د. دحام إبراهيم الهسنياني
لقد أرسل الله سيدنا (يونس)uإلى أهل (نيْنَوى)، وهي من أرض الموصل، عاصمة الدولة
الآشورية، التي تمكنت من بسط سلطانها على كثير من بلاد آسيا.. وكانت غنية موفورة
الغنى، لكن ذلك لم يقدها إلى الدين الحق وعبادة الله وحده، بل قادها إلى الانحراف
عن صراط الله المستقيم.. فأرسل الله سيدنا (يونس)إلى هؤلاء القوم،الذين كانوا
يعبدون الأصنام، ويسجدون للأوثان؛ فحمل علم التوحيد، ودعا القوم إلى عبادة الله
الفرد الصمد وحده.
ودهش القوم وهم يسمعون
كلاماً لم يألفوه، وقالوا له ما قاله كل قوم من المشركين لرسولهم: لقد عبد آباؤنا
هذه الآلهة، ونحن نسير سيرهم، فنعبدها كما عبدوها!!
فكذبوه، ولم يستجيبوا لدعوته، فضاق بهم ذرعاً،
وخرج من بين ظهرانيهم غاضباً عليهم، متوعداً لهم بالعذاب بعد
ثلاث ليال، قبل أن
يأمره الله I بالخروج. وظن أن الله I لن يؤاخذه على هذا الخروج، ولن يضيّق عليه بسبب تركه للقرية،
وهجره لأهلها، قبل أن يؤمر بالخروج.
فلما خرج، وتحقق قومه من
نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، فتضرعوا، وبكى الرجال
والنساء، فكشف الله عنهم العذاب.
أما (يونس)، فقد سار حتى
وصل إلى شاطئ البحر، فوجد سفينة على سفر، فتوسم أهلها فيه خيراً، فأركبوه، فلما
توسطوا البحر، هاج بهم واضطرب، فاستهموا فيما بينهم على أن من وقع عليه السهم
ألقوه في البحر.فوقع السهم على (يونس)، فألقوه فالتقمه الحوت بأمر الله، وتمت
المعجزة، وسار الحوت بـ(يونس) حيًا، يُسبِّح الله ويستغفره، فاستجاب الله له، ونجّاه
من الغمّ، ثم قذف به الحوت في العراء، على ساحل البحر، وهو سقيم.
وعاد (يونس)إلى قومه،
فوجدهم مؤمنين، فلبث فيهم يعلمهم، ويدلهم على الله، ومتعهم الله مدة إقامة (يونس)
فيهم، وبعده، آمنين مطمئنين.
وقد ذكر الله I مدينة (الموصل) في القرآن الكريم، وأثنى على أهلها. قال الله I: ]فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا
إِيمَانُهَا إِلاّ قَوْمَ يونس لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ
الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ(([1]).
قال القرطبـي: "إن
قوم (يونس)u كانوا بنينوى من أرض الموصل، وكانوا يعبدون
الأصنام، فأرسل الله إليهم (يونس) يدعوهم إلى الإسلام، وترك ما هم عليه... فلما
آمنوا، لم يقع بهم العذاب... فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء.."([2]).
ونعود إلى دعاء سيدنا (يونس)u: ]وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(([3]).
هذه الدعوة من الدعوات
العظيمة المباركة في كتاب ربنا جل شأنه، دعاء (يونس)u.. وقد قصّ لنا كتاب الله I في عدّة مواضع عنهم، كما في هذه السورة، وفي سورة (الصّافّات)،
وفي سورة (القلم)، دلالة على أهميتها، لما فيها من الحكم، والفوائد الجليلة، في
مصالح الدين والدنيا والآخرة. وقد ذكرت لنا التفاسير: أن الله Iأرسله إلى قومه، فدعاهم إلى الله I بالإيمان به، فأبوا عليه، ولم يؤمنوا، وتمادوا في كفرهم، فوعدهم
بالعذاب بعد ثلاث، ثم خرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، قبل أن يأمره الله I، فظنّ أن الله I لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء. فلمّا تحقّقوا
من ذلك، وعلموا أنّ النبـيَّ لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم
ومواشيهم... ثمّ تضرّعوا إلى الله I وجأروا إليه... فرفع الله عنهم العذاب.وأما (يونس)u، فإنه ذهب فركب مع القوم في السفينة، فلججت بهم، وخافوا أن
يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم... فوقعت القرعة على (يونس)، فأبوا أن
يُلقوه، ثم أعادوها ثلاث مرات، فوقعت عليه، قال I: ]فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)، فألقى بنفسه في البحر، فأرسل الله I من البحر حوتاً عظيماً، فالتقم (يونس)، وأوحى الله جلَّ شأنه ألاّ
يأكله، بل يبتلعه، ليكون بطنه له سجناً"([4]).
فاستغاث بربه السميع
العليم، الذي لا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، مهما دقّت وخفت، فأنجاه الله I، كما هي سنته مع
الموحدين المخلصين الداعين.ثم قال: ]وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(: "يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا (يونس) من كرب الحبس في بطن
الحوت في البحر، إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم، إذا استغاثوا بنا، ودعونا"([5]).
دعاء سيدنا (يونس) سبب لاستجابة الدعاء
ان مناجاة سيدنا (يونس بن
متى) – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – هي من أعظم
أنواع الـمناجاة لاستـجابة الدعاء وقبولـه. ويهمنا أن نتوقف عند تعقيب القرآن في
الآية: )وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ(، أيْ: حين يأخذون بالتسبيح، صلاةً وذكراً ودعاءً، فهي سُنَّةٌ
ماضية، وذكرى للعابدين.. ونريد أن نؤكد هنا، أن النجاة من ظلمات البر والبحر بيد
الله وحده، فهو الذي ينجيكم منها، ومن كلِّ كَرْب، حين تَدْعُونه تضرعاً وخُفية؛
لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين.. وهذه البشارة، والوعد العظيم، الذي لا
يتخلف من الله ربّ العالمين، لكل مؤمن ومؤمنة، إذا وقع في الشدائد والهموم، فدعا
ربه القدير بهذه الدعوة العظيمة، بصدقٍ وإخلاصٍ، أن ينجيه ويفرج عنه.
وجاءت هذه البشارة كذلك عن
سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد r، حيث قال: (دَعْوَةُ
ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: )لَا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ
الظّالِمِينَ(، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ
مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلّا اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ)([6]).
وفي رواية أخرى عنه r: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ
بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفَرَّجَ
عَنْهُ؟ فقَالُوا: بَلَى، قَالَ: دُعَاءُ ذِي النُّونِ!)([7]).
وعَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ
t، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمِ اللهِ الْأَعْظَمِ الّذِي
إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى؟ الدَّعْوَةُ الّتِي
دَعَا بِهَا (يونس) حَيْثُ نَادَاهُ فِي الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ: ]لَا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظّالِمِينَ(. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ
كَانَتْ لِـ(يونس) خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ r: (أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَ اللهِ U: ]وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ، وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ(([8]).
قال الطبري: المعنى: كما
أنْجَيْنَا (يونس) مِنْ كَرْب الْحَبْس فِي بَطْن الْحُوت فِي الْبَحْر، إذْ
دَعَانَا، كَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَرْبهمْ، إِذَا اِسْتَغَاثُوا
بِنَا وَدَعَوْنَا([9]).
وقال رجل لأبي الدرداءt: أوصني، فقال: (اذكر الله في السراء، يذكرك الله U في الضراء). وعنه أنه قال: (ادع الله في يوم سرائك، لعله أن
يستجيب لك في يوم ضرائك) .
وقال ابن كثير: ]وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ( أيْ: إذَا كَانُوا فِي الشَّدَائِد،
وَدَعَوْنَا مُنِيبِينَ إلَيْنَا، ولا سِيَّمَا إذَا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاء
فِي حَال الْبَلاء([10]).
قال ابن القيم: "أمّا
دعوة ذي النون، فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربّ U، واعتراف العبد بظلمه وذنبه، ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمّ
والغمّ، وأبلغ الوسائل إلى الله I في قضاء الحوائج"([11]).. فيجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها
بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويخبؤها بجهده، ويسترها عن خلقه، يصل
إليه نفعها أحوج ما كان إليه.
وقال السعدي: إن العبد إذا
كانت له مقدمة صالحة مع ربه، وقد تعرف إلى ربه في حال الرخاء، أن الله يشكر له ذلك،
ويعرفه في حال الشدة، بكشفها بالكلية، أو تخفيفها. ولهذا قال في قصة (يونس):]فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ
فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(([12]).
وقال الضحاك بن قيس:
اذكروا الله في الرخاء، يذكركم في الشدة. إن (يونس) عليه الصلاة والسلام كان يذكر
الله I، فلما وقع في بطن الحوت، قال الله I: ]فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ
فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(([13]).وإن (فرعون) كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه
الغرق قال: آمنت، فقال الله I: ]آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ
الْمُفْسِدِين(([14]).
يقول (بديع الزمان سعيد النورسي): "إن
مناجاة سيدنا (يونس بن متى)- على نبينا وعليه الصلاة والسلام - هي من أعظم أنواع
المناجاة، وأروعها، ومن أبلغ الوسائل لاستجابة الدعاء وقبوله.. وسر هذه المناجاة
العظيم هو: إن الأسباب المادية قد هوت كلياً في ذلك الوضع المرعب، وسقطت نهائياً،
فلم تحرك ساكناً، ولم تترك أثراً، وذلك لأن الذي يستطيع أن ينقذه من تلك الحالة،
ليس إلاّ ذلك الذي تنفذ قدرتُه في الحوت، وتهيمن على البحر، وتستولي على الليل وجو
السماء؛ حيث أن كلا من الليل الحالك، والبحر الهائج، والحوت الهائل، قد اتفق على
الانقضاض عليه، فلا ينجيه سبب، ولا يخلصه أحد، ولا يوصِله إلى ساحل السلامة بأمان،
إلاّ من بيده مقاليد الليل، وزمام البحر والحوت معاً، ومَن يسخّر كل شيء تحت أمره..
حتى لو كان الخلق أجمعين تحت خدمته u، ورهن إشارته، في ذلك الموقف الرهيب، ما كانوا ينفعونه بشيء!.
أجل لا تأثير للأسباب قط.. فما أن رأى u بعين اليقين ألاّ ملجأ له من أمره I إلاّ اللواذ إلى كنف مسبب الأسباب، انكشف له
سرُّ الأحديّة من خلال نور التوحيد الساطع، حتى سخرتْ له تلك المناجاةُ الخالصة،
الليلَ والبحرَ والحوت معاً، بل تحوّل له - بنور التوحيد الخالص - بطنُ الحوت
المظلمإلى ما يشبه جوف غواصة أمينة هادئة تسير تحت البحر، وأصبح ذلك البحر الهائج
بالأمواج المتلاطمة، ما يشبه المتنزه الآمن الهادىء، وانقشعت الغيوم عن وجه السماء
- بتلك المناجاة -، وكشف القمر عن وجهه المنير،كأنه مصباح وضيء يتدلى فوق رأسه..
وهكذا غدت تلك المخلوقات التي كانت تهدده وترعبه من كل صوب، وتضيّق عليه الخناق،
غدت الآن تسفر له عن وجه الصداقة، وتتقرب إليه بالود والحنان، حتى خرج إلى شاطىء
السلامة، وشاهد لطف الرب الرحيم، تحت شجرة اليقطين([15]).
ما أحوج المسلمين اليوم إلى دعاء سيدنا (يونس)
فهذه الدعوة )لَا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ(،
هي الكلمات التي دعا بها (يونس)uوهو في بطن الحوت، فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة يارب
صوت ضعيف معروف، من بلاد غريبة. فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا:لا يارب، ومن هو؟
قال: عبدي (يونس). قالوا: عبدك (يونس) الذي لم يرفع له عمل متقبل، ودعوة مجابة.
قالوا: يارب،أولا ترحم ما كان يصنع في الرّخاء، فتنجيه من البلاء. قال: بلى. فأمر
الحوت، فطرحه في العراء([16]).
وقوله: ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ(: بـ(الفاء): التي تفيد التعقيب دون مهلة، وبالإجابة الواسعة
العظيمة، التي يشير إليها (الألف، والسين، والتاء)، التي تفيد المبالغة([17]).فَاسْتَجَبْنا
لَهُ: أيْ: دعاؤه. وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، يعني: بأن قذفه الحوت إلى الساحل.
قيل لم يقل: (فنجيناه)، كما قال في قصة أيوب u: ]فَكَشَفْنا(، لأنه دعا بالخلاص من الضر، فالكشف المذكور يترتب على استجابته، و(يونس)u لم يدع، فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. وردّ بأن (الفاء) في
قصة أيوب تفسيرية. والأول دعاء بكشف الضر، وتلطف في السؤال([18]).
والاستجابة مبالغة في الإجابة،
وهي إجابة توبته مما فرط منه، وإجابة دعائه الذي دعاه في ضمن الاعتراف، لإظهار
التوبة على ألطف وجه وأحسنه([19]).
وقوله I:
]فاستجبنا له(، أيْ: دعاؤه الذي دعاه في ضمن الاعتراف، وإظهار التوبة على ألطف
وجه وأحسنه. حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك اسم الله الأعظم. قال الآلوسي في
تفسيره: "وقد شاهدت أثر الدعاء به، ولله I
الحمد، حين أمرني من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرت الباز الأشهب، وكان
قد أصابني من البلاء ما الله أعلم به"([20]).
فيا أيها المظلوم والمغلوب، ويا أيها
الملهوف والمكروب، ويا أيها المجروح والمنكوب، لا تيأس، وإن توالت عليك الخطوب،
وسدت في وجهك الدروب، فإن علام الغيوب، وغفار الذنوب، وستار العيوب، ومقلب القلوب،
سيفرج عنك الكروب، ويحقق لك المطلوب، كما كشف الضر عن أيوب، وردّ يوسف على يعقوب،ونجّى
يونس من بطن الحوت..
وقوله I:
]وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ(
أي: أخرجناه من بطن الحوت، وتلك الظلمات([21])، ونجينا عبدنا الصالح مما هو فيه من الغمّ، الذي ناله حين التقمه الحوت،
بأن قذفه إلى الساحل. والإنجاء وقع حين الاستجابة،إذ الصحيح أنه ما بقي في بطن
الحوت إلا ساعة قليلة، وإنجاؤه هو بتقدير وتكوين في مزاج الحوت، حتى خرج إلى قرب
الشاطئ، فتقيأه، فخرج يسبح إلى الشاطئ([22]).
وفي قوله I:
(وكذلك ننجي):إن كلمة (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) تعطينا الأمل بأننا مهما فرطنا في جنب الله، فإن باب الاستغفار
مفتوح أمامنا، ورحمة الله قابلة لأن تسعنا، فلا داعي للياس والقنوط.
لقد دلت هذه الآية،
بما لا يدع مجالاً للشك،على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم، فيبتهل إلى الله
داعياً بإخلاص، إلا نجاه الله من ذلك الغم.وذلك حتى لا يظن أحد أن أمر الإجابة
قاصر على الأنبياء والمرسلين.. وقد كان الدعاء في الشدائد والملمات، وملاقاة العدو،
بل حتى في السراء، من دأب نبـي هذه الأمة u،
وهو من جعل الله I لنا فيه القدوة.
فمن مسّه
الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت، ولا يتزعزع، وليستبق
ثقته برحمة الله، وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء. فأما من يفقد
ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله له في المحنة، حين تشتد
المحنة، فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل
ما به من البلاء: )مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ
فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(([23]).
والذى
ييأس عند الضر من عون الله، يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في
الفرج، ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب
والبلاء، إلا أنه لا سبيل في احتمال البلاء، إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى
الفرج، إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص،
إلا بالاستعانة بالله. وكل حركة يائسة، لا ثمرة لها ولا نتيجة، إلا زيادة الكرب،
ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه، بغير عون الله.
والشواهد
على أن الدعاء الخالص لله I تفرج عن الإنسان كربة السجن كثيرة، ورجالها
أنبياء ورسل ودعاة وصالحون.. فهذا هو الإمام (أحمد بن حنبل) رحمه الله I يعاني هذه الكربة، لإصراره على كلمة الحق، والثبات عليها، أو
الموت دونها، فكانت ثمرة موقفه هذا أن أخرجه الله من محنته وكربته، عزيز النفس،
ينهل من علمه الصافي علماء الأمة، وتكسب من بعده الأمة العقيدة السليمة، والسنة
النبوية الصحيحة، وأصبح إمام أهل السنة والجماعة في عصره، وينسب إليه مذهب
الحنابلة في الفروع.
لذلك كان
يقول بعض السلف:
1.
عجبت لمن أصابه ضر، كيف يغفل عن قول الله: )أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ
الرّاحِمِينَ(([24]). والله I يقول: )فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ
مِن ضُرّ(([25]).
2.
وعجبت لمن أصابه هموغم، كيف يغفل عن قول
الله: )لاّ اله إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى
كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ(([26]). والله I يقول: )فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ(([27]).
3.
وعجبت لمن يخافشيئا من
السوء، كيف يغفل عن:
)حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(([28])، والله I يقول: )فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللَّهِ
وَفَضْلٍ لّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء(([29]).
4.
وعجبت لمن يمكر به الناس، كيف يغفل عن:)وَأُفَوّضُ أَمْرِى إلى اللّهِ إِنَّ اللّهَ
بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(([30])، والله I يقول: )فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ
وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوء الْعَذَابِ(([31]).
5.
وعجبت لمن يرغب في الجنة، كيف لا يقول: ]ما شاءَ اللّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ(([32])؛ لأن الله I يقول: ]فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ
جَنَّتِكَ(([33]).
فواجب
على العبد، إذا ضاقت به ضائقة، أو أتاه حادث، أو أتاه هم وغم، أن يكرر هذا الدعاء،
ويجعلها ملازمة له في دعائه كله، ويقدمها قبل أن يدعو أي دعوة، فإنه بإذن اللّه
فتح عظيم، يستجاب له، بإذن الله I.
من وسائل دفع الهموم والغموم وكشف الكروب في دعاء سيدنا (يونس)u
1.
الإيمان بالله، وتوحيده:
هذه
الدعوة فيها من كمال التوحيد، والإيمان بالله I، الذي ينبغي لكل داع لربه أن يضمن هذه المضامين في أدعيته.لذلك بدأ (يونس)u بكلمة التوحيد في دعائه. لأنها العروة الوثقى وعلامة الإيمان، قال
I: ]وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قلبه(،
فأهل الإيمان أهدى الناس قلوباً، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات. "فمن وَطّنَ
قلبَه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب،واشتد به القلق.. فما
دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد. ولذلك كان دعاء الكرب في التوحيد، ودعوة المؤمن
التي ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله كربه، في التوحيد"..
فكأنه يقول: إن تعذبني
فبعدلك، وإن تغفر لي فبرحمتك.. كذلك تضمّن هذا الدعاء الجليل صدق العبودية للّه I ربّ العالمين، من كل الوجوه؛ "فإن التوحيد والتنزيه يتضمّنان
إثبات كل كمال لله I ربّ العالمين، وسلب كلّ نقصٍ، وعيبٍ،
وتمثيلٍ، عنه. والاعتراف بالظلم يتضمّن إيمان العبد بالشرع، والثواب، والعقاب،
ويوجب انكساره، ورجوعه إلى الله I، واستقالته عثرته، والاعتراف بعبوديته،
وافتقاره إلى ربّه U. فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها:
التوحيد، والتنزيه، والعبودية، والاعتراف"([34]).
وكأنّ لسان حاله يقول: أي
يا ربّ، أنت الواحد المنفرد بالألوهية، المنزّه عن كل نقصٍ وعيبٍ، ومن ذلك أن ما
وقع لي ليس بظلم منك، فأنت الكامل في أسمائك، وصفاتك، المنزّه عن كل سوء، فإني
ظلمت نفسي، واعترفت بذنبـي، بتعريضي للهلاك. فتضمّن هذا الإقرار: طلب الغفران منه
جلّ وعلا، والتجاوز عنه، وإنقاذه ممّا هو فيه من الكرب، والشدة، بألطف الكلمات.
وفي هذا الدعاء من دقائق الأدب، وحسن الطلب، ما يوجب استجابته، منها: ذكر ظلمه
لنفسه، وسلك نفسه مسلك الظالمين لأنفسهم، ولم يطلب من الله بصيغة الطلب الصريح أن
يغفر له ذنبه؛ لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، وأنه I لم يظلمه، فتضمّن الطلب على ألطف وجه([35]).
إن من ثمرات الإيمان أن
الله يدفع عن المؤمنين جميع المردة، وينجيهم من الشدائد. كما قال اللهI: )إِنَّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَذِينَ آمَنُوا(([36])، أيْ يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم شر شياطين الإنس،
وشياطين الجن، ويدفع عنهم الأعداء، ويدافع عنهم المكاره قبل نزولها، ويرفعها أو
يخفضها بعد نزولها، )فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ( إذا وقعوا في الشدائد؛ كما أنجينا (يونس).وكما
قال اللهI: )وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ
يُسْرًا(([37]).
فالمؤمن المتقي ييسر الله
له أموره، وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويسهل عليه الصعاب، ويجعل له من كل هم
فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا؛ ويرزقه من حيث لا يحتسب. وشواهد هذا كثيرة من الكتاب
والسنة([38]).
2.
التوبة والاستغفار والاعتراف بالذنب
فالاستغفار والتوبة
من أعظم الأسباب لتفريج الهموم، وجلب الأرزاق، والخروج من المضائق. وقد كان شيخ
الإسلام (ابن تيمية)- رحمه الله - يُكثر من الاستغفار، إذا أشكلتْ عليه مسألة. وهو
يقول: "إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تُشْكِل عليّ،
فأستغفر الله I... حتى ينشرح الصدر، ويَنْحَلّ إشْكال ما أشْكَل... وأكون إذ ذاك
في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة، لا يمنعني ذلك مِن الذِّكْر والاستغفار إلى
أن أنال مطلوبي"([39]).
وكان (يونس)
يَنُوحُ على نفسه فِي جَوْف الحوت، ويقول: إِلهِي من الجِبال انْزَلْتَنِي، ومن
بين العِباد أَخْرَجْتَنِي، وفي البحار صَيَّرْتَنِي، وفي بَطْنِ الحُوتِ
حَبَسْتَنِي، وبشُؤْم الزَلّةِ ابْتَلَيْتَنِي، فلو نَجَّيْتَنِي من سِجْنِك
لأَعْبُدَنَّك عِبادَةً لم يَعْبُدْك أَحَدٌ من العالمين.
وقوله: ]فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ(، دليل على أن التهليل والتسبيح يجليان
الغموم، وينجيان من الكرب والمصائب، فحقيق على من آمن بكتاب الله أن يجعلها ملجأ
في شدائده، ومطية في رخائه، ثقة بما وعد الله المؤمنين من إلحاقهم بذي النون في
ذلك، حيث يقول: ]فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(([40]).
3.
الصبر على تكاليف الدعوة، وعدم اليأس من هداية الناس
إن في قصة
سيدنا (يونس)u عظات باهرات، ولفتات ولمسات،
ينبغي لكل مسلم يدعو إلى الله،أن يتأملها ويقف أمامها: فإنه u لّما كذبه قومه، ولم يؤمنوا
بدعوته، ضاق بهم صدراً؛ فلم يصبر على ما تتطلبه تكاليف الرسالة من الصبر والمصابرة..
لقد ترك قومه بعد أن غضب عليهم: فأوقعه اللّه في ضيق أشد. ولولا أنه تاب إلى ربه،
واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه، لما وجد تفريجاً لذلك الضيق.
إن أصحاب
الدعوة إلى الله لابد أن يصبروا على التكذيب والإيذاء، من أجل الدعوة، فإن ذلك -
ولو كان ثقيلاً على النفس - هو بعض تكاليف الدعوة إلى الله.
إن المسلم لا
ييأس من استجابة القلوب مهما لاقى من عنت وتكذيب وجحود وإيذاء.. فليس من طبيعة
دعوته اليأس. فليحاول مرات ومرات بلا عدد ولا حصر؛ فقد يجعل الله هدايتهم على
يديه!.
إن طريق
الدعوة إلى الله ليس هيناً، واستجابة النفوس ليست يسيرة، ومهمة المسلم أن يقوم
بإحياء قلوب الناس بكل وسيلة... وليس ذلك بالأمر اليسير.. إن من اليسير أن يغضب
صاحب الدعوة على الناس الذين لم يستجيبوا لدعوته، فيهجر الناس،لكنه يخسر خسارة
كبيرة؛ إذ يخسر الدعوة إلى الله!.
إن نبـي الله (يونس)u لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدراً بالقوم، وألقى عبء
الدعوة، وذهب مغاضباً، ضيّق الصدر، حرج النفس، فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى
جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه، واعترف بظلمه لنفسه، ودعوته،
وواجبه، لما فرّج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته، ونجته من الغم الذي
يعانيه.
وأصحاب الدعوات لا بد أن
يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها.. وتكذيب الصادق
الواثق، مرير على النفس حقاً، ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل
الدعوات، أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا، ولا بد أن يكرروا الدعوة،ويبدأوا
فيها، ويعيدوا.
إنهم لا يجوز لهم أن
ييأسوا من صلاح النفوس، واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو
وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد
المائة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة، وحاولوا، ولم
يقنطوا، لتفتحت لهم أرصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هيناً ليناً. واستجابة
النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد
والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام.
ولا بد من استحياء القلوب
بكل وسيلة، ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة، ومن محاولة العثور على العصب
الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف، مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول
الكائن البشري تحويلاً تاماً في لحظة، متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش
أحياناً وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري،
فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود! وأقرب ما يحضرني للتمثيل
لهذه الحالة: جهاز الاستقبال، عند البحث عن محطة إرسال.. إنك لتحرّك المؤشر مرات
كثيرة ذهاباً وإياباً، فتخطىء المحطة وأنت تدقق وتصوب. ثم إذا حركة عابرة من يدك،
فتتصل الموجة، وتنطلق الأصداء والأنغام! إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز
الاستقبال. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المؤشر ليتلقى القلب من وراء
الأفق. ولمسة واحدة بعد ألف لمسة، قد تصله بمصدر الإرسال! إنه من السهل على صاحب
الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته، فيهجر الناس.. إنه عمل مريح، قد
يفثأ الغضب، ويهدىء الأعصاب.. ولكن أين هي الدعوة؟ وما الذي عاد عليها من هجران
المكذبين المعارضين؟! إن الدعوة هي الأصل، لا شخص الداعية! فليضق صدره. ولكن ليكظم
ويمض. وخير له أن يصبر، فلا يضيق صدره بما يقولون! إن الداعية أداة في يد القدرة.
والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله،
والهدى هدى الله.. وإن في قصة (ذي النون) لدرساً لأصحاب الدعوات، ينبغي أن يتأملوه([41]).
إن الصبر سلاح عظيم يستعين به الدعاة إلى الله، وهم
يبلغون رسالة ربهم، ويحققون ما يريدون من هداية الناس. وما أروع ما قاله (ابن القيم):
"أين أنت والطريق تَعِبَ فيه آدم، وناحَ لأجله نوح، ورُميَ في النار الخليل،
وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشِرَ
بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى أيوب، وزاد على المقدار بكاء
داوود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد r.. تزهو أنت باللهو واللعب:
فيا دارَها بالحزن إن مزارها
قريب،
ولكنْ دون ذلك أهوال"([42])
4.
التوكل على الله:
كما فعل (يونس)u
عندما وقع في البلاء، حيث لجأ إلى الله، وتوكل عليه وفوض أمره إليه؛ فكانت الثمرة
زوال الكربة وانكشاف الغمة.
وحقيقة التوكـل: أن
يعتمد العبد على الله I اعتمادًا صادقًا في مصالح دينه ودنياه، مع فعل الأسباب المأذون
فيها. فالتوكل: اعتقاد، واعتماد، وعمل.
]فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاّ إِلَهَ إِلاّ أَنتَ(
فلا ملجأ لأيّ هاربٍ أو ضائعٍ أو حائر إلاّ إليك، ولا ملاذ إلاّ أنت، فأنت القادر
على كل شيء، والرحيم لكل مخلوق، والعليم بكل الخفايا، والمهيمن على الأمر كله،
والغافر لكل ذنب، والمستجيب لكل داع، والمغيث لكل ملهوف، والمفرِّج عن كل مهموم
ومكروب… وليس لي غيرك أسأله كشف ضري، والنظر في أمري، فأنت ربي وسيدي ومولاي
وملاذي في كل الأمور، (سُبْحَانَكَ) إذ يختزن قلبـي وعقلي ووجداني الإحساس
بعظمتك في كل مواقع العظمة في مجالات التصور، وفي حركة القدرة في الواقع، في مظاهر
الخلق والإبداع.. فيتحول ذلك إلى تسبيحٍ منفتح خاشعٍ مبتهلٍ إلى الله، ]إِنِّي كُنتُ مِنَ الظّالِمِينَ(،
فقد ظلمت نفسي في تحركي، أو تقصيري في سبيل الدعوة، من غير قصد، ولا عمد. وها أنذا
يا رب راجع إليك بكل قلبـي وعقلي وحياتي، لتتقبلني بكل لطفك ورضوانك ورحمتك،
ولتكشف عني كل أجواء الحيرة والغمّ التي تغمرني بالآلام والمشاكل، فهل تستجيب لي؟
إنك أنت الذي تستجيب كل الدعوات لمن دعاك.
لذلك ينبغي علينا
اليوم أن نتذكر هذا الدعاء، وأن نكثر منه، عسى الله أن يكشف عنا الضر، ويعطي كل
إنسان مسألتَه، وينجينا من الغم. ولذلك، فإن الله I
استجاب مباشرة لسيدنا (يونس)، ونجاه من الغم. لماذا؟ لأنه كان مؤمناً حقيقياً
بالله I، وتذليل الدعاء بـ(كذلك) من الإنجاء الذي أنجي به (يونس)u،
أيْ مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من هموم، يحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة..
وفي هذا تعريض للمشركين من العرب بأن الله منجي المؤمنين من الغم والنكد الذي
يلاقونه لسوء معاملة المشركين إياهم في بلادهم([43]).
يقول (سعيد النورسي): "فلننظر بنور تلك
المناجاة إلىأنفسنا.. فنحن في وضع مخيف ومرعب أضعاف أضعاف ما كان فيه سيدنا (يونس)u، حيث إن:ليلنا، الذي يخيم علينا، هو
المستقبل.. فمستقبلنا إذا نظرنا إليه بنظر الغفلة، يبدو مظلماً مخيفاً، بل هو أحلك
ظلاماً، وأشد عتامة من الليل الذي كان فيه سيدنا (يونس)u، بمائة مرة..وبحرنا: هو بحر الكرة الأرضية،
فكل موجة من أمواج هذا البحر المتلاطم تحمل آلاف الجنائز، فهو إذاً بحر مرعب رهيب
بمائة ضعف رهبة البحر الذي ألقي فيه u.وحوتنا: هو ما نحمله من نفس
أمارة بالسوء، فهو حوت يريد أن يلتقم حياتنا الأبدية ويمحقها. هذا الحوت أشد ضراوة
من الحوت الذي ابتلع سيدنا (يونس)u؛ إذ كان يمكنه أن يقضي على
حياة أمدها مائة سنة، بينما حوتنا نحن يحاول إفناء مئات الملايين من سني حياة
خالدة هنيئة رغيدة.
فما دامت حقيقة وضعنا هذه، فما علينا إذاً
إلاّ الاقتداء بسيدنا (يونس)u، والسير على هديه، معرضين عن الأسباب جميعاً، مقبلين كلياً إلى ربّنا، الذي
هو مسبب الأسباب، متوجهين إليه بقلوبنا وجوارحنا، ملتجئين إليه I، قائلين:
)لَا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ
الظّالِمِينَ(، مدركين بعين اليقين أن قد
ائتمر علينا -بسبب غفلتنا وضلالنا - مستقبلُنا الذي يرتقبنا، ودنيانا التي تضمنا،
ونفوسُنا الأمارة بالسوء التي بين جنبينا، موقنين كذلك أنه لا يقدر أن يدفع عنا
مخاوف المستقبل وأوهامه، ولايزيل عنا أهوال الدنيا ومصائبها، ولا يبعد عنا أضرار
النفس الإمارة بالسوء، ودسائسها، إلاّ من كان المستقبل تحت أمره، والدنيا تحت
حكمه، وأنفسنا تحت إدارته.
فما دامت هذه
حقيقة وضعنا، فما علينا إلاّ أن نرفع أكفّ الضراعة إليه I متوسلين، مستعطفين نظر رحمته الربانية إلينا،
اقتداء بسرّ تلك المناجاة الرائعة، التي سخّرت الحوت لسيدنا (يونس)u، كأنه
غواصة تسير تحت البحر، وحولت البحر متنزهاً جميلاً، وألبست الليل جلباب النور الوضيء
بالبدر الساطع. فنقول: )لَا إِلَهَ إِلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ
الظّالِمِينَ(، فنلفت بها نظر الرحمة الإلهية
إلى مستقبلنا بقولنا: (لا إله إلاّ أنتَ). ونلفتها إلى دنيانا بكلمة: (سُبحانَكَ)،
ونرجوها أن تنظر إلىأنفسنا بنظر الرأفة والشفقة بجملة: )إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظّالِمِينَ(، كي يعمّ مستقبلنا نور الإيمان وضياء بدر
القرآن، وينقلب رعب ليلنا ودهشته إلى أمن الأنس، وطمأنينة البهجة. ولتنتهي مهمة
حياتنا، ونختتم وظيفتها بالوصول إلى شاطىء الأمن والأمان، دخولاً في رحاب حقيقة الإسلام،
تلك الحقيقة التي هي سفينة معنوية أعدّها القرآن العظيم، فنبحر بهاعباب الحياة، فوق
أمواج السنين والقرون.."([44])r
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق