04‏/07‏/2019

عبق الكلمات/ زهور التوكّل على الله


عبد الباقي يوسف
[إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] الأنفال 49.
هذه الآية تبيانيّة، تبيِّن ثلاثة نماذج على علاقةٍ بالإسلام. ولذلك فإن الآية تفصح لك الصالح، من المُزدَوَج، من الطالح.
فالصالح، هو المؤمن الحقيقي قولاً وفعلاً، وكل أقواله وأفعاله إنما يبتغي منها وجه الله تعالى ومرضاته، ولا يهمّه أحد غير الله، لذلك قد تراه آخر مَن يدخل إلى المسجد، وأوّل مَن يخرج منه، حتى أن أحداً لا يكاد يراه،
ويقوم بأعمالٍ صالحةٍ في المجتمع، ولا يعنيه إن عَلِمَ به أحد، أو لم يعلم، وهو قليل الكلام أمام الناس، كثير الذكر بينه وبين ربّه، وهو شخصٌ قَنوع برزقه، ستّير، طيِّب، مميط الأذى عن الطرقات، حَسَن المُعاملة مع زوجته، وأبنائه، واصلٌ لرحمه، مؤَدَّبٌ مع أقربائه وجواره، ملتزمٌ لحدوده في علاقاته الاجتماعية.
والمُزدَوَج، هو الذي يكون بوجهَين، يقول شيئاً هنا، ويقول نقيضه هناك، يعمل عملاً هنا، ويعمل نقيضه هناك، ولا شيء يثنيه عن ازدواجيّته، سواء أوسوَسَ له الشيطان، أو لم يوسوس، فهو لديه غايات يحقّقها من خلال ممارسته للازدواجيّة، وقد امتهنها واحترفها بامتياز.
أمّا الطالح، فهو الذي يكون عمله نقيض قوله، وهو يعتقد بأنه على صواب، ولذلك ينهض فجراً، ويصلّي لله، دون أن يراه أحد، وكثير العبادات يؤدّيها دون أن يراه أحد، لأن الشيطان يزيِّن له بأنه على صواب في كل الأعمال الجائرة التي تصدر عنه.
فلتعلم بأن الشيطان يختبر معادن الناس، ووفق معادنهم يكون استدراجه لهم. فهو يعلم بأن هذا الشخص لا يمكن له أن يتخلّى عن إيمانه مهما فعل معه، فيحاول أن يُفسده في إيمانه. ويعلم أن ذاك الشخص يمكن أن يتخلّى عن إيمانه، بل ويشهر إلحاده، فيستدرجه إلى إشهار إلحاده، ويزيِّن هذا الإلحاد في قلبه، رغم أن الشيطان ذاته مؤمنٌ، ولا يمكن له بأيّ حالٍ من الأحوال أن يُصبح ملحداً.
من هنا، جاءت هذه الآية توضيحيّة بيانيّة، فحَصَـرَت الفِئات الثلاث معاً في هذه الآية القصيرة: [الْمُنَافِقُونَ] المُزدَوَجون. [وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ]وهذه تسمية أسماهم الله تعالى بها، وهم الذين يفسدون، ويزيِّن لهم الشيطان بأنهم على صواب. و[هَـؤُلاء] المؤمنون الحقيقيّون.
وما هو غاية في الأهمّية هنا أن الآية تُريك كيف أن [الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ] يقفون إلى جانب المنافقين، ويكونون معهم على المؤمنين الحقيقيين، يصفونهم، ويكيلون لهم التُهَم، بقولٍ واحدٍ معاً: [غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ].
فالآية تبيِّن لك إذا رأيتَ شيئاً من هذا، لتعلم بأن هذا الشخص إنما يصف ذاته بالصفة التي يصفك بها. لكن عليك أن تعلم جيداً، وبالثبوتيّات الواقعيّة، أيّ الفئات الثلاث أنت، وقد بَيَّنَت لك الآية مواصفات أتباع كل فئة. ولا يوجد أيّ عائقٍ أمامك، فإن رأيتَ مواصفات فئة سلبيّة تنطبق عليك، فيمكن لك أن ترتقي إلى الفئة الإيجابيّة، وتعمل وفق ما يتمتّع أتباع هذه الفئة من صفات. ومهما أمضيتَ من سنوات طويلة في قعر الظلمات، وفاعلاً ما فعلت من ذنوب، فإنك عندما تستغفر ربّك، وتمدّ يدك للخروج من الظلمات، ستجد يد الله تأخذ بيدك إلى رحابة نور الصلاح، ويُتيح الله لك فرصة لتبدأ صفحةً جديدةً من حياتك، وتنسى كل ما بَدَرَ منك جملة واحدة، فتطويه، وتتركه خلفك، ولا تلتفت إليه، فهذا عهد الله لك:
[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]الزمر53.
 وهذه هي رحمة الله التي شاء لها الله تعالى أن تغلب غضبه. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لمَّا قضـى الله تعالى الخلقَ، كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي"[1].
ولذلك جاءت خاتمة الآية بالدعوة إلى التوكّل على الله، وجاءت كلمة التوكّل، لتُذكّرك وتدعوك إلى هذا الارتقاء وتتوكّل [عَلَى اللّهِ]. [وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ] بلفظ الجلالة، [فَإِنَّ اللّهَ] كذلك بلفظ الجلالة [عَزِيزٌ حَكِيمٌ].
 فليقل ما [يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ]، فكلامهم مردودٌ إليهم، وليكن اتّكالك [عَلَى اللّهِ]، الذي يكون مع المتوكّلين عليه. جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلِيَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ "[2].

[1] صحيح البخاري 3022
[2] رواه مسلم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق