07‏/10‏/2018

رؤية/ تقدير الواقع عندما يتحول إلى أداة للجمود


شيروان الشميراني
حازت مراعاة الواقع، أثناء الاجتهاد، أو وضع الخطط، في التراث الإسلامي، على قدر كبير من الأهمية، تحت شتى العناوين، من مثل: تقدير الواقع، أو فقه الواقع، أو الواقعية؛ بوصفها خاصية من خصائص الفكر والتصور الإسلامي. والسبب هو أن هذا الدين جاء ليصبغ حياة البشر بصبغته، فهو يتعامل بالأساس مع الواقع، وليس مع الخيال. وقد جعل العلماء أحد أركان الاجتهاد هو فقه الواقع، بموازاة فقه الشرع، أي عدم استنساخ فتوى، أو رأي في الفقه، والفكر، ونقله كما هو، من محل إلى آخر مختلف، من دون تقدير للواقعين المختلفين، لأن ذلك يتسبّب بإنتاج حالةٍ فيها تكلّف كبير، وعنت ومشقة..
 لكن مراعاة الواقع لم تمنع من أن تكون التجربة أحد عناصر الفكر والاجتهاد فيما يتحمل، أي الاستفادة من تجارب الآخرين..

 لكن الذي يحدث الآن، في العديد من الأقطار المسلمة، خاصة لدى الحركات العاملة في المجال الإسلامي، هو الهروب من التطوير والتحديث والتجديد، وعدم الاستفادة من تجارب الآخرين، بذريعة أن لكل واقع خصائصه، وما أفادهم قد يضـرّنا. وهذا صحيح، لكن ليس بالمطلق..
 فالآليات المسمّاة بالديمقراطية، - مثلاً - والتي يؤمن بها جميع من يمارسون السياسة، ويبحثون عن الحرية بديلاً للاستبداد، مع أنها شيء مستورد، ومستعار من الآخر.. لأنها كانت سبباً في بث الحرية في جميع مجالاتها، ووضع حد لسلطة الحاكم، وفتح الباب للمشاركة الشعبية.. فلم يقل أحد إنّ الانتخاباتمثلاً - أفادت الغرب ولن تفيدنا، لأن واقعنا ليس واقعهم، بل تمّ التعامل معها على أنها من الوسائل التي يمكن نقلها، والإفادة منها..
 وعلى مستوى الحركات الإسلامية، كان نظام الأسرة من ابتكار العقل المصـري، من إبداعات مؤسس الإخوان المسلمين (الإمام حسن البنا). وقد تم اعتماد نظام الأسر في التربية على مستوى غالبية الحركات الإسلامية، وفي مختلف المجتمعات، ولم يقل أحد إنّ هذا الهيكل التنظيمي، والنظام التربوي، كان مفيداً للمجتمع المصـري، وأنه غير مجدٍ لمجتمعاتنا، ولا بد من التفكير لواقعنا..
  وعلى هذا الأساس، تحدّث رواد النهضة الفكرية؛ من العلماء والمفكرين المسلمين، وخطّوا منهج التعامل مع الغرب.. وأصل التحديث والاجتهاد الذي دعا إليه العلماء المسلمون، كان نتيجة المقارنة بين تخلف المجتمعات الإسلامية، وتقدم المجتمعات الغربية. ومن هنا دعوا إلى الاستفادة من طرق ووسائل تقدمهم العلمي والصناعي والسياسي، شريطة التناغم مع الحال، والتوافق مع الشرع.
لأن التفكير يجب أن يتجاوز الدائرة المحلية، إلى المستوى العام والعالمي. وقراءة ما لدى الآخرين من تجارب، تزيد من تفتح العقل، وتوسّع دائرة القدرة على التفكير، من أجل وضع حلول واقعية للمشاكل المحلية.
 أما رفض تجارب الآخرين، مع نجاحها، بذريعة التفكير في الإطار المحلي، والتعامل مع الواقع، فهو انقلاب على الواقعية الحركية إلى الجمود، وهروب من التغيير والتجديد..
 ما أقصده هنا، هو التردُّد، بل وحتى رفض الاستفادة من تجارب الحركات الإسلامية التي فازت، ونجحت: ديناً ودعوةً وسياسةً.. رفض المقارنة بين وضع الحركات التي لم يحالفها النجاح في مسعاها، والحركات أو الأحزاب التي تألقت وتصدرت الانتخابات، وحكمت.. رفض المقارنة بين الحركات التي أنتجت فكراً إسلامياً متجدداً، وأغنت المكتبة الإسلامية بنتاجاتٍ فكرية أصيلة حديثة، أسهمت في الدفع بالعقل المسلم إلى الأمام، والحركات التي لم تقدر أن تزوّد المكتبة الإسلامية بنتاجاتٍ تذكر على المستوى العام..
 رفض المقارنة هذه، بحجة الواقع المحلي، هو ذريعة، ذريعة من أجل غلق الباب أمام أي تطور أو تغيير، وهو جمود في الفكر، وعقم في العقل. والعقم في العقل هو العجز عن التفكير، والتوقف عن البحث من أجل تجاوز حالة الانكسار والجمود، أو حب القديم، وإلباس القديم ثوب القداسة. قد يكون ذلك عن قناعة، وقد يكون حجة فقط لغاية رفض كل اجتهاد ليس من عقل معيّن، أو العجز عن فهمه، والتذرّع يكون بالواقعية..
 ومن هنا، تتحوّل الواقعية من كونها منهجاً للانطلاق، إلى منهج للجمود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق