07‏/10‏/2018

وحدة الوجود عند ابن عربي (الحلقة الثانية)


د. أكرم فتاح سليم
مذهب ابن عربي في وحدة الوجود يقوم على أساس أن الوجود كله- بما فيه، ومن فيه- واحد هو الله، وأن ما يوجد في الكون من مخلوقات فوجودها خيال أو وهم أو ظل بالنسبة لوجود الله، والكثرة التي تشهدها الحواس إنما هي مجرد صور ومظاهر ومجال تتجلى فيها الصفات الإلهية. وليس هناك فرق حقيقي بين الوحدة والكثرة، أو بين الحق والخلق، إلا من حيث الاعتبار والجهة، أو النسب والإضافات، أو الأسماء والصفات. فالحقيقة الوجودية واحدة في ذاتها، متكثرة بصفاتها وأسمائها، فالله حق في ذاته، خلق من حيث صفاته، وصفاته عين ذاته، فالخلق عين الحق، والحق هو الخلق([1]).
وقد تجرأ ابن عربي على تفسير كتاب الله بغير علم، فاستدل بآيات من القرآن الكريم زعماً أن الله أطلق اسم
الوجود على نفسه، كما في قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ}([2])، {لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}([3])، {يّجِدِ اللهَ غَفُوراً رحيماً}([4])، واستدل بأحاديث موضوعة مثل حديث: (من عرف نفسه، فقد عرف ربه) ([5]). فالله - تعالى وتقدس- عند ابن عربي هو القديم والحديث، هو الباطن والظاهر، هو العبد والرب([6]).
    وبناءً على هذا التصور، فليس ثمة خلق، ولا موجود من عدم، بل مجرد فيض وتجلّ. ومادام الأمر كذلك، فلا مجال للحديث عن علة أو غاية، وإنما يسير العالم وفق ضرورة مطلقة، ويخضع لحتمية وجبرية صارمة.
 وقد أدى هذا التصور إلى تحريف آيات أخرى من القرآن الكريم؛ لتوافق مذهبه ومعتقده، فالعذاب عنده من العذوبة، والريح التي دمّرت قوم عاد هي من الراحة، لأنها أراحتهم من أجسامهم المظلمة، وفي هذه الريح عذاب، وهو من العذوبة.
ومما يؤكد على قوله بالجبر، الذي هو من نتائج مذهبه:

الحكم حكم الجبر والاضطرار *** ما ثم حكم يقتضي الاختيار
إلا الذي يعزى إلينا، ففـــــــي *** ظاهره بأنه عن خيــــــــار
لو فكر الناظر فيــــــــه، رأى *** بأنه المختار عن اضطــــرار

وإذا كان قد ترتب على قول ابن عربي بالجبر، ونفي الحساب والثواب والعقاب. فإنه ترتب على مذهبه أيضاً بوحدة الأديان، فقد أكّد على أن من يعبد الله، ومن يعبد الأحجار والأصنام، كلهم سواء؛ لأنهم في الحقيقة ما عبدوا إلا الله.
يقول في ذلك:
لقد صار قلبي قابلاً كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبـان
وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قـــــرآن

وقد تابعه تلاميذ له، أعجبوا بآرائه، وعرضوا لذلك المذهب في أشعارهم، وكتبهم. من هؤلاء: ابن الفارض، وابن سبعين، والتلمساني. أما ابن الفارض، فيؤكد مذهبه في وحدة الوجود، في قصيدته المشهورة بالتائية:

لها صلاتي بالمقام أقيمها ***       وأشهد أنها لي صلَّـت
كلانا مصل عابد ساجد إلى *** حقيقة الجمع في كل سجــدة
وما كان لي صلى سواي، فلم تكن *** صلاتي لغيري في أداء كل ركعة
ومازالت إياها، وإياي لم تزل *** ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبـت

  وهنا يصرح بأنه يصلي لنفسه، لأن نفسه هي الله. ويبيّن أنه ينشد ذلك الشعر لا في حال سُكْر الصوفية بل هو في حالة الصحو، فيقول:

ففي الصحو بعد المحو لم أك غيرها *** وذاتي ذاتي إذا تحلت تجلت

ويقول عن الذات الإلهية، وتجلّيها له:

جلت في تجليها الوجود لناظري *** ففي كل مرئي أراها برؤية

ويقول عن معنى سجود الملائكة لآدم (عليه السلام)، وأن الملائكة إنما هم صفة من صفاته، لا خلق مستقل:

وفيَّ شهدت الساجدين لمظهري *** فحققت أني كنت آدم سجدتي

    أيْ عاينت في نفسي الملائكة الساجدين لمظهري، فعلمت حقيقة أني كنت في سجدتي آدم تلك السجدة، وأن الملائكة يسجدون لي، والملائكة صفة من صفاتي، فللساجد صفة مني تسجد لذاتي([7]).
وأما ابن سبعين، فمن أقواله الدالة على متابعة ابن عربي في مذهب وحدة الوجود، قوله:

رب مالك، وعبد هالك *** وأنتم ذلك الله فقط، والكثرة وهــم.

وقال أيضاً:
عين ما ترى ذات لا تُرى ***وذات لا تُرى عين ما ترى

وهنا يؤكد أن هذه الموجودات ليس لها وجود حقيقي، فوجودها وهْمٌ. فهم مضطربون، لأن ما جعلوه هو الذات، عدم محض خالص، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً، بلا ريب([8]).
     أما التلمساني - وهو كما يقول الإمام ابن تيمية: من أعظم هؤلاء كفراً - فهو لا يفرق بين الكائنات، وخالقها، إنما الكائنات أجزاء منه، وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر في البحر، وأجزاء البيت من البيت. ومن ذلك قوله:

البحر لا شك عندي في توحـده *** وإن تعدد بالأمــــــواج والزبــد
فلا يغرنك ما شاهدت من صور *** فالواحد الرب ساري العين في العدد

ويقول أيضاً:

فما البحر إلا الموج لا شيء غيـره *** وإن فرقته كثرة المتعـدد([9])

ويقول ابن عربي بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام:

ألا كل قول في الوجود كلامه *** سواء علينا نثره ونظامه
يعم به أسماع كــــل مكــــون *** فمنه إليه بدؤه وختــــامه

     فالله هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: {أنا ربُّكم الأعلى}([10]). وقوله: {ما علمت لكم من إله غيري}([11]). وبين القول الذي يسمعه موسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري}([12]). بل إنه الناطق في كل شيء، فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، يصـرحون بأن أقوالهم هي قوله([13]).
 وذكر (علي الحريري): آدم صفي الله تعالى كان توحيده ظاهراً وباطناً، فقال: " كان قوله تعالى: (لا تأكل) ظاهراً، وكان أمره (كُل) باطناً، فأكل"، وأيضاً: " إبليس كان توحيده ظاهراً، فأمر بالسجود لآدم، فرآه غيراً فلم يسجد، فغير الله عليه، وقال له: {اخرج منها فإنك رجيم}([14]). وهؤلاء يعشقون الصور الجميلة؛ لاعتقادهم أنها مظاهر الحق، فهذه دعوة إلى حبّ الشهوات والرذيلة، حيث جعلوا العشق الطبيعي سلّماً للحب الإلهي، وحاكوا في كتبهم الحكايات الغزلية والأساطير العشقية، وجعلوا (مجنون ليلى) قدوة لهم في حبّهم لله تعالى، فحبّ العالم بعضه بعضاً من حب الله نفسه. ويصـرح ابن عربي في (فصوص الحكم): "فمن أحب النساء على هذا الحد، فهو حب إلهي، فحب الصور الجميلة من النساء، وغيرهن، هو حب لله، لأن الله الظاهر فيهما". وأيضاً: "إن الحسن معشوقٌ لذاته في كل شيء ظهر". وجعلوا الحب السفلي سلّماً للحب الإلهي، كما صرّح بذلك الوزير (لسان الدين بن الخطيب) بقوله: "عشق الحادث للحادث، ربما كان سلّماً للحب الحقيقي، الوصل للسعادة([15]).
    ومن دعاة وحدة الوجود:(الجيلي)، صاحب كتاب (الإنسان الكامل)، وقد ترجم له (الشعراني) ما أورده في كتابه:
لي الملك في الدارين، لم أر فيهما *** سواي، فأرجو فضله أو فأخشاه
وقد حزت أنواع الكمـال*** جمال جلال الكل ما أنا إلا هــــــــــو
لي الملك والملكوت نسجي وصنعي *** لي الغيب والجبروت مني منشاه

    فالجيلي هو كل شيء، والله هو أيضاً كل شيء عنده، من خير أو شر، الكل هو الله، على حسب هذه العقيدة الفاسدة([16]).
   ومن القائلين أيضاً بوحدة الوجود: (عامر بن عامر)، حيث قال محاكياً (الفارض) في تائيته، وفي معتقده:
تجلى لي المحبوب من كل وجهة *** فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني مني بكشف سرائـر *** تعالت عن الأغيار لطفاً وجلــــت
فقال أتدري من أنا، قلت أنت أنا ***منادى أنا إذ كنت أنت حقيقتي

    وقد اختار الشيخ عبد الرحمن الوكيل نقل هذه الأبيات من تائية (عامر بن عامر)، وهي صريحة لا لبس فيها على ما يذهب إليه أهل وحدة الوجود، الذين يرون أنه لا يكتمل إيمان العبد، ولا يصل إلى الله، إلا إذا تلاشت (أنا) من نفسه، فأصبح في لجة جمع الجمع، ورفع الاثنينية([17]). وقد سلك هذا الاعتقاد (محمد بن إسحاق)، المشهور بالقونوي، و(عبد الغني بن إسماعيل)، المشهور بالنابلسي، و(عبد السلام بن بشيش)، وهو من كبار شيوخ الشاذلية، و(محمد الدمرداش المحمدي)، و(أحمد بن عجيبة الإدريسـي)، و(حسن رضوان). وكل واحد من هؤلاء قد أدلى بدلوه، وخاض فيما ليس له بحق، وحاول تثبيت عقيدة وحدة الوجود، بكل ما أمكنه من الكلام، نثراً ونظماً، مما قد يطول نقله، وتثقل قراءته، إذ إنهم لا يختلفون إلا في الألفاظ فقط، والمورد واحد([18]).
حاول ابن خلدون شرح هذه الفكرة، معتبراً هذه التصورات الباطلة عادة ما تكون غامضة، ومتناقضة، حتى على أصحابها، فيقول: "يعنون بهذه الوحدة أن الوجود له قوى ذاتية، فالقوة الحيوانية فيها قوة المعدن، وزيادة، والقوة الإنسانية فيها قوة الحيوان، وزيادة، والفلك يتضمن الإنسانية، وزيادة، وكذلك الذوات الروحانية (الملائكة)، ثم القوة الجامعة، التي انبثت في جميع الموجودات، فالكل واحد هو نفس الذات الإلهية. وحين يرد السؤال: كيف يقال بوحدة الوجود، وهناك خالق ومخلوق، ومؤمنون وكفار؟ والكفار يعذبون في النار، فمن الذي يعذبهم؟ وحتى لا يرد هذا السؤال، راح ابن عربي يحرِّف كل آيات القرآن الكريم، ويطبق باطنيته، وكفره، في كتاب (فصوص الحكم). فمثلاً يقول: إن موسى (عليه السلام) لم يعاقب هارون (عليه السلام)، إلا لأن هارون أنكر على بني إسرائيل عبادة العجل، وهم ما عبدوا إلا الله، لأن الله قضـى ألا نعبد إلا إياه، وأن موسى أعلم من هارون. ويحكم ابن عربي بإيمان فرعون، بقوله تعالى: { قرة عين لي ولك}([19])، فكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق. وهكذا راح يعيث فساداً في بقية قصص الأنبياء"([20]).
    ماذكره ابن عربي، وغيره، نوع من إنكار الذات الإلهية، وصفاته الخاصة، التي لا يشاركه فيها غيره، فللمخلوق صفات تليق به، وللخالق صفات تليق به –سبحانه-، ولهذا أنكر الأنبياء (سلام الله عليهم) عبادة الأصنام والاوثان، من مشركي أقوامهم. ولو كان ما قال ابن عربي والتلمساني صحيحاً، لما كان تقديس الحيوانات والجمادات في شريعة الله شركاً، وهو أعظم ذنبٍ عنده سبحانه..
إن دعوة وحدة الوجود دعوة واضحة الى الإلحاد، ونبذ الأديان، وخلط العقائد بعضها مع بعض، والله سبحانه وتعالى قريب جداً من عبده الصالح الذي يدعوه، ويطلب منه، وليس معنى ذلك لو زاد هذا القرب يتحد به، ويصبح شيئاً واحداً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًr

الهوامش:
([1]) ينظر: عبد الرءوف محمد عثمان، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إدارة الطبع والترجمة – الرياض، الطبعة الأولى، 1414هـ، ص174.
)2) سورة النور: آية 39.
)3) سورة النساء: آية 64.
)4) سورة النساء: آية: 110.
)5) ينظر: شمس الدين محمد بن عمر السفيري (ت 956هـ)، المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية، حققه وخرج أحاديثه: أحمد فتحي عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ج1، الطبعة الأولى، 1425 هـ = 2004م، ص458.
(6) ينظر: عبد الرءوف محمد عثمان، محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، ص174، مصدر سابق.
)7) ينظر: د. غالب بن علي عواجي،ج3، ص998، مصدر سابق.
(8) ينظر: شمس الدين أبو عبد الله الذهبي (ت 748هـ)، المحقق: محمد بن خليفة التميمي، ج1، ص89-92، مصدر سابق.
 (9) ينظر: الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة، إشراف وتخطيط ومراجعة: د. مانع بن حماد الجهني، دار الندوة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، ج2، الطبعة الرابعة، 1420 هـ، ص783-786.
(10) سورة النازعات، آية 24.
)11)سورة القصص، آية 38.
(12) سورة طه، آية 14.
(13) ينظر: محمد بن خليفة بن علي التميمي، مقالة التعطيل والجعد بن درهم، أضواء السلف، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1418هـ=1997م، ص35-38.
)14) سورة الحجر، آية 34.
(15) ينظر: إحسان إلهي ظهير الباكستاني (ت 1407هـ)، دراسات في التصوف، دار الإمام المجدد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1426 هـ = 2005م، ص 318-319.
)16) ينظر: د. غالب بن علي عواجي، ج 3، ص999، مصدر سابق.
(17) ينظر: د. غالب بن علي عواجي، ج 3، ص1003-1004.
(18) المصدر نفسه،ج 3، ص994-1005.
(19) سورة القصص، آية 9.
(20) د. صالح الرقب – د. محمود الشوبكي، ص59-61، مصدر سابق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق