إعداد:
صالح شيخو الهسنياني
قال
تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ
فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [فاطر:
31-32]
فالفريق
الأول- ولعله ذكر أولاً لأنه الأكثر عددا - (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ)، تربو سيئاته في العمل
على حسناته.
والفريق
الثاني وسط (مُقْتَصِدٌ)، تتعادل سيئاته وحسناته.
والفريق
الثالث (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ، بِإِذْنِ اللَّهِ)، تربو حسناته على سيئاته..
ولكن
فضل الله شمل الثلاثة جميعاً، فكلهم انتهى إلى الجنة، وإلى النعيم الموصوف في الآيات
التالية، على تفاوت في الدرجات.
وقال بعض العلماء: قدّم الظالم، لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله، والمقتصد هو المعتدل في أموره، لا يسرف في جهة من الجهات، بل يلزم الوسط.
ولما
أريد تعميم البشارة، مع بيان أنهم مراتب فيما بشروا به، جيء بالتفريع، في قوله:
فمنهم
ظالم لنفسه... إلى آخره. فهو تفصيل لمراتب المصطفين، لتشمل البشارة جميع أصنافهم، ولا
يظن أن الظالم لنفسه محروم منها، فمناط الاصطفاء هو الإيمان والإسلام، وهو الانقياد
بالقول والاستسلام.
وقدّم
- في التفصيل - ذكر الظالم لنفسه، لدفع توهّم حرمانه من الجنة، وتعجيلاً لمسرّته.
وفي
المراتب الثلاث أقوال كثيرة:
1) الظالم هو الراجح السيئات، والمقتصد هو الذي
تساوت سيئاته وحسناته، والسابق هو الذي ترجّحت حسناته.
2) الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه، والمقتصد
من تساوى ظاهره وباطنه، والسابق من باطنه خير.
3) الظالم هو الموحّد بلسانه، الذي تخالفه جوارحه.
والمقتصد هو الموحّد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف. والسابق هو الموحّد الذي
ينسيه التوحيد عن التوحيد.
4) الظالم: صاحب الكبيرة. والمقتصد: صاحب الصغيرة.
والسابق: المعصوم.
5) الظالم: التالي للقرآن غير العالم به، والعامل
بموجبه. والمقتصد: التالي، العالم. والسابق: التالي، العالم، العامل.
6) الظالم: الجاهل. والمقتصد: المتعلم. والسابق:
العالم.
7) الظالم: أصحاب المشأمة. والمقتصد: أصحاب الميمنة.
والسابق: السابقون، المقربون.
8) الظالم: الذي يحاسب، فيدخل النار. والمقتصد:
الذي يحاسب، فيدخل الجنة. والسابق: الذي يدخل الجنة من غير حساب.
9) الظالم: المصر على المعصية. والمقتصد: هو النادم
والتائب. والسابق: هو المقبول التوبة.
10) الظالم: الذي أخذ القرآن ولم يعمل به. والمقتصد:
الذي عمل به. والسابق: الذي أخذه، وعمل به، وبيّن للناس العمل به، فعملوا به.
11) وقال الحسن: (السابق): من رجحت حسناته. و(المقتصد):
من استوت سيئاته. و(الظالم): من خفّت موازينه.
12) وقال سهل بن عبد الله: (السابق): العالم.
و(المقتصد): المتعلم. و(الظالم): الجاهل.
13) وقال ذو النون المصري: (الظالم): الذاكر
لله بلسانه فقط. و(المقتصد): الذاكر بقلبه. و(السابق): الذي لا ينساه.
14) وأن المراد بالظالم لنفسه: من زادت سيئاته على
حسناته. وأن المراد بالمقتصد: من تساوت حسناته مع سيئاته. وأن المراد بالسابقين بالخيرات:
من زادت حسناتهم على سيئاتهم.
15) الظالم لنفسه: العاصي. والسابق: التقي. والمقتصد:
بينهما.
16) الظالم لنفسه: هو الذي يموت على كبيرة لم يتب
منها. والمقتصد: هو الذي مات على صغائر، ولم يصب كبيرة لم يتب منها. والسابق: هو الذي
مات تائباً من كبيرته وصغيرته، أو لم يصب ذلك، فيحتاج إلى توبة.
الأقسام
الثلاثة، والحمد لله، تعود إلى الأمة الإسلامية:
قال
عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة، وأكثر المفسرين: هذه الأصناف الثلاثة في أمة
محمد(صلى الله عليه وسلم). وجمهور العلماء على أن هذه الأقسام الثلاثة تعود إلى أفراد
هذه الأمة الإسلامية، وجميعهم يدخلون الجنة.
فالظالم
يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب.
وقال
أبو سعيد الخدري، والضمير في يَدْخُلُونَها عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة:
دخلوا الجنة كلهم. وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم وربّ الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم،
وفي رواية: تحاكت مناكبهم.
لا
يشمل الاصطفاء الكافر والمشرك:
قال
(ابن القيم): "ومحال أَن يكون الكافر والمشرك من المصطفين، لأن الاصطفاء هو الاختيار،
وهو الافتعال من صفوة الشيء، وهو خياره. فعلم أَن هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق،
وبعضهم خير من بعض: فسابقهم مصطفى عليهم، ثم مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثم ظالمهم مصطفى
على الكافر والمشرك". (طريق الهجرتين).
وروى
أبو الدرداء: أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (يَجِيءُ هَذَا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ
فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ، وَيَجِيءُ هَذَا الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَاباً
يَسِيراً، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ، وَيَجِيءُ هَذَا الظَّالِمُ فَيُوقَفُ وَيُعَيَّرُ
وَيُجْزَى وَيُغَرَّف ذُنُوبَهُ يُدْخِلُهُ اللهُ الجَنَّةِ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَهُمْ
الّذِينَ قَالُوا ﴿الحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ﴾ أيْ: غفر الذنب الكبير، وشكر العمل القليل ). (الطبراني).
وروى
أيضاً أبو الدرداء: أنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: " أَمَّا السَّابِقُ
فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالْمُقْتَصِدُ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً،
وَأَمَّا الظَّالِمُ فَيُحْبَسُ فِي طُولِ المَحْبَسِ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُ اللهُ عَنْهُ
". (الطبراني)، (يراجع: طريق الهجرتين).
وروى أسامة بن زيد
أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قرأ هذه الآية، وقال: كلّهم في الجنّة، وقرأ عمر بن
الخطاب هذه الآية، ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (سَابِقُنَا سَابِقٌ،
وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ، وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ). (قال الألباني: ضعيف).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق