سعد الزيباري
لا
جرم أنّ تفعيلِ الثقافة الذاتيّة بين شرائح المجتمع كافّة من أبجديّاتِ تطوُّر
المجتمع المعاصِر ورُقيِّه، والتثقيفُ الذاتيُّ يقعُ على عاتقِ المؤسّساتِ
الثقافيّة الّتي تضطلعُ بإنتاجِ الفكر النيِّر والثقافة الواعية في تلافيف الوعي
الجمعيّ، وتعملُ على نشرِ الوعي الحضاريّ في قلبِ حركةِ المجتمع النّاهِض، وبثِّ
أولوياتِ الثقافة العمليّة في النسيجِ الاجتماعيّ، لينهضَ كُلّ فردٍ بدورِه في
عمليّة البناءِ الحضاريّ المنشود عن طريق التثقيف الذاتي، وتوجيه الدّوافِع
توجيهاً سليماً، وتحفيز الرّغباتِ تحفيزاً صحيحاً، فالإنسانُ ظاهِراً هو مِرآةُ
دوافعِه باطِناً، و"يكونُ الإنسانُ كما تكونُ دوافِع رغباتِه العميقة، وكما
تكونُ رغباتُه تكون إرادتُه، وكما تكونُ إرادتُه تكونُ أفعالُه، وكما تكونُ
أفعالُه يكونُ مصيرُه"([1]).
فالدوافع العميقة هِيَ الّتي تحرِّك نوازع الفرد، والرغبات هي الّتي توجِّه
إرادتَه، والإرادةُ هي الّتي تكوِّن أفعالَه، والأفعالُ هِيَ الّتي تشكِّل مصيرَه
النهائيّ، فإذا كانتِ القراءةُ هي الرّغبةُ الّتي تملأ أقطارَ قلوبِنا، وجّهَتْنا
إرادتُنا إلى القيامِ بفعلِ القراءةِ المستمرّة، والقراءة الصّحيحة المثمرة هي
الّتي ستحدِّد مصيرَنا، و"إذا كانتِ القراءةُ أهمَّ وسيلةٍ لاكتسابِ
المعرفةِ، وإذا كان اكتسابُ المعرفةِ أحدَ أهمِّ شرُوطِ التقدُّم الحضاريّ، فإنّ
علينا ألاّ نبخلَ بأيِّ جهدٍ يتطلّبُه توطينُ القراءةِ في حياتِنا الشخصيّة، وفي
حياةِ الأُمّةِ عامّةً، فالمسألةُ ليستْ كماليّةً ولا ترفيهيّة، وإنّما هي مسألةُ
مصير"([2]).
ومِنْ هُنا فإنَّ "القراءةَ تستحِقُّ مِنَ الحكوماتِ الاهتمام بها بدرجةٍ
تعادِلُ الاهتمام بقضايا الزراعة أو الصِحّة أو البيئة أو الرياضة أو غير
ذلِك"([3]).
ومن أجلِ إشاعة ثقافة القراءةِ علينا أن نوجِّه الدوافع
نحو القراءة المثمرة، وتكوين عادة القراءة الواعية، و"إنّ عادةَ القراءةِ لن
تتكوّن لدى الإنسانِ إلاّ عندما يشعرُ بشيءٍ مِنَ المتعةِ واللّذة عندما يقرأ،
وهذا لن يكون إلاّ حينَ تكون القراءة عبارةً عن نوعٍ مِنَ الاكتشاف، ونوع من
تنميةِ العقل، وتوسيع قاعدة الفهم"([4]).
والفكرُ الإنساني ينمو ويتطوّر بالقراءة والتثقيف، ولهذا قال العقّاد:
"الكُتُب طعامُ الفِكْر، وتوجدُ أطعمةٌ لِكُلِّ فكرٍ، كما توجدُ أطعمةٌ
لِكُلِّ بنية"([5])،
بها يتأثّرُ الفكرُ صِحّةً وفساداً، واستقامةً واعتلالاً([6]).
تكوين عادة القراءة وتأصيلِها:
ولا غَرْوَ أنّ "تكوين عادة القراءة لا يكون إلاّ
عن طريقِ الممارسة والتمرُّن، والتمرُّن مع الوقت يُنتج الكمالات، والبداياتُ
دائماً شاقّة لكن لا بُدّ منها، وأشقُّ الخطواتِ هِيَ الخطوةُ الأُولى الّتي بها
يخرُج العملُ إلى حيِّز الوجُود بعد بذلِ الجهدِ والمثابرة([7])،
"والاعتبارُ بكمالِ النهاية لا بنقصِ البداية"([8]).
و"مبدأ كُلّ عِلْمٍ نظريّ وعَمَلٍ اختياريّ هو الخواطِر والأفكار، فإنّها
تُوجِب التصوّرات، والتصوّرات تدعُو إلى الإرادات، والإرادات تقتضِي وقُوع الفعل،
وكثرة تَكرارِه تُعطِي العادة. فصلاحُ هذهِ المراتِب بصلاحِ الخواطِر والأفكار،
وفسادُها بفسادِها"([9]).
ومِنَ المقترحاتِ في اغتنامِ الوقت أنْ نخصِّصَ ساعةً مُعيّنة كُلّ يوم نمارِسُ
فيها فعلَ القراءة، ويجب أن تكون هذهِ السّاعة إلزاميّة، بحيث لا نسمحُ لأحد
بالدّخُولِ فيها، أو تضييعِها، ولتَكُنْ في أوّلِ الأمرِ دقائق معدودات مُرتّبة
كُلّ يوم، ثمّ ما نلبثُ أن نزيدَها، فنجعلَها زهاء سّاعاتٍ مُحدّدة، لكن لا بُدّ
مِنَ الالتزامِ التّام بالوقتِ المخصّص للقراءة([10])،
وهذا الوقت يمكن أن يكون وقتاً قصيراً بمعدّل ساعةٍ أو رُبع ساعة من الوقت
يوميّاً، قبل الخلود إلى النّوم، وأن يلتزم بهذا الوقتِ التزاماً تامّاً لا يتخلّف
عنهُ أبداً، حتّى في أصعبِ الظرُوف وأحلك المواقِف.
ومن السابقِ لأوانه أنّ نؤكِّد هنا أنّ تكوين هذهِ
العادة وتأصيلَها يحتاجُ إلى اقتناء الكُتب المجدية، وتخصيص الوقت المناسب،
وبالتالي تهيئة جوِّ القراءة، والمعروف "أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين
إمكانيّة الفهمِ والاستيعابِ وبينَ الأجواء والأوضاعِ الّتي تجري فيها عمليّة
القراءة"([11]).
فمكانُ القراءةِ يجب أن يكون هادِئاً ومُرتّباً بحيث يُتيح لنا القدرة على قراءةٍ
ملؤها التأمّل والتعمّق والتفكّر والتركيز. وأفضلُ أنواع القراءة هي
"القراءةُ الّتي تكونُ من أجلِ توسيعِ قاعدةِ الفهم... إنّ القراءةَ مِنْ
أجلِ الفهمِ، هي تلك القراءة الّتي تستهدِفُ امتلاكَ منهجٍ قويم في التّعامُل مع
المعرفة، وتكسِبُنا عاداتٍ معرفيّةً جديدة، وتلك الّتي تزيدُ في مرونتنِا
الذهنيّة، كما تنمي الخيالَ لدينا، وتجعلُنا نرسمُ صُوراً للأحداثِ
والأشياء"([12]).
الأُسرة ودورها في تكوين عادة القراءة:
مِمّا لا شكّ فيهِ أنّ المحيطَ الأسريَّ يمثِّلُ عاملاً
جوهريّاً في تكوينِ عادة القراءة وتنميتها عند الطِّفل الّذي يُمثِّلُ صفحةً
بيضاءَ وأرضاً خصبة معطاء، وقد بيَّن ذلِكَ الإمام عليّ (كرَّم الله وجهه) في
وصيتِه الشّهيرة لابنهِ الحسن (رضي الله عنه): "وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالاَْرْضِ
الْخَالِيَةِ مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبِلَتْهُ"([13]).
فالكثيرُ مِنَ القُرّاء قدِ ارتبطُوا بعالَم القراءة، وانجذبُوا لسحرِ الكلمةِ،
وذلِكَ لوجُودِهم في أُسَر تحتضِنُ الكُتُب، ولا تستطيعُ على فراقِها صبراً! ومن
هُنا يمكن القول بأنّ دورَ الأُسرة في هذا المجال هو دورٌ حيويّ وخطير إيجاباً أو
سلباً, ونحنُ غالباً ما نجدُ شخصيّاتٍ علميّةً ودينيّةً قَدْ خرجتْ مِنَ الأُسر
المشهودِ لها بالعِلْمِ والمعرفة. وهذا معلومٌ ومشهُود بالاستقراء والملاحظة في
سير رجالاتِ العِلْمِ والفِكْرِ والدِّين([14]).
فما أحرى بنا أنْ نُلِّون نفسَ الطفلِ تلكَ الصفحةَ البيضاء، بترويضِه على عادةِ
القراءة منذ الصغر([15])،
"فَمَنْ شبَّ على شيءٍ شابَ عليهِ"، و"التربيةُ في الصِّغَر
كالنّقْشِ على الحجر، والتربيةُ في الكِبَر كالنّقْشِ على السّدَر".
والطفولةُ هي أفضلُ مراحِل تكوينِ عادةِ القراءة.
والقراءةُ كعادةٍ لا تُولَد مع الإنسانِ، بَلْ لا بُدّ من إنمائِها وغرسِ بذورِها
فيه منذ نعومةِ أظفارِهِ، ولا يخفى ما للأُسرةِ مِنْ أثرٍ فاعِل في شخصيّة الطفل،
سلباً أو إيجاباً، ومِنَ المعلُومِ أنّ المراحِل الأُولى الّتي يمرُّ بها
الطِّفْلُ هي مرحلةُ المحاكاة وتقليد الآخرين، وهو لأفرادِ أُسرتِه، وخاصّة
والدَيْهِ أكثرُ تقليداً ومحاكاة([16]).
ومن هُنا تأتي أهميّةُ وجُودِ القدوة القارئ أو القارِئة للطِّفْلِ داخِل الأُسرة،
فإذا فتحَ الطِّفْلُ عينيهِ على الحياة، ورأى أُمّه أو أباهُ أو أحدَ إخوانِه أو
أخواتِه مُحتضِناً كتاباً يقرأُ فيهِ بينَ الفينةِ والأُخرى، فإنّ تلكَ الصُورة
لَنْ تغيبَ عنه أبداً، وسيعملُ عاجِلاً أو آجِلاً على محاكاتِها([17]).
ويرى الطِّفْلُ أنّ ما يقومُ بهِ الأب، إنّما هو العِلْمُ الأنموذجيّ الّذي يجب
أنْ يحتذي به، لذلِكَ فهو يرى أنّ تصرّفاتِ أبيه كُلّها صحيحةٌ، ولا بأسَ في
تقليدِها، ويشعرُ أنّهُ سوفَ يلقي استحساناً بذلِكَ من لدن أبويهِ ومُجتمعِه([18]).
فالأبناءُ - كما هو معلُومٌ - يُحاكون ويُقلِّدُون آباءَهُم وأُمّهاتِهم، فيما
يُمارِسُون مِنْ أمُور، لذا ينبغي على الآباءِ أنْ يحتضِنُوا الكِتابَ جيِّدًاً،
ويُقَلِّبُوا أوراقَهُ بنعُومةٍ وعناية، ويُقْبِلُوا على قراءتِه بنهمٍ وشغفٍ
واهتمام، وبهذهِ الكيفيّة يمكنهم اجتذاب أبنائِهم نحو الكُتب، وتعويدهم على
القراءة([19]).
وصدق الشّاعِر أبو العلاء المعرِّي (ت449هـ) حين قال:
ويَنْشَأُ نَاشِىءُ الفِتْيانِ، مِنَّا عَلَى مَا كانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
العطشُ المعرفيَّ وظاهرة القراءة السّريعة:
ولكي نواكِبَ الطفراتِ العلميّة والحضاريّةَ علينا أن
نسرِّع من وتيرةِ القراءة، فالمعلُوم "أنّ المعرفةَ تتضاعَفُ كُلَّ خمسِ
عشرةَ سنة - على أبعدِ تقدير - وهذا يعني أنّ الكُتُبَ المنشورة تتحدّى القُرّاء،
وتتطلّبُ منهم المزيدَ مِنَ الاستعداد، والمزيد مِنَ الوقتِ مِنْ أجلِ تحقيقِ
الاستفادة القُصوى. فلو قُدِّرَ للمرءِ أنْ يقرأ في حياتِه ستينَ سنة، وقرأَ في
كُلِّ أسبُوع كتاباً، فإنّهُُ يكونُ قد قرأَ نحواً مِنْ ثلاثةِ آلافِ كتاب، وهو
رقمٌ مُتواضِع جدّاً بالنسبةِ إلى ما هُو منشور"([20]).
وما أحرى بنا أنّ نشير هُنا إلى مدى العطش المعرفيّ الّذي كان يتمتّعُ به ابنُ
الجوزيّ، ذلك العطش الّذي وصفه بقولِه: "وإنِّي أُخْبِرُ
عَنْ حالِي: ما أَشْبَعُ مِنْ مُطالعةِ الكُتُب، وإذا رأيْتُ كِتاباً لَمْ أرَهُ،
فكأنِّي وقعْتُ على كَنْز... ولَوْ قُلْتُ: إنِّي طالعتُ عِشْرينَ ألفَ مُجلّدٍ،
كان أكثر، وأنا بعدُ في الطّلَب"([21]). ونظرة إلى تراثِنا الفكريّ والمعرفيّ تطلِعُنا إلى هذا
التعطّش المعرفيّ للقراءة، وكان قوّتُه الدّافِعة: حبُّ الاستطلاع والمعرفة
والاستكشاف، وقد سُئل عبدالله البخاري عن دواءٍ للحِفْظ، فقال: "إدمانُ النَّظرِ
في الكُتُب". وقال "فنست ستاريت": "عندما نجمعُ الكُتُب فإنّنا
نجمعُ السعادة". على أنّهُ ينبغي التنبُّه إلى أنَّ العِبْرةَ بالفهمِ
والاستيعاب لا بكثرةِ الصّفحاتِ وإنهاء المجلّدات، وكثيرُون أولئكَ الّذين يعانون
من سوءِ الفَهْمِ نتيجةً للسُرعةِ المفرطة في قراءتِهم([22]).
العلاج
بالقراءة أو الببليوثيرابيا:
كان المصريُّون قديماً يقولون إنّ: "المكتبةُ طِبُّ
النّفُوس"([23]).
فالقراءة منذ فجر التّاريخ كانت وسيلةً
مِنْ وسائِل العِلاج، وقد عُرِفَ حديثاً - وذلك في سنة 1938م تحديداً - بـ"Bibliotheraby/ الببليوثيرابيا" أو العِلاج بالقراءة، ويتمثّل في
"عِلاجِ المريضِ مِنْ خلالِ قراءاتٍ مُختارة"([24]).
ولا شكّ أنّ "العِلاجَ بالقراءة مِنْ شأنِه أنْ يعملَ على تهذيبِ سلُوكِ
الإنسانِ والارتقاءِ به لأن يكون عُنْصراً فاعِلاً في خدمةِ مُجتمعِه، وذلِكَ بعدَ
تزويدِه بالمعلُوماتِ الكفيلةِ بتغييرِ تفكيرِه وسلُوكِه الخاطئ"([25]).
وقد ثبتَ علميّاً "أنّ القراءةَ الهادِفة المنتظمَة لها مردودٌ إيجابي، ويسهمُ
في تحسينِ الوضع الصحيِّ والسلُوك الشخصيّ بشَكْلٍ فعّال. وقد أظهرتِ الدِّراساتُ في
هذا المجال أنَّ هُناكَ إمكانيةً لتبديدِ حالات الإحباط بتأثير ما يُزوّد به الأشخاص
من شحناتٍ روحيّة عالية جرّاء انتياب حالةِ الشعُورِ بالانتشاء والاستمتاعِ القِرائي
المكتسَب مِنْ معارفِ الموادِّ المقروءة، وبالتالي تهيئة النفُوس لمواجهةِ مُشكلاتِ
الحياةِ ومُنغصّاتِها، ووضعِ الحلُول المقبُولة لها، وهذا ما يُطلق عليه العلاج بالقراءة"([26]).
وقد أكّد الخبيرُ في هذا المجال الدكتور شعبان خليفة، بقولِه: "إن المؤمنين يُدْرِكون
تمامَ الإدراك أنَّ الله سبحانه وتعالى يعرفُ النّفْسَ البشريّةَ، ويُحيط بها، لأنّهُ
الخالِق لمخلُوقاتِه، والعليمُ بما يحتاجون إليه، قال تعالى: [أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ
وَالأَمْرُ]([27])،
لذا فإنّ الباري - عزّ وجلّ - عندما يصف هذهِ النّفْسَ ويبيِّنُ علاجها، فإن هذا العلاج
هو العلاجُ الشافي والكافي لها. وشرط التداوي بالقرآن الكريم هو الإيمان بما ورد فيه،
والاعتقاد في قدرةِ آياتِه على الشِفاء حين تُتلى في موضعها الصّحيح([28]).
قال تعالى: [وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِيْنَ]([29]).
القراءة التحليليّة فيما وراء النصوص:
وما نريدُه هو القراءة التحليليّة فيما وراء النصُوص،
والّتي ترفعُ درجةَ الفهمِ وتعمِّق الإدراك وتوسِّع المدارِك، "فالنصُّ قد
صارَ يُنْظَر إليهِ اليوم على أنّهُ أشبهُ بحدثٍ مؤجّل التحقّق، وخارِج دائرة
الإنجاز، ما لم تتمّ قراءتُه"([30]).
فالنصُّ الجيِّد هو النصُّ الّذي يشتمِلُ على فراغاتٍ معرفيّة، وملء هذهِ الفراغات
مِنَ الآنِ فصاعِداً صارَ مِنْ مُهِمّةِ القارئ الجيِّد، وحينَ يشرَعُ القارئ في
سدِّها تبدأُ رحلةُ التّواصُل بينَهُ وبينَ الكاتِب([31]).
فالقراءةُ القائِمة على الفهمِ والاستيعابِ مِنْ أشقِّ أنواعِ القراءة وأكثرِها
فائدة، لأنّ فيها تحسيناً لفهمِ القارئ والارتقاء بمستواه نحو أُفق الكتاب
والمؤلِّف([32]).
وعليهِ فالمثابرةُ على القراءةِ، والحماسةُ في
مُتابعتِها سمةٌ مهمّة مِنْ سماتِ القارئ الجيِّد... والقارئ الذي يعتقدُ أنّهُ
بقراءتِه شيئاً نافِعاً، إنّما يكونُ في عبادة مِنْ أعظمِ العِباداتِ، لا بُدّ أن
يندفعَ بقوّة إلى امتلاكِ روحِ الدّأبِ، وينبجسَ في نفسِه وَلَعٌ بالقراءةِ
والاطّلاع. وغيابُ هذا الشعُور كان ذا أثرٍ كبيرٍ في عزُوفِ كثيرٍ مِنَ النّاسِ
عنِ اصطحابِ الكتابِ ومُعاناةِ قراءتِه([33]).
إنّ كثيراً مِنَ النّاسِ لا يحتاجُ إلاّ إلى الشرارةِ الأُولى حتّى يبدأَ مسيرةَ
القراءة، وبعدَ ذلِكَ سيُؤدِّي التّراكُم المستمرّ لمعلُوماتِه إلى إحساسِه
بمباهِج المعرفة، وسينمي ذلِكَ فيهِ الشعُور بالثقةِ والاعتزاز، وسيمثِّلُ كُلّ
ذلِكَ الوَقُود المطلُوب لمتابعةِ رحلةِ القراءة([34]).
وما يثيرُ حبَّ القراءة لدى الإنسان هو أنْ "يجمع القارئ ما يشدُّ انتباهَهُ،
ويقعُ في نفسِه موقِعاً جميلاً مِنْ قاعدةٍ جامِعة وقصّة مؤثِّرة وحُكْم مهم كان
يبحثُ عنه ولمحةٍ تربويّة، فتجتمِعُ لديهِ بعد حين حصيلةٌ ثمينةٌ وكنزٌ نفيس من
هذهِ الفوائِد، فإذا جمعها وفهرسها تكوّن عنده سِفْرٌ ضخم كُلّما نظرَ فيه استأنس
به واستطعمَ مذاقه، وهُناك عددٌ مِنْ مُصنّفات العُلماء هي عبارةٌ عن فوائِد حصلتْ
لهم أثناءَ الطّلَب والبحث والقراءة جمعُوها وكتبُوها أو خواطِر قيّدُوها
ودوّنوها. ومِنْ ذلِكَ كتابُ "بدائِع الفوائد" لابن القيم، و"صيد
الخاطِر" لابن الجوزي"([35]).
نريدُ أنْ نفتحَ العالَم ونحنُ لا نفتحُ الكتاب:
فلا نغالي إذا قُلنا إنّ "المجتمعَ الّذي يتنافَسُ أفرادُه
على شراءِ الكُتُب، لا بُدَّ أنْ يتفوّقَ على المجتمعِ الذي يتنافَسُ أفرادُه على شراءِ
الهواتِف النقّالة"([36])!
هذا هو الحكمُ الصحيح على المجتمعات، ولهذا، قيلَ لأرسطو: كيفَ تحكمُ على إنسانٍ؟
فأجابَ: أسألهُ كَمْ كتاباً يقرأ، وماذا يقرأ! ويُروى أنّ رَجُلاً كان يَتَبَخْترُ
أمام سُقراط، مُتباهياً بجمالِ هيئتهِ وأناقةِ مظهرِه، فقالَ لهُ سُقراط: تكلّم حتّى
أراك! وقال بن جونسون: "اللّغةُ هِيَ أكثرُ ما يُظْهِر المرء، فلتتكلّم حتّى أراك".
فقيمةُ الإنسانِ في مخبره وليسَ في مظهره، ورُقي الأمم في رُقي الكتبِ التي
تقرأها، وهذا ما أكّدهُ "نزار قبّاني"، بقولِه: إذا أردتّ أنْ تعرفَ رقيَ
أُمّةٍ فانظرْ إلى الكتُبِ التي تقرأها! ففي الدولِ العربيّة أكثرُ الكتُبِ مَبيعاً
هِيَ كتُبُ الطّبخ وتفسير الأحلام، وهذا دليلٌ على أنّنا أمّةٌ تأكلُ وتنام! وفي
هذا المعنى قال الدكتور علي الوردي: "أُمّةٌ تأخذُ دينَها من مُفسِّري الأحلام
هي قطعاً أمّةٌ نائمة"!
فهناك فرقٌ شاسِع بينَ أُمّةٍ مشغُولةٍ بتفسيرِ الأحلام وبينَ
أُمّةٍ مشغُولةٍ بتحقيقِها! وهناكَ بَوْنٌ واسِع بين مجتمعٍ يَزْدري القراءةَ،
ويسخرُ مِنَ القُرّاء، وقد لا يرى أفرادُه المكتبةَ طيلةَ حياتِهم، وبينَ مُجتمعٍ
القراءَةُ ديدنُه، والكتابُ أنيسُه، والمكتبةُ صومعتُه! فالحضارةُ كامنةٌ في
القراءة؛ لهذا كانتْ أوّلُ كلمةٍ أُلقي على رَوْعِ الرسُولِ الكريم (عليهِ
الصّلاةُ والسّلام) هِيَ كلمةُ "اقرأ"، فبالقراءةِ تتوسَّعُ آفاقُنا،
وتتعمَّقُ أفكارُنا، وتسمُو مدارِكُنا، وتتحرّرُ إراداتُنا، فـ"القراءةُ
فعاليّةٌ نظرَ إليها الحاكِمُون بعينِ الفتُورِ دائِماً. لم يأتِ مِنْ قبيلِ
الصُدفةِ تمريرُ القوانين ضِدّ تعليمِ العبيد القراءةَ في القرنِ التّاسِع عشر،
حتّى قراءة الكتاب المقدّس، فَمَنْ يستطيعُ أنْ يقرأَ الكتابَ المقدّس، سيتمكّن
أيضاً من قراءةِ كُرّاسٍ يدعُو إلى إلغاءِ الرقّ. إنّ الجهود والحِيَل التي
اجترحها العبيدُ ليتعلّمُوا القراءةَ، بُرهانٌ دامِغ على العَلاقةِ بينَ الحريّة
المدنيّة وسُلطة القارئ، ودليلٌ على الخوفِ الّذي تثيرهُ تلكَ الحريّة وتلكَ السُلطةِ
في نفُوسِ الحُكّام على ضروبهم كافّة"([37]).
وليسَ بخافٍ على أحد "أنّ الحُكّام الدكتاتوريِّيْنَ يخافُون الكُتُب أكثرَ
مِنْ أيِّ اختراعٍ بشريّ آخر على الإطلاق. ولذا نرى أنّ القُوّة المطلقة لا تسمحُ
إلاّ بنوعٍ واحِد مِنَ القُرّاء فقط، أي النوع الرّسمي. وبدل المكتباتِ الكامِلة
الحافلة بالآراء المتنازَعة لا يُراد الإبقاء إلاّ على كلمةِ الحاكِم بأمره"([38]).
كتبَ فولتير: الكُتُب "تُشَتِّتُ الجهل، هذا الحارِس الأمين والضّامِن الحريص
للدُّولِ ذاتِ الأنظمة البوليسيّة"([39]).
هذا، وقد سُئِل فولتير أيضاً عَمَّن سيقودُ الجنس البشريّ؟ فأجاب: "الّذين
يعرِفُون كيفَ يقرأون"!
التعليم هي الوسيلةُ الأساسيّة للتقدُّم:
هذا؛ وقد نظرَ "كوندرسيه" إلى التعليم على
أنّهُ الوسيلةُ الأساسيّة للتقدُّم، لأنّهُ يقومُ على تربيةِ العقلِ، وتفجيرِ
طاقاتهِ في الكشفِ عن قوانين الطبيعة، كما يقومُ على إرساءِ أرضيةٍ للتنافُسِ
الاجتماعيّ على أساسِ الأهليّة العقليّة، تفتحُ البابَ أمامَ الجميع لتحقيقِ
المساواةِ والعدالة، وتكافؤ الفُرَص. باختصار كانتْ قيمةُ التعليمِ كُلّها نابعةً
مِنْ فكرةِ الحُريّة الّتي يُعطيها للفردِ وللمجتمع، وهو رمزُ هذهِ الحريّة التي
تقفُ على طرفٍ نقيض مِنْ نظامِ الطوائِف والطبقاتِ المغلقة والثابتة الّتي قامَ
عليها النظامُ الإقطاعيّ. ولأنّ التعليمَ هُوَ الحُريّة، فهو أيضاً وبالضرورةِ
أصلُ التقدّم وقاعدته([40]).
لذا، فما أحرى بنا أن نجعلَ فِكْرَنا مُضيئاً بشعلةِ القراءة وزناد التفكير! حتّى
تتوسّعَ أفكارُنا، وتضيقُ عباراتُنا من غيرِ فائدة، ولهذا قال النفريّ:
"كُلّما اتّسَعَتِ الفكرةُ ضاقتِ العبارةُ". فالقراءةُ - بعبارةِ جون
لوك - تزوِّدُ عقولَنا بموادِّ المعرفةِ فقط، ولكنّ التفكيرُ هُوَ الّذي يجعلُنا
نملكُ ما نقرأهُ.
ومن يريدُ معرفةَ نفسهِ فليفتحْ كتاباً، والكتابُ الجيِّد
هو الّذي يُحَفِّزُنا إلى العمل. فـ"اجعل ما في كتُبِكَ رأسَ مالِكَ، وما في
صدرِكَ للنفقة"، والقراءةُ - بتعبيرِ بنجامين فرانكلين - تصنعُ رَجُلاً كامِلاً،
والتأمّلُ رَجُلاً عميقاً، والمحادثةُ رَجُلاً واضِحاً. هذا، وقد قيلَ لسُقراط:
أَمَا تخافُ على عينيكَ مِنْ إدامةِ النّظرِ في الكُتُبِ؟ قال: إذا سلمتِ البصيرةُ
لم أحفَلْ بسقامِ البَصَر! فالكتبُ هي ثروةُ الدنيا المخبوءة، وميراث الأجيال
والشعُوب، وهي إرثُ الإنسانيّة الأعظم، وهِيَ "الذاكرةُ
الوحيدةُ المؤكّدة المستمرّة للفكرِ الإنساني"([41]).
وهي وسيلةٌ للتفكيرِ الأصيل، ومُستودع
المعرفةِ الرّصينة، ومعلِّمُ الإنسانِ الصّامِت، و"هو الجليسُ الّذي لا
يُطْرِيكَ، والصّديقُ الّذي لا يُغْرِيك.. يُطيل إمتاعَكَ، ويَشْحَذُ
طِباعَكَ"([42]).
ولا غَرْوَ أنّ "القراءة تُسْهِمُ بدرجةٍ كبيرة في صَقْلِ شخصيّة الإنسان،
والارتقاء بطريقةِ تفكيرِه، ورسمِ واقعِه الاجتماعيّ، كما تسهمُ في تنميةِ
الاتِّجاهاتِ والقيم المرغوب فيها لدى القرّاء"([43]).
وكلُّ هذا يدفعُنا إلى أنّ نعملَ سويّةً وبجد على نشرِ عادةِ القراءة وترويجِها
بين أجيالنا الطّلبة الّذين يُعانون من مرضِ العزوفِ عن القراءة، ذلِكَ العزوفُ
الّذي يمكن تعليله: بطُول المنهج الدراسيّ، ذلِكَ أنّ التفرُّغ الكُليّ للمنهج
الدراسيّ لا يتيحُ للطّلبةِ وقتاً لممارسةِ القراءة الحُرّة، كما لا يوجدُ تعاون
حقيقي بين البيتِ والمدارس لتعزيزِ هذه العادة، إضافةً إلى أنّ القراءةَ الحُرّة
لا تكون عادةً ضمن النشاطِ التعليميّ في المدارس ولا في الكُليّات، كما أنّ
الطلبةَ نادراً ما يجدون مِنْ لدن مُدرِّسيهم التشجيع والتّحفيز على مُمارسةِ
القراءة الحُرّة([44]).
وهذا لا ينفي في الوقتِ عينهِ وجُودَ مدرِّسين أكفاء يهتمّون بالقراءة الحُرّة،
ويُشجِّعون الطلبة على فعلِها، وهؤلاءِ المدرِّسُون هُمْ دائماً ما يكونُون على
قَدْرٍ كبير مِنَ الثقافة والمعرفة([45]).
ومِمّا لا شكّ فيهِ أنّ القراءة الحُرّة هي أهمُّ وسيلةٍ للاطّلاعِ على كُلِّ
جديدٍ، ومعرفةِ كُلّ ابتكارٍ يحدثُ في هذا العالَم، فضلاً عن توسيع الاهتماماتِ
الفكريّة والذاتيّة، وتحسين مُستوى الطلبة الدراسيّ([46]).
أزمة الكتب في عالم الإنترنت:
ولكنَّ الكتُبَ في عالمِنا اليوم أصبحتْ تندبُ حظّها؛
بعد أنْ تركها النّاسُ من أجلِ شبكاتِ التواصُلِ الاجتماعيّة التي تقتلُ الوقتَ
والتفكيرَ معاً، ومن هنا وجبَ على القائمين بإدارةِ النظمِ التعليميّة إعادةِ
النظرِ في المناهِج التعليميّة، وتوجيهِ الطلبةِ إلى القراءةِ من جديد، لأنّها
أسُّ التعليم الصحيح، وقبل ذلك لا بُدّ من إعادةِ الاعتبار للمعلِّم ومكانتهِ
الاجتماعيّة، "فقد أصبح المعلِّمُ اليوم الأنموذج الاجتماعيّ الرديء، الفقير،
المهزوم، الّذي يدفعهُ العَوَزُ، إلى مواقِف ومُمارسات، قد تزري بالقضية
التعليميّة"([47])، فالمعلِّمُون في بلادنا ببالغِ الأسى والأسف، قد
أصبحُوا مِنَ الأصناف الّتي تستحقُّ الزكاة، ولهذا قيل: "ماذا تتأمَّلُ من
مُجتمعٍ يكونُ فيهِ المعلِّمُ والمدرِّسُ والأُستاذ الجامعيّ مِنَ الأصناف الّتي
تستحِقُّ الزكاة. إنّها همجيّةُ الاستخفافِ بالعِلْم". وتحضرُني في هذا
المقام مقولة مهمّة لـ"براين غرين" مفادُها أنه: "حينَ يبدأُ
أطفالُنا بالنّظرِ إلى العُلماءِ كقدوةٍ ومَثَلٍ أعلى كما ينظرُون الآن إلى
المطربينَ والممثلينَ حينها فقط ستبدأُ حضارَتُنا بالتطوُّر نحو مرحلةٍ
جديدة!"، أمّا إذا نظرُوا إلى عُلمائهم نظرةَ استخفافٍ وتهكّمٍ واستهزاء فإنّ
العصُور الحجريّة ستكونُ في انتظارِنا على أبوابِ مُستقبلِنا الآجل، وخاصّة إذا
عرفنا أنّنا أمّة تلبسُ مِمّا لا تنسج، وتأكلُ مِمّا لا تزرع، وتشربُ مِمّا لا
تعصر! فنحنُ مجتمعٌ استهلاكيّ إلى درجةٍ أصبحنا معها عالةً على الكوكبِ الأرضيّ،
نستهلكُ فقط دون أن نُنتج شيئاً لأبنائِنا وأحفادِنا.
الشهادة الجامعيّة والقيمة العلميّة والماديّة:
ليس سِرّاً أن نقولَ إنّ المعلِّمُ والمدرِّسُ والأستاذ
الجامعيُّ بدأوا يشعرُون اليوم أكثر من أيّ يومٍ مضى أنه لم يعدُ لشهادتهِم قيمة،
وأصبحوا يتجرَّعُون تلك الحقيقة المرّة التي أُعلن عنها مُؤخّراً، وهي: أنّ
"الشهادةَ الجامعيّة هِيَ الشيءُ الوحيدُ الذي دَفَعْتَ ثمناً باهِضاً مِنْ
عُمرِكَ لأجلِها، والكارِثةُ أنّها لا تفيدُكَ بشيء"! لأنّ "الشهادةَ تحوّلتْ
إلى شهادةٍ على البِطالة"([48]).
نعم، يا لَلْكارِثة! سنواتٌ من المشقّة والإرهاق، وسَهَرِ الليل والنّهار،
ومُقاساةِ الحرِّ والبَرْد، وبذلِ الغالي والنفيس مِنْ أجلِ هذهِ الشهادةِ التي
كُنْتَ تحلُمُ بها في منامِكَ، وتراها أغلى ما تتمنّاهُ في مسيرةِ حياتِكَ
التعليميّة، ولكنّك تصطدمُ بصخرةِ الواقِع القاسية: الشهادةُ لم تَعُدْ ذات قيمة،
بَلْ أصبحتْ شيئاً بالياً لا يُجدي نفعاً ولا يدرُّ مالاً! فلماذا إذاً، أركضُ
وراءَ شهادةٍ لا تُطْعِمُ خُبْزاً، ولا تحسِّنُ وَضْعاً، نعم، لأجلِ ماذا أبذلُ
قُصارى جهدي في سبيلِ شيءٍ جُرِّد من القيمةِ وانْتُزِعَتْ منهُ المكانة؟!
والجواب: لأجل القيمة التي تمتلكها، نعم، لأجلِ هذهِ القيمة فأنت تبذل جُهدَك
وتكابدُ فكرَكَ! فعلى أصحابِ الشّهاداتِ أنْ يُكافِحُوا مِنْ أجلِ قيمتِهم
الضّائعة تحتَ دُولابِ القهرِ والاستعباد، وقد أرشدنا إلى هذهِ الحكمةِ عالِم
الفيزياء الشهير "ألبرت أنشتاين"، حينَ قال: لا تكافِحْ مِنْ أجلِ النّجاح،
بَلْ كافِحْ مِنْ أجلِ القيمة! فالقيمةُ العلميّة التي ينالها التدريسيُّون في
درُوبِ العلمِ والمعرفةِ تكسبهم فخراً، وتمنحهم سُلطةً أعلى من جميع السلطاتِ،
وإنْ جُرِّدوا مِنَ السُلطةِ الماديّة، وكيف لا وهُمْ يمثّلُون حجرَ الزاوية في
بناءِ المجتمعاتِ الإنسانيّة وتطوُّرِها، هذا، "وإنّ جزءاً من شُهرةِ
الجامعاتِ المعرُوفة عالميّاً تأتي مِنْ شُهرةِ الأساتذةِ الّذين يدرسُون فيها.
لهذا، فإن توفيرَ أقصى ما يُمكن مِنَ التقديرِ والرفاهية للأساتذة الجامعيين فضلاً
عن المعلِّمين قد حدتْ ببعضِ البُلدانِ الأوروبيّة إلى عدمِ تحديدِ راتبٍ شهريّ
مُعيّن للمتميِّزين منهم، مهما بلغ هذا الرّاتِب، بل يجري تزويدهم
بـ"شيكات" ليصرفوا ما يشاءون منها دون حِسَابٍ أو مُساءلة"([49]).
القراءة وأثرها في توعيه المجتمع:
لا جرمَ أن الضرورةَ الحضاريّة تستدعي العملَ على توعية
البنى المجتمعيّة فكريّاً وثقافيّاً من خلالِ نشر فقهٍ حضاريّ بينَ أبناءِ
المجتمع، وخاصّة بينَ الطبقةِ التّي تُسْهِمُ في العمليّة التعليميّة، أي تلك
الّتي تعملُ في مجالاتِ التربية والتّعليم، لأنّ الثقافة الواعية المنضبطة تعدّ
نقطة ارتكازٍ حضاريّة، تقومُ على أساسِها معالِمُ النهضة الفكريّة والعمرانيّة،
وتعملُ على تفعيل العناصِر المجتمعيّة وتثويرها من أجلِ ترشيد الإنتاج وتنميتِه.
فالوعي الثقافي الرشيد هو الّذي يدفعُ العمليّة التعليميّة نحو التقدُّم، والنظريّاتُ
التعليميّة الحديثةُ تقومُ على قاعدةِ "التثقيف الذاتي"، أكثر مِنَ
"التعليم الآلي" المدرساني، وذلِكَ من خلالِ إعمالِ العقل وتنشيطِ
فعاليّته، وتشغيلِه من خلالِ دراسةِ الكُتب ومُتابعة ما يجري في العالَم من
مستحدثاتٍ أو طفراتٍ علميّة وإبداعاتٍ ثقافيّة، والاستفادة منها في المشرُوع
الثقافي الطمُوح. والحقّ أنّ "القدراتُ الذاتيّة هي قدراتٌ ثابتة لا تزول،
لأنّها ترتكِزُ على المعارِف، ومعرفة النّفس بالذات... إنّها تجذِبُ النّاسَ
إليكَ، وتقرِّبُهم منكَ، وتسوقُ لكَ الأشياءَ الّتي تريدُها. إنّها تُسْحِرُ النّاسَ،
وتسوقُ المواقِف والظّرُوف لتعزِّزَ رغباتِك"([50]).
والسؤالُ كيف نتمكّن من تطبيقِ قانون الطّاقة الكامِنة المحضة وكيف نصلُ إليها؟
والجواب إنما نصلُ إلى حقلِ الطّاقة الكامنة خزّان الإبداع، مِنَ خلالِ الطّرُق
الّتي تقودُ إليهِ، وهي: التدرُّب اليوميّ على الصّمْتِ والمناجاة، والتأمّل
والتعمّق في الأشياء، وعدم الظنِّ بالآخرين أو اتخاذ الأحكامِ عليهم. "فلن
أحكمَ على أمرٍ أبداً أيّاً كان الحدث"، وقضاء وقتٍ في الطبيعة، والتحادث
معها بانطلاقٍ وعفويّة([51]).
فنحنُ عبرَ هذهِ الطرق نصلُ إلى العقلِ المبدع، المطلق، الفيّاض، الزاخِر، السخيّ،
الوافِر، الثريّ الّذي لا حدودَ له. وبعد ذلِكَ نصمِّمُ إمكانيةَ النشاط الحركيّ([52]).
العطاء رمز الإنسان النّاجح:
من قوانين النجاح الإنسانيّ قانون الأخذ والعطاء،
فالكونُ يعملُ من خلالِ التبادُل الديناميّ. والحياةُ في جريانِها، ليستْ إلاّ تفاعُلاً
مُنسجِماً مع جميعِ العناصِر والقوى التي تنسِّقُ حقلَ الوجُود. هذا التّفاعُل
المنسجِم للعناصِر والقوى في حياتِكَ يعملُ بوصفهِ قانون عطاء، لأنّ جسدَكَ
وعقلَكَ والكون في تبادُل دينامي ثابت على الدّوام، فإيقاف تدفّق الطّاقة هو أشبهُ
بإيقافِ تدفّق الدّم في الشرايين، وعندما يتوقّفُ الدّمُ عنِ التدفّق، يبدأ
بالتخثّر والتجلّط، ليتجمّد ويتوقّف عنِ الحركة([53]).
فكلّما أعطيتَ أكثر، تلقيْتَ أكثر، لأنّكَ في هذهِ الحالة تحافِظُ على الوفرة في
الكونِ المحيط في حياتِك([54]).
فأيُّ شيءٍ لهُ قيمةٌ في الحياةِ يتكاثرُ كُلّما أعطيته، وذلِكَ الّذي لا يتكاثرُ
من خلالِ العطاءِ لا يستحقُّ العطاءَ ولا التلقِّي. إذا شعرْتَ في فعلِ عطاءٍ
أنّكَ خَسِرْتَ شيئاً، فإنّ هذهِ الهِبة لَمْ تُعْطَ في الحقيقة، ولا تسبّب أي
زيادة، وإذا أعطيتَ بحقدٍ أو ضغينة، فلا طاقةَ وراءَ هذا العطاء([55])!
فالقَصْدُ من وراءِ الأخذِ والعطاء هو الشّيء الأهمّ. يجب أنْ يوجَدَ القَصْدُ
دائِماً ليُحْدِثَ حالةً مِنَ السّعادة عندَ المعطِي والمتلقِّي، لأنّ السّعادةَ
هِيَ مُساعِدٌ للحياةِ واستمرارِها، ومِنْ ثمَّ تحدثُ الزيادةُ والعلاوة. عندئذٍ
تنمو الطّاقة الكامنة وراء ذلِكَ العطاء وتتكاثر([56]).
لذا، إذا أردتَّ أن تنعمَ بكُلِّ ما هو حسن وجيِّد ومُفيد وخيِّر في الحياة،
فتعلّم بصمت كيفَ توفِّر النِّعَم للآخرينَ في الحياة([57]).
وإذا أردْنا أنْ نحقِّقَ سعادةً في حياتِنا، وجبَ علينا أنْ نتعلّمَ زرع بذورِها([58]).
ومن هُنا "فإذا أرادَ المرءُ أنْ يخدِمَ أمّتَهُ ويُقدِّم لها الكثيرَ مِنَ
العطاء، وجَبَ عليهِ أنْ لا يبخلَ بوقتِه بَلْ يُكثّف مِنْ ساعاتِ قراءاتِه
واطّلاعِه في مُختلف جوانب الحياة"([59]).
وقد جاء في الحديث: "ما تصدَّقَ النَّاسُ بصدقةٍ أفضل مِنْ عِلْمٍ
يُنْشَر".
التثقيفُ الذاتي وأثرُه في تعزيز العمليّة التعليميّة:
فالتثقيفُ الذاتي يكون أوّلاً ثمّ يأتي دورُ العمليّة
التعليميّة في المحاضن التربويّة، لأنّ الشريحةَ الّتي تعملُ في الحقل التعليميّ
بدون خلفيّة ثقافيّة معمّقة إنّما تعيقُ عمليّةَ الإنتاج الحضاريّ وتؤخِّرُ
مسيرَها. فالمؤسسات التعليميّة في الدّول الأوروبيّة تقومُ على التثقيف الذاتي
أوّلاً، ثمّ تلقِّنُ المعلُوماتِ آليّاً، وتتحقّق الثقافة الذاتيّة من خلالِ تلقين
الطّالِبِ المعلُوماتِ التي تفيدُه في حياتِه العمليّة، وهذا ما يُعاني منه
تعليمُنا اليوم الّذي يقومُ أكثرُه على تلقينِ الطّالبِ المعلُوماتِ النظريّة التي
قد تتأبّى على التطبيق والممارسة العمليّة، "فالملاحَظ أنّ التّلقينَ
كأسلُوبٍ تعليميّ ما زالَ سائِداً في مدارسِنا، على الرغم من الأثرِ السلبـيّ
الّذي يتركُه هذا الأسلُوب على شخصيّة الفرد، حيثُ يُساعِدُ على بناءِ شخصيّةٍ
انطوائيّة مُستسلِمة لِكُلِّ أنماطِ السُّلطة في المجتمع"([60]).
فالتعليمُ الذي يحرِّكُ العقلَ، ويثير حُبّ الاستطلاعِ والفضُول،
هُوَ التعليمُ الّذي نحنُ بحاجةٍ إليهِ، وأمّا التعليمُ الّذي يقومُ على التلقينِ
والحشو وحشدِ المعلُومات، فإنّهُ لا يدفعُ المسيرةَ التعليميّةَ قُدُماً. وقد صدق "ج.م.ترفليان" القول إنّ:
"التعليم أنتجَ عدداً ضخماً مِنَ النّاسِ الّذينَ يستطيعُون القراءةَ،
ولكنّهُمْ لا يستطيعُونَ أنْ يميِّزُوا ما هُوَ جديرٌ بالقراءة". فالعبرةُ
ليستْ بكثرةِ الكُتُب بَلْ بقيمتِها! وقد أجمل
"جون نيسبيت" في كتابه "توجّهات كُبرى" قوّة المعرفة الذهنيّة؛
بقولِه: "إنّ تعلّم كيفيّة التعلّم هو خُلاصةُ الأمر". وبشكلٍ يكاد يكون
مُتطابقاً، يذكرُ "ألفين توفلر" مؤلِّف كتاب "صدمة المستقبل/ Future Shock" في
كتابه "تحوّل القُوّة power
Shift":
"أنّ الشّخْصَ الأُمي في المستقبل لَنْ يكون الشّخْص الّذي يجهلُ القراءة،
وإنّما الشّخْصُ الّذي لا يعرِفُ أنْ يتعلّمَ كيفيّة التعلّم"([61]).
النِّظام التعليميّ وظاهرة الحفظ والتلقين:
فنظامُ
تعليمِنا يقومُ على الحفظِ والتلقين وحشو المعلُومات التي يحفظها ثمّ ينساها بعد
أشهرٍ قليلة، وقد أثبتتِ الدّراسات: أنّ هذه المعلُومات التي يدرسُها الطّالب لو اختبر
فيها بعد نهاية السنة الدراسية بشهرٍ واحِد لا يبقى منها إلاّ (13%) فقط. بينما النظامُ
التعليميّ في الغرب يقومُ على المنهجِ العقليّ، والبحث والتجريب، ومنحهِ مفاتيح العلُوم
التي بواسطتِها يستطيعُ الطّالبُ أنْ يتعلّم بنفسهِ. وإلى هذه الفكرة ذهب مالكولم
حين قال: إنّ أساليبَ التعليم التقليديّة بقيتْ في المدارِس، كما هي طريقةُ الحفظِ
الآلي، وأسلُوب حشو الأذهان. إنّ نظامَ الامتحان ليسَ سليماً لتقويمِ شخصيّةِ
الطّالِب واستعداداتهِ الذهنيّة وقدراتهِ على التفكير المستقل والتأمّل
والاستدلال([62]).
فالتعليمُ التقليديّ يقومُ على حشدِ المعلُومات وحشرِها في ذهنِ الطّالِب،
"والتركيز في طُرُق التعليم على الإلقاءِ والتلقين من جانبِ المعلِّمينَ،
وعلى الحِفْظِ والاستذكارِ وإنهاكِ قوى الطلبة بالاسترجاع مِنْ جانبِ المتعلِّمينَ،
وكانَ الكتابُ المدرسيُّ الوسيلةَ المفضّلة الأكثر شيُوعاً، وظلّتِ الامتحاناتُ
وطُرُق التقويم تقليديّة في أغراضِها وأشكالِها ومحتوياتِها، وترتّبَ عَنْ هذهِ
الطُرُق استمرار شِقّة الانفصالِ بينَ التعليمِ العام والتعليم التقنيّ، وشعُور
الطُلاّب الملتحقينَ بالتعليمِ التقنيّ بتدني مُستوياتهم مُقارنةً مع زملائِهم
مِنَ التعليمِ العام، وتفشِي البطالة المقنّعة، وافتقاد أغلب الخريجينَ لملكةِ
الاجتهادِ والإبداع"([63]).
ومن
هُنا فإنّ التعليمَ العام يُعاني مِنْ أزمةٍ حقيقيّة، فلَمْ يَعُدْ هُناك مَنْ
يُفَضِّلُ أنْ يُدْخِلَ أبناءَهُ فيهِ إلا نُدرة مِنَ النّاس مِنْ ذوي الدّخل
المحدُود، وأصبحَ هُناك تنافسٌ كبير بين المدارس الأهليّة، لأنّ الآباء لا يريدُون
أن يُدْخِلُوا أبناءَهم في مدارِس حكوميّة ليسَ فيها تعليم! وليس فيها إلا الحشو والحِفْظ
والإرهاق في النهاية، وبعد ذلك يتخرّجُون، دون أن يكتسِبُوا علماً أو ثقافةً، فهناكَ
العشراتُ مِنَ الطّلبةِ مِمّنْ بعثُوا رسائِلَ على الإنترنت يقولون فيها: عندما أدخلُونا
هذهِ الكُليّات كانوا يعلمُون أنّنا سنخرُج بتخرُّجِنا إلى الشارع دون عمل أو
وظيفة؟ وقد وضع الدكتور طارق
السويدان بصمتَهُ على واقعِنا المرير حينَ قال "الإنسان العاديّ قَدْ يُفَضِّل
عدم إدخال ابنهِ في هذا التعليم، ويُفضّل أنْ يعملَ مُنتجاً في الزراعة، أو يفتح محلاً
تجاريّاً، لأنّهُ يرى أنّ التعليمَ في النهاية سيُؤدّي إلى راتبٍ قليل، ودخل محدُود"([64]).
عزوفِ
الطلبةِ عن فعل القراءة:
ومن الأسباب الجوهريّة التي تؤدِّي إلى عزوفِ
الطلبةِ عن القراءة "غياب مفهوم التعليم والتثقيف الذاتيّ عند الكثير منهم،
فأين المجالُ للتّعليم الذاتي إذا كانتْ أكثر مناهِجنا تعتمِدُ أسلُوبَ الحفظ
الآليّ الحرفيِّ للكتبِ المنهجيّة المقرّرة، ومِمّا يُؤسِف له أنّ هُناك فئةً مِنَ المدرِّسين لا
يروق لها إلاّ الإجابة الحرفيّة أو النصيّة في الامتحانات، وهذا الأمرُ قد يكون
سبباً في ابتعادِ الطّلبةِ عن التّفكير والإبداع"([65]).
فالطّلبةُ في المراحِل الابتدائيّة يجب أن يُلقّنوا
ثقافة ذاتيّة خارجيّة من خلالِ إثارة حُبِّ الاستطلاع فيهم، وتحريض مَلَكةِ
النّقدِ البنّاء عندهم، فضلاً عن إثارة روح الدهشة والفضُول لديهم، وتحريكِ
الحاسّة التخيليّة في مداركِهم، لأنّ ذلِكَ أجدى وأنفعُ من حشر ذاكرتِهم وحشدِها
بالمعلُوماتِ النظريّة الجافّة الجامِدة الّتي ينسونها حال الانتهاءِ من الفصل
الدراسيّ السنويّ المقرَّر، أمّا المعلُوماتُ الّتي تلقّوها مِنْ تلقاءِ أنفسِهم
بصُورةٍ ذاتية من غير ضغطٍ أو إجبار، أو إكراهٍ أو تعنيف - كما هو حاصِلٌ اليوم في
مؤسّساتِنا التعليميّة - فإنّها تبقى حبيسةً في الذاكرة، لا تؤثّرُ عليها رياحُ
الزّمن، لأنّها اقترنتْ بالتجرِبة والممارسة العمليّة، وبالتالي يستعصي على
الذاكرةِ النشطة نسيان معلُوماتٍ ثبتت وترسّخت بالتجربّة العمليّة، أمّا في
المراحِل الأُخرى فإنّ الطّالِب ينبغي أنْ يتلقّى معلُوماتٍ أكثرَ إيجابيّة، حيث
تقومُ العمليّة التعليميّة على العصف الذهني والتداعي الفكريّ، وهذا ما يدفعُ
الطّالِب إلى الإبداعِ والابتكار والاختراع، وقمينٌ ذكرُه هُنا أنّ الثقافةَ
الذاتيّة رهنٌ بالأوضاعِ الاجتماعيّة والسياسيّة الّتي يعيشُها الطّالِب، فأجواء
الحريّة السياسيّة تدفعُ الطّالِب إلى مزيدٍ مِنَ الحركةِ والحِراكِ والفعاليّة
الاجتماعيّة، وتلقِّي الكثيرَ مِنَ الأفكارِ الإيجابيّة وإنْ كانتْ تقعُ خارِج
لحظتِنا التاريخيّة، ما دامت تسهِمُ في عمليّة البناءِ الحضاريّ الرّشيد، ولا
تعملُ على مُصادمةِ القيم ومُصادرة المعتقدات ومُناهضة المبادئ التي نؤمن بها، وما
أجدر أن نؤكِّد هنا أنّ الإسلامَ لا يعملُ على حجرِ العقُول، وتكميم الأفواه،
وتحجيم الأفكار، كما فعلتِ الكنيسة، بَلْ هو على العكس فإنّهُ يُحرِّر عقلَ
الإنسانِ من أُسارِه الضيِّق، ويُوجِّه تفكيرَه لقراءة كتابِ الله المنظُور
وكتابهِ المسطُور. فما المانِع إذاً مِنَ الاستفادة من ثقافةِ الآخر ما دامت تعملُ
على تفعيلِ المشرُوع الحضاريّ المنشُود، فـ(الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ، فَحَيْثُ
وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا)([66])،
وعلى الإنسانِ أنّ "يأخذ الحكمةَ من أيِّ وِعاءٍ خَرَجَتْ، وعلى أيِّ لسانٍ ظهرتْ".
ومِمّا لا مِراءَ فيهِ أنّ المشرُوع الثقافيّ الطمُوح
يبدأُ مِنَ "التثقيف الذاتيّ" الّذي يبدأُ أساساً من الفرد، ثمّ يتداعى
رويداً رويداً إلى المجتمع ككُلّ، وهذا ما يدفعُ الطبقاتِ الاجتماعيّة كُلّها في
النهاية إلى التثاقُف الحضاريّ والتلاقُح المعرفيّ مع ثقافاتِ العالَم الأُخرى،
لذا فما أولى بالمؤسّساتِ التعليميّة والثقافيّة أن تولي هذا الجانب الحيويّ
اهتماماً جديّاً فاعِلاً، وأنْ تضعَ في برامجِها منهجاً ثقافيّاً تتواضعُ على
تسميتها بـ"الثقافة الذاتيّة"، لأنّ "التثقيفَ الذاتيَّ"
يعدُّ خطوةً أساسيّةً في ترشيدِ العمليّةِ التعليميّة الّتي أعاقتها المناهِج
الجامِدة الجاسِئة الجافّة التي لم تتغيّر مع تغيّر المجتمعاتِ الإنسانيّة
وتطوُّرِها.
رمضان والعودة إلى القرآن من جديد:
فما أحرى بنا أن نستثمرَ شهر الصيام للعودةِ إلى القرآنِ
من جديد، ونتعمّق في آياتِه، ونتدبّر مقاصدَه، فـ"ليستِ العبرةُ أينَ وصلتَ
في قراءة القرآن، بل العبرة أين وصَلَ القرآنُ في قلبِك"، فما أجدر بنا أنْ
نجعلَ هذهِ المناسبةَ فرصةً للتدبّر والتفكّر والتعمّق والتأمّل في آياتِ القرآنِ
ومعانيه، وأن تكون قراءتُنا للقرآن إعمالاً له، وتطبيقاً بما فيه من معانٍ عمليّة
ومقاصِدَ ربّانيّة، وما أحرى بعلماءِ الأُمّة الإسلاميّة المشهود لهم بالعلم
والإيمان أنْ يدعو المسلمين جميعاً إلى تدبُّر آياتِ القرآن، وإعمالِها في واقِع
حياتِهم العمليّة، وأنْ يبيِّنُوا لهم أنّ العبرةَ في قراءة القرآن وتلاوته هو
تطبيقه في الميدان العمليّ، وليستِ العبرة زيادة عددِ ختماتِ القرآن من غير تدبّر
وتفكّر، وفي هذا قال الفاروق عُمر بن الخطّاب (رضي الله عنه): "كُنّا نحفَظُ العَشْرَ
آياتٍ فلا ننتقلُ إلى ما بعدَها حتى نعملَ بهنّ"، وقال عبدالله بن مسعود (رضي
الله عنه): "كُنّا لا نتجاوزُ عَشْرَ آياتٍ حتى نتعلّمَهُنّ ونعملَ بهنّ، ونعلمهن،
ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العِلْمَ والعَمَل).
فالقرآنُ الكريمُ - من حيثُ هو فاعليّة وحركةٌ ومسؤوليّة
والتزام - قد أصبح مهجُوراً، فالكثيرُ مِنَ المسلمينَ في عالَمِ اليوم قد هجرُوه -
كما يقول الشيخ سيِّد سابق - هجراً غير جميل، فأخذتْ تعاليمُه تتقلّصُ مِنَ
المجتمع شيئاً فشيئاً، حتّى لم يبق منه إلاّ آيات تردّد للتبرُّك والتغنِّي،
واستنزال الرحمات. أمّا إنه عقيدة تهدي، وعبادةٌ تزكّي، وخلُقٌ سامٍ، وحكمٌ عادِل،
ودستورٌ شامِل، فإنه لا يخطرُ لهم على بال، فجزاهم الله جزاءَ مَنْ أهمل كتابَه،
وأعرضَ عن تعاليمه"([67])،
وإذا ما قرأُوه كانتْ قراءتهم عابرةً وسريعةً دون تدبّر وتأمّل وتفكّر، على الرغم
من أنّهُم يقرأون قولَهُ تعالى: [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ
أَقْفَالُهَا]([68]).
ورُبّما يستمِعُون إلى قَوْلِ ابن مسعود (رضي الله عنه): "اقرؤوا القرآنَ وحرِّكُوا
به القلُوبَ، ولا يَكُنْ همُّ أحدِكُم آخرَ السُورة"، ولكنّهُم على العكسِ
مِنْ ذلِكَ قرأوا القُرآن قراءةً عابرة، لذا لمْ تتحرّكْ قلُوبهم، ولم تهتزّ
مشاعِرُهم؛ وكيف تتحرّك وتهتزّ إذا كان همُّهُمْ آخِرَ السُّورةِ، وإذا كان دأبُهم
الإكثار من ختمِ القرآن، دون فهمٍ وتدبّر واستبصار. وكان الأَوْلى بهم أنْ يقرأوا
القرآنَ بتعقّلٍ وتعمُّقٍ وتدبُّر للوصُول إلى التفسير الصحيح ومن ثمّ إلى التأويل
السّليم، ذلِكَ التأويلُ الّذي يُسمَّى عند بعضِهم بـ"فهمِ الفهم"، أو
"فنِّ تجنُّبِ سُوءِ الفهم"، أو "فَهْمِ الكلماتِ فَهْمَاً
ثانياً"([69]).
يقول (ابن عربي) في هذا المقام ما نصُّه: "ألا ترى أنّ العالِمَ الفَهِمَ
المراقِبَ يتلُو المحفوظَ عندَهُ مِنَ القرآن؛ فَيَجِدُ في كُلِّ تلاوة معنىً لم يجدْهُ
في التلاوةِ الأُولى، والحروفُ المتلوّة هِيَ بعينِها، ما زاد فيها شيءٌ ولا نقص،
وإنّما الموطِنُ والحالُ تجدَّدَ، ولا بُدَّ مِنْ تجدُّده؛ فإنّ زمانَ التلاوةِ الأُولى
ما هو زمانُ التلاوة الثانية"([70]).
فالتأمُّل إذاً، هو قرينُ الفهم، والفهمُ قرينُ التجرِبة، والتجرِبة هِيَ التي تقودُك
إلى الحكمِ الصحيح. ولكي نحقّق هذا الغرضَ علينا أنْ لا نتلُوَ القرآن بالصُورةِ
التقليديّة التي تكتفي بالقراءة السطحيّة العابرة، وإنما أن ندخلَ إلى الأعماق
والمقاصِد والغايات. وتفيدُنا في هذا المقام تجرِبة الفيلسوف (محمّد إقبال)؛ عندما
قال: "أشدُّ ما أثّر في حياتي نصيحةٌ سَمِعْتُها من أبي: يا بُنيَّ، اقرأ
القُرْآن كأنّه أُنزل عليك"([71]).
فعلينا أنْ نقرأ القرآن كما لو أُنزِل علينا، حينها نرى إشراقاتٍ روحانيّةً وفتوحاتٍ
ربّانيّةً ونظراتٍ معرفيّة، نرى الروحَ في طُهرها وجمالِها وجلالِها، فنطلُبَ
المزيدَ والمزيد. وفي هذا المعنى قال ذو النورين عثمان بن عفّان (رضي الله عنه):
"لَوْ طَهُرَتْ قلُوبُكم ما شَبِعْتُم مِنْ كلامِ الله عزَّ وجلّ"([72])،
ولوجدنا في القرآن في هذا الزّمان أمُوراً لم يجدها غيرُنا في زمانِهم؛ وذلِكَ
لأنّ في القُرآنِ عِلْمُ الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ، وَمَا مِنْ شيءٍ إلاّ وَيُمكنُ استخرَاجهُ
منهُ، لِمَنْ فَهَّمَهُ الله تعالى، ولكننا لا ندخر جهداً في مُدارسةِ القرآنِ
والتأمّل في آياته، وإذا ما اكتشفَ العلماءُ الغربيُّون أشياءَ في هذا الكون
الفسيح الذي يحيطُ بنا، بناءً على الأبحاثِ العلميّة الجادّة والدراسات المعمّقة
التي أنجزوها في سبيل اكتشافاتِهم، قُلْنا: إنّ هذهِ المكتشفاتِ موجودةٌ في القرآن
الكريم، وهي حقّاً موجودة ومبثوثة في الوحي الإلهي، ولكن السؤال لماذا نحنُ لم
نقدرْ على اكتشافِ ما هو موجودٌ في الكتاب الّذي بين أيدينا؟ لماذا نبخس النّاس أشياءَهم،
لماذا لا نجتهد مثلما اجتهد غيرنا.
ومِنْ هُنا فما أحرى بعلمائِنا أنْ يُوَجِّهُوا أنظار
المسلمين - عبر مختلفِ القنواتِ التّواصُليّة - إلى تكثيفِ أفكارِهم وتركيزِها في
المقاصِد القرآنيّة، ويستفرِغوا جهُودَهم من أجلِ استنباطِ الأفكارِ الخلاّقة من الوحي
القرآني، فيكون كلُّ واحد منا مُجتهداً يقومُ ببذلِ جهدهِ واستفراغِ وسعهِ من أجلِ
الوصُول إلى مستكشفاتٍ في المجالاتِ العلميّة والإنسانيّة، فـ"مَنْ طَلَبَ
شيئاً نالَهُ أو بعضَهُ"([73]).
و"مَنْ بذلَ جُهدَ طاقتِه بلغَ كُنْهَ إرادتِه. وقدرُ الرّجُلِ على قَدْرِ
هِمّتِه". وإذا ما فعلَ كلّ واحدٍ منا فرداً فرداً على امتدادِ العالَم،
وقرأوا القرآن بهذهِ الروح الاستكشافيّة، وخاصّة في شهر الصيام، حيث الصفاء
الذهني، والطهارة القلبيّة، والتركيز الفكريّ، بعد التخفف من أثقال الجسدِ
وأدرانِه، والارتقاء عن جواذب المادّة وكثافتها، ترى ماذا سيكون حجم المنجزات
والإبداعات والاكتشافات والاختراعات التي سنتوصّل إليها من خلال هذهِ الفكرة
البسيطة التي لا تكلِّف شيئاً سِوَى أنْ نقرأَ القرآن بتدبّر وتأنٍ وتعمّق وتفكّر،
وليسَ الاستزادة في عدد ختماتِ القرآن كما هو حاصلٌ اليوم في عالَم المسلمين، حيثُ
أصبحَ همُّ الواحِد مِنّا زيادةَ عددِ ختماتِ القرآن خلالَ الشهر الفضيل على حسابِ
التدبّر والتفكّر والتعمّق.
ترى ماذا سيكون حالُ الأُمّة الإسلاميّة إذا ما طبّق
أبناؤُها هذا المشرُوع العمليّ في حياتهم اليوميّة، وقرأوا القرآن من أجلِ استنباطِ
الأفكار والقيم والمبادئ العمليّة، فضلاً عن تحقيقِ الإبداعاتِ والاكتشافاتِ التي
تكون تمهيداً لتدشينِ نهضةٍ حضاريّة خلاّقة في العالمِ العربيّ والإسلاميّ، وأن لا
نكتفي فقط بتمجيدِ موروثِنا الحضاريّ مع جلالِ قَدْرِه وثراءِ قيمته، وفي ذلك قال الجاحظ:
"وكلامٌ كثيرٌ جَرَى على ألسنةِ النَّاسِ، ولَهُ مَضَرَّةٌ شديدةٌ وثمرَةٌ مُرَّةٌ.
فمن أضَرّ ذلِكَ قَوْلُهُمْ: "لَمْ يَدَعِ الأَوَّلُ للآخِرِ شيئاً"، فلَوْ
أنَّ عُلماءَ كُلِّ عصرٍ - مُذْ جَرَتْ هذهِ الكلمةُ في أسماعِهم - تركُوا الاستنباطَ
لما لَمْ يَنْتَهِ إليهم عمَّنْ قبلَهم، لرأيتَ العِلْمَ مُختلاً"([74]).
ونحن
هُنا لا نتحدّث عن ثواب القراءة وأجرِها، فهذا أصلٌ ثابتٌ لا مِراء فيه.. فعن
عبدالله بن مَسعُود قال: قالَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وسلّم): (مَنْ قَرَأَ حَرْفاً
مِنْ كِتَابِ اللّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا
أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)([75]).
والمرادُ بالحرفِ – والله أعلم - الكلمة سواء أكانتْ اسماً أو فِعْلاً أو حَرْفاً.
إذاً، فـ"كلُّ مَنْ قَرَأ القرآن قراءةً صحيحة، يبتغي بها وَجْه الله جلّ
وعلا، فهو موعُودٌ بهذا الأجر إن شاء الله تعالى".
قراءات عرضيّة وتأويلاتٌ فاسدة:
وقمينٌ ذكره أنّ ما سلفَ عرضُه لا يعني أنّ مِنْ حقِّ
كُلِّ قارئ للقُرآن أن ينكبَّ على تفسيرِه وتأويلِه على مُقتضى أفكارِه وأهوائه.
ومِمّا لا جدالَ فيهِ أنّ القراءةَ السطحيّة - العَرَضيّة تؤدِّي إلى تأويلاتٍ
فاسِدة وتخريجاتٍ لا أساسَ لها مِنَ الصِحّة، وادِّعاءاتٍ باطِلة زائِفة، وإنْ
كانتِ القاعدة المقرّرة التي عبّر عنها عُلماءُ البحثِ والمناظرة هِيَ: "إنْ كُنْتَ
ناقِلاً فالصِحّةُ، وإنْ كُنْتَ مُدّعِياً فالدليلُ". فالقراءةُ التي لا
تتجاوزُ السطح النصيِّ تؤدِّي إلى إشكاليّاتٍ معرفيّة بل إلى شطحاتٍ فكريّة ليس
لها دليلٌ نقليّ مِنْ كتابٍ ولا سُنّة، وليس لها مُسوّغ عقلي في نسبةِ المحمُولِ
إلى الموضُوع.
ومِنْ هذهِ
القراءاتِ الملتبسة أو التأويلاتِ الفاسِدة التي ساقها أحدُ الباحثين - التي أثارت
مؤخّراً ضجّة إعلاميّة - افتراض مقدِّمة لا أساسَ لها مِنَ الصِحّة، وهي أنّ كلمةَ
"كُتِبَ" في قولِه تعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى
الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ]([76])،
تأتي بمعنى الكتابة، وهو مصدرُ "كَتَبَ" بمعنى جمع ودوّن، وقصدُه من
ذلِكَ ليسَ بيان المعنى المعجميّ من هذهِ اللّفظة الّتي يعرِفها حتّى طالبُ
الابتدائيّة، وإنّما غرضُه الأساس هو الوصُول إلى نتيجةِ مؤدّاها أنّ
"كُتِبَ" إذا كانت معناها الكتابة والتدوين، فهي لا تأتي إذاً بمعنى
الفرضِ والإلزامِ، وهنا يتبيّن لنا "حجم المغالطة التي توسّل بها للوصُولِ
إلى هدفِه المرسُوم مُسبقاً، فهو غايةٌ يُطْلَبُ الوصُول إليها، ثمّ تُخْتَرَع
المقدِّماتُ اختراعاً بصُورةٍ أو أُخرى، وتُرتّب في صُورةِ بُرْهان، ليتمّ
التأثيرُ بواسطتِه في نفُوسِ النّاس، لدفعهمِ إلى التشكّك من فرضيّة الصيامِ ككل([77]).
على الرّغمِ مِنْ أنّ العُلماء قد بيّنُوا وجُوبها على المسلمين عامّتهم،
باستثناءِ الأصناف الّتي ذكرها القرآن، فضلاً عن ذواتِ الأعذار، فهذا الطبري يقول:
[كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ] يعني:
فُرِضَ عليكم مثل الّذي فُرِضَ على الّذين مِنْ قَبْلِكم([78]).
و"الكتابة معروفة المعنى، ويكنى به عن الفرض والعزيمة والقضاء الحتم"([79]).
والقولُ في معنى كُتِبَ عليكم، دلالتُه على الوجُوب([80]).
وجاء في موضعٍ آخر: "والقول في (كُتِبَ) ظاهِرٌ في الوجُوب قريبٌ مِنَ النصِّ
فيه"([81]).
فمعنى (كتب عليكم) أنه حقّ لازِمٌ للأُمّة لا محيدَ عنِ الأخذِ به، فضميرُ "عَلَيْكُمُ"
لمجمُوع الأمة على الجُملة... و"كُتِبَ" بمعنى حقّ وثبت([82]).
وهُناك استثناءاتٌ بيّنها القرآنُ الكريم في قولِه تعالى: [فَمَنْ كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا
أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الّذِينَ يُطِيقُونَهُ
فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لّهُ وَأَن تَصُومُوا
خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]([83])،
ولو قال: فُرِض عليكم، لكان لِزاماً على المسلمين الإمساك عنِ الطعامِ والشّراب من
طلُوع الفجر الصّادق، إلى غرُوب الشمس بنية، بغضِّ النظّر عن هذهِ الأصناف التي
تـمّ استثناؤُها، ولكان وجُوبها مثل وجُوبِ الصلاة لا يمكن للإنسانِ أن يكفّ عنها
مهما كانت حالته، وأيّاً كان موقفه: "قُمْ إلى الصّلاةِ متى سَمِعْتَ النداء
مهما تَكُنِ الظّرُوف". فالصّلاة لا تستثني أحداً ولا تعفي أحداً من أدائها
وإقامتها، سِوَى ذواتِ الأعذار، قال تعالى: [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]([84])،
على وجهِ الإلزامِ والوجُوب، وقال الرسُول (عليه الصّلاة والسّلام): (صَلّوا كما رأيتمُوني
أُصلِّي)([85]).
على وجهِ الإلزامِ والوجُوب، ولم يقل: "صُوموا كما رأيتمُوني أصُوم".
وحتى إذا كان معنى قولِه تعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ]، إخباراً عن تحقّقِ
الكتابة، وليسَ إنشاءً للحُكْم([86])،
فهو توطئةٌ وتمهيدٌ لقولِه تعالى الوجوبيّ في الآيةِ الثالثة: [فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]([87]).
وقد أوضح أحدُ الباحثين هذهِ المسألة على النحو الآتي: إنّ الله جلّ وعلا قال في
كتابهِ العزيز: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ]، ولم يقلْ: فُرِض، والاختيار دليلُ الحِكمة، والحِكمة
هي في اختيارِ لَفْظِ [كُتِبَ]، أنَّ الصيامَ عبادةٌ شاقّة، فهِيَ امتناعٌ عن أمُورٍ
محبُوبة وضروريَّة للبدن، والنَّفْس في فِطرتها تنفر مِن المنعِ إلى الإباحة، فكان
المقامُ أن تُذكَر الفرضية بلفظ "كُتِبَ"، لأنَّ الكتابةَ في معنَى التكليف
أوْثَق وأقوى مِن لفظ "فُرِضَ"، ألاَ ترَى أنَّ مُديراً ما لو كَلّف مُوظفاً
عندَه بأمرٍ ما شفهيّاً، فإنَّ ذلك سيكون أقل حتميةً مِن أن يكتُب له التكليف رسميّاً؟
والكتابة في اللّغة بمعنى الجمْع والتثبيت([88]).
قال ابن فارس: "الكافُ والتّاءُ والبَاءُ: أصْلٌ صحيحٌ واحِدٌ يدلُّ على جمْعِ
شيءٍ إلى شيءٍ. مِنْ ذلِكَ الكتابُ والكتابةُ. يُقال: كَتَبْتُ الكتابَ أكْتُبُهُ كَتْباً"([89]).
وهُناك أمرٌ آخر لا بُدَّ مِنَ الإشارةِ إليهِ في هذا المقام، وهو أنّ سياقَ
الآية: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ] يفيدُ الوجُوب والإلزام، إذ لا يصحُّ من حيث الدّلالة
أن يكون "كُتِبَ" بمعنى: تحقّق الكتابة فقط، لأنّه لو كان ذلِكَ كذلِكَ،
لقَالَ: كُتِبَ لَكُمْ، ولَمْ يَقُلْ: كُتِبَ عليكم، وفي (عليكم) معنى الأمرِ
الّذي يفيدُ الوجُوب والإلزام.
وأخيراً فما أحرى بنا جميعاً إلى نسعى إلى مُجاهدةِ
النّفس، ومُغالبةِ الأهواء التي تحيطُ بنا من كُلِّ جانب، وأن نعود أدراجَنا إلى
مُصاحبة الأنيس الّذي لا يُمل، والرفيق الّذي لا يكلّ، والجليس الّذي لا يفتر،
والكريم الّذي يفيدُ ولا يستفيد، ويُعطي ولا يأخذ، ونواصِلَ اللّيل بالنّهار، حتّى
نجني ثمار العلم، فـ"لا يُسْتَطاع العِلْمُ براحةِ الجِسْم"([90]).
ولا تُكْتَسَبُ المعالِي إلاّ بسَهَرِ اللّيَالِي:
بقَدْرِ الكدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... ومَنْ طَلَبَ
العُلا سَهِرَ اللّيَالِي([91]).
الهوامش:
[1]- بريهادا رانياكا أوبانيشاد، Upanishad: أي مجموعة مِنَ المؤلّفات الفلسفيّة الفيدية (نسبةً
إلى الفيدا Veda).
في القوانين الروحانية السبعة للنجاح، ديباك شوبرا: 5.
[2]- القراءة المثمرة مفاهيم وآليات، أ.د.عبدالكريم بكّار، ط(6)، دار
القلم، دمشق - سورية، 1429هـ - 2008م: 16.
[3]- تقديم الدكتور زكي الميلاد لكتاب العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً
قارئاً؟ لحسن آل حمادة: 13.
[4]- القراءة المثمرة مفاهيم وآليات: 20.
[5]- المجموعة الكاملة لمؤلّفات الأستاذ عبّاس محمود العقّاد، السيرة
الذاتية -1- يحتوي على أنا، حياة قلم، ط(1)، دار الكتاب اللبناني، بيروت - لبنان،
1982م: 108.
[6]- قراءة القراءة، فهد بن صالح الحمود، ط(2)، مكتبة العبيكان، الرياض
- المملكة العربية السعوديّة، 1427هـ - 2006م، 49.
[8]- مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ت728هـ)، جمع وترتيب:
عبدالرّحمن بن محمّد بن قاسم، (د.ط)، مطبعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف،
المدينة المنوّرة - المملكة العربية السعوديّة، 1425هـ - 2004م: 15/ 55.
[9]- الفوائد، لابن القيم، تحـ: عصام الدين الصبابطي، ط(2)، دار
الحديث طبع، نشر، توزيع، القاهرة - مصر، 1415هـ - 1994م: 256.
[11]- القراءة المثمرة مفاهيم وآليات: 26.
[12]- م.ن: 32 و33- 34.
[13]- نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشّريف الرضيّ من كلام الإمام
علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، (د.ط)، شرح: الشيخ محمّد عبده، دار المعرفة
للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، (د.ت): 3/ 40.
[14]- العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً
قارئاً؟، 72.
[15]- م.ن: 72.
[16]- م.ن: 72.
[17]- م.ن: 72.
[18]- بناء الأسرة الفاضلة، عبدالله أحمد، (د.ط)، مكتبة العرفان دار البيان
العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1410هـ - 1990م: 27.
[20]- م.ن: 39.
[21]- صيد
الخاطر، لأبي الفرج عبدالرّحمن بن علي بن الجوزي (ت597هـ)، بعناية: حسن السّماحي
سُويدان، ط(3)، دار القلم، دمشق – سورية، 1433هـ - 2012م: 454.
[22]- كيف تقرأ
كتاباً؟ محمّد صالح المنجد، ط(1)، دار الوطن للنشر، الرياض - المملكة العربية السعودية،
1416هـ - 1996م: 56.
[23]- العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً
قارئاً؟: 127.
[24]- م.ن: 128 - 129.
[25]- العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً
قارئاً؟: 128.
[26]- العلاج بالقراءة.. الكتب كذخيرة،
مرام عبد العزيز، http://n-scientific.org/15875
مجموعة نون العلمية، تاريخ النشر: 29/ 05/ 2017م.
[27]- سورة الأعراف، الآية: 54.
[28]- ينظر بتصرّف: العلاج بالقراءة أو
الببليوثيرابيا، للدكتور شعبان عبدالعزيز خليفة، ط(1)، الدار المصرية اللبنانيّة،
2000م.
[29]- سورة الإسراء، الآية: 82.
[30]- القراءة المثمرة مفاهيم وآليات: 51.
[31]- م.ن: 52.
[33]- القراءة المثمرة مفاهيم وآليات: 53- 54.
[34]- م.ن: 54- 55.
[35]- كيف تقرأ كتاباً؟ محمّد صالح المنجد، ط(1)، دار الوطن للنشر،
الرياض - المملكة العربية السعودية، 1416هـ - 1996م، ص37.
[36]- مقولة مُتداوَلة للمفكّر ياسر حارب. وهو كاتب وإعلامي بارز من الإمارت
العربية المتحدة، ومُؤسِّس مشارك للمنتدى العالمي "منتدى تعزيز السِلم في المجتمعات
المسلمة".
[37]- فن القراءة، ألبرتو مانغويل، تر: جولان حاجي، ط(1)، دار الساقي،
بيروت - لبنان، 2016م، 213- 214.
[38]- تاريخ القراءة، آلبرتو مانغويل، تر: سامي شمعون، ط(4)، دار
الساقي، بيروت - لبنان، 2013م، ص311.
[39]- م.ن: 311.
[40]- مجتمع النخبة، د.بُرهان غليون، ط(1)، معهد الإنماء العربيّ، بيروت
- لبنان، 1986م، ص241.
[41]- آرثر شوبنهاور (1788 – 1860 م) فيلسوف
ألماني. "المكتبة هِيَ الذاكرةُ الوحيدةُ المؤكّدة المستمرّة للفكرِ الإنسانيّ".
[42]- محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، لأبي القاسم الحسين
بن محمّد بن المفضّل المعروف بالرّاغب الأصفهاني، تحـ: د.رياض عبدالحميد مراد،
ط(3)، دار صادر، بيروت - لبنان، 2012م، 1/ 238.
[43]- العلاج بالقراءة.. كيف نصنع مجتمعاً قارئاً؟ ص44.
[44]- ينظر بتصرّف: العلاج بالقراءة.. كيف نصنع مجتمعاً قارئاً؟ ص56.
[45]- ينظر بتصرّف: العلاج بالقراءة.. كيف نصنع مجتمعاً قارئاً؟ ص58-
59.
[46]- م.ن: ص57.
[47]- الشاكلة الثقافية.. مساهمة في إعادة البناء، عمر عبيد حسنة،
ط(1)، المكتب الإسلامي، بيروت – لبنان، 1414هـ - 1993م، ص26.
[48]- ينظر بتصرّف: مجتمع النخبة، مجتمع النخبة، د.بُرهان غليون، ط(1)،
معهد الإنماء العربيّ، بيروت - لبنان، 1986م: 250.
[49]- دراسات وشؤون جامعية، خالد محمّد خالد، ط(1)، منشورات دار
"روشنبير" للطبع والنشر، العراق - سليمانية، 1998م، ص7.
[50]- القوانين الروحانية السبعة للنجاح - الدليل العملي لتحقيق أحلامك،
ديباك شوبرا، ط(1)، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، 2013م: 21.
[51]- م.ن: 22، و33.
[52]- م.ن: 30.
[53]- م.ن: 38.
[54]- م.ن: 39- 40.
[55]- م.ن: 40.
[56]- م.ن: 40.
[57]- م.ن: 41.
[58]- م.ن: 49.
[59]- العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً
قارئاً؟، ص121.
[60]- المشكلات الاجتماعية بين الشباب الكويتي، فائقة يوسف الإبراهيم:
165- 173. في العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً قارئاً؟ لحسن آل حمادة، ص33.
[61]- كتاب خريطة العقل، توني وباري بوزان، ط(4)، مكتبة جرير، الرياض -
المملكة العربية السعوديّة، 2007م،: 385.
[62]-Malcolm
Adiseshiah: Education and national Development: 2. نقلاً عن أزمة التعليم في عالمنا المعاصر، فيليب
كومبز، ترجمة: أحمد خيري كاظم، والدكتور جابر عبدالحميد جابر، (د.ط)، دار النهضة العربية،
القاهرة - مصر، (د.ت): 160.
[63]- ينظر بتصرف: أزمة التعليم في العالم
العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة، د.طارق سويدان، المدير العام لمؤسسة الإبداع الأمريكي،
الجزيرة، في 21/02/2001م.
[64]- ينظر بتصرف: أزمة التعليم في العالم
العربي ومخاطرها على مستقبل الأمة.
[65]- العلاج بالقراءة.. كيف نصنعُ مجتمعاً
قارئاً؟، ص33.
[66]- رواه الترمذي في (جامعه) وابن ماجه في (سننه).
[67]- في تقديمه لكتاب (علوم القرآن) لأحمد عادل كمال، نُشِر ضمنَ سلسلة
كتاب المختار، في سنة 2005م.
[69]- أنطولوجيا اللغة عند مارتن هيدجر، إبراهيم أحمد، ط(1)، الدار العربية
للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، 1429هـ - 2008م، ص130.
[70]- الفتوحات المكيّة، ابن عربي، ط(2)، تحقيق وتقديم: د.عثمان يحيى، تصدير
ومراجعة: د.إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1405هـ - 1985م: 4/258.
[71]- شروط النهضة، مالك بن نبـي، ط(1)، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، وعبدالصبور
شاهين، تقديم: محمّد همّام، دار الكتاب المصري – القاهرة، ودار الكتاب اللبناني - بيروت،
1433هـ - 2012م، ص83.
[73]- مقولة للإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، نهج البلاغة: 768.
[74]- الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني (ت739هـ)، شرح وتعليق
وتنقيح وتحقيق وفهرسة ومراجعة: د.محمّد السعدي فرهود، د.محمّد عبدالمنعم خفاجي،
د.عبدالعزيز شرف، ط(6)، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت،
1425هـ - 2004م، ص99.
[75]- رواه البخاري
فى التاريخ الكبير: (1/216)، والترمذي،
رقم (2910)، وصحّحهُ الألبانيّ (تخريج الطحاوية، رقم 139)، (المشكاة، رقم 2137).
[77]- تفنيد الأسس النظرية والعملية للإلحاد، نقد كتابين للدكتور عادل
ضاهر: تأملات في مفهوم الفعل الإلهي، ونقد الصحوة الإسلامية، للأستاذ سعيد
عبداللطيف فودة، ط(1)، دار الضياء للنشر والتوزيع، الكويت، 1435هـ - 2014م، ص96.
[78]- تفسير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمّد بن
جرير الطبري (ت310هـ)، ط(2)، حقّقه وعلّق حواشيه: محمود محمّد شاكر، راجعه وخرّج
أحاديثه: أحمد محمّد شاكر، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة - مصر: 3/ 409.
[79]- الميزان في تفسير القران، للسيد محمّد حسين الطباطبائي
(ت1402هـ)، (د.ط)، منشورات جماعة المدرِّسين في الحوزة العلمية، قم - الجمهوريّة
الإسلاميّة الإيرانيّة، (د.ت): 2/ 7.
[80]- تفسير التحرير والتنوير، لمحمّد الطّاهر بن عاشور، (د.ط)، الدار
التونسيّة للنشر، تونس، 1984م: 2/ 154.
[81]- تفسير التحرير والتنوير: 2/ 146.
[82]- تفسير التحرير والتنوير:
2/ 135.
[84]- سورة البقرة، الآية: 110.
[85]- رواه البخاري.
[86]- الميزان في تفسير القران، للسيد محمد حسين الطباطبائي: 2/ 6.
[88]- تأملات في آية الصيام، محمد شلبـي محمّد، http://www.alukah.net/sharia/0/34016/ الألوكة
الشرعية، تاريخ الإضافة: 17/ 8/ 2011م.
[89]- معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا
(ت395هـ)، ط(1)، تحـ: عبدالسّلام محمّد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،
1399هـ - 1979م: 5/ 158.
[90]- مقولة للإمام يحيى بن أبي كثير
(ت132هـ). كنيته أبو نصر وقيل: الطائي، من الطبقة الخامسة من طبقاتِ رُواة الحديث النبوي
الشريف.
[91]- ينظر: ديوان الإمام الشافعي، أبي
عبدالله محمّد بن إدريس الشافعيّ (ت204هـ)، (د.ط)، شرحه وضبط نصوصه وقدّم له:
الدكتور عمر الطبّاع، شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع،
بيروت - لبنان، (د.ت): 97.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق