07‏/10‏/2018

منهج الوسطية الإسلامية في الأخلاق والآداب - القسم الأول -


د. دحام إبراهيم الهسنياني
يجيء لفظ (الخلق) ولفظ (الأخلاق)، وصيغ أخرى تنبثق منهما، وصفاً لفكر الإنسان، وسلوكه، دون غيره من المخلوقات: ذلك لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي منحه الله طاقات متميزة من الإدراك والتفكير وحرية الإرادة، لذا جاء سلوكه مرتبطاً بالفكر، ومتوافقاً مع ما يدين به من اعتقاد. كذلك، فإن الإنسان - منذ نشأته - يمارس الحكم الأخلاقي على الأشياء، فهذا خير، وذاك شر، وهذا حسن، وذاك قبيح، وهذا نافع، وذاك ضار، الأمر الذي جعله يستحق وصف أنه كائن أخلاقي.
ويطلق لفظ (الخلق) ويراد به القوة الغريزية التي تبعث على السلوك، كما يراد به السلوك الظاهر، "أي الحالة المكتسبة التي يصير بها الإنسان خليقاً أن يفعل شيئاً دون شيء". وعلى هذا المعنى الأول جاء الحديث:
(خير ما أعطي الناس خلق حسن)([1]). ويشهد للمعنى قوله (صلى الله عليه وسلم): (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن، يوم القيامة، من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)([2]).
ولم يستخدم القرآن الكريم لفظ (أخلاق)، بصيغة الجمع، وإنما جاء اللفظ مفرداً، كما في قوله تعالى: ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(([3]).
أما السنة الصحيحة، فقد ورد فيها بلفظ الجمع، وإن يكن قد ورد بلفظ المفرد أكثر. فقد جاء لفظ (أخلاق) في حديث: (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً)([4]). ولم تخل حضارة، فضلاً عن دين، من الحديث عن الأخلاق، لارتباطها بالإنسان.. ففي الحضارة المصـرية القديمة، حديث عن الوصايا، والفضائل، حتى أن بعض مؤرخي الفكر اعتبر المصـريين أول من تكلم في مسائل الأخلاق.
وفي الحضارة الصينية حديث عن الفضائل، وأهميتها للفرد والجماعة، كما جاء فيما نقل عن (كونفشيوس)([5])، وغيره. وأما اليونان، فاهتمامهم بالأخلاق أمر مقرر، عبر ما عرفته ثقافتنا الإسلامية من خلال حركة الترجمة في العصر العباسي.
فإذا أضفنا إلى ما سبقت الإشارة إليه، ما جاء في الديانتين السماويتين اللتين سبقتا الإسلام: (اليهودية، والمسيحية)، من هدي إلهي في هذا الصدد، أمكننا أن نقرر: أن الاهتمام بالأخلاق قاسم مشترك بين كل المذاهب والأديان، باعتبار أنها خصيصة للإنسان؛ الكائن الأخلاقي، وأمكننا كذلك أن نفهم في ضوء هذا حديث: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)([6]).
والإسلام الذي جاء ليتم البناء الأخلاقي للإنسان، تميّز اهتمامه بهذا الأمر إلى حد أن فسـّر الإسلام على أنه الخلق، ففي قوله تعالى: ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(([7]). قال ابن عباس رضي الله عنهما: "على دين عظيم، أي الإسلام"([8]).
ويتضح هذا حين نشير إلى حقائق مهمة، منها:
1. الصلة الوثيقة بين الإيمان عقيدة، والأخلاق سلوكاً: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(([9]). وفي الحديث: (ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)([10]).
2. العبادات ذات أثر أخلاقي لا بد من تحققه في حياة الجماعة، ومثال ذلك: )إنّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ(([11]). )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ(([12]). )فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ(([13]).
3. الأخلاق شرط لصحة المعاملات: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ(([14]). )وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(([15]). وفي الحديث: (من غشنا فليس منا)([16]).
4. الحدود في الإسلام زواجر عن جرائم خلقية (حد القتل، السـرقة، الزنا..) ولعل المتأمل في هذه الحقائق يدرك البعد الاجتماعي للأخلاق في الإسلام، باعتباره ديناً للحياة؛ ينظم علاقات الأحياء ببعضهم، وبالحياة حولهم - حيوانات أو جمادات - مما يسمّى بالبيئة أو الكون المحيط بنا. وقد أدى فهم علماء الإسلام لأهمية الأخلاق باعتبارها ديناً، إلى بذل جهود علمية شـكّلت علماً يســمّى بعلم الأخلاق الإسلامي، بخصائصه التي تميّزه عن جهود غيرهم في الحضارات الأخرى، في هذا المجال.
وفي شمول الأخلاق، يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "ومن خصائص نظام الأخلاق في الإسلام: الشمول، ونعني به أن دائرة الأخلاق الإسلامية واسعة جداً، فهي تشمل جميع أفعال الإنسان الخاصة بنفسه، أو المتعلقة بغيره، سواء أكان الغير فرداً أو جماعة أو دولة. ونذكر هنا، على سبيل التمثيل فقط، مدى مراعاة الأخلاق في علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول، ليتبيّن لنا مدى حرص الإسلام على التمسك بمعاني الأخلاق. ووجه اختيارنا هذه العلاقات هو ما شاع بين الناس، ويؤيده الواقع"([17]).
إن الإسلام يرفض هذا النظر السقيم، ويعتبر ما هو قبيح في علاقات الأفراد، قبيحاً أيضاً في علاقات الدول، ويعتبر ما هو مطلوب وجميل في علاقات الأفراد، مطلوباً وجميلاً أيضاً في علاقات الدول. ولهذا كان من المقرر في شرع الإسلام، أن على الدولة الإسلامية أن تلتزم بمعاني الأخلاق. وهذا التقرير موجود في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، وفي أقوال الفقهاء. فمن ذلك:
أولاً: قال تعالى: ]وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(([18]). أي إذا ظهرت خيانة من عاهدتهم، وثبتت دلائلها، فأعلموهم بنقض عهدهم، حتى تستووا معهم في العلم، لأن الله تعالى لا يحب الخائنين، ولو كانت الخيانة مع قوم كافرين، وكانوا في نقض العهد بادين.
ثانياً: كان من شروط معاهدة الحديبية بين النبي (صلى الله عليه وسلم) وبين مشركي قريش، أن من يأتي من قريش النبي (صلى الله عليه وسلم) مسلماً، يردّه النبي (صلى الله عليه وسلم)، ولا يؤويه. وبعد الفراغ من كتابة المعاهدة، جاء أبو جندل من قريش مسلماً، معلناً إسلامه، يستصـرخ المسلمين أن يؤوه ويحموه من قريش. فقال له الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم): (إنا عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا، وإنا لا نغدر بهم)([19]).
ثالثاً: قال الفقهاء: لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب، إذا دخل ديارهم بأمان منهم، لأن خيانتهم غدر، ولا يصلح في دين الإسلام الغدر([20]).
رابعاً: قال فقهاء الحنابلة: اذا أطلق الكفار الأسير المسلم، واستحلفوه أن يبعث إليهم بفدائه، أو يعود إليهم، لزمه الوفاء، لقول الله تعالى: ]وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ(([21]) ولأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (إنا لا يصلح في ديننا الغدر)([22]).
خامساً: اذا كانت دار الحرب تأخذ من رعايا دار الإسلام، الداخلين إلى إقليمها، ضريبة على أموالهم التي معهم، بحيث تستأصل هذه الأموال، أو تأخذ من أموالهم القليلة ضريبة كبيرة لا تتناسب مع أموالهم، فإن دار الإسلام لا تقابلهم بالمثل. ويعلل الفقهاء قولهم هذا بأن فعل أهل دار الحرب غدر وظلم، فلا نقابلهم بالغدر والظلم، لأننا نهينا عن التخلق بمثل هذه الأخلاق، وإنْ تخلّقوا هم بها([23]).


الاعتدال في الأخلاق الإسلامية
الإسلام وسط في الأخلاق والسلوك، فقد جاءت الشـريعة الإسلامية وسطاً بين الإفراط والتفريط في الالتزام الأخلاقي، وبين الجنوح إلى المثالية الخيالية. فهي لا تترك الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا للترف والميوعة والهوى والشهوة المحرمة، فيعصف بها في تيارات الشهوات المحرمة والخلاعة والمجون. ولكن الدين الإسلامي يهذب السلوك، ويرفع الضمير، ويرتقي بالمشاعر، ويعمر القلب بالتقوى والشعور برقابة الله (سبحانه وتعالى)، تأسيّاً بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، الذي وصفه ربه بأنه على خلق عظيم. وهكذا نجد الإسلام وسطاً في جميع العلاقات الإنسانية، فردية كانت أو اجتماعية، بل جميع المصالح الذاتية والاجتماعية.
لقد فطر الله (عز وجل) الإنسان على الخير، وركّز في فطرته أصول الأخلاق الفاضلة؛ وركّب فيها الميل إلى الحسن، والنفرة من القبيح، إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة، وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان. ومع ذلك جاء الإسلام بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير من الأخلاق السيئة، بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.
والإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين؛ الذين تخيّلوا الإنسان ملاكاً أو شبه ملاك، فوضعوا له من القيم والآداب ما لا يمكن له، وبين غلاة الواقعيين؛ الذين حسبوه حيواناً، أو كالحيوان، فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به، فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية، فاعتبروها خيراً محضاً، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شراً خالصاً. وكانت نظرة الإسلام وسطاً بين أولئك وهؤلاء.
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب: فيه العقل، وفيه الشهوة، فيه غريزة الحيوان، وروحانية الملاك، قد هدي للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين، إما شاكراً، وإما كفوراً. فيه استعداد للفجور استعداده للتقوى. ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى: ]وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(([24]).
والدين كله خلق: عقائده، وعباداته، وأحكامه، ومعاملاته؛ كما سئلت عائشة (رضي الله عنها) عن خلق النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالت: (كان خلقه القرآن)([25]). ويقول الإمام ابن القيم: "الدين كله خلق؛ فمن زاد عليك في الخلق، زاد عليك في الدين"([26]). ولكن حديثنا هنا سيكون متوجهًا إلى المعنى الخاص للأخلاق؛ كالمعاملات، والسلوك الحميد؛ مما لا يدخل في العقائد، والعبادات. وقد جاءت أخلاق الإسلام متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو وسط بين خلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلو والإفراط، والآخر ينزع إلى التفريط والتضييع.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم: "والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء؛ اللذين هما توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء؛ الذي هو وسط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة؛ الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم؛ الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس... وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان... فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين لا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع، انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء، انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخَوَر ومهانة، بحيث يُطمِع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس. وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البِشـْر عن البَشـَر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد بحيث يُذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلـوب الخلق. وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا (صلى الله عليه وسلم): (من رآه بديهًة هابه. ومن خالطه عِشْرة أحبه([27]))"([28]).
وبعد هذا الإجمال في بيان الوسطية والتوازن في بعض أخلاق هذا الدين؛ فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض الأخلاق، ومنها تلك التي ظهرت في عصـرنا الحاضر، وهي مجانبة للتوسط والاعتدال، خاصة وأنها سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.
والأخلاق لا شك أنها معيار للإيمان، كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): (أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً؛ المُوَطَّئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون)([29]). ولكن للأخلاق حدّ، متى جاوزته صارت عدواناً، ومتى نقصت عنه كان نقصاً ومهانة. يقول الإمام الغزالي: "فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وبينهما وسط وهو المحمود. وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه، إذ لم يؤمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا بالسخاء، وقد قيل له: )وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ(([30])، وقال (سبحانه وتعالى):)وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا(([31])، فالجود وسط بين الإسراف والإقتار، وبين البسط والقبض"([32]).
ويقول الإمام الغزالي أيضاً: "فقد ورد الشّـرع في الأخلاق، بالتَّوسط بين كل طرفين مُتقابلين، لأنَّ الماء الفاتر، لا حار ولا بارد، فكأنَّه بعيد من الصِفتين، فلا ينبغي أن يُبالغ في إمساك المال، فيستحكم فيه الحرص على المال، ولا في الإنفاق، فيكون مُبذراً، ولا أن يكون مُمتنِعاً عن كل الأمور، فيكون جباناً، ولا مُنهمكاً في كل أمرٍ، فيكون مُتَهَوِّراً، بل يطلب الجُود، فإنَّه الوسط بين البُخل والتَّبذير، والشَّجاعة، فإنَّها الوسط بين الجبن والتَّهور، وكذا في جميع الأخلاق. وعلم الأخلاق طويل، والشَّريعة بالغت في تفصيلها، ولا سبيل إلى تهذيب الأخلاق، إلا بمراعاة قانون الشَّرع في العمل، حتى لا يَتَّبع الإنسان هواه، فيكون قد اتَّخذ إلهه هواه، بل يقلِّد الشَّرع، فيُقْدِم ويُحجِم بإشارته، لا باختياره، فتتهذَّب به أخلاقه"([33]).
ويقول الإمام ابن القيم: "وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها. والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين"([34]).
وربط العلم والتقنية بالقيم الخلقية، هو الجوهر الأساس لوسطية الإسلام، بعد توحيد الله، والإيمان بالغيب. ويطلق على هذه القيم: الأخلاق والأدب وتزكية النفس. لذلك نرى اهتمام الحضارة الإسلامية بالجانب السلوكي والتربوي، للرفع من مستوى الإنسان المسلم في جميع مناحي حياته، وتصـرفاته. فالأدب كما يقول ابن القيم: "هو الدين كله"([35]).
وحقيقة الأدب اجتماع خصال الخير، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أدبني ربي فأحسن تأديبي)([36]). وقال له ربه: ]وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(([37]). وما بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا ليتمم مكارم الأخلاق، كما جاء في الحديث الشـريف. والأدب يكون أولاً مع الله، ومع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومع الخلق: بشـراً، وحيواناً، ونباتاً، وجماداً. لذلك، فإن وسطية الإسلام تبرز بشكل قوي في هذه الشبكة العظيمة للأخلاق والآداب، التي تحيط بالإنسان في جميع أحواله، وعلى جميع مقاماته، ومستوياته، ومختلف مسؤولياته، كما أحاطت الإنسان المسلم بأدعية وأذكار، وكلها مرتبط بإصلاح الباطن.
ومضمون تلك القيم يجعل المسلم متوازناً في حياته، نافعاً لمجتمعه، بل للإنسانية جمعاء، وما يحيط بها من البيئة. وتجعله عنصـر إسعاد لنفسه، ولغيره. ولنأخذ مثلاً لذلك: التعامل مع الجار، ومواجهة الجهل، والجاهل، وحق الطريق، وحق المنابع المائية، وحق المرافق الاجتماعية، وحق الحيوان، وحقوق الوالدين، وأصدقائهما، وحق المسلم على المسلم، في شتى الأحوال والعلاقات، وحق الرحم، ولو كانت كافرة، وحق المواطنين غير المسلمين، بل حقّ نفسه على نفسه، وحقّ أهله وأولاده.. وهناك النوافل المختلفة، وفروض الكفاية، التي تجعل من المسلم العضو الصالح، والنافع، والمسهم بحيوية في تغذية المجتمع بثقافة الخير والمحبة والسلام. وهذه الثقافة تمتاز - ما دامت تستمد تعاليمها من منابعها الصافية- بالتماسك الداخلي، وبالشمول، والحيوية، والبناء المطرد، كالشجرة المباركة.
إن أمة الوسط هي أمة الأخلاق، ولكن أيّ أخلاق؟ إنها أخلاق حضارية شاملة، يعمّ إشعاعها الداخل والخارج، فهي لا تعرف عنصرية ولا تحيزاً، ولا الكيل بمكياليْن، أو مكاييل، كما وقع في الحضارات البائدة، وفي مجتمعات عنصرية معاصرة، مثل: جنوب إفريقيا، وكما هو واقع الآن في جلّ المجتمعات الغربية، التي فضحتها ممارسات غير أخلاقية، غلبت التطبّع؛ الذي كان واجهة لا تعبّر عن حقيقة ما ورائها. وقد شهدت أخلاق القوم هناك تراجعاً وتدهوراً تجاه الآخرين، ولا سيّما المسلمون.
ثم إن للأخلاق الإسلامية حداً، متى ما جاوزته صارت عدواناً، وإنْ قصـرت عنه كانت نقصاً ومهانة.
وضابط ذلك كله العدل، كما يقول ابن القيم، وغيره. فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات، معرفة وفعلاً([38]).
يقول مصطفى صادق الرافعي: "وما الإسلام في حقيقته إلا مجموعة أخلاق قوية، ترمي إلى شدّ المجموع من كل جهة"، ويقول: "إنها تضبط الضمير المسلم ضبطاً ينعكس انضباطاً في الحياة، ويتجاوب مع ما يسنّ من تشريعات وقوانين عادلة، ذلك الضبط الذي يعبّر عنه القرآن بالتقوى. ويقول: إن من خصائص هذا الدين الأخلاقي أنه صُلب فيما لا بد منه للنفس الإنسانية، إذا أرادت الكمال الإنساني، ولكنه مرن فيما لا بد منه لأحوال أزمنة مختلفة، ممّا لا يأتي على أصول الأخلاق الكريمة"([39]).
ومن تلك التقوى والانضباط الروحي والنفسي والعقلي، ينشأ الاعتصام بأمر الله جميعاً، كما نصّ القرآن الكريم؛ محذراً في الوقت نفسه من التفرق والتنازع والتناحر. يقول (سبحانه وتعالى): )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(([40]).
ويقول الدكتور مصطفى السباعي: "عش مع أهلك وسطاً بين الشدَّة واللين، وعش مع الناس وسطاً بين العزلة والانقباض، وعش مع إخوانك وسطاً بين الجد والهزل، وعش مع تلاميذك وسطاً بين الوقار والانبساط... وعش مع الحاكمين الصالحين وسطاً بين التردد والانقطاع، وعش مع بطنك وسطاً بين الشبع والجوع، وعش مع جسمك وسطاً بين التعب والراحة، وعش مع نفسك وسطاً بين المنع والعطاء، وعش مع ربك وسطاً بين الخوف والرجاء، تكن من السعداء"([41]).
وأخيراً:
إن الإسلام وسط يعترف بواقعية البشر كبشر، فهو يعطي حقًا، ويأخذ حقًا، ويرفعه إلى السمو في المثالية. ذلك أن شريعة الإسلام وسطٌ بين الإفراط والتفريط في الإلزام الأخلاقي، بين الجنوح إلى المثالية الخيالية، والواقعية المتزمتة. وقد جاءت بعض الآثار تؤكد ذلك، فقد ورد في الأثر: (خير الأمور أوسطها). قال ابن الأثير: كل خصلة محمودة فلها طرفان مذمومان، فإن السخاء وسط بين البخل والتبذير، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور.
والإسلام وسط في الأخلاق بين غلاة المثاليين، وغلاة الواقعيين؛ حيث أحسن أولاء الظن بالفطرة الإنسانية، فاعتبروها خيراً محضاً، وهؤلاء أساءوا بها الظن، فعدوها شراً خالصاً، وكانت نظرة الإسلام وسطاً بين أولئك وهؤلاء.
فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مركب: قد هداه الله للنجدين، وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين، إما شاكرا وإما كفورا. فيه استعداد للفجور استعداده للتقوى. ومهمته جهاد نفسه ورياضتها حتى تتزكى: )وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا( ([42]).



([1]) رواه أحمد: 4/278، رقم (18477) والنسائي في الكبرى: 4/368، رقم (7553)،. والحاكم عن أسامة بن شريك: 1/208، رقم (416)، وقال: صحيح، وأقرّه الذهبي. والطيالسي: 171، رقم (1233)، وابن ماجة: 2/1137، رقم (3436). قال البوصيري: 4/49: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وابن حبان: 13/426، رقم (6061)، والبيهقي في شعب الإيمان: 6/234، رقم (7990)، وابن أبي شيبة: 5/210، رقم (25314)، والبخاري: في الأدب المفرد: 1/109، رقم (291)، والطبراني: 1/180، رقم (465)، والبيهقي: 9/343، رقم (19343).
([2]) رواه الترمذي. كتاب البر، رقم (22).
([3]) سورة القلم، الآية:4.
([4]) رواه أحمد: 2/161 و193، والبخاري (3559) في المناقب: باب صفة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ورواه في (الأدب المفرد)(271)، ومسلم (2321) في الفضائل: باب كثرة حيائه (صلى الله عليه وسلم)، والترمذي (1975) في البر والصلة: باب ما جاء في الفحش والتفحش. والبغوي في (شرح السنُّة)(3666)، والبيهقي في (السُّنن) 10/192.
([5]) نسبة إلى (كونفوشيوس)، ويتألف من لفظين: كونج، اسم القبيلة التي ينتمي إليها، وفوتس، ومعناها: الرئيس، أو الفيلسوف. واصطلاحاً: تعاليم أخلاقية ودينية؛ ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد على يد رجل يدعى كونفشيوس، صارت فيما بعد مذهباً دينياً، وقد التزمته (الصين) كدين رسمي للدولة حتى أوائل القرن العشـرين. وأنشأ مدرسة ليتلقى فيها الشبان ذوو المواهب الخاصة أصول الفلسفة الأخلاقية والسياسية. وفي سنة 496ق.م عيّن رئيساً للوزراء في ولاية (لو)، فأعدم المشاغبين من الوزراء ورجال السياسة، وأدّب اللصوص وقطاع الطرق، كما وضع مراقبة صارمة على التجار، ليمنع الغش والاحتكار. وبعد قرون عدّة من وفاته أعلنت الدولة أن (الكونفوشيوسية) هي الدين الرسمي للدولة، فانتشرت دور عبادته في كل المدن والقرى الصينية. وبدأ نجمها في الأفول، من الناحية السياسية والدينية، في أوائل القرن العشرين، فألغيت دراستها، ولم تعد شرطاً للوظائف -وإن بقيت أساساً للحياة الخلقية- ولا سيما بعد سقوط الإمبراطورية وقيام الجمهورية في عام 1912م. (الموسوعة العربية العالمية: 10/36).
([6]) رواه الحاكم: 2/670، رقم (4221) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي: 10/192، رقم (20572). والديلمي: 2/12، رقم (2098)، بلفظ: (بعثت لأتمم صالح الأخلاق).
([7]) سورة القلم، الآية: 4.
([8]) تفسير البحر المحيط: 10/323.
([9]) سورة التوبة، الآية: 119.
([10]) رواه البخاري في الأدب المفرد: 1/52، رقم (112)، وأبو يعلى: 5/92، رقم (2699)، والطبراني: 12/154، رقم (12741)، قال الهيثمي: 8/167: رجاله ثقات. والحاكم: 4/184، رقم (7307)، وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في شعب الإيمان: 3/225، رقم (3389).
([11]) سورة العنكبوت، الآية: 45.
([12]) سورة التوبة، الآية: 103.
([13]) سورة البقرة، الآية: 197.
([14]) سورة النساء، الآية: 29.
([15]) سورة المطففين، الآية: 1.
([16]) رواه أحمد: 2/242، ومسلم رقم (102) في الإيمان: باب قوله النبي (صلى الله عليه وسلم): (من غشنا فليس منا) والترمذي (1315) في البيوع، وابن ماجة (2224) في التجارات: باب النهي عن الغش، وأبو داود (3452) في البيوع: باب في النهي عن الغش، والحاكم: 2/9، والبيهقي: 5/320.
([17]) أصول الدعوة: 89ـ90
([18]) سورة الأنفال، الآية: 58.
([19]) الرحيق المختوم: 299.
([20]) المغني لابن قدامة الحنبلي: 8/ 458.
([21]) سورة النحل، الآية: 91.
([22]) المصدر نفسه: 8/483.
لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، حليف بني زهرة، إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى له، فقدما بكتابهما على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): « يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك.... » (معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: 5/180).
([23]) حاشية ابن عابدين: 2/56. وأصول الدعوة: 90.
([24]) سورة الشمس، الآيات: 7ـ9.
([25]) صحيح مسلم: رقم (746).
([26]) مدارج السالكين: 3/73.
([27]) رواه الترمذي في المناقب، باب ما جاء في صفة النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقال: حسن غريب.
([28]) ينظر: مدارج السالكين: 3/74-79.
([29]) رواه الطبراني في الأوسط: 4/356، رقم (4422) وفي الصغير: 1/362، رقم (605)، والبيهقي في شعب الإيمان: 6/232، رقم (7983).
([30]) سورة الإسراء، الآية: 29.
([31]) سورة الفرقان، الآية: 67.
([32]) إحياء علوم الدين: 3/245.
([33]) تهافت الفلاسفة: 286.
([34]) روضة المحبين ونزهة المشتاقين: 220.
([35]) مدارج السالكين: 2/384.
([36]) رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء عن ابن مسعود، وقال المناوي في الفيض: 1/224: (وإسناده ضعيف)، والحديث ذكره السخاوي في المقاصد: 39، رقم (45)، وضعّفه.
([37]) سورة القلم، الآية: 4.
([38]) ينظر: مدارج السالكين: 2/61ـ63.
([39]) وحي القلم: 3/201.
([40]) سورة آل عمران، الآية: 103.
([41]) هكذا علمتني الحياة: 24.
([42]) سورة الشمس، الآية: 7-10.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق