07‏/10‏/2018

من التاريخ الحديث: معركة ميسلون - دروس وعبر –


عمر بادي
في ربوة  قريبة من دمشق، وفي منطقة تسمى خان ميسلون، يرقد شهيد شجاع مع (٤٠٠) من جنوده، الذين سقطوا شهداء الاحتلال الفرنسـي لسوريا، ويكمن في مرقده قصص كثيرة، ودروس أكثر..
قصص سقوط الإمبراطورية العثمانية، والخلافة الإسلامية على إثرها، واحتلال الغرب للممالك العثمانية، وتقسيم الدول والشعوب الإسلامية إلى دويلات وممالك تحت الانتداب الإنكليزي، أو الفرنسي، وحلفائهم..
قصص تقسيم أمم وشعوب بين خطوط وهمية، رسمها أمثال سايكس الإنكليزي، وبيكو الفرنسي، وبداية إنشاء الدول القطرية الحالية .
قصة وهم الدولة العربية الكبرى، وتحالف الشـريف الحسين بن علي، وغيره من الضباط العرب، مع الإنكليز والغرب ضد الأتراك المسلمين، وخيبة الأمل التي نالوها على يد الإنكليز وأعوانهم، بعد أن خذلوا الشريف حسين
في تطلعاته لزعامة العالم العربي، وبالتالي الإسلامي، وإنشاء دولة عربية كبرى برعاية الإنكليز، ونفيه إلى قبرص، بعد انتهاء مهمته، ليموت هنالك ذليلاً.
قصص الخيانات العربية، ووقوف البعض مع القوى المحتلة، تاركين الدين والمبادئ والأخلاقيات وراءهم.
قصص قيادة العاطفة والحماس والقوة الوهمية، بدلاً من الحكمة والعقل، والاستناد إلى المنطق، والأخذ بالأسباب.
قصص من أصبحوا رؤساء وأبطالاً، لكن على أجساد ودماء الكثير من الأبرياء والمخلصين من هذه الأمة، وعلى مآسي شعوب، واحتلال أراض.
أما الدروس، فهي كثيرة.. لكن من يراجع الماضي، الذي يحتوي على خزائن منه؟! ومن يستفيد من دروسه؟! وخاصة في العالمين العربي والإسلامي..
لنعد إلى الأحداث، وقد اقتبست معظمها من الدكتور علي الوردي، في كتابه المشهور (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث)، الذي اعتمد على مصادر كثيرة، ومذكرات الكثيرين ممن عاصروا الأحداث.. مع بعض التصرف.
تمّ تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا، من قبل لورنس، في ٨ آذار ١٩٢٠، بعد طرد الأتراك، وقبل أن ينصبوه على عرش العراق.
ولما كانت سوريا من حصة فرنسا، حسب اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة، أرسل الجنرال غورو، قائد الجيش الفرنسي في لبنان، وبالطبع حسب الاتفاق مع إنكلترا، رسالة إلى فيصل يطلب فيها: قبول انتداب الجيش الفرنسي بلا قيد وشرط، وإلغاء التجنيد الإجباري، مع تسريح المجندين، ومعاقبة المتهمين بمعاداة فرنسا، وشروط أخرى.. ومنحه مهلة أربعة أيام لقبولها، وإلا: "فإن الحكومة الفرنسية ستكون مطلقة التصـرف تجاه حكومة فيصل"  لمحات اجتماعية - ج- ٦، ص ١٤٨.
استدعى الملك ياسين الهاشمي، الضابط العراقي الذي كان يرافق الملك، وعينه قائداً لجبهة (مجدل عنجر). قال الهاشمي لساطع الحصري، الذي بدوره نقل الكلام إلى فيصل: "إن الجيش الموجود لا يستطيع الصمود أمام العدو أكثر من ساعتين" (لمحات اجتماعية، ج ٦ ص١٤٨).. اجتمع الملك بالقادة العسكريين، والوزراء، حيث قال الهاشمي: إن الحرب لا ضرورة لها، ووافق مجلس الوزراء على قبول الإنذار.. أرسل الملك إلى (اللنبي)، قائد الجيش البريطاني في حيفا، يستشيره، فأشار إليه – طبعاً - بقبول الإنذار.

كان يوسف العظمة، الذي كان وزيراً للحربية آنذاك، مصّـراً في كلامه على مواجهة (غورو)، ووجه كلاماً قاسياً إلى ياسين الهاشمي حول ما قاله عن إمكانات الجيش، واعتبر ذلك نقلاً لأسرار الجيش، ومدى استعداده للحرب، إلى الوزراء!!!
فردّ عليه الأخير: إني أوقفت الوزارة على حقيقة ميرة الجيش، لكي لا تنخدع بأقوالك، وتسوق البلد إلى حرب لا أمل في كسبها.
بالرغم من كل هذا، قرّر الملك، والوزراء، قبول الإنذار، وأرسل برقية إلى غورو بهذا الصدد.
خرجت الجماهير إلى الشارع، وهي تنادي: (إلى الحرب، إلى الحرب)، تاركين الملك في مأزق.
حاول الملك، من دون جدوى، إقناع المؤتمر السوري، والجماهير، بقبول الإنذار، وعدم الذهاب إلى الحرب، لعدم وجود إمكانية لكسبها..
في صباح يوم ١٩ تموز ١٩٢٠ انتشـر بين الناس خبر قبول الوزارة لإنذار (غورو)، فانتفضت دمشق للخبر، واحتشد الآلاف منهم في (ساحة المرجة) يهتفون، وقام الشيخ كامل القصاب خطيباً، فحرّضهم على امتشاق الحسام (السيف) للذود عن الوطن المهدد!! وندّد برجال الحكومة، وهدّدهم، وأخذ الخطباء الواحد تلو الآخر، يحثّون الناس على المقاومة  مهما كلفهم الأمر.. (لمحات اجتماعية،  ج ٦  ص ١٥٤).
قرّر الملك حلّ المجلس، بعد أن جاءهم إنذار آخر من (غورو)؛ يريد تنفيذ شروطه حالاً، وأمهلهم يومين لتنفيذها؛  تنتهي في منتصف ليلة ٢٠-٢١  تموز.
قرر الملك، مع مجلس الوزراء، الاستجابة لإنذار (غورو).
ولما انتشر الخبر بين الناس صباح اليوم التالي، هاجت الجماهير مرة أخرى، وعلى رأسهم الشيخ كامل القصاب، وهتف البعض بسقوط الوزارة، وإحالتها إلى المحكمة بتهمة الخيانة الوطنية، وهتف قسم آخر بسقوط الملك، مع الوزارة، وتنحيته .
هاجم مشاغبون ورعاع – وما أكثرهم دائماً- القلعة، للاستيلاء على السلاح، وانتشـر النهب في الأسواق القريبة، بعد أن كسروا باب القلعة، ووقعت مذبحة ذهب ضحيتها (٢٥) شخصاً، وجرح( ٣٥) آخرين.
زحف (غورو)، بجنوده، إلى (دمشق) مصمماً احتلالها..
وهل تعتقد يا أخي القارئ بأن القوة المهاجمة كانوا فرنسيين؟!
كانت تتضمن كتيبة مغربية، وأخرى سنغالية، يعني - كما يقول المثل - وهب الأمير ما لا يملك: استخدم جنوداً عرب ومسلمين، لقتل مسلمين وعرب آخرين، من أجل تحقيق مآرب فرنسا .
لم يبق أمام الملك، والوزراء، خيار سوى الذهاب إلى الحرب..
انطلقت صيحة الحرب في شوارع (دمشق)..
استدعى الملك  كامل القصاب، وقال له: لقد قررنا الدفاع، كما أردتم، فأرنا همتك ونشاطك، وجئنا بالقوى الوطنية التي تقول عنها إنها مستعدة للقتال.
فأجابه القصاب قائلاً: ما دمت قررت الدفاع، فإني أعدك بتجنيد عشـرة آلاف رجل يحمل البندقية، حتى المساء. ثم خرج يجوب محلات دمشق، وينادي بالبدار إلى الحرب، وبعد فترة عاد وهو يحمل في ذيل جبّته كمية من خراطيش البنادق والمسدسات، وقدّمها للملك قائلاً: اشتريت هذه الرصاصات من أحد دكاكين المدينة، من قال لكم أنه ليس في البلاد ذخيرة؟!!
فضحك ياسين الهاشمي، الذي كان حاضراً، من سذاجته، وقال بمرارة: أبمثل هذا العتاد، وهؤلاء المتطوعين، الذين يظنون أن الحرب كالمظاهرات والنزهات، يمكننا أن نصدّ الجيش الفرنسي، سيّما وحرب العصابات تختلف عن الحرب النظامية؟
ذهب الملك إلى الجامع الأموي، فارتقى المنبر، وخطب في الناس قائلاً: أردت أن أردّ عنكم جيش الأعداء بإجابة مطالبهم، فلم يرتدوا، فإن كنتم في حاجة إلى بلدكم، فاخرجوا للدفاع عنه..
وأعدت إدارة السكك قطارات يتحرك الواحد كل ساعة، لحمل المتطوعين إلى الجبهة، في (خان ميسلون).
وتهافت المتطوعون إلى القطار، وهم يحملون ما لديهم  من بنادق، أو (سيوف)، أو مسدسات، أو (عصي)، كما تطوّع عدد من النساء لخدمة الجرحى.
يقول جميل بيهم: إن المتطوعين انظموا إلى الجيش بدافع الحماس والواجب الوطني، غير أن أكثرهم كانوا لا يحسبون حساب الحرب وأهوالها.. منهم  من كانوا يتصورون أنهم في نزهة عسكرية، حتى حمل بعض المولعين بالناركيلة أن يصحبوها معهم إلى تلك النزهة!!.
حينها عرف يوسف العظمة (وزير الحربية) أن المسألة جديّة، وعليه أن لا يتراجع، وأن يفي بكلامه، فقرّر الخروج بنفسه إلى الجبهة، وعرف أنها النهاية، وذهب لتوديع الملك، وجرى بينهما حوار له مغزاه البعيد. ننقله بنصه عن أحمد قدري، الذي كان حاضراً:
يوسف: أتيت لتلقي أوامر جلالتكم.
فيصل: بارك الله فيك، إذن أنت مسافر لميسلون.
يوسف: نعم يا مولاي،إذا كنتم لا تودون قبول الإنذار الأخير.
فيصل: ولماذا كنت تصرّ على الدفاع بشدة؟.
(أرجو من القارئ الكريم التركيز على جواب يوسف العظمة)
يوسف: لأنني لم أكن أعتقد بأن الفرنسيين يتمكنون من دوس جميع الحقوق الدولية  والإنسانية، ويقدمون على احتلال دمشق، وكنت أتظاهر بالمقابلة بالمثل .
(وهنا نريد أن نلفت القارئ الكريم إلى هذه الثقة بالمحتل الغربي؛ أدعياء حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، وهذه الخبرة السياسية لدى من لديه الأمر).
فيصل: وهل يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يسيل على جوانبه الدم.
يوسف: فهل يأذن لي جلالة الملك بأن أموت؟
فيصل: بعد أن انتهت الأمور إلى هذا الحد، يجب أن نموت جميعاً شرفاء، وننقذ البلاد من حرب أهلية أيضاً.
يوسف: إذن، فأنا أترك ابنتي الوحيدة ليلى لدى جلالتكم .
بدأت معركة ميسلون في حوالي الساعة الخامسة من صباح ٢٤ تموز، واستمرت حتى الظهر.
وتصوّر أيها القارئ العزيز، كم عدد الذين شاركوا في الدفاع، من بين العشـرة آلاف متطوع، الذين وعد بهم كامل القصاب، والألوف المؤلفة التي كانت تجوب الشوارع، وتضيق الحصار على الملك والوزراء، وكانوا يهتفون: إلى الحرب، إلى الحرب.. وغيرها من الشعارات والهتافات؟!
يقدر عدد الذين اشتركوا في المعركة بثلاثة آلاف، بعضهم من الجنود النظاميين، والآخرين من المتطوعين..
وفي الواقع لم تكن معركة، بل كانت بالمذبحة أشبه..
فقد كانت لدى القوات الفرنسية (١٠) طائرات، والكثير من المدافع، والدبابات، بينما لم يكن لدى العرب إلا القليل من المدافع، ولم يكن العتاد الذي وزع عليهم من عيار الأسلحة التي في أيديهم..
أبدى العرب صموداً في القتال لا يستهان به، وقتل منهم (٤٠٠) رجل، عدا الجرحى، وتلك نسبة عالية في جيش مقابل، وكان من بين القتلى عدد غير قليل من رجال الدين، الذين اعتبروها جهاداً في سبيل الله.
وفي الساعة العاشرة والنصف صباحاً استشهد يوسف العظمة، وانتشرت في الجنود روح الهزيمة، فبدأوا ينسحبون سريعاً نحو دمشق.
وممّا يحزّ في النفس أن أهل القرى الواقعة بين ميسلون والمزة، انثالوا على الجنود المنسحبين ينهبونهم.
ودخل الجيش الفرنسي دمشق يوم ٢٥ تموز . ووصل الجنرال (غورو)  في ١ آب، حيث دخل دمشق في موكب عظيم، وتوجه حالاً إلى قبر صلاح الدين الأيوبي(رحمه الله)، فوقف على القبر، وقال قولته المشهورة: يا صلاح الدين، أنت قلت في إبّان الحروب الصليبية أنكم خرجتم من الشرق، ولن تعودوا إليه،  وها إننا قد عدنا، فانهض لترانا هنا في سورية..
وكان بعض شيوخ العشائر قد استلم من خزينة الجيش العربي مبالغ ليستعين بها على قتال الفرنسيين، لكن لم يكد يلمحوا الجيش العربي مهزوماً، حتى انثالوا مع أتباعهم يسلبونهم سلاحهم وعتادهم، وأحدهم خرج عند دخول (غورو) لاستقباله، وانضم إلى موكبه مع رجاله شاهراً سيفه.
ويذكر الدكتور بكر المجالي، في مقال له في موقع (عمون) الإلكتروني، بعنوان: (معركة ميسلون؛ مأساة دولة، وسلسلة من خيانات عربية)..
قررت الحكومة قبول الإنذار لتفادي الهجوم الفرنسي، واللجوء إلى المفاوضات، وإرسال برقية إلى (غورو)، لكن مدير البريد في حكومة فيصل تعمّد قطع حدود التلغراف، لمنع وصول البرقية في الوقت المحدد، لأنهم رأوا في انتهاء العهد الفيصلي - على قصـره - مجالاً لهم لتسلم المناصب بالتعاون مع المحتل.
انتهت ميسلون، وعند دخول القائد الفرنسي "تبرع  البعض بأن فكّوا الخيل التي تجرّ عربة (غورو)، وربطوا أجسادهم مكانها، وجرّوا عربته لمسافة معينة"..
وحين شاهد غورو هذا المنظر، وهذا التصرف، أمر بأن تقصف المدفعية دمشق قبل أن يدخلها، قائلاً: هذا الشعب يجب أن يقصف.
وهنا سأكتفي بسرد الأحداث، وما جرى بعد الاحتلال، وأقول:
ذهب البطل يوسف العظمه إلى ربه شهيداً، يشكو إليه ظلم الأعداء، والخيانات، والثقة العمياء بأعداء الأمة، وادعياء حقوق الإنسان، والسذاجة السياسية لدى البعض، وغفلتهم عن مخططات الأعداء، وتهييج البعض للشارع، ودفع المخلصين إلى المهلكة، وإراقة دماء بريئة، ونقية، دون أن يقدّموا بأنفسهم تضحية بسيطة، وعدم الاستماع إلى صوت العقل والحكمة، لتجنب إراقة الدماء، ونشـر الخراب.. واتخاذ القرار المناسب، حسبما يتطلب الموقف..
ما أكثر هذه المواقف التي تكررت بعد ميسلون، وقبلها، في عالمنا الإسلامي، ولا أدري متى نستفيد من دروسها، وعبرها؟

هناك تعليق واحد: