07‏/10‏/2018

قراءة في كتاب التاريخ الهجري الإسلامي لكلثم الشيخ عمر الماجد


د. عماد الدين خليل
الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة تمثل منعطفاً خطيراً في تاريخ الدعوة الإسلامية، فهي الجسر الذي يصل بين مرحلة بناء الإنسان والجماعة المسلمة بقوة العقيدة في العصـر المكي، وبين بناء الدولة الإسلامية بقوة التشريع في العصر المدني.
كانت هذه النقلة ضرورة من الضرورات التاريخية والعقدية، إذ أريد للإسلام أن يتمركز
في الأرض، وأن يؤدي رسالته العالمية التي أنيطت به. ولذا لم يأل الرسول (صلى الله عليه وسلم) جهداً في البحث عن البيئة الملائمة لإقامة الدولة الموعودة.
إن الإسلام جاء لكي يعبّر عن وجوده في عالمنا من خلال دوائر ثلاث، يتداخل بعضها في بعض، وتتسع صوب الخارج لكي تشمل مزيداً من المساحات: دائرة الإنسان والجماعة، فالدولة، فالحضارة.

ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان والجماعة، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدّته عن المضـي في الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة، لأنه بلا دولة ستظل دائرة الإنسان والجماعة مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والروحية، ولن يستطيع الإنسان (الفرد)، أو (الجماعة) التي لا تحميها (دولة)، أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، ولا سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقياتهما تمثلان رفضاً حاسماً لقيم الواقع الخارجي. ولا بد - إذن - من إيجاد الأرضية الصالحة التي يتحرك عليها المسلم، قبل أن تسحقه الظروف الخارجية، أو تنحرف به عن الطريق. وليست هذه الأرضية سوى الدائرة الثانية، وليست هذه الدائرة سوى الدولة، التي كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا.
إن هجرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدأت فعلاً يوم خرج إلى (الطائف)، فصدّ صدّاً قاسياً، لكنه لم ييأس، لأنه يعلم يقيناً أن الخاتمة ستكون له، فقط إذا استمر على بذل جهده البشري في البحث والتخطيط للهجرة التي ستعقبها دولة، وللدولة التي ستعقبها حضارة.. ووقف عند أسفل جدار بستان في الطائف، ريثما يستريح، ونادى ربه: (إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي)، ثم واصل الطريق، وراح يتصل - دون كلل - بوفود القبائل التي كانت تنهال على مكة في مواسم الحج، والتجارة، يعرض عليهم الدين الجديد، ويعرض مع الدين الجديد طلباً بأن يمنحوه أرضهم، ويحموه، لكي يتمكن من الإسراع في أداء مهمته الصعبة، قبل أن يجيئ البين، ويضطرب المصير.
إن الهجرة كان يمكن أن تكون إلى الطائف، أو إلى ديار أية قبيلة عربية قوية الجانب، عزيزة المنال، سواء أكانت ديارها في الشـرق، أم في الغرب. لكن أياً من هذه القبائل
(بنو كندة، بنو عامر بن صعصعة، بنو حنيفة... إلخ)، لم تمد يدها مبايعة الرسول
(صلى الله عليه وسلم)، ومرحبة بهجرته إلى أرضها وديارها.. فقد أعمت الوثنية الجاهلية قلوبها وأبصارها عن الشرف الذي كان يمكن أن تحظى به لو قالت للرسول: بايعنا ونصرنا! والذي حظيت به أوس يثرب، وخزرجها، بنعمة من الله وفضل.

***
كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله تعالى عنه) يدرك هذا كله، ويعرف
- جيداً - الأبعاد الحقيقية للهجرة، وكم هي نقلة كبيرة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وكيف كان وصول الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وصاحبه الصديق (رضي الله تعالى عنه)، إلى يثرب، انتصاراً حاسماً لهذه الدعوة، وبداية لعهد جديد في مسيرتها الصعبة.. ولهذا كله اختار هذا الحدث (التاريخي) ليكون تقويماً للأمة الإسلامية، تتميز به عن (تواريخ) الأمم الأخرى.
ولحكمة يريدها الله سبحانه، تقلّ السنة القمرية التي يقوم عليها التقويم الهجري بضعة عشر يوماً عن السنة الشمسية، التي يقوم عليها التقويم الميلادي. وبذلك تتغاير مواقع المناسبات الدينية ما بين سنة وأخرى، فيحلّ رمضان (بوجه الخصوص) حيناً في الصيف، وحيناً في الشتاء، وحيناً ثالثاً في فصلي الاعتدال: الربيع والخريف.. فلا يكون شهراً ميسـراً على مدار القرون، لا يكاد المسلم يجد فيه مشقة أو جهداً، يفقده الكثير من دلالاته التي فرض من أجلها، ولا يكون - في المقابل - شهراً صعباً على مدار القرون، فيشقّ على المسلم الذي يريد الله به اليسر، ولا يريد به العسر.

***
مؤلفة الكتاب، الأخت (كلثم الشيخ عمر الماجد) باحثة طموحة، تملك - فيما أعلم - القدرة على الأداء الجيد، وتطرق موضوعات تحمل أهميتها في السياق الذي تتحدث فيه. ولقد سبق لها وأن أصدرت سلسلة قيمة، تقدّم للأطفال الوقائع الأساسية لسيرة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، بالتيسير الذي يلائم أعمارهم، وبالصور التي تجسد لهم المعاني والمواقف، وتغريهم بالقراءة. وأغلب الظن أن الباحثة ستمضـي قدماً لكي تضيف إلى سلسلتها هذه سلاسل أخرى تعني بالملامح الأساسية للتاريخ والحضارة الإسلامية عبر مسيرتها الطويلة.
ولقد جاء هذا الكتاب، متضمناً - كما تقول المؤلفة - لعدد من النقاط المتعلقة بموضوع التاريخ الهجري، فكان الحديث أولاً عن معنى كلمة التاريخ، ومناقشة الكلام في أصل هذا اللفظ، ثم الحديث عمن بدأ العمل بالتاريخ الهجري الإسلامي، ثم مناقشة ضرورة التقيد به، ثم بيان أهمية التاريخ الهجري في حياة البشـر، وأثره في غرس الهوية الإسلامية، ثم اختتم بحديث وصفي موجز لكتاب (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف) لابن رجب الحنبلي، لصلة موضوعاته بموضوع الكتاب.
وأسأل الله سبحانه لنا ولها ولكل المعنيين بهموم الأمة، التوفيق والسداد، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا كافة خالصة لوجهه، إنه سميع مجيب الدعاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق