المقصد العظيم،
وينبغي أن لا يعدل به شيءٌ في تعليم الناس والدعوة إلى الله إلا لضرورة.. وما
تنكبت الأمة ولا امتهنت علوم الشريعة، ولا جفت منابعها إلا بعد أن أغفل دور المسجد
في التعليم. ويقول ابن حجر: واستدل بهذا الحديث على جواز إدخال الصبيان المساجد،
وعلى جواز صلاة النساء في الجماعة مع الرجال، وفيه شفقة النبـي (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه، ومراعاة أحوال
الكبير منهم والصغير.
([49])من جملة ما حصل لأمته
ببركته وتيسير شريعته أنَّ: (من صلّى منهم العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل،
ومن صلّى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله). فيكتب له قيام ليلة وهو نائم
عَلَى فراشه، لا سيما إن نام عَلَى طُهرٍ وذِكرٍ حتى تغلبه عيناه. و(من صام منهم
ثلاثة أيام من كل شهر، فكأنما صام الشهر كله)، فهو صائم الشهر في مضاعفة الله،
ومفطر له في رخصة الله، و(الطاعم الشاكرُ له أجرُ الصائِم الصَّابِر). ومن نوى أن
يقومَ من الليل فغلبته عيناه فنام كُتبَ له ما نوى، وكان نومه عليه صدقةً. وقال
أبو الدرداء: (يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يسبقون سهر الجاهلين وصيامهم).وقال
بعضهم: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم، هذا مستغفر وقلبه فاجر، وهذا ساكت وقلبه
ذاكر. وقال بعضهم: ليس الشأنُ فيمن يقوم الليل، إنَّما الشأن فيمن ينام عَلَى
فراشه، ثم يصبح وقد سبق الركب.
([56]) رواه مالك: 1/421 في الحج، وأحمد 2/192، والبخاري (1736) في الحج،
باب الفتيا على الدابة عند الجمرة، ومسلم (1306) في الحج، باب من حلق قبل النحر أو
نحر قبل الحلق، وأبو داود (2014) في المناسك باب في من قدم شيئاً قبل شيء في حجه، والترمذي
(916) في الحج، باب ما جاء في من حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي، وابن ماجة (3051)
في المناسك، باب من قدم نسكاً قبل نسك، والبيهقي 5/140-141.
([59]) رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر، حديث رقم (39)،
ومسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (2816). فلو قصدت المشقة في
كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك
العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع
الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً.
([76]) فتح الباري: 1/94 - 95،
وفيه: "في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل
متنطع في الدين ينقطع. وليس المراد منها طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور
المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى
ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن
غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقت
المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة" اهـ.
([97]) الداعية إلى الله I المخلص لدينه الصادق مع ربه
هو الذي يجمع ولا يفرق ويجعل حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم): (يسروا ولا
تعسروا) نصب عينيه، فإن من منهج الداعية: التيسير لا التعسير، كما أرشدنا إلى ذلك
الداعية الأول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما بعث دعاة الإسلام إلى الأمصار
يدعون الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
([101]) رواه أحمد: 1/221،
(1918) ومسلم: 2/152، وأبو داود (1261) باب الجمع بين الصلاتين، والترمذي (420)
باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين في الحضر، والنسائي في الكبرى (1365) الجمع بين
الصلاتين في الحضر، بلفظ: (صلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الظهر والعصر
جمِيعاً والمغرب والعشاء جمِيعاً من غير خوف ولا سفر).
([106]) مجلة البيان، صفر -
1426هـ، مارس/أبريل - 2004م، (السنة: 20)، التيسير في الفتوى تعريفه ومشروعيته
ومجالاته وضوابطه، وصفي عاشور أبو زيد، العدد (210): 4، وفيها: "ان من أهم
الأسس التي تقوم عليها وسطية التشريع الإسلامي هي لزوم اعتماد أصول الخلاف العلمي
بين العلماء للوصول إلى الوسطية، ومن ثم إلى وحدة الأمة الإسلامية وخلافتها في
الأرض، وكذلك لزوم اعتماد فقه الواقع ومعرفة الأعراف والعادات وشؤون الناس وعلم
الاجتماع، واحترام المخالفين وآرائهم ماداموا في دائرة الإسلام، وإفساح المجال
للغير ليقول رأيه، وفتح باب المناظرة العلمية الأخوية الهادئة الهادفة، والأخذ
بمبدأ الحوار العلمي الأخوي البناء المنتج".
([119]) آخى النبـي (صلى الله
عليه وسلم) بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة
فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو
الدرداء فصنع طعامًا فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما
كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان
آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا،
ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبـي (صلى الله
عليه وسلم) فذكر ذلك له، فقال النبـي (صلى الله عليه وسلم): (صدق سلمان). رواه
البخاري، كتاب الأدب، باب: صنع الطعام والتكلف للضيف، (6139)، والترمذي (2413)،
بَاب مِنْهُ، وابن خزيمة (2144).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق