07‏/10‏/2018

أرخنة التفاعل الحضاري الحديث..


أ. محمد رشدي عبيد
لا شك أن أية حضارة قد لا تتقدم إلا إذا تزاوجت مع حضارة أخرى وفدت عليها، حسب درجة وعيها التي تتلقى به الحضارة الخارجية، وأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.. فهي - أي الحضارة - لا تنشأ كما تنشأ المدن السحرية، بل تنمو وتتفاعل مع الحضارات الأخرى (1).. وهذا لا يعني أن ليس لحضارتنا بنى معنوية، ورأسمال رمزي، وقيم متجذرة في بنيتها الذهنية، وتراكم مدني وعمراني.. إلخ.. ولا يفيدنا اليوم كثيراً أن نذكر نوعية المنجزات الثقافية والحضارية لنا، والتي أثّرت في الآخر، فلذلك أبحاث كثيرة منها كتاب (تراث الإسلام)(2) وتقييمات لمستشـرقين، مثل توينبي، الذي لم يحصـر دور المسلمين في نقل التراث الأغريقي (أرسطو خاصة) إلى أوروبا، بل في شرحه، والتعليق عليه، بما أقال عثراته، وأكمل نواقصه.. ويضاف إليه أثر الثورة التي أحدثها علم الكلام، وتمحيص الرواية التاريخية، على الفكر التنويري في الغرب(3).. وكذلك الأثر الفلسفي (حركة الرشديين اللاتين)، و(الأدبي)، كتأثير ابن عربي على الكوميديا الإلهية لـ(دانتي)،
و(الفني)، تأثير (طوق الحمامة) على شعراء التروبادو نموذجاً، وترجمة (ألف ليلة وليلة)، كما أشار (جب)، والموسيقيّ، والمعماريّ، والعلمي التطبيقي، واللغويّ، لصيرورة العربية لغة العلم والواقع.. وكذلك التأثيرات الاقتصادية والسياسية، كما أشار (ج.ب. ترند) في بحثه عن أثر الأندلس على أوروبا(4)..
ثم كانت فترة الحروب الصليبية، التي كانت لها آثار سلبية وإيجابية؛ من حيث نقل كثير من مظاهر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا.. وقد اعترف (هوبرت هيركومر) بأن الكتابات الأوروبية القديمة عن العلاقات بين المسلمين ومسيحي أوربا تحتوي على تشويهات(5).. وهذا الكاتب الألماني يدعو أصحاب كلتا الحضارتين أن يقتبس، كل من الآخر، كلّ "نافع ومفيد وجميل"، ويستشهد بنماذج مسيحية من تلك الفترة.. وهو منفتح مثل (آنا ماري شميل).. وقد ذكر أمثلة على  هذه (التشويهات): أغنية (رولاند) الفرنسية، التي تتهم المسلمين بعبادة الأصنام.. و(دانتي) بوضع محمد في ثامن حلقة من حلقات جهنم.. و(مارتن لوثر)، الذي طعن في شخصية الرسول الأخلاقية.. و(توماس الأكويني) وافتراءاته على الإسلام.. لا نسوق هذه الأمثلة إلا لكونها حالت دون حوار الحضارات.
وقد دعا كثير من الكتاب المسلمين، والعرب، إلى مراجعة شرقنة وشرنقة الشرق.. أولاً بأن لا تؤثر المنافع المادية، والظروف الراهنة، على قراءة الشرق والإسلام.. فالشـرق ليس بريئاً من تحول بعض السجالات التاريخية، والمؤثرات الخارجية، والطبيعية، إلى نوع من الرؤية للحياة، والثقافة، تتسم بسلبيات ترسخت في العقل الجمعي، وهي بحاجة إلى تقييم، وتفكيك، وإعادة بناء، لصالح حضارة إنسانية عالمية، وتغليب القيم والحقائق على الإيديولوجيا والإضافات والمبالغات..
 كما ألّفت كتب عن دور المسلمين الحضاري، مثل: (فضل الإسلام على الحضارة الغربية)، لـ(مونتغمري وات)، و(المسلمون في تاريخ الحضارة)، لـ(ستانوود كب) الأمريكي.. وكتابات (جاك بيرك).. على سبيل المثال، لا الحصـر.. و(آنا ماري شميل)، و(جارودي)، و(مراد هوفمان).. كما أن في الغرب طبقات من المثقفين (الإنتلجنسيا) يبحثون عن الحقيقة(6)..
 وتأثّر الشرق بالفكر الحديث بسبب الرحلات، والسياحة، والدبلوماسيين، والدخول المادي في بلاده.. ومنذ أواخر الدولة العثمانية ظهرت آثار للتخلف، عزاه البعض إلى الجمود، والتقليد، والتصوف السلبي، والتفسيرات الباطنية، وغلبة روح المواجهة المادية، وقلة الاهتمام بالصناعة والتجارة. بينما عزاه (برنارد لويس) إلى عقدة التفوق، التي أخّرت من استعارة شروط التقدم!.. بينما تقدّمت في الإدارة والمعمار بشكل ملحوظ.
 ثم ظهرت حركة سمّيت بـ(الإصلاحات)، في القرن السابع عشـر، والثامن عشـر، خاصة، وبدأت عسكرياً وعمرانياً، ثم انتهت قانونياً وتقنياً وثقافياً وسياسياً. ومنذ عهد السلطان أحمد الثالث، الذي أوفد محمد جلبي أفندي، سنة (1720م)، إلى (فرنسا)، للاطلاع على مؤسساتها؛ فأول مطبعة أنشئت في إستانبول، سنة (1727م)، بعد موافقة شيخ الإسلام.. وقدّم بعضهم صورة عن تقدم الغرب، والجانب العقلاني، والجمالي، والإنساني، فيه.. وترجمت كتب (فولتير)، مثلاً، للتركية.. وأكمل التأثر محمود الثاني، والسلطان سليم، الذي ووجه من قبل الإنكشارية بالتعويق، ثم (سليمان القانوني)، وواليه على العراق (مدحت باشا)(7). ولم تخل تقريرات تركية من إعجاب بالاشتراكية، التي نادى بها مفكرون فرنسيون.
وظهرت اتجاهات في عهد التنظيمات (1838– 1876م)، انتقدت - بمنطق الأصالة - تقليدها في الشكليات، والمرافق، التي تعتبر قشوراً، أو منافية للذوق الإسلامي.. ثم كان العهد الحميدي، الذي حاول نهضة توفيقية بين التراث والمعاصرة.. وينقل عنه تقديره للمدنية الأوروبية، دون التقليد الأعمى.. وهو الذي اهتم بالتعليم، واستقدم (خير الدين التونسي) لتفعيل أفكاره الإصلاحية، وعيّن (سعيد باشا)، وهو من دعاة العصرنة.. وكان مما منع استمرار التقدم الحضاري، غياب المنهجية المعرفية، ونظام الحكم الفعال(8)..
ثم كان (الاتحاد والترقي)، وموقفها الحضاري، الداعي لأخذ الحضارة الغربية بورودها وأشواكها(9).. كان (ضياء كوك ألب)، الذي عاش فترة حيرة وشك وقلق فكري، ثم استقر على أنه يجب أخذ طابع الحضارة الأوربية للاستقواء والتقدم، وأنها الطريق الوحيد للتقدم والقوة والاستقلال والحرية، ولأن الغرب هكذا تقدم، ولأن الأتراك جزء من الحضارة الغربية، ولأجدادهم سهم في إنشائها التاريخي، أي حضارة البحر الأبيض المتوسط، وأن الحضارة في صميمها، أو بنائها الفكري، لا صلة لها بالدين؛ فالحضارة - برأيه – عالمية، قد تحتوي هويات دينية متعددة متباينة، كما رأى.. ويقال إن نقاط: العلمانية، وحرية الإرادة والضمير، وحرية الفكر، في الدستور، كانت من تفكيره، وقلمه.. وكان متأثراً بـ(كومت)، و(دوركايم)..
أما نامق كمال، فقد كان يدعو إلى التعشيق بين القيم الإسلامية والعثمانية، وبين منتجات أوروبا الحضارية، التي تقدم بها، خاصة المناهج والأساليب المادية التطبيقية والاقتصادية(10).. وكان متأثراً بـ(مونتسكيو)..
كما ظهر مفكرون، وشعراء، نادوا بالجامعة الإسلامية، مثل الشاعر (محمد عاكف)، متأثراً بالأفغاني، وعبده، وعبد الرشيد إبراهيم، من مسلمي آسيا الوسطى.. لكنه لم ينس الدعوة إلى أخذ علوم الغرب، لأن الحياة بدونها مستحيل(11)..
وأخيراً ظهر سعيد النورسي، وقدم تفسيراً للقرآن، ولكن بلغة العصر، واهتماماته.. ورؤية للحضارة، والإلهيات، والفكر والفن والأدب والتربية، تقوم على أصالة دينية إسلامية، وتقاليد متوارثة، تختلف في بعض مفاهيمها ورؤاها، أحياناً، عن منتجات الفكر الوضعي.. وإنتاجه - في الأغلب - رسائل توجيهية، ضمّنها أفكاره، مع ثقة كبيرة بأنها تمثل رؤية صائبة لزمانه ومكانه للدين، ممثلاً في شخصه.. وكانت له مرحلتان: مرحلة العالم الفقيه والسياسي والمشارك في قضايا الأمة، ومرحلة الخائف على الإيمان الإسلامي، وقيمه، أن ينحسر، فيتوجه بكل قواه المعنوية لإعادة تأصيله، بما ملك من أدوات ثقافية،.. وأحياناً كان يرى أن أوروبا ستقبل على الإسلام.. داعياً إلى التعاون الإسلامي والمسيحي، وأنهما سيتحدان يوماً ما. وأن الحضارة يجب أن تقوم على الحقائق، لا المنافع والقوة وحدها، وعلى الاقتصاد، لا الإسراف.. ولم ينس الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، والبكاء على أطلال الدولة العثمانية؛ كسياج مادي وثقافي لرؤية إسلامية للحياة والقيم.
وفي مصر، مثلاً، أدت حملة (نابليون) جانبياً إلى تحفيز التفكير، واستجماع الهمم للتقدم، وبعلمائه، ومهندسيه، ومطبعته، حدثت طفرة معرفية.. وحسب (لويس عوض) فإن هذه الحملة، وما تلاها من علاقات مصر بأوروبا، كان لها أثر في التطور الذي نحته سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً وأدبياً وفنياً (12)..
 وكذلك كان من إصلاحات محمد علي باشا، تشجيع التعليم، وإرسال البعثات إلى فرنسا.. ومن المبتعثين رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873م).. وقد أشار إلى حداثتها في مجال الفلسفة الطبيعية، وإلى الحرية، والعدالة، والديمقراطية، والتخصصات العلمية، والحضارية. وكان بين مندهش وممتعض لوضع المرأة في علاقتها بالرجل، و(معجب) بها!.. كما استغرب تهميش الدين، كرؤية للحياة، وفصله عن الواقع، وتقديم العقل في كل شيء.. وحاول التوفيق بين التحديث الأوربي والإسلام.. وكان ذلك شأن (علي مبارك)، في (مصـر)، أيضاً؛ التوفيق بين الدين والتراث والحداثة.. وكذلك فعل خير الدين التونسـي في تونس، في كتابه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)؛ إذ أدرك خطر التقوقع والانغلاق، وحذّر من عدم التفاعل الحضاري. وكان خطابه مركزاً على الجانب التنظيمي السياسي والاقتصادي والثقافي والإداري، مع تمثل الأصالة.
وعموماً، كان للنقل، وسلطة علومه، أثر في تشكيل مفهوم الحياة الصحيحة.. وكانت مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية، والأزهر، تتولى صياغة الموقف الديني من إجراءات الدولة، ومشاكل وقضايا الشعب.. بعيداً عن مواضيع الفلسفة.. كما تولّت الطرق الصوفية المختلفة، التمهيد للدولة العثمانية في توغلها نحو خارج الحدود.. أما العلماء، فكانوا يبيّنون للشعب طرق الحياة ضمن مناهج لم تخل من قسمات تاريخية، ورؤى شخصية.. ثم كانت الدول الوطنية، ونشر التعليم المدني، والاحتكاك مع الخارج، وظهور التقنيات، ومجيء الأفكار والمذاهب؛ ممّا مهّد لتبلور نزعات نهضوية ذات مشارب وتوجهات شتى. وكان لمختلف العوامل الحضارية دور في إذكائها..
ولقد ظهرت نماذج من المفكرين، كانوا رواداً للمجتمعات، ومنظّرين للمثقفين.. وهذا لا يعني أن غيرهم من الأدباء والساسة والفنانين والمعماريين والصحفيين والأطباء والمهندسين والإداريين وعلماء الدين، لم يكن لهم دور، لكن الاستقصاء يتطلب مساحة واسعة.. كما لا يعني أن الفكر وحده كان اللاعب في الميدان، بل لأن موضوعنا هو إبراز دور الفكر في النهضة.. بل لأننا أخذنا هذا البعد بالدراسة، لأهميته، وقربه من اهتمام المؤلف؛ فبالفكر يحصل التقدم بدءاً، وبه يتحقق أمل الإصلاح؛ إذ تبدأ فكرة، فخاطرة؛ فتتوجه الهمة لتطويرها، وتفعيلها، فترسم المناهج، وتنفتح الآفاق، وتتحقق الآمال والتطلعات، وتنقل المعلومات، وقد تحدث تغيرات تاريخية حضارية، فتنتقل الأفكار من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان.

الهوامش:

(1)  العرب والحضارة الأوربية، محمد مفيد الشوباشي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، بغداد، ص3.
(2) تراث الإسلام، مجموعة من الباحثين، ت: حسين مؤنس وآخرون، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2015. وكذلك: تراث الإسلام، شاخت وبوزورث، 1974، عالم المعرفة، الكويت.
(3 ) العرب والحضارة الأوربية، مصدر سابق، ص 52، 53،54،.
 (4) تراث الإسلام، مصدر سابق.
(5)  الإسلام والغرب، د. محمد عابد الجابري، ط1، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ص 85.    (2009م).
(6) انظر على سبيل المثال: الإسلام والغرب، زكي الميلاد - تركي علي الربيعو، بيروت – دمشق، دار الفكر، (2001م).
(7)  تطور النظرة الإسلامية إلى أوربا، خالد زيادة، ط1، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، (2016م).
(8)  تطور الأوضاع الثقافية في تركيا، سهيل صابان، ط1، فرجينيا، (2010م)، ص 495.
(9) الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، أبو الحسن الندوي، ط1، دمشق- دار القلم: (2012م)، ص 45-54.
(10) العثمانيون في التاريخ والحضارة، د. محمد حرب، ط2 دمشق - دار القلم: (2012م)، ص 301.
(11) تطور الأوضاع الثقافية في تركيا، ص 497.
(12) تاريخ الفكر المصري الحديث، لويس عوض، ط1، القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب، (2013م)، ص 11، 12.
(13) الفكرانية، محمد عبد الرحمن مرحبا، ط1، بيروت، دار النهضة العربية، (2005م)، ص 441،495.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق