03‏/07‏/2019

الأدب والتطرّف الفكري .. تأصيل فكري في ضوء منظور التحيّز


د. مصطفى عطية جمعة
إذا أردنا تفكيك مصطلح (التطرّف)، سنجد أنه جملة من الأفكار والأفعال معاً، لا سبيل للفصل بينهما، فنحن نحكم على المتطرّف بأقواله وأفعاله كلّها. فيخطئ الكثيرون عندما يقفون  أو- بالأدقّ – يكتفون بالنظر إلى الأفعال، وما يكتنفها من ممارسات عنيفة، ويهملون الأفكار التي قادت لمثل هذه الممارسات، فهؤلاء أشبه بمن يقطع ساق الشجرة الخبيثة، تاركاً جذورها تنبت في الأرض من جديد.
   إن الشخص المتطرّف ليس كائنا مصمتاً، كما تصوّره الكتابات التي تنحو إلى التعميم والتنميط؛ فيما يسمى (صناعة الشرّير)، الذي تجعله شخصا دموياً عنيفاً متكبّراً، يعشق الدمار، ويترصّد بالأخيار الطيّبين، ويدمّر الحضارة والاستقرار.
ونحن نقول إن المتطرّف إنسان في النهاية، لن يرتكب عنفاً، قبل أن يكون مشبَّعاً بفكرة. وكي يتشبّع بالفكرة حتى
تتملّكه، وتقوده لأفعال عنيفة؛ لا بدّ أن تصل إليه هذه الفكرة عبر طرح منفرد يركّز على بعد واحد، ومن ثمّ يتحوّل إلى التطرّف .
   وبالنظر إلى مصطلحي (الغلوّ والتطرّف)، نجد أن كليهما – كلفظين – بمعنى متقارب، فالغلوّ يعني مجاوزة الحدّ، أو التشدّد والتصلّب إلى مجاوزة الحدّ، وهو – تقريباً - نفس معنى التطرّف، وإن كان التطرّف أعمّ من الغلوّ اصطلاحاً. إذ يقال إن التطرّف هو إتيان غاية الشيء، ومنتهاه.
   هذا، وهناك مفاهيم / مصطلحات ترتبط، وتترتّب على الغلوّ والتطرّف، مثل التنطّع والتشدّد والعنف، وكلّها بمثابة أوصاف ومظاهر للغلوّ. فالشخص الموسوم بالغلوّ يأخذ الدين بالشدّة، ويتعامل مع الآخرين بالعنف، ويتّسم بالتنطّع في أفعال الدين([1]). وكلّ هذا ناتج عن الفهم الخطأ، الناتج عن أحاديّة المعلومة والرؤية، ممّا يجعل المتطرّف لا يقبل إلا رأياً واحداً، يراه الأصوب والأوحد، ولا يقبل ما عداه. ومن ثمّ يتحوّل إلى الفعل العنيف، لفرض هذا الرأي على الآخرين، ولمواجهة مخالفيه، كي ينزلوا على ما يريد.
   ومن هنا، يتأكّد القول: إن التطرّف الفكري يؤدّي إلى التطرّف السلوكي، ولن نستطيع مواجهة الفعل إلا بتصحيح الفكر، في ضوء ضحالة الرصيد المعرفي لدى المتطرّف، وتشبّثه بآرائه الذاتية، والإفراط في التعميم، وادّعائه بامتلاك الحقيقة المطلقة، التي تفرض حلّاً واحداً، الأمر الذي يؤدّي إلى وجود فجوة بينه وبين نسيجه الاجتماعي، فتزداد غربته عن ذاته، وعن الجماعة، ممّا يستلزم تغيير البنية التحتية المعرفية، عبر تزويد هؤلاء المتطرّفين بجرعات علمية كافية وصحيحة([2]).
    وعلى مستوى الأبعاد النفسية، فإن المتطرّف يميل إلى اغتيال الشخصيات التي تعارضه، واعتبارهم شرّيرين بالأصالة، وازدواجية المعايير وفق الانتماءات، والميل إلى تعريف العدوّ بأنه من نكرهه ويكرهنا، مع شخصانية العداء، والحساسية المفرطة، والتحسّب المستمرّ، والميل إلى التفكير الجمعي، ومن ثمّ تعطيل عملية التفكير الفردي، وتصديق نظرية المؤامرة، دون تحقّق أو تدليل([3]).

التطرّف والانحياز المعرفي :
    يتلاقى ما سبق مع مفهوم الانحياز المعرفي (بمعناه المطلق)، والذي يعني – بداية - وجود منظومة معرفية (واعية وغير واعية)، تكون مترسّخة في ذات الإنسان، وتنعكس في أقواله وسلوكياته، وتكون سبيله في إصدار الأحكام والتقييمات.
   فمُصطلح الانحياز / التحيّز يشير إلى إظهار أو تفضيل لمنظور أو أيديولوجية مُعيَّنة عند إصدار الأحكام والأفعال، أو تحديدًا عندما تتدخَّل تلك التفضيلات الشخصية لتؤثِّر على النزاهة والموضوعية. وبطريقة أخرى، يمكننا القَول إن الانحياز هو الحُكم من منظور واحد، ممّا يؤدّي إلى عدم الدقّة في الحكم، ووجود أخطاء. وفي علم النفس الاجتماعي تُعرف هذه الظاهرة باسم «الانحياز المعرفي-cognitive bias»، ويتصل به أيضاً الانحياز التأكيدي Confirmation bias، وهو ميل الناس لتفضيل المعلومات التي تؤكّد أفكارهم المسبقة أو افتراضاتهم، بغضّ النظر عن صحة هذه المعلومات([4]).
    ولا شكّ أن التحيّز المعرفي واقع لدينا جميعاً، ولكن الإنسان السويّ يتحيّز للقيم الإنسانية والخيرية الراقية، ولا يتعصّب لإثنية أو عرقية أو دين أو قطرية .. إلخ، فالتعصّب يؤدّي حتماً لانغلاق البصيرة عن رؤية موضوعية شاملة عادلة، فإذا اشتدّ التعصّب بالفرد تحوّل إلى كراهية ثمّ عراك ودماء وقتل. وهذا كلّه ينتج من الشحن الفكري والنفسـي للمرء، فلا يرى سبيلاً للخلاص من مخالفيه إلا بمحوهم. وهو ما يفعله بعض الأفراد، وتمارسه أيضا جماعات ونظم، ولا زلنا نتذكّر الإبادة الجماعية ضد مسلمي البوسنة والهرسك العام 1991(300 ألف شهيد، 50000 مغتصبة)، تحت دعوى التعصّب / التطرّف الديني والعرقي، وهو ما يشابه ما حدث مع مجرزة قبيلة التوتسي في رواندا، والتي كان ضحاياها (800) ألف قتيل، واغتصاب عشرات الآلاف من النساء، في فترة لا تتجاوز مئة يوم عام 1994م.
   فلا بدّ من التنبيه على أن ظاهرة التطرّف، ليست مقتصـرة على المسلمين وحدهم: أفراداً أو جماعات، بل هي منتشرة في جميع المجتمعات الإنسانية، وتتحوّل إلى ممارسات عنيفة، عندما لا تجد مواجهة فكرية لها، خاصة في المجتمعات ذات النزعة الاستبدادية، التي تعلي صوتاً واحداً، وتضع العصا أمام معارضيها.
    أيضاً، فإن مصطلح الإرهاب، المرتبط بالتطرّف، متغيّر في دلالته في الاستخدام السياسي. فبعض الدول تنعت به معارضيها في السلطة، وقديماً كانت السلطات الاستعمارية العنصرية تستخدمه في نعت حركات التحرّر الوطني، والفدائيين المقاومين لها. ومن هنا، يتوجّب علينا، عند مناقشة ظاهرة الإرهاب والتطرّف، أن نعرف التشابكات المحيطة بها: في أيّ سياق تكون، وإلى أيّ مدى؟([5]).
   وإذا نظرنا إلى قضية التطرّف الديني، الذي نجده في مجتمعاتنا الإسلامية، نجد أنها قضية فكرية شرعية في الأساس، تتّصل بتعلّم العلوم الشـرعيّة وتلّقيها. فكي نعالج هذا الفكر، علينا المزيد من الحوار الشـرعي المؤصَّل، لتصحيح الأغلاط، ومحو الأخطاء، فهي مهمة مناطة بالعلماء وأهل الشـريعة، وهو ما نسمّيه التأصيل الشـرعيّ في الردّ على المتطرّفين. وهناك جهود كثيرة تمّت في هذا المضمار، نلمسها في مئات الكتب والدراسات، التي حاججت التشدّد وانتصرت للاعتدال، من قبل علماء الشـريعة المعتبرين. وبالطبع نتحفّظ – في هذا الصدد – على ولوج الأقلام العلمانية في الكتابة، وما أكثر هؤلاء، الذين راحوا يصطادون في الماء العكر، فادّعوا مواجهة التطرّف برؤية وسطية، وهم في الحقيقة يروّجون لرؤى علمانية، تسخر من الإسلام ديناً وشريعة، ومن التراث مرجعية وإبداعاً.


[1]) الغلوّ في الدين (في حياة المسلمين المعاصرة)، عبد الرحمن بن معلا الحويلق، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1412هـ، 1992م ، ص58 – 62.
[2]) نحو بناء استراتيجية إدارة فعّالة للتطرّف الفكري، د. طريف شوقي محمد، مجلة الفكر المعاصر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد السادس، إبريل / يونيو 2017م ، ص41 ، 42.
[3]) الأبعاد النفسية والاجتماعية لأعمال العنف، د.محمد رفقي عيسى، منشورات المركز العالمي للوسطية، الكويت، ط1، 1432هـ ، 2011م ، ص19 ، 20.
[4]) انظر مفهوم الانحياز المعرفي في موسوعة Wikipedia  ، وراجع أيضاً: فقه التحيّز ، د.عبد الوهاب المسيري، ضمن: إشكالية التحيّز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن ، ط2 ، 1996م.
[5]) الإرهاب كأحد مظاهر استخدام العنف عربياً ودولياً، د. أسامة الغزالي حرب، ضمن أعمال العنف والسياسة في الوطن العربي، تحرير: أسامة الغزالي حرب، منشورات: منتدى الفكر العربي، عمّان، الأردن، 1987م ، ص23 ، 24.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق