شيروان
الشميراني
الحياة عبارة عن ميدان مفتوح للتدافع، بجميع مجالاتها، نتيجة الاختلاف في
الدين والفكر والمذهب، أو الصراع السياسي والاجتماعي.
وعندما تغيب الموازين،
ويغلب الهوى العقول والإرادات، ويفشو بخس الناس أشياءهم، ونتيجة البحث عن المصالح الشخصية،
أو الجماعية، بغض النظر عن مدى الأحقيّة، أو عندما تغشى الغيوم الأبصارَ، يحاول الناس
أن يميلوا إلى ذواتهم، الفردية أو الجمعية، وأن ينكروا ما لدى الآخرين من الفكر النير،
أو الاجتهادات المفيدة.. والنتيجة هو الظلم، ظلم الحقيقة في إطار بشريّ مجسّد، أو نظرية
علمية ثقافية..
من هنا، ضرب (ربّ العالمين)-
وفقاً للمنهج الوسطي الذي ارتضاه للأمّة- أمثلة في القرآن، عند الحديث عن
الآخرين:
الآخرون المخالفون في الدين، في وقت كانت الحرب
الفكرية والحجاج قائماً بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى من أجل تثبيت الأحقيّة،
فعند التقييم لا بدّ من الإنصاف. بمعنى: ليس هناك الأبيض والأسود، من معكم محض خير
وبياض ناصع، ومن ليس معكم محض شرّ وسواد كالح..
عند الحديث عن (النصارى)،
في (سورة آل عمران)، يقول الله - سبحانه -: [وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ
إِلَيْكَ إِلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ]:75.
يتحدث الله هنا عن أمانة أهل الكتاب، فلا يعمم، مع أنهم مشركون، بالمعيار القرآني،
بل يضع الموازين بالقسط، ويصنف كل مجموعة منهم في مكانها اللائق، ثم لا يستعجل بالحديث
عن السيئين منهم، بل يقدّم الخيرين: فمنهم من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك، هؤلاء هم
أهل الثقة في التعامل، حتى ولو كانوا مخالفين في الدين والعقيدة، وهم أولى بالحديث،
وأن يسبق ذكرهم من سواهم، ثم بعدهم يأتي بذكر الخائنين..
بعض المفسرين غابت عنهم
هذه الالتفاتة التربوية الربانية، يقولون: حتى الذين يؤدون الأمانات يؤدونها، لأنهم
ليس لهم من محل أو ملجأ يذهبون إليه، وليس لهم من مكر سوى إرجاع الأمانات، اضطراراً
وليس خلقاً..
هذه الصفة الإسلامية الإنسانية،كانت
متبناة من طرف المسلمين، علماء أو عامة، ولم يجانبوا الصواب، وكانوا منصفين في التعامل،
فهو خلق قرآني، لا يتصف به إلا من استلهم المنهج الوسطي في الفهم والتربية ..
أضرب هنا مثالاً واحداً
من التاريخ الحديث، بالإمام (عبدالحميد بن باديس)، مؤسس (جمعية علماء المسلمين)، في
(الجزائر)، فمع وقوع (الجزائر) تحت سلطة الاحتلال الفرنسي، و(بن باديس) من رواد الحركة
الإصلاحية الدينية والتحررية الجزائرية، إلا أنه لم يتشدد في إصدار الأحكام، ولم ينكر
ما للفرنسيين من علم، وحضارة، ونظام عام بارع.. فعندما يتحدّث عن عالم الصحافة، وعن
حرية الصحافة، حيث إنه كان صحفياً أصدر أربع صحف ومجلة واحدة، في هذا المجال لا يستحضر
ظلم المحتل على بلده، بل يصف الحال كما هو: أن للفرنسيين صحفاً كبيرة، و"أنا مع
المعجبين بالصحافة الفرنسية الكبرى، وما لها من بديع نظام، ومهرة أقلام، وجرأة وإقدام"،
ولم ينكر ما للفرنسيين من حضارة، وكثيراً ما استدل بعلمائهم، في معرض محاججة السلطات
الفرنسية المحتلة..
ومع أن الجزائركانت تقاوم
فرنسا لنيل الحرية والاستقلال،كان يعترف بأن الثورة الفرنسية "بداية مشعل الحرية
في أوروبا"، قائلاً بأنه من الجدير أن تحتفل شعوب العالم كله بيوم انتصار الثورة
الفرنسية، وكسر أسوار سجن الباستيل - مقبرة الأحرار - وسط باريس في 14 يوليو 1789،
(بن باديس) يعترف بأن الثورة الفرنسية جاءت بقيم إنسانية جديدة، تشكّل منطلقاً لجميع
الشعوب الباحثة عن الحرية.. مؤكّداً - في موضع آخر - بأن الإنسان السجين، ما دام يملك
الشرف، فهو يفرح بحرية الآخرين الذين هم خارج السجن، حتى ولو قضى حياته سجيناً..r
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق