07‏/10‏/2018

عبق الكلمات/ العدوانيون


عبد الباقي يوسف
  حالة العداوة بذاتها تتولّد في رحم الحسد الذي يشعره شخص تجاه آخر، أو تشعره جماعة تجاه أخرى. والحسد يمكن له أن يبقى في دائرة الحسد، لكنه في ذروة التصعيد يمسي عداوة، لأن الحاسد لم يعد مكتفياً بمشاعر الحسد، بل يريد أن يسلب النعمة من الذي يحسده. وهنا لا تتم العملية بيسر، كون صاحب النعمة لا يتنازل عنها بسهولة، فيبدأ الحسود باللجوء إلى أشكال الغدر، منطلقاً من الأرضية العدوانية التي يقف عليها تجاه صاحب النعمة.
لكن لماذا الغدر؟ لأنه لا يستطيع أن يواجهه وجهاً لوجه، لأنه لو جسر على ذلك لما احتاج إلى الحسد، بل حقق لنفسه النعمة وفق سبل مشـروعة، ليغدو هو المحسود بدل أن يكون الحاسد.

ولعل ذلك يجعلنا نعود إلى جذر النزعة العدوانية الأولى التي مارسها الإنسان الأول، لأن ذلك يعيننا كثيراً في تعريف هذه النزعة، وبالتالي مواجهتها بشكل فعّال.
إذن، لماذا يقتل أخ في مقتبل العمر، أخاه الذي يصغره بسنتين؟! هل ثمة ما يبرر ذلك!؟ في مذهب النزوع العدواني يوجد ما يُنمّي هذا، لأن قابيل حسد هابيل الذي سيتزوّج من أقليميا الجميلة، بينما هو سيتزوّج من لبودا الأقل جمالاً.
نكون هنا مع البراهين والمؤشرات التي تؤدّي إلى الجريمة، فنتعرّف على بنية الإنسان الشرير، كما نتعرف إلى بنية الإنسان الخيّر.
فالأصل في الجريمة الأولى، هو الحسد.
لكن هابيل رفض مبدأ القتل، حتى لا يكون مثله: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي} يشير إلى أنه سيقاومه بمنعه من القتل، وليس للرد عليه بالقتل: فثق يا قابيل بأنني لن أدعك تقتلني، وسوف أردّك، لكن في الوقت عينه لأنني تقي {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ}. ونحن الآن في مرحلة ولادة فكرة القتل لدى قابيل، وقد ولدت هذه الفكرة عند شخص مهيّأ لها، فلم يرتدع، وقد رفض كل ما سمع، فَحَوّل قوله  {لَأَقْتُلَنَّكَ} إلى فعل، ووقعت أول جريمة في التاريخ الإنساني، إذ أقدم أخ في الثانية والعشـرين، على قتل أخيه الذي يصغره بسنتين. وهمّا أوّل وَلَدَين لأبوَيهما. ولا شك أن ذلك كان بمثابة المأساة الحقيقية لأبَوَيهما، فقد قُتل الثاني، وأمّا الأول فتحوّل إلى قاتل أخيه. ويُروى أن آدم عليه السلام لم يضحك بعد ذلك مائة سنة، ثم جاءه ملك فقال له: (حياك الله يا آدم وبياك. فقال: ما بياك؟ قال: أضحكك. (
إذن، لقد لجأ قابيل إلى الغدر دون أن يتجرّأ على مواجهته وجهاً لوجه، فقد استغفله وهو نائم في رعاية أغنامه، فحمل صخرة كبيرة ورماها على رأسه وقتله.
من هنا يمكنك ملاحظة أن جرائم القتل في غالبيتها تقع في السـرّ، وبشكل غادر، نسبة إلى الجريمة الأولى، فلكل شيء أصل. وقد أطلعتكَ على تفاصيل واقعة الجريمة الأولى، ثم عرّفتّكَ على البنية النفسية للإنسان المجرم: فهو إنسان متهزهز في الأعماق، ومضطرب في التصـرفات، أناني النزعة، حسود النظرة، سوداوي التفكير. في المقابل عرّفتكَ على البنية النفسية للإنسان المحسود على النعمة ، فهو إنسان مستقرّ في الأعماق، منضبط في التصرّفات، إنساني النزعة، مُبارَك النظرة، مشرق التفكير.
إن هذه العودة إلى جذر النزعة العدوانية تبيّن لك بأن الحب، هو أكثر جدوى من البغض، والحالة الإنسانية، هي أكثر جدوى من الحالة الأنانية، وأن الإنسان لن يكون بوسعه أن يقدّم شيئاً مجدياً وهو يعتدي على حياة الآخرين، بل يستطيع أن يقدّم شيئاً مجدياً من خلال مراعاته لحقوق الآخرين. وبالتالي، لا يستطيع أن يكون سعيداً من خلال الانتهاك، بل تكمن سعادته على قدر مراعاته لحقوق الغير، وأن المستقبل البشري يكمن في النزوع الإنساني، ولا يكمن في النزوع العدواني. ولذلك لم ينتصـر الطغيان بقتل قابيل لأخيه هابيل، رغم أنه لبث وحيداً، وقد غاب الطرف الذي يمثّل حالة التقوى.
بعد كل هذا التاريخ، يمكن أن ترى بأن الانسان استمرّ في التكاثر، وعمارة الأرض، وأن الأيدي التي تبني، هي أكثر من الأيدي التي تدمّر، وأن الأيدي التي تزرع حقول الورود، هي أكثر من أيدي الذين يزرعون حقول الألغام، ودعاة السلم الإنساني، هم أكثر من دعاة الصِدام الإنساني. ولذلك يأنس الناس عندما ينظرون إلى أسراب الحمام في السماء وهي تُهذب أسماعهم بهديلها ، ويشمئزّون من رؤية أسراب الطائرات الحربية التي تقذف إليهم عناقيد الدمار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق