عبد الباقـي يوسف
يقول تعالى: [وَذَرِ الَّذِينَ
اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ
بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ
شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُواْ يَكْفُرُونَ] الأنعام/70.
أعرض عن [الَّذِينَ يَخُوضُونَ
فِي آيَاتِنَا]، فهؤلاء [اتَّخَذُواْ] بدلاً عن دين الله الذي هو الإسلام، ديناً هو لَعِبٌ ولهوٌ، واستناداً إلى ذلك، يستهزؤون بآيات
الله [وَ] قد [غَرَّتْهُمُ] جَعَلَتهم [الْحَيَاةُ الدُّنْيَا] ينغرّون بها، ويتّبعون
أهواءهم في ذلك.
هنا، يبيّن لهم النبـي (صلى
الله عليه وسلم) الآيات، ويُحذّرهم من مغبّة الاستهزاء بها، ويدعوهم إلى دين الله،
مكتفياً بذلك، وتركهم بعد الـ[ذِكْرَى]. فيكون قد أتاهم لأمر مُحدّد، وفور انتهاء المُراد
من الحضور، يدعهم وشأنهم.
تستأنف الآية الكريمة:[أَن
تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ]، كل [نَفْسٌ]مرتهنة [بِمَا كَسَبَتْ]، حيث [لَيْسَ
لَهَا] لتلك النفس [مِن
دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ]، فلا أحد سوى الله قادر
أن يتولّى أمرهم، ولا أحد سواه يشفع لهم. [وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ][وَإِن] تفدي
[كُلَّ] فدية [لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا] لا يمكن لأي فدية أن تُصبح معادلاً للعِقاب،
والكلام هنا في الدنيا، أيْ يرتكب شخصٌ ما المعاصي، ثم يُنفق مالاً حتى يُصبح مُعادلاً
لتلك المعاصي، كي لا يُحاسِبه الله (تعالى) عليها. فترى أناساً يستمرّون في الآثام،
وبذات الوقت يُنفقون أموالاً طائلة على الفقراء والمحتاجين، بهدف أن يكون ذلك الإنفاق
مُعادلاً لارتكاب الآثام، ويغدون في منأى عن الحِساب.
يبيّن الله بأنهم لو أنفقوا
[كُلَّ] ما لديهم، [لاَّ يُؤْخَذْ] منهم شيء، لأن نيّة الإنفاق باطلة.
وعلى نقيض ذلك، فإن الذين يتوبون،
وينفقون أموالهم في سبيل الله، يجدون عنده الثواب. فاعلموا يا مَن تكفرون بالله، وتستهزؤون
بآياته، وتتّخذون من اللعب واللهو ديناً لكم، وقد جريتم خلف مغريات الحياة الدنيا.
أنه لا يمكن له أن يتدخّل في مسألة عِقابكم، ولن يتولّى عِقابكم، سوى الله وحده، ولا
أحد يجوز له أن يشفع لكم سواه، ولا يقبل الله منكم فدية نظير العذاب.
[أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ
بِمَا كَسَبُواْ]، كما لو أنك تقول: تَوَقّفَ الشخصُ بِما ارتكَبَ مِن جِناية، أي هو
موقوفٌ على خلفيّة جِناية ارتَكَبها، ويكون له حكمه.
أمّا هنا، فهؤلاء الذين يقفون
بين يدَي الله (عز وجل)، على خلفية ما تبيّن من أفعالهم، فـ[أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ
أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ] عقابهم أن [لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ]. [لَهُمْ]
يتناولون [شَرَابٌ] سائلاً [مِّنْ حَمِيمٍ] به سخونة شديدة، [وَ] إضافة إلى ذلك [عَذَابٌ
أَلِيمٌ] موجع.
لماذا يلقون كل هذا؟ يلقونه
[بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ]، [كَانُواْ] والقرآن ليس موجهاً إلى الـ [كَانُواْ]،
بل إلى الذين لم يتحوّلوا بعد إلى [كَانُواْ].
على ذلك، فيمكنك استنتاج أن
كل هذه الألوان مِن العقاب، لم تقع بعد، لأن الذي يتوجّه إليه هذا الكلام هو حي، والقرآن
موجّه إلى الأحياء، وبذلك فالكلام هو بمثابة تحذير من مغبّة ما سيؤولون إليه، ليس لأنهم
سخروا من آيات الله، بل إذا استمرّوا في السخرية منها، ولم يتوبوا. أيْ يقول لهم القرآن
الكريم: يمكنكم تفادي ذلك.
فإن رأيتَ شخصاً يمضي في طريق
وعر نحو الهلاك، فتنصحه كي يتجنّب استئناف المسير تفادياً للهلاك المُحَقَق الذي لابدّ
أن ينتهي إليه، فلعلّه لا يعلم، فينتبه، أو لعلّه يعلم، فيتراجَع. فهو إذن قادر على
التراجع إلى صراط مستقيم، وقادر على الاستئناف، ولكنك تكتفي بالتنبيه دون أن تفرض عليه
شيئاً بالقوة. فإن رأيتَ به عناداً شديداً واستهزاءً بنصحك، تركته حيث هو، وإن رأيته
استجاب، استَحسَنتَ تحوّله. ولله المثل الأعلى، فهنا بيان وتنبيه حتى لا يتحوّل هؤلاء
الذين هم هنا، إلى [كَانُواْ يَكْفُرُونَ]، بل يتحوّل المسار بهم، ويظفروا بالنعيم
[بِمَا كَانُواْ] يؤمنون، ويصلحون، ويحسنون. فكل ألوان العذاب التي يبيّنها القرآن،
هي لأناس يمكن لهم أن يتفادوها، وليس لأناس لا يمكن لهم تفاديها، وإلاّ فالقراءة لم
تعد مُجدية.
تُعلّمكَ الآية بأن القرآن
الكريم مفتوح لهداية كل إنسان كائناً مَن كان، وفاعلاً ما فعل، ولا يوجد إنسان مُستثنى
من التعرّض لهذه الهداية، لأن القرآن لم يُنزَل لأناس دون أناس، بل للناس كافةr
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق