07‏/10‏/2018

لا رجم في القرآن


د. سعد سعيد الديوه چي
وبعد، فهذا كتاب بهذا العنوان للعلامة الشيخ المرحوم مصطفى الزلمي، والذي يعد طفرة تاريخية وفقهية لم يتعود الناس على تقبلها، بعد أن اعتقدوا أنها من مُسلمات الدين، وبديهياته. وليس لنا فضل بما جاء بالمقال سوى عرض أسس الكتاب.
وفي المقدمة القصيرة يشرح الشيخ دوافع كتابته لهذا الكتاب، فيقول بأنه منذ القرن الثاني الهجري، فإن معظم الفقهاء أقرّوا رجم الزاني والزانية، وقليل منهم عارضوه، وأن هنالك تعارضاً ظاهرياً بين ما جاء في القرآن، وما روي عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الأحاديث، فيما يتعلق بالرجم، (حسب ما سيعرضه لاحقاً).
ويؤكد الشيخ بأنه لا توجد في القرآن الكريم آية واحدة تشير، من قريب أو بعيد، إلى مشروعية رجم الزاني المحصن أو الزانية المحصنة، وأن عقوبة الزنا تتمثل بالجلد والحبس.

فالقرآن الكريم يقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}النور. وعليه، فدخول (ال) الاستغراق على اسم الفاعل يفيد العموم، والعام يؤخذ بعمومه، ما لم يثبت تخصيصه.
و(سورة النور) التي وردت فيها الآية أعلاه تبدأ بافتتاحية فريدة، ترد على زعم أولئك الذين يتجاهلون وضوح القرآن، وبيان تشريعاته، حيث تبدأ السورة بالآية: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
وبما أن الرجم يؤدي إلى الموت، فمن غير المقبول أن تكون عقوبة الجارية المتزوجة، إذا زنت، نصف عقاب الحرة المتزوجة، لأن الموت لا يقسم إلى موت كامل، ونصف موت. فقد ورد في (سورة النساء)، بشأن الزواج من الجواري المؤمنات: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}النساء. وفي سياق تأكيده على عذاب الجلد، الذي لا يؤدي للموت، قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}النور.
 وحتى ما جاء بخصوص نساء الرسول (صلى الله عليه وسلم)، يؤكد هذا النهج بدون أدنى مواربة، حيث يقول القرآن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}الأحزاب. فهل من المعقول أن يكون الموت ضعفين، وهو عقوبة حدية؟.
إن فلسفة الشيخ الزلمي تقودنا إلى أمور نحن في أمسّ الحاجة إليها، في استنتاج الأحكام من القرآن، وأهمها: أخذ القرآن ككل، بعد اكتمال النزول، واستنباط الأحكام بآيات؛ ليس بالضرورة أن تكون من أسباب النزول على أيام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وتنوع الحياة الاجتماعية للمجتمعات المسلمة، واختلافها، حسب الزمان والمكان. بينما انشغل معظم المفسرين، ومستنبطي الأحكام، بالدوران حول شبهات آيات، اعتقدوا أنها محذوفة من القرآن، مثل ما جاء في (فتح الباري، شرح صحيح البخاري)/ 12/143، إذا (زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، والجملة على ركاكتها ناقشها الفقهاء، والمفسرون، ولم يلتفتوا لحقيقة تواتر كلام الله، وقد حفظه الله بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}الحجر.
ويروي الشيخ- رحمه الله - رواية عن عمر (رضي الله عنه)، قوله: "... فقد رجم الرسول، ورجمنا، وإني والذي نفسـي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنا قد قرأناها"*[1].
ويردف الشيخ بأن هذه أكذوبة على عمر (رضي الله عنه)، وما أكثر الأكاذيب عليه، فقد كان أشجع الناس، بعد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في قول الحق، ولا يخشى لومة لائم.. ومع ذلك انشغل بعض الفقهاء في مناقشة تفاصيل مثل هذه الأكاذيب، التي هي بعيدة عن روح القرآن، وفي مناقشتها، وأخذها كقاعدة لاستنباط الأحكام.
والمضحك المبكي بأن أغرب ما قيل في هذه الأكذوبة، ما نسب إلى أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها)، أنها قالت "إن باقي سورة الأحزاب كان مكتوباً في رق موضوع تحت فراش محمد، ولما مات، وذهبت لدفنه مع من ذهبوا، فرجعت فوجدت داجن بيت الرسول قد أكل الرق، بما فيه من وحي ربه!". ومن المعروف أن بعض المفسـرين ذهبوا إلى أن (سورة الأحزاب) كانت بقدر (سورة البقرة)، إلا أنها نسخت آياتها، بضمنها آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)، وبقيت (73) آية.
بهذا التهافت أراد بعض الفقهاء والمفسرين أن يجدوا باباً لترسيخهم فكرة الرجم، وبأي وسيلة كانت.
ومن المؤسف أن هؤلاء المفسرين لم يسألوا أنفسهم سؤالاً بسيطاً جداً عن سبب وضع الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهذا الرق تحت فراشه، وهو من الجلد السميك، وهل ينام الرسول (صلى الله عليه وسلم) على آيات القرآن؟! وهل ذهبت عائشة (رضي الله عنها) لدفنه، وقد دفن في حجرتها؟! وهل تذكره السيدة عائشة باسمه المجرد، ولا تقول: الرسول (صلى الله عليه وسلم).
والشيخ الزلمي لا ينكر الأحاديث التي وردت بشأن الرجم الذي نفذه الرسول (صلى الله عليه وسلم) على مضض، وفي بعض الزناة، وهي أحاديث معدودة؛ كحديث ماعز الأسلمي، الذي اعترف بالزنى أمام الرسول، وأصرّ على تنفيذ العقوبة به، وحين مسّ الحجارة، ومسّ الموت، هرب، ولكنهم نفذوا العقوبة كاملة. وعندما سمع الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: هلا تركتموه!.
ويقول الشيخ: فإن هذا التعامل مع ماعز يدل دلالة واضحة على أن الرجم لم يأمر به القرآن قبل قضاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) به، لأن أمر الله لا يجوز في تنفيذه التردد والتساهل والاستفسارات.
ويورد الشيخ - رحمه الله - واقعة تخص رجلاً قال للرسول (صلى الله عليه وسلم): إني أصبت حداً فأقمه عليّ، ولم يسأله، وقال وحضرت الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وسلم)، فلما قضى (صلى الله عليه وسلم)، أعاد الرجل الكرّة، فقال (صلى الله عليه وسلم): أليس صليت معنا، قال نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك.
وهناك التفاتة جديرة بالاهتمام، نتيجة التداخل المعرفي بين المسلمين واليهود في المدينة. فالرجم موجود في التوراة، وجاء اليهود في حادثة زنى لأخذ الأحكام من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فنبهّه عبد الله بن سلام، وكان حبراً له مكانة عند اليهود، ثم أسلم، على ما موجود في التوراة، فقال لهم: إني أحكم بما في التوراة.
وعليه، فالرسول (صلى الله عليه وسلم)، قد حكم على مضض في حوادث قليلة بالرجم، اجتهاداً منه، لما موجود في التوراة، وأعطى الفرصة للمذنب بالتنازل عن طلب العقوبة به، لأن ذلك كان اجتهاداً منه، واستنباطاً من أحكام التوراة، قبل أن تنزل (سورة النور).
فقد جاء في التوراة: (وإذا التقى رجل بفتاة مخطوبة لرجل آخر، في المدينة، وضاجعها، فأخرجوهما كليهما إلى ساحة بوابه تلك المدينة، وارجموهما بالحجارة حتى يموتا)(23-24،22، سفر التثنية). وهذا ما أخبر به عبدالله بن سلام الرسول (صلى الله عليه وسلم) في تلك الحادثة، والأمر يسري على المرأة المتزوجة، والرجل الذي يفعل الزنا معها. وهناك أحكام أخرى تخص الرجال، والعذارى غير المتزوجات، والرجال غير المتزوجين، ممن يقترفون الزنى، توجد أحكام أخرى بشأنهم، يمكن ملاحظتها في هذا السفر.
والمسيح عليه السلام، وكما تروي الأناجيل، قد أبطل الرجم الذي كان اليهود يمارسونه، مع أنه لم يبطل الشريعة، فعندما جلبوا له امرأة زانية، قالوا: (قد أوصانا موسى في شريعته بإعدام أمثالها رجماً بالحجارة، فما قولك أنت)(5-7، يوحنا)، فجاوبهم: (من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها أولاً بحجر)(7-8، يوحنا). وهكذا انسحب الجميع، وقال للمرأة: (أنا لا أحكم عليك، اذهبي ولا تعودي تخطئين)( 11-8، يوحنا).
وعليه، فإنه من القواعد الأصولية الثابتة المتفق عليها، أنه إذا تعارض نص القرآن الكريم مع الحديث النبوي الشـريف، في موضوع معين، ولم يمكن الجمع بينهما، يقدّم العمل بالقرآن على العمل بالحديث النبوي، ولو كان متواتراً، لأن القرآن وحي إلهي ثابت بالتواتر، بخلاف الحديث النبوي، الذي ليس وحياً على الرأي الراجح عند علماء المسلمين. لأن بعض الأحاديث النبوية اجتهادات للرسول (صلى الله عليه وسلم)، فكان يجتهد مستنداً إلى ما في العرف الجاهلي، قبل إلغائه بالقرآن، أو ما في التوراة، أو لمصلحة كانت في نظره سنداً في اجتهاده. فكان (الظهار) في الجاهلية يعتبر طلاقاً، والظهار هو تشبيه الزوج زوجته بإحدى محارمه، حتى نزلت الآية: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}المجادلة.
وكذلك نزوله عند رأي الصحابي الحباب بن المنذر بن الجموح، وتخليه عن رأيه بشأن مكان (بدر)، وقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): (قد أشرت بالرأي)، أي الرأي الصحيح.
ومن هذا المنطلق، يعرض الشيخ الزلمي ما توافق عليه فقهاء المذاهب المختلفة، وما اختلفوا عليه، لأنهم لم يراعوا تلك القواعد، التي أخذها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بنظر الاعتبار.
وكذلك يسرد الشيخ رواية لشيخ الأزهر الأسبق محمد أبو زهرة، بأنه قد قال نفس الرأي عام 1972م، في ندوة التشريع الإسلامي، المنعقدة في مدينة (البيضاء) في ليبيا.
وأخيراً، فالذي دعانا لهذا الأمر كثرة المتطفلين على الدين، من الذين نصبوا أنفسهم أولياء على المسلمين، آخذين ما يقوم به بعض المتطرفين، أمثال داعش، وغيرها، حجة للتهجم على الدين بلا هدىً ولا كتاب منير.



[1]*موطأ الامام مالك ط/2، ص241، صحيح مسلم 3/131، ابن ماجة في السنن رقم 2553، فتح الباري 12/143.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق