د. مصطفى
عطية جمعة
يمثّل كتاب (اليمين واليسار في الإسلام)(1) نموذجاً
في التعاطي الفكري، أو القراءة الفكرية المعاصرة، للإسلام وثقافته، ديناً وتطبيقاً،
وشخصيات وتاريخاً، وتماشياً مع التطبيق الإيجابي لدعاوى تيار (الاشتراكية القومية)،
في تطبيقاته العربية، التي وجدناها في نظام (عبد الناصر)، وإيديولوجية (حزب البعث)،
وغيرهما.
لذا، فمن المفيد
- في هذا السياق - التوقف عنده، وعرض موجز عن طرحه، ومناقشته؛ فهو بمثابة
لبنة أولى في الكتابات التي قرأت الإسلام، وتاريخه، وفق منظور يساري.. فهو تجربة للتطبيق، غلب عليها حماس البدايات.
لبنة أولى في الكتابات التي قرأت الإسلام، وتاريخه، وفق منظور يساري.. فهو تجربة للتطبيق، غلب عليها حماس البدايات.
وأما اليمين، فهو الاتجاه المعارض لهذا، الذي سمح بالفروق الشاسعة
بين أفراد المجتمع الإسلامي. وهو الذي حارب ضد اليسار، لتظل فئة متحكمة في الثروة،
وتتحكم سياسياً واجتماعياً في غالبية المسلمين..
ويصرح المؤلف أنه سيستخدم مصطلح (النزعة الاشتراكية)، بوضوح، محددا
أن المقصود بها ليس الاشتراكية التي تأتي في مرحلة الإنتاج الصناعي، بعد الزراعي، وإنما
الاشتراكيون هم أصحاب الاتجاه الجماعي، الذين يعملون لصالح الأغلبية، ويقدّمون صالح
الأغلبية والجماعة.. أما اليمين، فهم أصحاب الاتجاه الفردي، الذين يسعون إلى الثروة،
والسلطة، ومصالحهم الخاصة(2).. ويضاف إلى ذلك وجود تيار الوسط بين اليسار
واليمين، والذي يمثّله بعض(3) الصحابة، وأبرزهم: أبو بكر، وعمر بن الخطاب،
واللذان استفادا من الظروف المواتية بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، من أجل
الاستيلاء على السلطة، وتوجيهها وفق وجهتهما الخاصة، أو رغباتهما الشخصية(4).
وهو يؤكد في قراءته على أن الحضارة الإسلامية استمدت أصولها من
الإسلام، وأنه ساع إلى اكتشاف عوامل استمرار هذه الحضارة، وقراءتها قراءة شاملة جديدة(5)..
فالطرف اليميني ساع إلى المزيد من الثروة والجاه والمنصب، ويتآمر في سبيل ذلك؛ بتحالفهم
مع التجار، في اللعبة الشهيرة المتمثلة في تحالف السلطة والمال، فكلاهما يفيد الآخر
ويدعمه(6). والمثال على ذلك هو عثمان بن عفان، الشيخ السهل الطيب، الذي
تصدّر القيادة في الأمة الإسلامية، ومن ثم تمّ تكوين الملكيات الزراعية الواسعة، وتأسّست
ارستقراطية عربية، ودعمتها الدولة الأموية، بل كانت امتداداً لخطّ عثمان، وسياسته،
التي تخالف ما درج عليه أبو بكر وعمر في سياستهما(7).. وانطلقت ثورة اليمين
بعد مقتل (عمر بن الخطاب)، بتولية (عثمان).. في حين برز اليسار، ممثلاً في شخصية (أبي
ذر الغفاري)، الذي عارض أصحاب الأموال في توجهاتهم(8).. كما أن كبار الصحابة
في المدينة - المنتمين طبقياً إلى اليمين - ضاقوا بسياسة (عمر بن الخطاب)، وتقشفه الشديد،
ودعموا (عثمان)، ومن ثم دعموا (معاوية) خاصة، و(بني أميّة) عامة، ضد المحرّضين على
الثورة، مثل: (طلحة بن عبيد الله)، و(الزبير بن العوام)، وتضامنت أيضاً السيدة (عائشة)
(رضي الله عنهم) في التحريض على الثورة(9)..
ومن ثم يتبنى النهج الثوري – وفق التصور الماركسي – في قراءته أحداث
الفتنة الكبرى، التي أدت إلى مقتل (عثمان)، وطلب الثوار تولّي (علي بن أبي طالب)(10)،
الذي يمثّل النزعة الاشتراكية في الإسلام، والتي ظلّت جذوتها مشتعلة، وقبلتها الشعوب
الإسلامية. وسعى (علي) إلى التعامل مع الواقع الجديد، وتغيّر المراكز الاقتصادية، وكثرة
الأموال، بفعل اتساع الفتوحات، وتدفق الأموال على عاصمة الخلافة(11).
إن أول ما يستوقفنا
في هذا الكتاب - وقد جاءت قراءته لتاريخ الإسلام منطلقة من مفاهيم حديثة - ؛ أن منهجه
يكاد يكون تحليلاً سياسياً، ينحّي البعد الديني والروحي والتشريعي في الإسلام، ويقرأ
أحداث السيرة، والصحابة، ويحلل سلوكهم، وفق الرؤية السياسية المعاصرة، التي تمثل المنفعة
أساسها، والصراع وسيلتها.. أيّ إن كلّ طرف، ممّن أسماهم (اليمين واليسار)، يحرص على
تحقيق مصالحه، ويتآمر ويتحالف في سبيلها، وهو ما يتنافى مع جوهر الإسلام نفسه..
وقد ذكر المؤلف
مرات، في ثنايا كلامه، أن الإسلام دين شامل، أحدث ثورة كبيرة في العقيدة، والتشريع،
ونظرة الإنسان إلى الكون. فمن الخطأ – بلا شك - أن ينحّي منظور الإسلام نفسه، الذي
هو مصدر للقيم والتشريع والحكم، ويذكر نعوتاً وأحكاماً تعميمية، من قبيل أن الإسلام،
وحركات الجهاد فيه، ما هي إلا صراع من أجل التطبيق الاشتراكي، الذي يحارب الأغنياء
والموسرين، وينتصر للفقراء والمعوزين(12). وهي قناعة إيديولوجية معاصرة،
تمّ إسقاطها على الإسلام الدين والشـريعة والتجربة التاريخية، بافتعال واضح.. فالإسلام
دين انتصـر للفقراء والمهمشين في أحكام كثيرة، مذكورة في أبواب الفقه وأحكام المال،
وأوجب مهامها للحاكم نحو رعيته، وحقوق الرعية في محاسبة الحاكم.. فلا يمكن قراءة الإسلام
بمنظور أحادي، يستند إلى الاشتراكية، بوصفها نظرية إنسانية فيها جوانب جيدة، ولكنها
نابعة من سياق ثقافي غربي، ثقافته السياسية مبنية على المنفعة، والصـراع من أجلها.
وعندما نقول قراءة أحادية، فإننا نعني أن الكاتب ابتسر أولاً الإسلام الدين، فلم يتوقف
عند شريعته، وموقفها من الفقر، بل انطلق إلى أحداث السيرة، والخلفاء الراشدين، والأمويين،
يناقش أفعالهم وسلوكهم من منطلق واحد، وهو مدى تعاطفهم مع الفقراء والمستضعفين، ونسـي
أن الحكم في هذا الأمر كله كان التشـريع الإسلامي، الذي لا يحرّم الثروة، ولا السعي
والاجتهاد في جمعها، وفي ذلك يتفاوت الأفراد في مواهبهم واستعداداتهم وجهودهم.
فالقضية ليست في وجود الأغنياء والموسرين، وإنما في واجب الأغنياء
نحو الفقراء، وواجب الدولة نحو الفقراء أيضاً. وهناك مئات النصوص والأحكام التي أثبتت
حق الفقراء في مال الأغنياء، وحق الدولة نحو الفقراء، وهي أحكام شرعية، عكف الحكام
والولاة على تطبيقها، وكانوا على دراية بها.. و(عمر بن الخطاب) هو الذي أسّس بيت المال،
وجعل رافديه: الزكاة، والخراج.. ولا ننسى أن الإسلام حارب الفقر، بالحضّ على العمل
للقادر، وحثّ على التكافل الاجتماعي لغير القادر، في منظومةٍ فصّلتها الكثير من الكتب
الفقهية قديماً، وناقشتها وفصّلتها - بلغة العصـر - دراسات حديثة، منذ منتصف القرن
العشرين(13)
.
كما أننا نلاحظ
في الكتاب أمراً جوهرياً، ألا وهو غياب التوثيق للمرويات التاريخية الواردة، بل ولسائر
المراجع الأخرى. وهذا من شأنه أن يجعل الكتاب أقرب إلى الكتابة الصحفية، منه إلى الدراسة
العلمية. فغياب التوثيق في دراسة تاريخية لهو طامة كبرى، لأنه يشير إلى أحداث مختلف
عليها بين الرواة، وبعضها مدلّس ومكذوب، تمّ الرد عليه في كتب السيرة والتاريخ، مثل:
قضية التحكيم، وموقف عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري منها. فلم نجد مرجعاً واحداً
لما يذكره من روايات، وكأنها معروفة سلفاً للقارئ، ومسلّم بها من حيث دقتها؛ وهذا غير
صحيح بالمرّة، بجانب إشارته إلى كتب معاصرة، ونقله عنها مرويات تاريخية أخرى، دون تثبّت،
أو مراجعة لها؛ أيْ قام بعملية (نقل علمي عبر كتاب وسيط)، دون رجوع إلى المصدر التاريخي،
أو حتى الإشارة إليه، وهذا خطأ علمي بلا شك.
والأدهى في ذلك،
أنه أعطى مصطلحات إسقاطية واضحة، تمتاح من قناعته الإيديولوجية، مثل نحته مصطلح (اليسار
الإسلامي)(14)، بزعامة علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، وقراءته حركة
(علي) التاريخية في ضوء هذه الرؤية، وهذا ما لا يمكن قبوله على الإطلاق. فلم يكن النزاع
في جوهره انتصاراً للعدالة الاجتماعية، وإنما كان صراعاً على قضايا عديدة، أهمها: الخلافة،
ودم عثمان. وأشعلتها أحداث الفتنة الكبرى.
وقد واصل المؤلف
تعميماته، مؤكداً أن حركة المجتمع المسلم، طيلة القرون التالية، كانت صراعاً بين يمين
ويسار. وتناسى أن هذا الصراع حسمه الإسلام، وشريعته.. فالقضية كانت القيام على أمر
الشريعة، فهي خير كلها للفرد والأمة والمجتمع. كما يقول (ابن خلدون) بأن "الدول
العامة الاستيلاء، العظيمة الملك، أصلها دين؛ إمّا مِن نبّوة، أو دعوة حق"، وأن
الخلاف يحدث عندما تتصارع النفوس على الدنيا، وتنأى عن شريعة الله، وهدي نبيّه. فإذا
أقبلت على الإسلام، "وانصـرفت إلى الحق، ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على الله
؛ اتّحدت وجهتُها، فذهب التنافس، وقلّ الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتّسع نطاق
الكلمة لذلك، فعظمت الدول"(15). مع اعترافه بأن الجاه مفيد للمال،
وأن السعادة والكسب يتحصلان غالباً لأهل الخضوع والملق (التملّق)، وأن هذا الخلق من
أسباب السعادة(16).
وهذا باعتراف المؤلف
نفسه بما أسماه (المبادئ الإسلامية في التكافل) بين الأغنياء والفقراء، والتي لا تخرج
عن الشريعة، وأحكامها، وتطبيقاتها، المخولّ بها الحكام، والولاة، ومن ينيبونهم..
كما يعترف المؤلف
أنه أطلق الكثير من التحليلات البعيدة عن الروح العلمية، وطرح تساؤلات ومظانّ، دون
مرويات تاريخية تدعمها(17). وهذا دالّ على إسرافه في المعالجة الفكرية الإيديولوجية،
على حساب الواقع التاريخي والمجتمعي. وبعبارة أوضح: هي قراءة متعسفة للتاريخ الإسلامي،
تهدف للانتصار لفكرة إيديولوجية، بدون التدقيق كثيراً في مدى تطابق الأحداث، وفهم الشخصيات،
وحركة التاريخ نفسها، لما يتم طرحه.. فيمكننا نعت كتابه بأنه: قليله تاريخ، كثيره سياسة،
ظاهره الحيدة، وباطنه الانحياز لقناعات مسبقة.
وبالتالي يكون السؤال: إذا كانت المثل العليا للإسلام تؤكد على
المبادئ الاشتراكية، والعدالة الاجتماعية، باعتراف المؤلف، فلماذا لا يكون الطرح من
أساسه حول مدى التزام الشخصيات والحكام بهذه المُثُل، وسعيهم إلى تطبيق الشريعة السمحاء؟
وساعتها يكون معيار الحكم نابعاً من خصوصية التشريع الإسلامي، ومدى اقتراب الحكام،
والدول، والناس، منه. وبذلك، لا تكون القراءة إسقاطية لفكر معاصر على قديم، وإنما قراءة
استنباطية مؤصلة، نابعة من الإسلام الدين، وحركة تاريخه.
فلا بأس من وجود قراءة معاصرة للتاريخ القديم، على أن تكون القراءة
متأملة بعمق للتاريخ الإسلامي، وحركته، وتعي القوى الدافعة لحركة التاريخ العربي الإسلامي،
و ما جاء به الإسلام تحديداً، وخصائص الشخصية العربية، وما أحدثه الإسلام بها، ومن
ثم تنظر إلى حركتها، في ضوء المواهب الفردية للشخصيات، وأنهم من كبار الصناع والقادة
التاريخيين، وليسوا مجرد سياسيين يتقاتلون. وساعتها ستكون القراءة المعاصرة أكثر دينامية
وفهماً للتاريخ والثقافة، وتكون النتائج المستنبطة من أحداث التاريخ في خدمة الواقع
المعاصر المعيش، وليس سبباً في سوء الفهم، الناتج عن التعامل الجامد/ السياسي/ الإيديولوجي
مع الشخصيات.
ويظلّ هذا الكتاب محاولة أولية، بكل ما تعطيه دلالة الأولية من
معان، فيها قدر من الريادة مع حماسة، ومن شأن هذين أن يحملا معهما مثالب عديدة.
الهوامش
:
1-
اليمين واليسار في الإسلام، أحمد عباس
صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2 ، 1973م.
2-
السابق ، ص5-7 .
3-
السابق ، ص54 .
4-
السابق ، ص59.
5-
السابق ، ص10.
6-
السابق ، ص61 ، 62 .
7-
السابق ، ص65- 68 .
8-
السابق ، ص83 .
9-
السابق ، ص94 ، 95 .
10-
السابق ، ص105 .
11-
11 ) السابق ، ص113
12-
12 ) السابق ، ص135
13-
13) منها على سبيل المثال : التنمية الاقتصادية
الشاملة في منظور الإسلام ، د. فرهاد محمد علي الأهدن، سلسلة كتاب التعاون، القاهرة
، ط1 ، 1994م . وهو دراسة مقارنة للإسلام بوصفه منظومة كاملة: الاقتصاد جزء منها، وبين
النظم الاقتصادية الوضعية. ويؤكد المؤلف على سوء القراءات السابقة للجانب الاقتصادي
في الإسلام.
14-
السابق ، ص138
15-
المقدمة، عبد الرحمن بن خلدون، تحقيق
: د. عبد السلام الشدادي، منشورات: خزانة ابن خلدون (بيت العلوم والفنون والآداب)،
الدار البيضاء، ط1، 2005م ، ج1 ، ص266.
16-
السابق ، ج2 ، ص259 ، 261
17-
السابق ، ص140 ، وفي ص 141 يؤكد على أن
المثل العليا للإسلام غاية سامية
.
مما يضعف توصيفات الكاتب الماركسي تجاهله امربن مهمين الاول ان دعوة ابي ذر الغفاري المشهورة عن فرضية التصدق بفضول الاموال وعدم الاكتفاء بإخراج اازكاة ااواجبة هي دعوة لم يقبلها المجتمع المسلم
ردحذفالامر الثاني ان من وصفوا بانهم قادة اليسار الاسلامي بمن فيهم علي بن ابي طالب وابنائه كانوا من الاثرياء وعلي نفسه كان لديه ملكيات زراعية كببرة كما انه لم يقم بتطبيق فكرة أبي ذر بعد توليه الخلافة خلال خمس سنوات وورد ما يدل على انه اقطع بعض أصحابه إقطاعيات كما انه لم يصادر الاموال الهائلة التي حصل عليها ابنه الحسن وابن أخيه عبدالله بن جعفر من معاوية في ذروة الحرب بينهما وعموما عاش كبار أهل البيت حياة رغدة مرفهة بسبب اعطيات الخلفاء لهم