سالم الحاج
المعارضة (opposition)
هو "مصطلح يستعمل في القانون الدستوري، وفي علم
السياسة، ويقصد به الأحزاب والجماعات السياسية التي تناضل للاستيلاء على الحكم...
وتضمّ المعارضة الأشخاص والجمعيات والأحزاب، التي تكون معادية، كلياً أو جزئياً،
لسياسة الحكومة"([1]). أو هو: "ذلك الشكل من أشكال النظم السياسية، حيث
تنقسم الحياة السياسية بين طرفين، أحدهما يكون في السلطة، ويطلق عليه (الحكومة)،
والثاني يكون خارج السلطة، ويطلق عليه (المعارضة). حينئذ تكون دلالة اللفظ تتجه
إلى ذلك التكوين الواقع خارج السلطة، أيّاً كان شكله"([2]). والمعارضة، بهذا المعنى، جزء من الحياة السياسية للدولة، إذ هي
تمارس ضمن الإطار الشرعي، والمؤسسات الثابتة لها. "غير أن المعارضة قد ترفض
أحياناً النظام السياسي
القائم، فتتمرّد على قواعده وأصوله، مما يضفي عليها طابع
التطرف"([3]). وآنذاك نكون أمام
حالة من حالات العصيان السياسي، أو – على الأقل – الصراع السياسي في الدولة.
وهذا المعنى الجديد والمعاصر، ليس مبتور الصلة عن المعنى
اللغوي والمعجمي القديم للكلمة، سوى أنه قد اتخذ طابعاً دستورياً سياسياً خاصّاً،
له آلياته ومؤسساته الخاصة.
(المعارضة) لغة
إذا ذهبنا نبحث عن المعنى اللغوي لكلمة (المعارضة)، في
المعاجم اللغوية، فإننا لن نجد المعنى السياسي، المتبادر إلى الذهن اليوم، حاضراً.
وذلك أن هناك تطوراً وتغيّراً قد طرأ على معنى الكلمة الأساسي، بفعل الاحتكاك
بالغرب، والتأثر بحضارته، جعل المعنى المتبادر إلى الذهن، اليوم، من كلمة
(المعارضة)، هو المعنى السياسي الغربي الشائع. وبالطبع فإن قواميس اللغة العربية،
لا تكاد تعرف لفظة (المعارضة)، إلا في معناها اللغوي، الذي يدلّ على: المقابلة، أو
بيع العرض بالعرض. ولو نظرنا إلى أيّ قاموس لغوي لوجدنا حديثاً طويلاً، وغنيّاً،
عن معاني هذه اللفظة، ومشتقاتها، ولكنه لا يقترب من المعنى السياسي المعاصر لها.
فقد جاء في (لسان العرب) في مادة (عرض): "العرض: خلاف الطول، والجمع أعراض...
وعرضت الشيء: جعلته عريضاً... وقوله تعالى: فذو دعاء عريض، أيْ واسع، وإن كان
العرض إنما يقع في الأجسام، والدعاء ليس بجسم... وعرض الشيء عليه، يعرضه عرضاً:
أراه إياه... وعرضت الكتاب، وعرضت الجند عرض العين: إذا أمررتهم عليك، ونظرت ما
حالهم... وعارض الشيء بالشيء معارضة: قابله، وعارضت كتابي بكتابه: أيْ قابلته.
وفلان يعارضني: أيْ يباريني، وفي الحديث: إن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن
في كل سنة مرة، وإنه عارضه العام مرتين. قال ابن الأثير: أيْ كان يدارسه جميع ما
نزل من القرآن، من المعارضة: المقابلة... والعارض: ما عرض من الأعطية... وفي
الحديث: خمّروا آنيتكم، ولو بعود تعرضونه عليه، أي تضعونه معروضاً عليه، أيْ بالعرض
... وعرض الشيء يعرض، واعترض: انتصب، ومنع، وصار عارضاً، كالخشبة المنتصبة في
النهر، والطريق، ونحوها، تمنع السالكين سلوكها. ويقال: اعترض الشيء دون الشيء، أيْ:
حال دونه... وعرض له أمر كذا: أيْ: ظهَرَ. وعرضت عليه أمر كذا، وعرضت له الشيء: أيْ
أظهرته له، وأبرزته إليه... والعرض: ما يعرض للإنسان من الهموم والأشغال"([4]). وهكذا نجد أن لفظة
(المعارضة)، تحمل في أحشائها هذا المعنى السياسي المعاصر للكلمة، حيث إن من
معانيها اللغوية: المقابلة، والمدارسة، والمتابعة، كما أن فيها معنى المباراة،
والمحاكاة، والمحاذاة، فضلاً عن معنى: المغالبة، والممانعة، فيها([5]). وقد تطورت دلالة
اللفظة في الاستعمال الحديث، من هذا المعنى الحسيّ لها، إلى المعنى المعاصر الذي
يشير إلى وضع معيّن في الحياة السياسية، أو غيرها، "كما صاحب ذلك أيضاً رقيّ
في الدلالة، فبعد أن كانت (المعارضة) تشير إلى الإبل (العلوق)، التي ترأم بأنفها،
وتمنع درّها، إذا بها تحظى بالاحترام في الأوساط الثقافية والسياسية، كدلالة عن
حرية الرأي، واحترام كرامة الإنسان"([6]).
إن جماع مفردة (المعارضة)، في المعاجم اللغوية، تلتقي
عند جوهر واحد، هو (المواجهة، والمخالفة، والمنع، والتحدي)([7])، وهذه هي الدلالة المركزية لهذا اللفظ. أمّا (الدلالة الهامشية) -
وهي التي ترتبط باللفظ، بحسب ما يمرّ به من تجارب، تختلف من فرد إلى آخر، ومن
مجتمع إلى آخر، وهي قابلة للتطور والتجدد، وتختلف بحسب التطور الذي يمر به المجتمع،
والخبرات التاريخية التي تستجد لديه([8])- ، فإنها قد تعرّضت إلى تطور كبير، وتباينت من عصر إلى آخر، وصولاً
إلى العصر الحديث..
ولقد استعملت
لفظة (المعارضة) – قديماً - في عنوان كتاب لأحد أعلام التصوف المسلمين، وهو (سهل
بن عبدالله التستري ت283هـ)([9])، واسمه: (المعارضة
والردّ على أهل الفرق وأهل الدعاوى في الأحوال)، وفيه يعرض آراء بعض الفرق، ويردّ
عليها من منطلق نقدي، و"مثل هذا الاستخدام المبكّر للفظ، في مجال الفكر
الإسلامي، بدلالته التي تعني النقد، والمراجعة، وإبداء وجهة النظر المخالفة، يوضّح
كيف أن (المعارضة) لفظ أصيل: لغوياً ودلالياً"([10]).
ولو رجعنا إلى كتاب (التعريفات) للجرجاني([11])،
لرأيناه يقول: "المعارضة لغة هي: المقابلة على سبيل الممانعة، واصطلاحاً هي:
إقامة الدليل على خلاف ما أقام الدليل عليه الخصم"([12])
، وهذا التعريف للفظة (المعارضة) يقترب من المعنى المعاصر لها.
(المعارضة) في الفكر الإسلامي
إن المتتبع لآيات القرآن الكريم لا يجد فيها لفظة
(المعارضة)، ولا كذلك في السنة النبوية الشريفة.. ولكن ذلك لا يعني خلّوهما من
معاني ودلالات مفهوم (المعارضة).
ففي القرآن الكريم، نجد ألفاظاً أخرى، يدور معناها حول
الاختلاف والمعارضة، ومنها: التنازع، الشجار، الجدل، المجادلة، والاختلاف. قال
تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ] (النساء/59). وبذلك نرى أن الأمر الإلهي بطاعة الله،
والرسول، وأولي الأمر من المؤمنين، لم يمنع من الإقرار بإمكانية وجود التنازع
والاختلاف، ومن ثمّ وضع الضوابط اللازمة له. وفي قوله تعالى: [فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ] (النساء/65)، فكلمة (شَجَر)
هنا تعبّر عن الاختلاف في الرأي، والتنازع([13]). وكذلك قوله تعالى: [ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ] (هود/119)، حيث نجد إقراراً بشرعية الاختلاف،
وحتميته.. فهذه الآيات، وغيرها كثير([14])، تبيّن أن الرؤية القرآنية تعاملت مع (الاختلاف في الرأي) كأمر
بشري طبيعي، غير مستبعد الحدوث، ولم تفترض أن يكون المجتمع المسلم صورة واحدة، ورأياً
واحداً([15]) .
وهكذا أيضاً، فإن المتتبع لأحاديث الرسول الكريم(صلّى
الله عليه وسلَّم)، لن يجد استعمالاً للفظة (المعارضة)، ولكنه لن يعدم أدلة على
حضور (المعارضة) - بمعناها الواسع - وشرعيّة وجودها، من خلال سنّة النبـي، وسيرته.
وهو ما يمكن الإشارة إليه، باختصار، فيما يلي:
*عن أبي الوليد عبادة بن الصامت (رض) قال: {بايعنا رسول
الله على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن
لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم من الله تعالى فيه برهان،
وعلى أن نقول الحق أينما كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم}([16]). فهناك إمكانية للمنازعة في (الأمر)، وقيام
المعارضة، عند قيام أسبابها، بظهور الكفر البواح من (الحاكم).. كما أن الالتزام
بقول الحق (أينما كنّا)، هو التزام صارم بـ(معارضة) الباطل، أينما كان، ومن أيّ
جهة صدر.
*عن حذيفة (رض) عن النبـي (صلّى الله عليه وسلَّم) قال:
{والذي نفسي بيده، لتأمرّن بالمعروف، ولتنهوّن عن المنكر، أو ليوشكّن الله أن يبعث
عليكم عقاباً منه، ثمّ تدعونه، فلا يستجاب لكم}([17]).
وهل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلا نوع من أنواع (المعارضة)، واختلاف
وجهات النظر؟! والحديث دعوة وتحذير من التهاون في شأن هذا الأمر، الذي إنْ ضاع، أو
أهمل، كانت له آثار خطيرة على عموم المجتمع.
* عن أبي سعيد الخدري (رض) عن النبـي (صلّى الله عليه
وسلَّم) قال: {أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر}([18]).
و"المعارضة، بهذا المعنى، تدخل أحياناً في مفهوم (أفضل الجهاد)، بمنطق هذا
الحديث الشريف"([19]).
*وحديث أبي سعيد الخدري المشهور: قال رسول الله (صلّى
الله عليه وسلَّم): {من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}([20]).
والتغيير باللسان هو (المعارضة) القولية، التي هي درجة مطلوبة شرعاً في تغيير
المنكر..
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهي – في مجملها – تدلّ،
"بطريق المفهوم، أن المجتمع الإسلامي لا بدّ أن يفتح المجال لمقابلة الرأي بالرأي،
وإلا كيف يمكن أن يؤدي أفراد المجتمع هذا الواجب الشرعي"([21]).
أما المبادىء السياسية الأساسية، التي يمكن الاستناد إليها،
للإشارة إلى حضور مفهوم (المعارضة) في القرآن الكريم، فإننا نشير هنا إلى أهم هذه
المبادىء، مبينين علاقتها بمفهوم (المعارضة):
1-مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو من المبادىء المهمة في الإسلام، وقد وردت في الأمر
به، والدعوة إليه، الآيات الكثيرة. قال تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ] (آل عمران/110)، فربط خيرية الأمة بإيمانها بالله،
وقيامها بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وقدّم العمل (أيْ: الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر) على الإيمان، للدلالة على أهميته، وكونه الوجه أو الصورة
العملية للإيمان.. وقال تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ] (التوبة/71)، فجعل ولاء المؤمنين لبعضهم بعضاً، قائماً
على، أو مستنداً إلى، أو معبّراً عن حقيقة كونهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر..
وقال تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ] (آل عمران/104)، فأمرهم بإيجاد وتكوين جماعة منهم، يقومون بهذا
الأمر، وربط الفلاح بهم، أو كتب الفلاح لهم.
وهكذا نجد الكثير من آيات القرآن، تدعو المؤمنين إلى
القيام بهذا الواجب: (الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، وتجعله من صفاتهم
الأساسية، وتربط خيريتهم بأدائه، وتحذّرهم من التهاون والتفريط فيه.. وهذا كله
يفتح الباب واسعاً أمام حرية القول، وضرورة الإيجابية، والفعالية، والمشاركة في
الحياة الاجتماعية، والسياسية، سواء بالنسبة للفرد أم الجماعات، وتجاه الأفراد أو
المؤسسات والسلطات الحاكمة. وهو ما يعني – في النهاية – أن أسس قيام مفهوم
(المعارضة)، في المجتمعات الإسلامية، تعتمد على ركن ركين، وواجب أصيل، لا يمكن
التفريط به، أو التهاون فيه. "فالمعارضة السليمة، التي يقصد بها وجه الله،
ومصلحة الأمة، إنما تعتمد على هذه الركيزة الشرعية: الأمر بالمعروف، والنهي عن
المنكر. ومن هذه الركيزة، أو هذه القاعدة، تصبح المعارضة حقّاً للمسلم، كلّ في
مجاله، بل تصبح فرضاً عليه: فرض كفاية، أو فرض عين، تبعاً لدرجة المنكر، وتبعاً
لموقع المسلم العملي، أو الوظيفي، في مجتمعه"([22]).
2-مبدأ الشورى: ذكرنا في
الحديث عن (الشورى)، كحقّ من حقوق الأمة السياسية، أن (الإجماع) كاد ينعقد على أن
(الشورى) هي المنهاج الإسلامي للحكم، في الدولة الإسلامية، وللمجتمع الإسلامي،
وللأسرة المسلمة([23])، وذكرنا هناك الأدلة من القرآن، والسنة، على وجوب (الشورى)،
وتوصّلنا - بعد عرض وتمحيص آراء الفقهاء، والباحثين - إلى أن الرأي الذي يذهب إلى
(إلزامية الشورى) لولي الأمر، هو الراجح، لأنه الأكثر تحقيقاً لمصلحة الأمة،
وذكرنا الأدلة على ذلك([24]).
ولكن ما علاقة (الشورى)، وهي أحد أسس النظام السياسي
الإسلامي، بمفهوم (المعارضة) في الإسلام؟ إن وجه العلاقة بينهما يمكن تبيّنه فيما
يلي: لما كانت (الشورى) أصلاً من أصول النظام السياسي الإسلامي، ولما كان (أمر)
المسلمين شورى بينهم، وكان الحاكم ملزماً بالرجوع إلى (جماعة المسلمين)،
ومشاورتهم: [وشاورهم في الأمر] (آل عمران/159)، فإن الذي لا ريب فيه أن عملية
(الشورى) تعني تبادل الآراء، وتقليب وجهات النظر، وهو أمر قد لا يؤدي بالضرورة إلى
الإجماع، أو اتفاق الآراء، بل قد ينتهي، في كثير من الأحيان، إلى تكوين وجهات نظر
مختلفة حول الموضوع الواحد، وهذا يعني – بالضرورة – وجود الرأي والرأي الآخر. فإذا
كانت (الشورى) واجبة، وحرية الرأي مكفولة – وهي مصانة في الإسلام –، وإذا كانت
(العصمة) غير متحققة لفريق دون آخر، ولا لحاكم دون محكوم، فإن النتيجة التي نخرج
بها من كل ذلك، هي: أن الاختلاف في الرأي، والحوار، والمجادلة بالحسنى، وبالتالي
(المعارضة)، هي أمر طبيعي ومشروع، بل ومطلوب، طالما أن (الشورى) – التي هي واجب –
لا يمكن تحقيقها من دون ذلك!([25]). إذ "لا تتم الشورى على وجهها الحقيقي، ولا تؤتي ثمارها
الصحيحة، في جوّ لا يسمح بحرية الرأي، وفي جوّ يسوده الكبت والقهر، ومحاربة أصحاب
الآراء، ومطاردة الناصحين"([26]).
ومن جانب آخر، فإن (الشورى) لما كانت أصلاً مهماً في
الوصول إلى السلطة، "فهي من ثم المجال الذي تظهر فيه المعارضة، التي تلعب
دوراً في عملية انتقال السلطة في المجتمع، من حاكم سابق إلى حاكم جديد، حيث تستطيع
الآراء المختلفة والمتعارضة أن تعبّر عن نفسها في نطاق الشورى"([27])..
هذان، إذاً،
كانا أهم مبدأين قرآنيين، يعتمد عليهما مبدأ (المعارضة)، في الفكر السياسي
الإسلامي، وهناك بالطبع مبادىء وأسس أخرى، تعتمد على هذين المبدأين، وتستند
إليهما، في بحث مشروعية (المعارضة) في الإسلام. ومن ذلك: حقّ الرقابة على الحكّام،
ومحاسبتهم، وتقويمهم، ومبدأ الطاعة في المعروف، وحقّ النصيحة، أو مبدأ النصح للحاكم،
والحقّ في حرية الرأي، وغير ذلك([28]). ولكننا لن نتوقف عندها، خشية الإطالة، ورغبة في تجنّب التكرار..
*(المعارضة) في الممارسة
الإسلامية التاريخية
لما كانت (المعارضة) أمراً مشروعاً، بل وواجباً مفروضاً([29])، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك، ويجد آثاره
ومصاديقه في الممارسة العملية للمسلمين، وهذا ما يلحظه أيّ دارس للتاريخ الإسلامي.
ففي عصر صدر الإسلام، ومع وجود الرسول(صلّى الله عليه وسلَّم) المعصوم، والمسدّد
بالوحي، فإننا نلاحظ في وقائع السيرة عديداً من صور (المعارضة)، التي اشتهرت بين
المسلمين، وأصبحت أشهر من أن يشار إليها، كما في موقف (الحبّاب بن المنذر) يوم
(بدر)، وكما في موقف الصحابة، أو عدد كبير منهم، في الدعوة إلى الخروج لملاقاة
قريش خارج (المدينة)، يوم غزوة (أحد). وكما في معارضة السعدين (سعد بن معاذ، وسعد
بن عبادة) للصلح الذي أراد رسول الله (صلّى الله عليه وسلَّم) أن يبرمه مع
(غطفان)، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، لقاء انسحابهم من حصار المسلمين، يوم
(غزوة الخندق). وكما في معارضة عامة المسلمين لمسألة الصلح مع قريش، يوم
(الحديبية). ففي كل هذه المواقف، وغيرها([30])، نجد أن ثمة (رأياً آخر) مخالفاً، أو معترضاً، أو ناصحاً، أو
مقترحاً، في ظلّ استقبال من الرسول (صلّى الله عليه وسلَّم) لهذا الاختلاف في
الرأي، دون امتعاض، أو مبادرة إلى التهوين منه، أو تسفيهه، بل على العكس، كان
الموقف الدائم هو: قبول الرأي الآخر، والأخذ به أحياناً، أو احترامه والسكوت عنه،
وعدم زجر أصحابه، أحياناً أخرى.. "والواقع أن اشتراك المسلمين بالرأي مع
الرسول، في الأمور التي لم ينزل فيها وحي، وموافقته على آرائهم في أحيان كثيرة،
بعد المناقشة وتبادل الرأي، إنما هو من قبيل (الشورى) التي أمر الله بها
نبيّه"([31]). فلقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) يميّزون بين ما هو من الوحي،
والأمور الدينية، وبين ما هو من (الرأي) والشؤون الدنيوية، والتي كانوا يعلمون
أنها محلّ الشورى والرأي، فكانوا يشيرون على النبـي (صلّى الله عليه وسلَّم)، أو
يعترضون عليه أحياناً، فقد "كانوا يدلون بآرائهم فيتفقون ويختلفون، ويتابعون
ويعارضون، دونما حرج أو تردد من معارضتهم لرسول الله (صلّى الله عليه وسلَّم)"([32]). وهذا هو الذي دفع علماء المسلمين إلى
التمييز بين أفعاله (صلّى الله عليه وسلَّم)، فجعلوا ما صدر عنه، باعتباره نبيّاً
مرسلاً، واجب الاتباع على الأمة، لأنه وحي من الله، وأما ما صدر عنه باعتباره
قاضياً، أو قائداً للمسلمين وحاكماً، فإنه ميدان شورى ورأي([33]).
وعقب وفاة النبـي (صلّى الله عليه وسلَّم)، فإن واقعة
(السقيفة) كانت الحدث السياسي الأبرز على الساحة، وقد جسّدت، بصورة جليّة، حضور
مفهوم (المعارضة) في الممارسة الإسلامية، "ونهض هذا الموقف، منذ ذلك التاريخ
المبكر، شاهداً على مشروعية المعارضة في فكر الإسلام السياسي"([34]).. ولما بويع (أبو بكر الصديق) كأول خليفة
للمسلمين، بعد وفاة النبـي (صلّى الله عليه وسلَّم)، ومبايعة جمهور المسلمين له،
برزت ظاهرة الامتناع عن البيعة، كمظهر من مظاهر (المعارضة) الفعليّة للخليفة،
ومنهم، وعلى رأسهم، (سعد بن عبادة)، زعيم الخزرج، الذي اعتزل مجتمع المسلمين، وبقي
على موقفه، حتى توفي في عهد الإمام (عمر بن الخطاب)، دون أن يبايعه كذلك. وكان من
أشهر المعارضين، والممتنعين عن مبايعة (أبي بكر)، الإمام (علي بن أبي طالب)، ومعه
زوجه (فاطمة)؛ ابنة الرسول الكريم محمد (صلّى الله عليه وسلَّم)، وعدد من
الهاشميين، وقد استمر (علي) في موقفه المقاطع، حتى وفاة (فاطمة). وهكذا فقد برز،
في تلك الفترة، عدد من المواقف المعارضة لرأس السلطة في الإسلام، دون أن يجبرها
أحد على تغيير موقفها بالقوة، وهذا من الأدلة الواضحة على حضور مفهوم (المعارضة)
في الممارسة الإسلامية([35]).
وهكذا، فإن هذا النهج في القبول بـ (المعارضة)، والتعامل
بالحسنى مع اختلاف الرأي، سواء كان فردياً أو جماعياً، طالما التزم بالنظام العام،
ولم يحمل أصحابه السلاح على المسلمين، قد استمر طوال العصر الراشدي. وموقف الخليفة
الراشدي الثالث (عثمان بن عفان) (رضي الله عنه)، خير دليل على وضوح مفهوم
(المعارضة) عند المسلمين، وشرعيّته. فمع أن هؤلاء القوم الثائرين على (الخليفة)
كانوا مسلّحين، (أيْ إنهم كانوا معارضة مسلّحة، وليس مجرد معارضة قولية، أو إبداء
للرأي)، وقد قدموا من بعيد، ولم يكونوا من أهل (مكة) و(المدينة) أصلاً، فإن
الخليفة (عثمان) قد تقبّل معارضتهم، وتفاوض معهم، بل وامتنع عن قتالهم ومجابهتهم
بالقوة والسلاح، وهو اجتهاد منه (رضي الله عنه) كان يملك غيره، فقد كان هو (خليفة
المسلمين) المنتخب شرعياً، وكان الصحابة، وجموع أهل المدينة، على استعداد للدفاع
عنه، ومقاتلة الثائرين، لو أراد ذلك، لكنه أصرّ على عدم استعمال السلاح ضدهم، حتى
انتهى الأمر بمقتله (رضي الله عنه). وهو موقف يحمل دلالات كبيرة في مفهوم
(المعارضة)، كما يتجلّى في الممارسة الإسلامية في العهد الراشدي([36]).
وكذلك، فإن الأحداث التي شهدها عهد الإمام (علي بن أبي
طالب)، بعد انتخابه خليفة للمسلمين؛ من خروج طلحة والزبير وعائشة (رضي الله عنهم)،
ثم قتاله لمعاوية وجيش الشام، ثم ظهور فرقة (الخوارج)، وقتال الإمام (علي) لهم في
(النهروان)، وغيرها. كل تلك الأحداث الكبيرة تؤكد بجلاء أن (المعارضة)، كممارسة
سياسية، كانت جزءاً من الحياة السياسية للمسلمين في هذا العصر. ولعلّ كلمات الإمام
علي(رضي الله عنه) التي قالها في مواجهة (الخوارج)، وكإعلان منه، للمبدأ السياسي
الذي تتعامل بموجبه (السلطة الإسلامية) – التي يمثّلها هو – مع مخالفيها، والتي
غدت ألفباء السياسة في تعامل الدولة الإسلامية مع (المعارضة)، تعبّر خير تعبير عن
حقيقة الرؤية الإسلامية لـ (المعارضة)؛ اعترافاً بها، وإقراراً لحقوقها، وتعاملاً
دستورياً معها: (كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دماً حراماً، ولا تقطعوا
سبيلاً، ولا تظلموا أحداً، فإنْ فعلتم نبذت إليكم الحرب. قال عبد الله بن شداد:
فوالله ما قتلهم، حتى قطعوا السبيل، وسفكوا الدم الحرام)([37]). و"لقد كانت هذه السياسة، التي سار عليها علي (رضي الله عنه)،
تمثّل تعاليم الإسلام المنزل بأوضح صورها وأعدلها، حيث ضمن لمخالفيه في الرأي – مع
تطرّفهم وغلّوهم – الحرية العقائدية، والفكرية، والسياسية، والحقوق المالية، فلم
يقاتلهم إلا دفعاً لعدوانهم، ومنعاً لفسادهم، لا لفساد آرائهم وتطرّفها، أو
معارضتهم له في الرأي"([38]).
وإذا كانت (المعارضة) – في المفهوم المعاصر – مرتبطة
بوجود الأحزاب السياسية، فلا بدّ من الإشارة هنا إلى أن ظهور ما يمكن تسميته بـ
(أحزاب سياسية)، في التاريخ الإسلامي، قد تأخّر إلى عهد الخليفة الراشدي الرابع،
حيث: "نجد مؤرخي الفرق، وكتاب مقالاتها؛ من المعتزلة، والأشعرية، والظاهرية،
وأصحاب الحديث، والخوارج، – أيْ كلّ من عدا الشيعة -، يؤرّخون بظهور فرقة الخوارج،
على عهد الإمام (علي)، لنشأة الفرق في الإسلام، وهو الرأي الصواب"([39]). ويذهب بعض الكتاب المحدثين إلى أن
(الخوارج) هم أول حزب سياسي يظهر في تاريخ الإسلام، وأن الفرق الإسلامية "لم
تكن مجرد مدارس فكرية تصل إلى تكوين آراء، ثم تكتفي بإبدائها، أو تدوينها، ولكنها
كانت أحزاباً؛ بالمعنى السياسي الذي نفهمه اليوم في ميدان السياسة العملي"([40]).
*حكم (المعارضة) شرعاً؟
هل (المعارضة)، وهي – كما رأينا – حقّ وواجب، واجبة على
جميع المسلمين، وفي جميع الأوقات، أم أن حكمها يختلف من قضية إلى أخرى، وباختلاف
الملابسات والموضوع؟.. لقد تقدّم أن (المعارضة) مشروعة، في الفكر السياسي
الإسلامي، وقد مارسها المسلمون عملياً في حياتهم، وأقرّوا بحقّ الغير في الاختلاف
والمعارضة، وهو ما لمسناه من خلال ما ذكرناه آنفاً، ولكن هذه المعارضة – كما يذهب
بعض الباحثين - "لم تكن مطلقة من كلّ قيد، فهي مقيّدة بعدم الإضرار بالآخرين،
كما هي مقيّدة أيضاً بعدم الإضرار بالمصلحة العامة، والإخلال بالنظام العام، أو
بوحدة الأمّة وتماسكها، أو الإخلال بسلطة الدولة، وتعريض كيانها للخطر"([41]). فالمعارضة في النظام السياسي الإسلامي –
حسب هؤلاء - محكومة في إطار الشرع، ومن ثم فإن حكمها مرتبط بنوعية موضوع المعارضة،
وعلاقتها بأحكام الله سبحانه وتعالى، فهي قد تكون محرّمة، وقد تكون مباحة، وقد
تكون واجبة([42]). فالمعارضة المحرّمة، في إطار السياسة الشرعية، هي في كل ما يهدّد
وحدة الأمة، ويعرّضها لخطر التمزق والتفرق، أيْ فيما يمسّ أو يشكّل تهديداً
لـ(الأمن القومي) – بالتعبير المعاصر- وخاصة في أوقات الحروب والأزمات الكبرى([43]). قال تعالى: [وَأَطِيعُوا
اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال/46).
وقال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا] (آل
عمران/103). يقول الإمام الطبري: "يعني بذلك - جلّ ثناؤه-: وتعلّقوا بأسباب
الله جميعاً، يريد بذلك - تعالى ذكره - وتمسّكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده
الذي عهده إليكم، في كتابه إليكم؛ من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم
لأمر الله"([44])، وذلك مما يفهم منه
النهي عن التفرقة والاختلاف حول شريعة الله، وعن التفرّق الذي يؤدي إلى تمزيق
الجماعة.
أما المعارضة الواجبة، فهي المعارضة التي تغضب لحدود
الله، إنْ انتهكت، وتقف بالمرصاد لكلّ ما يخالف أصول الشريعة، وثوابتها، وما هو
معلوم من الدين بالضرورة، ذلك أن الطاعة هنا محرّمة، فـ{لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق}([45]). ومن ثم،
فإن (المعارضة) هنا، تكون فرضاً واجباً على الأمّة كلّها، بأفرادها وجماعاتها،
ويظلّ هذا الفرض قائماً، والإثم ملازماً للأمة، حتى تقوم – أو فئة منها – بإزالة
هذا المنكر، وإسقاط تلك المعصية([46]). ومن هنا
عرف الفقهاء (المعارضة) بتعريفات متعددة، تتفق – في مجملها - على أن (المعارضة
الإسلامية) هي "الأمر بكل ما هو معروف، وما ينبغي فعله، أو قوله، طبقاً
للأصول المرعيّة، والنهي عن كل ما ينبغي اجتنابه، من قول أو فعل، في إطار الشريعة
الإسلامية"([47]).
أما ما عدا ذلك، (أيْ ما عدا الأمور الواجبة، والأمور
المحرّمة)، فإن المعارضة فيه (مباحة)، أيْ إنها من باب (السياسة الشرعية)، التي
تعتمد على الاجتهاد والنظر، سواء بالنسبة للفرد أو للجماعة، فكل ما تعلّق
"بأمر من أمور الدنيا، التي لم يرد بشأنها نصّ بتحريم أو كراهة"([48])، فيكون حكم
(المعارضة) فيه (الإباحة). وهذا باب يرتبط بميدان (حق الشورى)، وحرية الرأي، وبقية
الحقوق السياسية للأمة.
فالمعارضة إذاً، كما يرى بعض المجتهدين في ميدان الفكر
الإسلامي، ليست مطلقة، ذلك أن الجميع – حكاماً ومحكومين – في ظلّ الشريعة
الإسلامية، مقيّدون بالشرع، وملزمون به، ولا يمكنهم الخروج على محكماته وثوابته.
ومن هنا تكون المعارضة محرّمة أحياناً، وأخرى واجبة، أو مباحة، حسب الدليل الشرعي،
ذلك أنها تنطلق من واجب التكليف الديني بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
والقيام بالشورى. ومن ثم، فهي لا ترتبط بأشخاص معينين، ولا بجهات أو أحزاب خاصة،
فهي ليست (معارضة دور) -كما هو حال (المعارضة)، في الممارسة الغربية- بقدر ما هي
موقف يتخذه الفرد، أو الجماعة، متى ما ظهرت دواعيه الشرعية!([49]). فالإسلام – يقول أحدهم -: "يرفض المعارضة
الدائمة، أيْ (المعارضة للمعارضة)، لأن الأصل في نظام الإسلام، الطاعة في كل
معروف، ولا طاعة في معصية... بينما المعارضة في النظام الغربي، هي معارضة دائمة
ومستمرة، لأن غرضها الحدّ من سلطة الحاكم، وبالتالي التخفيف من سيطرة الدولة"([50]). فإذا كانت (المعارضة)
في الفكر السياسي الغربي المعاصر، مسألة (دور) متناوَب، يقوم به في كل مرّة فريق
ما، بعد إجراء انتخابات حرة، يتبيّن بها فريق (الأغلبية)، التي لها الحق في أن
تحكم، في مقابل فريق (الأقلية)، التي تتخذ دور المعارضة([51]).
فإنها – عند بعض الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي - ، ليست كذلك، بل هي تنطلق
من منطلقات مغايرة، وتقوم على أسس عقدية وفكرية متكاملة. فالمعارضة، في الإسلام،
هي مسألة موقف مبدئي، فهي "معارضة لكلّ ما يخالف الشرع"([52]). وهي تقوم على مبدأي:
(الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، و(الشورى)([53]).
إذ لمّا كانت التكاليف الشرعية ليست موجهة للمحكوم، دون الحاكم، ولا هي خاصة
بطبقة، أو فئة، دون أخرى؛ فكلّ مسلم – ذكراً كان أو أنثى – مطالب بالالتزام بأوامر
الشرع ونواهيه، ومن ثمّ فإن (الحاكم)، مَـَثلُهُ في ذلك مثل (المحكوم)، مطالب
بالتقيّد بـ(الشرع)، وعدم مخالفته. بل إن (الحاكم)، ومن باب الأولى – بحكم
المسؤولية الملقاة على عاتقه، وبحكم السلطان الذي يتمتّع به -، مطالب أكثر من غيره
بالقيام بهذا الالتزام، ودون أن يعفي ذلك الأفراد - من جهتهم - من الوفاء بالتزاماتهم، والتصدي لواجباتهم، بما
في ذلك مراقبة (الحاكم) نفسه، ومحاسبته، و(معارضته)، إن أخطأ، أو قصّر في أداء
واجبه([54]). لمّا كان ذلك كذلك،
فإن (المعارضة)، تكون متعيّنة كلّما توافرت أسبابها، إذ إنها "ليست (دوْراً)
أساساً، بقدر ما هي موقف يتخذه الفرد، بغضِّ النظر عن كونه حاكماً أو محكوماً، متى
ظهرت دواعيه الشرعية، الممثلة أساساً في القيام بالشورى، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر"([55]).
ولكن هذا الفهم لمسألة الدور السياسي لـ(المعارضة) هو في
الحقيقة فهم تراثي، يقيّد نفسه في حدود التجربة البشرية الإسلامية، كما أنه يخلط بين ميدانين، ميّزت بينهما التجربة
النبوية، وهما ميدان (الدعوة)، وميدان (السياسة).. إذ إن اتفاق الأحزاب السياسية،
في أيّ بلد، على احترام مبدأ تداول السلطة، واحترام حقّ (المعارضة) في العمل
السياسي، هو أمر من أمور الإدارة (الدنيوية) - إذا صح التعبير -، وهو ميدان مباح،
المؤمنون فيه عند شروطهم، إلا شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً.. وليس يلزم من
القول بوجوب الالتزام بفرائض وسنن الإسلام، وهو أمر لا بدّ منه لكل مسلم، حاكماً
كان أو محكوماً، أن نقول بحرمة مثل هذا الاتفاق، طالما أنه في دائرة المباح. إن
السياسة الشرعية تبيح مثل ذلك، بل توجبه، لما فيه من مصالح دنيوية للعباد والبلاد،
وقد كشفت التجارب البشرية عن كون هذا اللون من التداول على السلطة، هو أحسن الطرق،
أو أقلّها سوءاً، لإدارة الحياة السياسية بأقلّ الخسائر، فلماذا يكون ذلك محظوراً،
أو مكروهاً، أو محرّماً، في الإسلام؟!.. وأين وجه التناقض بينه وبين واجب (الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر)، وحقيقةِ أنّ المسلم مطالب بمعارضة كلّ ما يخالف
الشرع؟!.. ثم إن الكلام كما قلنا هو في حدود الممارسة السياسية البشرية، وهي أمر
يقوم على مبدأ الصواب والخطأ، وليس الحلال والحرام، وبالتالي فلا مجال للحديث عن
معارضة واجبة، أو معارضة محرمة، فكل معارضة سياسية هي معارضة لأفعال ومواقف السلطة
الحاكمة، التي لا تمتلك عصمة، ولا حصانة شرعية، وإنما هي وكيل عن الأمة، تجتهد في
مواقفها وإدارتها، وتتحمّل الوزر والأجر، ومن ثم فلا مجال للقول بعصمة الأمة، أو
عصمة السلطة، والادعاء أن المعارضة في الشأن الفلاني، أو الأمر العلاني، هي معارضة
محرمة، أو مكروهة، أو واجبة، فهذا المصطلحات لها ميدانها الشرعي الذي لا يجوز
خلطها مع ميدان السياسة الاجتهادي البشري النسبـي، لإضفاء شرعية دينية مزعومة على
ممارسات هي في النهاية اجتهادات لأصحابها، أصابوا أو أخطأوا.
*بين المعارضة والبغي
(لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها
اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال)([56])، بهذه
الكلمات خطّ الإمام (عليt) دستور التعامل مع (الخوارج/البغاة). ولقد كانت فترة
خلافته المضطربة، والتي شهدت تصدّع جبهة المسلمين، وبروز الخلافات المسلحة
والاقتتال فيما بينهم، هي التي أوضحت أحكام التعامل مع (البغاة)، والتي كانت غير
جليّة، ولم تجد طريقها إلى الممارسة الإسلامية قبل ذلك.. فما البغي، ومن هم البغاة،
وما أحكامهم، وأين موقعهم من المعارضة؟!
(البغي) لغة يعني: التعدي، وبغى عليه: استطال. وكل
مجاوزة وإفراط على المقدار، الذي هو حدّ الشيء، فهو (بغي). و(البغية): بكسر الباء
وضمها: الحاجة. و(بغى) ضالته يبغيها (بغاء) بالضم والمد، (وبغاية) بالضم أيضاً:
طلبها([57]).
وجاء في (مفردات ألفاظ القرآن) للراغب الأصفهاني: البغي:
طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى، تجاوزه أو لم يتجاوزه... يقال: بغيت الشيء: إذا
طلبت أكثر مما يجب، وابتغيت كذلك. قال عز وجل: [لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَة مِنْ
قَبْلُ] (التوبة/48) ، وقال تعالى:[يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة] (التوبة/47). والبغي
على ضربين: أحدهما محمود، وهو تجاوز العدل إلى الإحسان، والفرض إلى التطوع.
والثاني مذموم، وهو تجاوز الحق إلى الباطل... ولذلك قال سبحانه وتعالى: [إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ] فخصّ العقوبة ببغيه بغير الحق... وبغى الجرح: تجاوز الحدّ في
فساده. وبغت المرأة بغاء: إذا فجرتْ، وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها. وبغت السماء:
تجاوزت في المطر حدّ المحتاج إليه. وبغى: تكبر، وذلك لتجاوزه منزلته إلى ما ليس
له، ويستعمل ذلك في كل أمر. قال تعالى: [يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ] (يونس/23)، وقال تعالى: [إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ] (يونس/23)...
وقال: [فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي]
(الحجرات/9).. ويذكر (ابن عابدين) في حاشيته: إن "البغي في اللغة: الطلب،
بغيت كذا أيْ طلبته. قال تعالى حكاية: [ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ] (الكهف/64)، ثم
اشتهر في العرف في طلب ما لا يحلّ من الجور والظلم"([58]).
وقد وردت مفردة (البغي)، في القرآن الكريم، وفي السنة
النبوية، بنفس معناها اللغوي؛ فقد وردت بمعنى العدول عن الحق، وبمعنى اتّباع
الظلم، والاتّصاف بالكذب، والتكبّر على الناس، والتعالي عليهم. قال تعالى: [يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ] (يونس/23). [قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ] (الأعراف/33). [وَالَّذِينَ إِذَا
أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] (الشورى:39). ولا نجد في النص القرآني
معنى "البغي بين الحاكم وفئة معارضة، بل بين فئتين مؤمنتين، يطالب الحاكم
بفضّ النزاع بينهما سلمياً، وإلا قوتلت التي تبغي على الأخرى"([59]).
أما كتب الحديث الشريف، فقد كثرت فيها الروايات عن
(الخوارج)، وبيان صفاتهم، والأمر بقتالهم. كما وردت أحاديث عديدة في التحذير من
الوقوع في (البغي). ومن هنا نجد أن أغلب كتب الحديث تحوي على باب خاص تحت اسم
(كتاب قتال أهل البغي)([60]).
وأما معنى البغي في الاصطلاح الشرعي، فهو: الامتناع عن
طاعة من تثبت إمامته، في غير معصية الله، بمغالبةٍ، تأوّلاً([61]). وعرّف الحنفية البغاة بأنهم: "قوم لهم شوكة ومنعة، خالفوا
المسلمين في بعض الأحكام، بالتأويل، كالخوارج وغيرهم، وظهروا على بلدة من البلاد،
وكانوا في عسكر"([62]). وقال المالكية: "البغاة هم الذين يقاتلون على التأويل، مثل
الطوائف الضالة، كالخوارج وغيرهم، والذين يخرجون على الإمام، أو يمتنعون من الدخول
في طاعته، أو يمنعونه حقّاً وجب عليهم، كالزكاة وشبهها"([63]). وعرفه الحنابلة بقولهم: "وهم الخارجون على الإمام بتأويل
سائغ، ولهم شوكة، لا جمع يسير... وإنْ فات شرط، فقطاع طريق"([64]).
والعنصر المميّز لجريمة البغي عن غيرها من الجرائم، التي
تقع ضد النظام السياسي، هو التأويل، واعتقاد القائمين عليه بصواب فعلهم، وأنه
موافق للحق([65]). فضلاً عن ضرورة توفر الأركان الأخرى المشكّلة لفعل (البغي)، وهي:
الخروج عن طاعة الإمام الحق، وأن يكون هذا الخروج (مغالبة): "أي باستخدام
القوة والغلبة ضد السلطة الشرعية"([66]).
وهكذا فمعنى (البغي) – الذي يعتبره الفقهاء جريمة
سياسية، تمييزاً له عن جرائم الحرابة وقطع الطريق- ([67])،
من خلال تعريفه الذي تقدم، هو: خروج جماعة من المسلمين، ومجاوزتهم لحدّهم، إلى ما
ليس لهم، أيْ خروجهم عن طاعة الإمام الحق، وأن يكون ذلك بتأويل سائغ، مغالبة، أيْ
باستخدام القوّة والغلبة. ومن خلال هذا التعريف تتضح لدينا أركان جريمة (البغي)،
والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
1-الخروج على الإمام الحق.
2-التأويل.
3-الشوكة، وإعلان القتال ([68]).
ومن هذه الشروط نفهم أن الفقهاء المسلمين ميّزوا بين
(البغي)، وبين غيره من (الجرائم)، التي ربما اشتركت معه في بعض الظواهر، مثل
الردة، والحرابة، والخروج بدوافع العبث، والتخريب، أو الأحقاد والثارات الشخصية.
يقول الإمام (بدرالدين بن جماعة): "فأهل البغي، هم: الخارجون عن طاعة
السلطان، والانقياد إليه، بتأويل، وشوكة تمنعهم. وغيرهم: هم الذين يخرجون عليه،
وليس لهم تأويل، ولا شوكة، أو لهم شوكة بلا تأويل، أو تأويل بلا شوكة، وأحكام
القسمين مختلفة. فإذا خرج على الإمام طائفة من المسلمين، لهم شوكة ومنعة، وقصدتْ
خلعه، أو تركت الانقياد لطاعته، أو منعت حقاً من الحقوق الواجبة، بتأويل أظهرته،
ولم يقدر على ردّها إلى طاعته، إلا بقتالها، فهم البغاة... ولا يكفرون بالبغي، بل
هم عصاة ومخطئون فيما تأوّلوه"([69]). ومن هنا أيضاً تميّز التعامل مع (البغاة) ببعض الأمور، التي لا
نراها في التعامل مع الجرائم الأخرى، فـ "ليس للإمام محاربة الخارجين عليه،
إلا بعد أن يستنفد كافة الوسائل التي يمكن أن تؤدي إلى الإصلاح... فإن قاتلهم،
فقتالهم كدفع الصائل، دفاعاً يبدأ فيه بما يردعهم لا ما يهلكهم، لأن المقصود
تأديبهم وكسر شوكتهم، لا قتلهم وإفناءهم... وكذلك لا يقتل جريحهم، ولا يجوز قتل
نسائهم وذراريهم، إلا إذا قاتلوا... ولا تؤخذ أموالهم، لأنها معصومة... وإذا ترك
البغاة القتال لم يجز قتالهم"([70]). وهكذا فإننا نرى أن
هناك تخفيفاً في أحكام التعامل مع (البغاة)، لا نراه في أحكام التعامل مع المرتدين
والمحاربين، "ذلك أن سبب خروج الأوائل شريف، هو ابتغاؤهم مصلحة الأمّة،
ويقال: اجتهدوا، ولو أنهم انتصروا ربما لقيل هم أهل العدل، فما داموا يهدفون إلى
إرساء حكم الإسلام، فهم يتّحدون مع حكومة العدل في الهدف"([71]). أيْ إن تأويلهم ما
دام سائغاً، أيْ له مبررات شرعية – في نظر أصحابه-، فإن ذلك يمنحهم نوعاً من
المعاملة الخاصة، تميّزهم عن غيرهم من الخارجين بلا تأويل سائغ. بمعنى أن الفقه
الإسلامي عرف تمييز (الجريمة السياسية) عن غيرها من الجرائم العادية، واعتبرها ذات
(باعث شريف)، وعامل مرتكبيها معاملة خاصة.
وفيما يلي سنتحدث عن هذه الأركان، بصورة موجزة:
*معنى الخروج على الإمام الحق: (الخروج) هو خلع الطاعة، وإظهار المعارضة للحاكم،
بالقول والفعل ([72]). والحاكم الذي يوجّه إليه، أوضدّه، فعل الخروج، لا
يعدو أن يكون: إما عادلاً، أو غير عادل. فإن كان الحاكم عادلاً، وكان الخارجون
عليه أصحاب تأويل، فهؤلاء هم (البغاة)، وعلى ذلك اتفاق الفقهاء([73]).. وأما إن
كان الحاكم جائراً، فإن الخروج عليه - إنْ كان بحقّ – لا يعدّ بغياً، بل هو جهاد
في سبيل الله([74]).
يقول الإمام (الماوردي): "إذا بغت طائفة من
المسلمين، وخالفوا رأي الجماعة، وانفردوا بمذهب ابتدعوه، فإن لم يخرجوا به عن
المظاهرة بطاعة الإمام، ولا تحيّزوا بدار اعتزلوا فيها، وكانوا أفراداً متفرقين
تنالهم القدرة، وتمتد إليهم اليد، تركوا ولم يحاربوا، وأجريت عليهم أحكام العدل؛
فيما يجب لهم وعليهم، من الحقوق والحدود.. فإن اعتزلت، هذه الفئة الباغية، أهل
العدل، وتحيّزت بدار، تميّزت فيها عن مخالطة الجماعة، فإن لم تمتنع عن حقّ، ولم
تخرج عن طاعة، لم يحاربوا؛ ما قاموا على الطاعة وتأديه الحقوق"([75]).
وهؤلاء البغاة: لا يجوز للإمام البدء بقتالهم، حتى يبدأوا
هم، وعلى ذلك جمهور الفقهاء([76]). بل على
الإمام أن يعذر إليهم، ويبدأ معهم بأمر الإصلاح، لأنهم مسلمون متأولون، وليسوا
كفاراً. ويبيّن (ابن قدمة) ذلك في قوله: "ولمّا كان المقصود هو كفّهم ودفع
شرّهم، لا قتلهم، فإنْ أمكن بمجرد القول، كان أولى من القتال، لما فيه من الضرر
بالفريقين، فإنْ سألوا الإنظار، نظر في حالهم، وبحث عن أمورهم، فإنْ بان له أن
مقصدهم الرجوع إلى الطاعة، ومراجعة الحق، أمهلهم. قال (ابن المنذر): أجمع على هذا
كل من أحفظ عنه من أهل العلم، فإنْ كان قصدهم الاجتماع على قتاله، وانتظار مدد
يتقوون به، أو خديعة الإمام، أو ليأخذوه على غرّة، ويفترق عسكره، لم ينظرهم
وعاجلهم، لأنه لا يأمن أن يصير هذا طريقاً إلى قهر أهل العدل"([77]).
وبالطبع فإن الإمام الحق، أو الإمام العدل، الذي يعتبر
الخروج عليه (بغياً)، هو الإمام المستوفي لشرائط الولاية، القائم بأمر الله، المنفّذ
لشرعه، الحاكم بالعدل بين الرعية([78])، فهذا
الحاكم تجب طاعته على الرعيّة، في المعروف. فإنْ كان الخارجون على مثل هذا الحاكم
العادل، أصحاب مظلمة يريدون رفعها، أو ظلمٍ يريدون إزالته، فإنّ خروجهم لا يعدّ
(بغياً)، بل هو خروج بالحقّ، وعلى أهل العدل عدم مقاتلتهم، بل على العكس عليهم
إعانتهم، حتى يستمع إليهم الحاكم، ويرفع عنهم ظلامتهم([79]). جاء في
(فتح القدير): "يجب على كلّ من أطاق الدفع أن يقاتل مع الإمام، إلا أن يُبدوا
ما يجّوز لهم القتال، كأن ظلمهم، أو ظلم غيرهم، ظلماً لا شبهة فيه، بل يجب أن
يعينوهم حتى ينصفهم ويرجع عن جوره"([80]).
وفي الحقيقة، فإن هذه صورة مشرقة من صور التنظير الفقهي،
الذي قام به فقهاؤنا الأقدمون، دفاعاً عن حرية (المعارضة)، ليس في القول وإبداء
الرأي فحسب، بل حتى لو وصل بها الحال إلى حدّ رفع السلاح، وإعلان العصيان، طالما
كانت متأولة، وتنطلق من أسباب شرعية، حتى ولو كان الحاكم الذي تخرج عليه حاكماً
عادلاً !. ومن باب أولى، أن يكون الرأي الفقهي مع إجازة الخروج، إن كان الحاكم
جائراً. بل إن من فقهائنا من يذهب إلى تحريم قتال (الخوارج)، الذين يكفّرون
المسلمين، إذا خرجوا على إمام جائر، ما لم يقصدوا قتال المسلمين، ويصولوا عليهم..
ويستندون في ذلك على قول الإمام (عليt) عن الخوارج: (إن خالفوا إماماً عدلاً فقاتلوهم، وإن
خالفوا إماماً جائراً فلا تقاتلوهم، فإن لهم مقالاً)([81]). هذا،
والكلام هنا عن خروج أهل الأهواء والبدع، فكيف إذا كان الخارج في مثل حال الإمام
(الحسينt)، لا شك أنه تحرم مقاتلته، بل إن من الأئمة من يرى وجوب
الخروج معه، ومنهم من يرى جواز ذلك، وغيرهم يدعو إلى الوقوف على الحياد، "إلا
أن الجميع يحرّمون القتال، مع أئمة الجور، ضدّ من خرج عليهم، من أهل الحق"([82]).وقد بحث
(ابن خلدون) في (مقدمته) هذه المسألة، وأكد أن البغي إنما يكون في حالة الخروج على
الإمام العادل، ولذلك فإن (الحسينt) ليس باغياً، بل هو مجتهد، وعلى حقّ، وهو "شهيد
مثاب"([83]).
ولذلك، فإن كثيراً من فقهاء السلف، كانوا "يرون
الكف عن القتال في الفتنة، التي تقع بين المسلمين، حتى وإن كان الإمام عادلاً. ومع
ذلك كله خلط الفقهاء المتأخرون – كما قال شيخ الإسلام – بين جميع هذه الأصناف،
وجعلوا حكمها واحداً"([84]).
* (التأويل) الذي يجوز به الخروج على الحاكم:
التأويل لغة مأخوذ من الأول، وهو: الرجوع إلى الأصل،
ومنه: الموئل، للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه([85]). والتأويل
هو "تفسير ما يؤول إليه الشيء، وقد أولّه تأويلاً وتأولّه بمعنى، وآلُ
الرجلِ: أهله وعياله، وآلُه أيضاً: أتباعه... والإيالة: السياسة، يقال: آلَ
الأميرُ رعيته؛ من باب قال، وإيالاًََ أيضاً: أيْ ساسها وأحسن رعايتها. وآلَ: رجع..."([86]) .
أمّا في الاصطلاح، فالتأويل، عند المتقدمين من السلف،
يأتي بمعنى التفسير، وبيان معنى الكلام، أو المراد بالكلام نفسه. وبهذا الصدد يقول
الشيخ (محمد حسين الذهبـي): إن التأويل والتفسير مترادفان عند السلف. أما مصطلح
التأويل عند متأخري السلف، فيعني: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح،
لدليل يقترن به.. فالمتأوّل هنا مطالب بأمرين: الأول: أن يبيّن احتمال اللفظ
للمعنى الذي حمله عليه، وادعى أنه المراد.
الثاني: أن يبيّن الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه
الراجح إلى معناه المرجوح، وإلا كان تأويلاً فاسداً، أو تلاعباً بالنصوص([87]).
والواقع أن التفسير والتأويل، وإن كانا في البداية بمعنى
واحد، "إلا أنه لم يعد كذلك، بعد انتشار الإسلام، وتطوّر الدولة، وبروز
المدارس الفقهية، أو مدارس التفسير، وعلم الكلام"([88])، حيث أصبح
(التفسير) يطلق على التفسير بالرواية، وأما (التأويل) فاقترن بالمنهج العقلي، الذي
يعتمد على الاستنباط والرأي.
وأما التأويل، الذي هو أحد أركان جريمة (البغي)، والذي
إن توافر عند الخارجين على الإمام، اعتبروا (بغاة)، وإلا عدّوا من المحاربين وقطاع
الطرق، فالمقصود به هو: "الاعتقاد بشرعيّة الخروج على الإمام، وعدم وجوب
الطاعة له"([89]). بـ"أن
يكون لهم في خروجهم عن طاعة الإمام تأويل سائغ، أيْ محتمل، من الكتاب أو السنة،
ليستندوا إليه، لأن من خالف بغير تأويل كان معانداً للحق... يشترط في التأويل أن
يكون فاسداً لا يقطع بفساده، بل يعتقدون به جواز الخروج"([90])، أيْ إن الخارجين على الإمام، هم أهل اجتهاد ونظر،
اعتقدوا – بناء على تأويلهم ونظرهم – بشرعية خروجهم على الإمام، وشرعية الانسلاخ
من طاعته. ذلك أن المسوّغ الذي يبرّر الخروج لا يمكن أن يستند إلى الأهواء
الشخصية، والمطامع الذاتية، المنافية لروح الشرع القويم، بل يجب أن يكون شرعياً،
مهتدياً بالشرع، ومنطلقاً منه، ولو تأوّلاً. "وهذا يعني أن من خرج على
الإمام، رغبة في توفير مصلحة خاصة له، وهو يعلم أنه ليس له مسوغ شرعي في ذلك
الخروج، فهو معاند، وليس غالباً، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء"([91]). ولما كان
(التأويل) أمراً ذاتياً، يعتمد على اجتهاد القائم به، فقد اشترط الفقهاء في
التأويل، أن يكون (سائغاً)، أيْ مقبولاً، بمعنى أن "لا يناقض أصلاً من أصول
الشريعة، ولا يخالف دليلاً من أدلتها"([92])، فمن خرج
على الإمام، ولم يكن تأويله سائغاً، لم يعتبر باغياً، بل مفسداً في الأرض. وقد
أوضح الإمام (النووي): إن" التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنوناً فهو معتبر،
وإن كان بطلانه مقطوعاً به؛ فوجهان: أوفقهما، لإطلاق الأكثرين، أنه لا يعتبر،
كتأويل المرتدين وشبهتهم"([93]). وبهذا يخرج
التأويل الذي لا يستند إلى الشريعة، وإنما توحي به الأهواء.
واشتراط التأويل الشرعي يستهدف – ضمناً – أن لا يكون
"الخروج على الإمام بدافع العبث والتخريب وتخويف الناس، أو مصحوباً بها...
وإنما ليكون بدافع فكرة إصلاحية؛ اعتقد بها أصحابها، فمن أراد أن يحقّق عملاً
صالحاً، فأحرى به أن يبتعد عما هو خلافه من الفساد، فإذا لجأ الخارجون إلى التخريب
والتدمير واستحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، فلا يعتبرون بغاة"([94]). وبهذا
يتبيّن مدى أهمية (التأويل)، كركن من أركان جريمة (البغي)، في تمييز هذه الجريمة
عن غيرها، وما يترتب على ذلك من أحكام وعقوبات.
ومن هنا حدث الاختلاف بين الفقهاء في وصف (الخوارج)،
الذين يكفّرون المسلمين، ويستحلون دماءهم: هل هم بغاة: أم هم كفرة مارقون؟ فالذين
نظروا إليهم على أنهم أصحاب تأويل، حكموا عليهم بـ (البغي)، وقالوا: إنهم بغاة.
والذين رأوا أنهم أصحاب أهواء، وطلاب دنيا، حكموا عليهم بالكفر والفسوق، والإفساد
في الأرض. يقول (ابن قدامة): "الخوارج الذين يكفّرون بالذنب... ويستحلّون
دماء المسلمين وأموالهم... فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين، أنهم بغاة
حكمهم حكمهم، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور الفقهاء، وكثير من أهل الحديث...
وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون؛ حكمهم حكم المرتدين... قال ابن
المنذر: لا أعلم أحداً وافق أهل الحديث على تكفيرهم"([95]) . ويقول صاحب (المغني): "إذا أظهر قوم رأي الخوارج، مثل
تكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين، وأموالهم، إلا أنهم
لم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام... لا يحلّ بذلك قتلهم، ولا
قتالهم، وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور أهل الفقه"([96]).
وهو موقف الإمام (الشافعي) في (الأم)، حيث لا يكفّر
(الخوارج)، قال: "لو أن قوماً أظهروا رأي الخوارج، وتجنّبوا جماعات الناس،
وكفّروهم، لم يحلل بذلك قتالهم، لأنهم على حرمة الإيمان، لم يصيروا إلى الحال التي
أمر الله عز وجل بقتالهم فيها"([97]) . ولا نجد عند (الماوردي)، ولا عند (أبي يعلى)،
تمييزاً بين (الخوارج) وغيرهم، وهذا ظاهر من حديثهما عن (الخوارج)، وعن مواقف
الإمام علي (رضي الله عنه) منهم، ضمن الفصل الذي عقداه للكلام عن (البغي)([98]).
ومع أن نصوص هؤلاء الأئمة صريحة، في نفي الفرق بين
(الخوارج) و(البغاة)، ومع أن الإمام علي (رضي الله عنه) عامل (الخوارج) معاملة
البغاة، ونفى عنهم الكفر، لما سألوه: أكفّار هم؟ فقال: من الكفر فرّوا، فقيل له:
أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: قوم
بغوا علينا([99]). وهذا نصّ
صريح في نفي الكفر عنهم، وإثبات صفة (البغي) لهم، كما أن سيرته العملية مع
(الخوارج)، تبيّن بوضوح أنه لم يميّز (الخوارج) بأحكام خاصة، بل عاملهم معاملة
(البغاة). وكذلك فعل الراشدي الخامس، من بعده، (عمر بن عبدالعزيز).
ومع ذلك، فإننا نجد أن إماماً كـ(ابن تيمية) يجزم بالفرق
بين (الخوارج) و(البغاة)، إذ يقول: "إن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل
العلم، من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم... فإنهم قد يجعلون قتال (أبي
بكر الصديق) لمانعي الزكاة، وقتال (علي) الخوارج، وقتاله لأهل الجمل، وصفين، إلى
غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام، من باب قتال أهل البغي... أما جمهور أهل
العلم، فيفرّقون بين (الخوارج المارقين)، وبين أهل الجمل وصفين، وغير أهل الجمل
وصفين، ممن يعدّ من البغاة المتأولين. وهذا هو المعروف عن الصحابة، وعليه عامة أهل
الحديث، والفقهاء، والمتكلمين، وعليه نصوص أكثر الأئمة، وأتباعهم، من أصحاب مالك،
وأحمد، والشافعي، وغيرهم"([100]).
وبذلك يبدو واضحاً أن الاختلاف في مدلول (التأويل
السائغ)، يرتّب أحكاماً مختلفة، فحيث لم يعتبر (ابن تيمية)، ومن ذهب مذهبه،
(الخوارج) أصحاب تأويل سائغ معتبر في الشرع، حكم بكفرهم، وميّز بينهم وبين (أهل
البغي). وعلى العكس من ذلك، حيث اعتبرهم جمهور الفقهاء أصحاب تأويل سائغ، ذهبوا
إلى أن حكمهم حكم البغاة.
*الشوكة وإعلان القتال:
أجمع الصحابة
على عدم قتال الخوارج، أو البغاة، ما لم يسلّوا السيف، ويصولوا على الناس([101]). وهذا
الموقف يأتي مستنداً إلى تعاليم الشريعة، التي تكفل حق الرأي، والتعبير عنه،
للجميع. فأصحاب المقالات، والفرق، طالما بقوا في حدود الرأي، والتعبير عنه، فذلك
مكفول لهم، ولكن إنْ تجاوزوا ذلك إلى حمل السلاح، وترويع الآمنين، والقتل، فذلك
يخرج بهم من نطاق المعارضة السلمية إلى نطاق (البغي).
وهذا الأمر يبدو جليّاً في مواقف الإمام علي (رضي الله
عنه) مع (الخوارج)، وفي قواعده التي أرساها للتعامل معهم، والتي أصبحت هي الأساس
في فقه التعامل مع (البغاة). قال الحافظ (ابن حجر)، بعد أن أورد أقوال ومواقف
الإمام علي (رضي الله عنه) هذه، في شأن تعامله مع (الخوارج) : "فيه الكفّ عن
قتل من يعتقد الخروج على الإمام، ما لم ينصب حرباً، أو يستعد لذلك"([102]). ويعلق
(السرخسي) في (المبسوط) على الموضوع نفسه، فيقول: "وفيه دليل على أنهم
يقاتلون، دفعاً لقتالهم. فإنه قال: ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا، معناه: حتى تعزموا
على القتال، بالتجمّع، والتحيّز عن أهل العدل"([103]).
ولكن هل التجمّع
والتحيّز عن أهل العدل، يعتبران سبباً كافياً، لاستحلال دماء المسلمين، وقتلهم،
حتى لو لم يباشر هؤلاء المتحيّزون قتلاً ولا قتالاً؟!.. ليس في مواقف الإمام (عليt) مع (الخوارج)، ولا في أقواله، ما يشير إلى أن مجرد
الاستعداد للقتال، أو العزم عليه، موجب لمقاتلتهم، بل على العكس، فهو (رضي الله
عنه) لم يبدأهم بقتال، حتى باشروا حمل السلاح، وترويع الآمنين، والقتل، فعلاً، ولم
يقاتلهم قبل ذلك. ومن هنا، فإن موقف الإمام الشافعي (رحمه الله) - وهو قول أبي
حنيفة، وأحمد، ومالك، وجمهور الفقهاء([104])- الذي يرى
أنه لا يجوز قتالهم حتى يبدأوا بالقتال فعلاً، لأنه لا يجوز قتل المسلم، إلا
دفعاً، هو أقرب إلى الحقيقة، وإلى روح الشريعة، كما فهمها ومارسها الإمام (عليt)، من موقف فقهاء آخرين، يرون أن مجرد الاجتماع
والتعسكّر سبب كاف لقتال (البغاة)، بحجّة "أن الحكم يدار على الدليل، وهو الاجتماع
والامتناع، وهذا لأنّه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم، ربما لا يمكنه الدفع، فيدار
على الدليل، ضرورة دفع شرهم"([105]).
وعلى ذلك مضى الفقه، ومن هنا اعتبرت (الشوكة، وإعلان
القتال) ركناً من أركان جريمة (البغي)، لأن الخروج لا يمكن تصوره، ولا تحقّقه في
الواقع، دون أن يكون للخارجين على الإمام (شوكة) يحسب حسابها، ويخاف منها أن تكون
سبباً في تعكير صفو الأمن، وإثارة الاضطراب والخوف والفتنة في البلاد. ولا يكفي
تحقّق قيام (الشوكة) وحدها، حتى يكون ذلك موجباً لقتالهم، بل لا بدّ من أن يباشروا
ويبدأوا القتال فعلاً، ذلك أن توافر ركن المغالبة، "أيْ استعمال القوة كوسيلة
للخروج عن طاعة الإمام العادل، شرط أساسي في التكييف الفقهي لجريمة البغي. وبالتالي
إذا كان الخروج غير مصحوب بالقوة، لا يتوافر الركن الثاني للبغي.."([106]). يقول (ابن
مفلح) الحنبلي: "وإنْ أظهر قوم رأي الخوارج، مثل تكفير من ارتكب كبيرة، وترك
الجماعة، ولم يجتمعوا لحرب، ولم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا دماً حراماً،
فحكى القاضي عن أبي بكر أنه لا يحلّ بذلك قتلهم ولا قتالهم... وهذا قول جمهور
الفقهاء"([107]).
إن خروج فئة من المجتمع، لأيّ سبب كان، ما لم يكن
مصحوباً بإعداد لقتال، أو مباشرة له، لا يمكن أن يصنّف إلا ضمن الحقوق الأساسية
لأفراد المجتمع، في ممارسة حرية الرأي والتجمّع، وواجب القيام بالأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر. وبالتالي فهو مظهر أو صورة من صور المعارضة السلمية، التي لا
يمكن تجريمها، أو اعتبارها بغياً. فالبغي هو الخروج المسلح، وذلك هو معناه – كما
رأينا – عند مالك، والشافعي، وأحمد، والظاهرية، وجمهور أهل الفقه. فحينما يبدأ
الخارجون باستعمال القوة فعلاً، فذلك هو البغي، "أما قبل استعمالها، فلا
يعتبر الخروج بغياً"([108]).
ولكن ماذا لوخرجت خارجة، وتحيّزت بدار، وتميّزت عن
الجماعة، هل ينتظر (الإمام) استكمالها لاستعداداتها، وتجهيزها لقوتها، ومباشرتها
للقتال، أم أن عليه أن يقطع عليها الطريق، قبل أن تكمل استعدادها، لكي يقمع الفتنة
في مهدها، وقبل أن يستفحل شرها، ويعظم خطرها؟!
يرى فقهاء الحنفية جواز البدء بقتالهم، لأنه لو انتظر
قتالهم ربما لا يمكن الدفع: "قال الزيلعي: وهو المذهب عند الحنفية، لأن النص
جاء غير مقيّد بالبداءة منهم، في قوله تعالى: [فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا] (الحجرات/9)... ولأن
الحكم يدار على علامته، وهي هنا التحيّز والتهيّؤ، فلو انتظرنا حقيقة قتالهم، لصار
ذريعة لتقويتهم، فيدار الحكم على الإمارة، ضرورة دفع شرّهم، ولأنهم بالخروج على
الإمام صاروا عصاة، فجاز قتالهم، إلى أن يقلعوا عن ذلك. وما نقل عن علي (رضي الله
عنه) من قوله في (الخوارج): لن نقاتلكم حتى تقاتلونا، معناه: حتى تعزموا على
قتالنا"([109]).
ونقل (القدوري) (من فقهاء الحنابلة): "أنه لا
يبدؤهم بالقتال حتى يبدءوه، وهو ما رواه الكاساني والكمال. قال الكاساني: لأن
قتالهم لدفع شرّهم، لا لشرّ شركهم، لأنهم مسلمون، فما لم يتوجه الشر منهم لا
يقاتلهم الإمام، إذ لا يجوز قتال المسلم إلا دفعاً، بخلاف الكافر، لأن نفس الكفر
قبيح. وهو ما استظهره بعض المالكية، وهو مذهب الشافعية، وقول أحمد بن حنبل. لأن
علياً أمر أصحابه ألا يبدءوا من خرجوا عليه بالقتال، وإنْ أمكن دفعهم دون القتل لم
يجز القتل. ولا يجوز قتالهم قبل ذلك، إلا أن يخاف شرّهم، كالصائل"([110]).
وفي الحقيقة، فإن الفقهاء يوجبون هنا، في هذه الحالة،
وقبل التفكير في قتالهم، القيام بمحاولة للإصلاح، وذلك بإرسال الوفود إليهم،
لمخاطبتهم، والسؤال عن أسباب خروجهم، إذ ربما أمكن تسوية الأمر، دون قتال ولا
إراقة دماء، وربما أمكن رفع مظلمتهم، أو دفع شبهاتهم، أو - على الأقل - إعذارهم ، وقد يكون ذلك سبباً في
عودتهم، أو عودة بعضهم، إلى الطاعة وجماعة المسلمين، وهو المطلوب. ويستند الفقهاء
في ذلك إلى فهمهم للآية التاسعة من سورة (الحجرات)، التي تتحدث عن حالة (البغي)،
إذ تدعو إلى القيام بالإصلاح، قبل الإقدام على قتال الفئة الباغية: [وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] (الحجرات/9). ويستندون
كذلك إلى السوابق التاريخية التي اختطّها الإمام علي (رضي الله عنه) مع (الخوارج)،
وكيف أنه لم يبدأ بقتالهم، حتى حاورهم، وأرسل إليهم الوفود، فلما سلّوا سيوفهم،
وبدأوا بقتل المسلمين، قاتلهم. يقول الإمام الشافعي(رحمه الله): "إن كانت
لأهل البغي جماعة تكثر... ونصبوا إماماً، وأظهروا حكماً، وامتنعوا من حكم الإمام
العادل... فينبغي إذا فعلوا هذا أن نسألهم ما نقموا، فإنْ ذكروا مظلمة بيّنة،
رُدّت... ولا يقاتلون حتى يدعوا، ويناظروا، إلا أن يمتنعوا من المناظرة،
فيقاتلوا"([111]). وهذا محمول
على مباشرتهم للقتال، أو أخذهم بأسبابه، إذ لا تجوز مقاتلة المسلم، إلا دفعاً، كما
يذكر الإمام الشافعي، وجمهور الفقهاء.
ويقول (المرغيناني) صاحب (الهداية في شرح البداية):
"إذا تغلب قوم من المسلمين على بلد، وخرجوا من طاعة الإمام، دعاهم إلى العود
إلى الجماعة، وكشف عن شبهتهم. لأن (علياً) (رضي الله عنه) فعل كذلك بأهل حروراء،
قبل قتالهم، ولأنه أهون الأمرين، ولعلّ الشرّ يندفع به، فيبدأ به، ولا يبدأ بقتال،
حتى يبدأوه. فإن بدأوه، قاتلهم حتى يفرّق جمعهم"([112]).
وبالطبع، فإن عدم بدئهم بالقتال، لا يعني أن الإمام
ممنوع من فعل ما هو دون ذلك، كالحبس، وغيره. فيَدُ (الإمام) مطلقة، في القيام بكل
ما يمكّنه من إخماد الفتنة، وقطع دابرها، هذا فضلاً عن واجب القيام بالصلح، وإرسال
الوفود، لتفهّم أسباب خروجهم، ورفعها – إن أمكن ذلك –. يقول الإمام (الكاساني) في
(بدائع الصنائع) : "إنْ علم الإمام أنهم يجهّزون السلاح، ويتأهبون للقتال،
فينبغي له أن يأخذهم، ويحبسهم، حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة... وإن لم يعلم
بذلك، حتى تعسكروا وتأهبوا للقتال، فينبغي له أن يدعوهم إلى الرجوع إلى رأي
الجماعة أولاً... فإن أجابوا كفّ عنهم، وإن أبوا قاتلهم"([113])، أيْ بالطبع
عند اشتداد خطرهم، ومباشرتهم للقتال.
ويقول (البهوتي) في (كشف القناع): "ولا يجوز قتالهم
قبل ذلك، لأنه يفضي إلى القتل والهرج والمرج، قبل دعاء الحاجة إليه، إلا أن يخاف
كلبهم (بفتح الكاف واللام)، أيْ شرّهم، فلا يمكن ذلك في حقّهم، كالصائل، إذا خاف
أن يبدأه بالقتل. فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوّفهم بالقتال، لأن المقصود دفع شرّهم،
لا قتلهم، فإنْ فاءوا، أيْ رجعوا إلى الطاعة، تركهم، وإلا لزمة قتالهم، إنْ كان
قادراً، لإجماع الصحابة على ذلك"([114]).
وكلّ هذه النقول عن الفقهاء، تؤكّد اتفاقهم على أن مبدأ
مقاتلة (البغاة) لا يأتي إلا مدافعة، أيْ كردّ فعل على بدئهم للقتال، وإلا فإن
الإصلاح هو المطلوب، لأن المقصود هو دفع شرّهم، لا قتلهم، كما يقول الفقهاء([115]). "إن
قتال أهل البغي هو الخطوة الأخيرة، التي يُلجأ إليها، حينما لا يكون مناص منها، لإعادة
انتظام الأمور في الدولة الإسلامية... فإن قاتلهم، فقتالهم كدفع الصائل، دفاعاً،
يبدأ فيه بما يردعهم لا ما يهلكم، لأن المقصود تأديبهم وكسر شوكتهم، لا قتلهم
وإفناءهم"([116]).
* الخروج، المعارضة، البغي
هل يعتبر (البغي) نوعاً من المعارضة المشروعة، أم أن
المعارضة المشروعة هي المعارضة السلمية فقط؟
لقد رأينا – فيما تقدّم – أن (البغي) هو الخروج بالقوة
(مغالبة)، بغير حقّ، على الإمام الحق. بمعنى أن الفعل المجرّم (الخروج = البغي)،
إنما يستوفي شروطه وأركانه، إذا كان خروجاً على (الإمام الحق). فلو خرجت جماعة، أو
طائفة، ذات شوكة وسلاح، على الإمام العادل، فإن خروجهم يعتبر (بغياً)، إذا كانوا
أصحاب تأويل سائغ، أيْ أن لهم سبباً شرعياً، حسب اجتهادهم، ومن وجهة نظرهم. وأما
إنْ كان تأويلهم غير سائغ، أيْ إنه يناقض أصلاً من أصول الشريعة، أو ينطلق من
السعي إلى توفير مصالح شخصية لهم، وهم يعلمون بطلانها، فإنهم – آنذاك – يعتبرون من
أهل الحرابة، ويعاملون معاملة المفسدين في الأرض. بمعنى أن (البغي) هو جريمة
سياسية، موجهة ضد السلطة والنظام العام، ويستند أصحابه إلى تأويل، يظنونه مبرراً
شرعياً لهم في إعلان العصيان، ولذلك يعاملون – ابتداءاً – كأصحاب تأويل خاطىء،
فيُسعى إلى الإصلاح والتفاهم معهم، عن طريق الحوار، فإن أبوا إلا الاستمرار في
عصيانهم وخروجهم، فإن على (الحاكم) أن يدعهم وشأنهم، ما لم يشكّلوا خطورة على
الدولة، أو يبدأوا بقتال!.
ولكن، ماذا لو كان (الخروج) على (الإمام غير الحق)؟! هل
تنطبق الأحكام نفسها على الخارجين، وهل يعتبرون (بغاة) أيضاً، تجب معونة (الحاكم)
في قتالهم؟! وماذا لو كان (الخروج) على (الإمام الحق) بالحقّ، أي أن لهم تأويلاً
شرعيّاً سليماً، أو مظلمة بيّنة يريدون رفعها، أو منكراً واضحاً يبغون تغييره؟!
إن بعض الفقهاء يجيب بالإيجاب عن ذلك، فهم يرون "أن
الخارج على الإمام يعتبر باغياً، ولو كان خارجاً بحقّ، وسواء كان على صواب، أو على
خطأ، لأن الخروج لا يعتبر طريقاً صحيحاً لإقرار الحقّ، وتصحيح الخطأ"([117]). وقد رأينا
عند الحديث عن (عزل الإمام)، أن هناك تياراً غالباً بين الفقهاء المتأخرين من
السلف، يكاد يصل حدّ الإجماع -كما حكاه
الإمام النووي، وغيره- يرى أن الخروج على الحاكم لا يصحّ في جميع الأحوال، ولو كان
الحاكم ظالماً وفاسقاً، و"سبب عدم انعزاله، وتحريم الخروج عليه – كما يقول
النووي – ما يترتب على ذلك من الفتن، وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون
المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه"([118]). فالسبب
إذاً احترازي، ومبنيّ على النظر، وقراءة الواقع، ومن هنا – وكما يقول جلّ المحققين
والباحثين في هذا الشأن – فإننا نرى أن هذا الاتجاه نحو التحريم المطلق والدائم
للخروج، إنما تبلّور شيئاً فشيئاً عند علماء المسلمين، تحت ضغط الواقع، ونتيجة لما
رأوه من بطش السلطة، وفشل الثورات والقائمين عليها([119]).
إن هذا الموقف المتشدد، لعلماء أهل السنة المتأخرين، من
مسألة (الخروج على الحاكم)، يجب أن يفسّر – وقد فسّروه هم، كما رأينا من كلامهم –
في إطار ظروف العصر، التي كانوا يعيشونها، وإلا فإن أيّ باحث مدقّق سيلاحظ بسهولة،
أن آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول (صلّى الله عليه وسلَّم)، ذات شحنة ثورية
قوية، لا يمكن أن تنسجم مع القول بالصبر السلبـي على ظلم الحاكم، وانتهاكه
للحرمات، وسلبه لأموال الدولة، وقمعه للحريات، وتعطيله للشورى. وإذا كان الله
سبحانه يقول: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا
مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ] (الحديد/25)،
"فإذا كان العدل والقسط من مقاصد نزول الكتب، وإرسال الأنبياء، فكيف يقال بأن
الصبر على القيادة الجائرة مشروع"([120]).
ثم إن الصحابة الكرام، والجيل الأول من المسلمين، قد
أدركوا ذلك تماماً، ومن هنا جاءت ممارستهم منسجمة مع هذه الأصول الشرعية، وعلى
الضد تماماً مما انتهى إليه فقه العلماء المتأخرين، حيث تشير تجربتهم، إلى
مشروعيّة الخروج على السلطان (العادل)، فضلاً عن الجائر. وما (البيانات السياسية)
التي كان يصدرها الخلفاء الراشدون، كأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما)، والتي كانت
تحثّ المسلمين، وتدعوهم إلى ممارسة دورهم في نصح الحاكم، وتقويمه بالسيف، إنْ
أخطأ، أو جار وظلم. وما موقف عثمان (رضي الله عنه) من معارضيه، وسيرة علي (رضي
الله عنه) مع الذين خرجوا عليه، كطلحة والزبير، ومعاوية، ثم (الخوارج)، إلا أمثلة
جازمة على حق (الأمة) المشروع، في ممارسة الرقابة والتقويم، تجاه السلطة الحاكمة.
وهو ما كان معروفاً شائعاً، مارسه كثير من كبار القوم وسادتهم آنذاك، كما هو واضح
في خروج الحسين (رضي الله عنه)، ثم خروج (عبدالله بن الزبير)، من بعده، وخروج أهل
المدينة على يزيد، من قبله، وغير ذلك([121]).
ومن كلّ ما تقدم نخلص إلى نتيجة مفادها: أن المعارضة
المشروعة ليست سلمية بالضرورة، بل يجوز – بل يجب أحياناً – أن تحمل (المعارضة)
السلاح، في سبيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أو لتقويم الحاكم إذا جار، أو
ظلم، أو للدفاع الشرعي عن النفس والمال، ضد ظلم الحاكم وجوره.. يقول الإمام (ابن
حزم) الظاهري: "إذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع، ولا ييئسون من
الظفر، ففرضٌ عليهم ذلك (أيْ: سلّ السيوف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر).
وإن كانوا في عدو، لا يرجون – لقلّتهم وضعفهم – بظفر، كانوا في سعة من ترك التغيير
باليد"([122]). ويقول
الإمام (الجصّاص) الحنفي: "لم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها، سلفهم
وخلفهم، وجوب ذلك، إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث، فإنهم أنكروا قتال الفئة
الباغية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالسلاح، وسمّوا الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، فتنة، إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح، وقتالٍ الفئة الباغية، مع
ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى: [فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللّهِ]، وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره. وزعموا، مع
ذلك، أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرّم الله، وإنما ينكر
على غير السلطان، بالقول أو باليد، من غير سلاح. فصاروا شرّاً على الأمة من
أعدائها المخالفين لها، لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية، وعن الإنكار
على السلطان للظلم والجور، حتى... شاع الظلم وخربت البلاد.."([123]).
وفي الحقيقة، فإن دراسة مواقف وآراء العلماء من مسألة
(المعارضة)، ومسألة تغيير المنكر بالقوة، تبيّن أن الجميع: الذين يحرّمون الخروج
على الحاكم، والذين يجيزونه، يلتقون - في النهاية- على إباحة ذلك، بل والقول بوجوبه، إذا توافرت
الشروط، ووجدت القدرة. لأنها (جميعاً) تنطلق من مبدأ وجوب الأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر، ومن مبدأ حقّ الأمة، وواجبها، في محاسبة الحاكم وتقويمه وعزله:
فالفقهاء الذين حرّموا الخروج، خوفاً من الفتنة، ومنعاً لسفك دماء المسلمين،
انطلقوا من مبدأ الحفاظ على مصالح الأمة، ومن مبدأ (احتمال أدنى المضرّتين)، ولذلك
فإنه إذا أمنت الفتنة، وكان ضرر التغيير أقلّ كلفة من ضرر الصبر على الحاكم
الجائر، فإنهم لا يختلفون في وجوب القيام على الحاكم الجائر، وعزله. وفي ذلك يقول
الإمام (الجويني): "إن المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته... فلا
نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك، لاصطلموا وأبيروا،
وكان ذلك سبباً في زيادة المحن وإثارة الفتن، ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع
وأشياع، ويقوم محتسباً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وانتصب لكفاية المسلمين
ما دُفعوا إليه، فليمض في ذلك قدماً"([124]).
ومن هنا، ولكون (البغي) جريمة تنطلق من أهداف سياسية، في
الغالب، أو لنقل: أهداف إصلاحية، أو –ربما – لرفع ظلم، أو دفع منكر، فإن المشرّع
اعتبر أصحابه (متأولين)، وبالتالي ميّز بينهم وبين (الخارجين) انطلاقاً من مصالح،
أو أهواء دنيوية، أو للإفساد في الارض، فخفّف في عقوبة وأحكام (البغاة)، في حين
جرى التشديد في عقوبة الجرائم الأخرى، كالردّة، والحرابة. "ذلك أن سبب خروج
الأوائل شريف، هو ابتغاؤهم مصلحة الأمة، ويقال: اجتهدوا، ولو أنهم انتصروا، ربما
لقيل: هم أهل العدل، فما داموا يهدفون إلى إرساء حكم الإسلام، فهم يتحدون مع حكومة
العدل في الهدف"([125]).
وهكذا، فالبغي جريمة ضد النظام العام، والسلطة السياسية،
ولكنها – وبسبب أهدافها (الإصلاحية) – تأخذ موقعاً متميّزاً بين الجرائم الأخرى،
وتعتبر – لذلك – من ضمن الجرائم السياسية([126])، التي تدخل
في باب (حقّ المعارضة)، كأحد الحقوق السياسية المهمة في الإسلام.
وبعد،
فإن الحقوق السياسية للأمة، في النظام السياسي الإسلامي، هي باب واسع يحتاج إلى
دراسات عميقة، وجادة، وتأصيلية، وقد اكتفينا بالإشارة إلى بعض هذه الحقوق، التي هي
في تماسّ مباشر مع موضوع بحثنا، للعجز عن الحديث عنها جميعاً، في حيّز واحد، إذ إن
الإحاطة بها يحتاج إلى كتب ودراسات مستقلة وتفصيلية.
وقد تبيّن لنا، من خلال هذا البحث، أن حقّ الأمة في
المشاركة في (الشأن العام) هو حقّ أصيل، يرتقي إلى مستوى الواجبات، إذ هو من
الفروض الكفائية، التي يجب أن تقام، وإلا أثمت الأمة جميعاً. وهكذا رأينا أن (حق
الشورى) هو من الحقوق السياسية المهمة، التي أوجبها الله – سبحانه – على المسلمين، حكاماً ومحكومين، كأساس لنظام
حياتهم، سواء في جوانبها السياسية، أو الاجتماعية، أو سواها.. وانطلاقاً من هذا
الحق، يتأسس حقّ الأمة في اختيار الحاكم، الذي ينوب عنها في القيام بأمرها، في
(حراسة الدين وسياسة الدنيا)، كما عبّر فقهاؤنا الأقدمون.
وعلى أرضية مبدأ (الشورى)، ومبدأ (الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر)، يقوم حقّ الأمة في مراقبة (الحاكم)، ومحاسبته، وعزله – إن
اقتضى الأمر –، انطلاقاً من كون (الحاكم) وكيلاً ونائباً عن الأمّة، وأن الأمّة هي
التي نصّبته، ومن ثمّ فهي التي تملك حقّ عزله، إذا جار أو ظلم.
وعلى الأسس نفسها يقوم (حقّ المعارضة) في الإسلام، بما
يوجبه من الحقّ في إنشاء الأحزاب السياسية، والحقّ في الدفاع عن الحقوق المشروعة،
للفرد والجماعة، تجاه تعسّف السلطة أو ظلمها، والحقّ في القيام بدور (الإصلاح) بين
السلطة، وبين (الخارجين) عليها، وقتال الفئة الباغية منهما..
وبهذا نرى أن المضمون العام لهذه الحقوق السياسية
مجتمعة، يفيد أن الإسلام إنما يسعى إلى تأسيس نظام سياسي ديناميكي فاعل، يقوم على
المبادىء التي أشرنا إلى طرف منها آنفاً، ليفتح بذلك الطريق أمام إيجاد الحكومة
الصالحة، والفرد الصالح، والجماعة الصالحة، التي يتواصى أطرافها، فيما بينهم بالحق
والصبر، ويتناهون فيما بينهم عن المنكر،
ويأمرون بالمعروف، والكل فيها راع، والكل فيها مسؤول عن رعيّته.
الهوامش:
([11])الجرجاني، هو أبو الحسن علي
بن محمد بن علي الحنفي، المعروف بالشريف الجرجاني(740-816) ولد سنة 740 هـ، ودرس
في شيراز. ولما دخلها تيمورلنك سنة 789 هـ فرّ الجرجاني إلى سمرقند، ثم عاد إلى
شيراز بعد موت تيمورلنك، فأقام إلى أن توفي. له نحو خمسين مصنفا، منها: شرح مواقف
الإيجي، ومقاليد العلوم، وتحقيق الكليات، وشرح السراجية، في الفرائض، ورسالة في
تقسيم العلوم.
([14]) انظر: عبدالحميد، د. محسن،
حق المعارضة السياسية في المجتمع الإسلامي، دار إحسان، طهران، (د.ط)، 1994،
ص23-27، حيث يورد المؤلف العديد من آيات القرآن الكريم للاستدلال بها على شرعية
المعارضة في الإسلام، ويقول: "وإذا جمعنا إلى هذه الآيات آيات أخرى كثيرة في
القرآن الكريم، لتحصل عندنا أن التعاون في الوصول إلى الرأي الأصوب، عن طريق الرأي
بالرأي، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالأمر بالقسط، واجب شرعي كفائي.
وأن تمكين هؤلاء من أداء واجبهم الشرعي، من واجبات أولي الأمر، وأن أية إعاقة مقصودة
لأداء ذلك الواجب العظيم، مخالفة شرعية أكيدة"، ص27.
([22]) قميحة، المعارضة في
الإسلام، ص80. وانظر: مصطفى، د. نيفين عبد الخالق، المعارضة في الفكر
السياسي الإسلامي، ص124-125. الريس، النظريات
السياسية الإسلامية، ص315. القاسمي، نظام
الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ص101. غرايبة، الحقوق والحريات السياسية،
ص335-36. المغبشي، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي والوضعي، ص28.
([30]) انظر: قميحة، د. جابر،
المعارضة في الإسلام، ص161 فما بعد. القاسمي، ظافر، نظام الحكم في الشريعة
والتاريخ الإسلامي، ص103. الزين، حسن،
الإسلام والفكر السياسي المعاصر، ص115. عمارة، د. محمد، حقوق الإنسان في الإسلام،
ص101-105. مدكور، د. محمد سلام، معالم
الدولة الإسلامية، ص189-190. الأنصاري، د. فاضل،
قصة الاستبداد: أنظمة الغلبة في تاريخ المنطقة العربية، منشورات وزارة
الثقافة، دمشق، ط1، 2004، ص147 وص150.
([38]) المطيري، الحرية أو
الطوفان، ص61. وانظر:القرضاوي، من فقة الدولة في الإسلام، ص157. الزين ، حسن، الإسلام والفكر السياسي المعاصر، 117- 118
وص126. يقول (أ. فهمي هويدي) : "هناك قطاع عريض من فقهاء المسلمين، يضم عديداً
من أهل السلف والخلف، استقر رأيهم على أن نسيج القيم التي يقوم عليها الخطاب
الإسلامي، وفي مقدمتها الحرية والعدل والشورى، يؤسس قاعدة معتبرة للمعارضة في
الواقع الإسلامي، ولكن الذي يمنعه أولئك الفقهاء ويحذرون من مغبته، هو المعارضة
المسلحة التي تهدد كيان الدولة الإسلامية، وتروع سكانها، أو تمزق وحدتها". هويدي،
فهمي، الإسلام والديمقراطية، مركز الأهرام للترجمة والنشر، القاهرة، ط1،
1993، ص91-92.
([39]) عمارة، الخلافة ونشأة
الأحزاب الإسلامية، ص128. وانظر: حسن، د. حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، دار الجيل،
بيروت، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط13، 1991، ج1 ص297-308. المطيري، الحرية
أو الطوفان، ص49. جعيط، د. هشام، الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر،
دار الطليعة، بيروت، ط4، 2000، ص119.
مصطفى، د. نيفين عبدالخالق، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، ص251.
العمري، د. أكرم ضياء، عصر الخلافة الراشدة، ص415. معروف، د. نايف، الخوارج في
العصر الأموي، دار النفائس، بيروت، ط6، 2006. حيث يذهب الدكتور (نايف معروف) إلى
أن الخوارج وجدوا قبل ذلك، ولكنهم كانوا ينتظرون الفرصة للإعلان عن أنفسهم، انظر:
ص69-75.
([49]) المعارضة كما عرفها الفكر
الغربي، هي دور متناوب تقوم به حيناً جهة ما، وقد تصعد هذه الجهة يوماً ما إلى
(المحطة) ليأتي من كان في (السلطة) ليقوم بدور (المعارضة). فالحياة السياسية
منقسمة بين (المعارضة) و(الحكومة)، والشعب هو الحكم بينهما في النهاية في انتخابات
عامة، يفوز فيها الحاصل على أكبر عدد من الأصوات (الأغلبية) بدور الحكومة، ويبقى
الحاصل على العدد الأقل من الأصوات (الأقلية) في دور (المعارضة)، وهكذا.. انظر:
مصطفى، د. نيفين عبدالخالق، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، ص29. وانظر
أيضاً: حبيب، د. رفيق، الأمة والدولة، ص210.
([73]) انظر: شاكر، د. كاوة محمود،
آلية العلاقة بين السلطة والمعارضة في الإسلام، ص130. مدكور، معالم الدولة
الإسلامية، ص222. الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص337-338. البياتي، الدولة
القانونية، ص332 . المطيري، الحرية أو الطوفان، ص61. مصطفى، د. نيفين عبد الخالق، المعارضة في الفكر
السياسي الإسلامي، ص375. هيكل، الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، ج1 ص64. فروان،
الخروج على الحاكم الجائر، ص108.
([76]) ابن مفلح، المبدع، ج9 ص168.
وانظر أيضا: المطيري، الحرية أو الطوفان، ص170. فروان، الخروج على الحاكم الجائر،
ص110-117. مدكور، معالم الدولة الإسلامية، ص223.
شاكر، د. كاوة محمود، آلية العلاقة بين السلطة والمعارضة في الإسلام، ص143
فما بعد . إسماعيل، د. يحيى، منهج السنة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ص93/202.
([119]) قال الحافظ في (التهذيب)
2/288: "قولهم كان يرى السيف، يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور...
قال: وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك، لما رأوه قد أفضى إلى ما
هو أشد منه" نقلا عن: بن حاج، الشيخ علي، فصل الكلام في مواجهة ظلم الحكام،
ص255. ولبيان آراء هؤلاء الباحثين في هذا الشأن: انظر: المطيري، الحرية أو
الطوفان، ص123 وص163-165. نيفين عبد الخالق، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي،
ص197 و ص305-311 و ص414. أبو جيب، دراسة في منهاج الإسلام السياسي، ص252 و
ص258-263. الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ص163-164 و ص188. الزين،
حسن، الإسلام والفكر السياسي المعاصر، ص13-27 و ص37-52. عودة، الإسلام وأوضاعنا
السياسية، ص130-136. عمارة، المعتزلة والثورة، ص25-28. بن حاج، الشيخ علي، فصل
الكلام في مواجهة ظلم الحكام، ص263. أحمد، د.منظور الدين،النظريات السياسية
الإسلامية في العصر الحديث، ص55 و ص206. الحامد، أبو بلال عبدالله، للإصلاح هدف
ومنهاج، ص81-83 وص9. ياسين، عبدالجواد، السلطة في الإسلام، المركز الثقافي العربي،
بيروت، ط2، 2000، ص87وص259وص288. شاكر، د.كاوة محمود، آلية العلاقة بين السلطة
والمعارضة في الإسلام، ص108وص133.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق