04‏/07‏/2019

(مُعلَّقة أبي طالب) تجربة إيمانية، أمْ حمِيَّة قبلية؟!


محمد عبد الشافي القُوصِي
 اختلف الباحثون والمؤرخون في موضوع إسلام (أبي طالب)، عم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فالرأي السائد: أنَّه لمْ يؤمن بالإسلام، ومات على شِركه. لكن القائلين بإسلامه عدد كبير، منهم أعلام لا يُستهان برأيهم في هذا الصدد، أمثال: ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المُسيِّب، والقاضي عِياض، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، والشعبي، والأوزاعي، والشافعي، والسيوطي، وابن حجر، وابن الجوزي؛ الذي قدَّم أدلةً عقلية ونقلية جمَّة في صِدق إسلام أبي طالب، منها: أنَّ المرويات التي زعمت شِركه مدسوسة، ومتناقضة سنداً ومتْناً، لأنها ثمرة الوضع والانتحال.
  وقال أيضاً: لوْ ظلَّ (أبو طالب) على شِركه لفرَّقَ الإسلامُ بينه وبين زوجه (فاطمة بنت أسد)؛ والدة عليّ وجعفر وعقيل (رضيَ الله عنهم أجمعين). كما أنه – أبو طالب- أوّل مَن آمنَ بنبوة مُحمَّد عليه الصلاة والسلام،
وذلك بعد إخبار رهبان الشام له بذلك، عندما اصطحبه معه في طفولته إلى هناك، ومشاهدة الغمامة التي كانت تُظلُّه أثناء
الرحلة، ورؤيته لخاتم النبوة بين كتفيْه. فضلاً عن وصاية عبد المطَّلِب له بأنْ يتعهَّد (مُحمَّداً)، ويرعاه؛ لِمَا علِمه عبد المطلب من أحبار اليمن بشأن حفيده.
   لمْ يكتفِ هذا الفريق القائل بإسلام أبي طالب بهذه الأدلة فحسب، بلْ استشهد بما ثبت من شِعر أبي طالب نفسه، والذي نافح فيه عن الحنيفية، وذَمِّه الشرك وعبادة الأوثان، ومداومة تقريعه لصناديد قريش بأشعارهِ الحارقة التي سَفَّه بها عقولهم، وآلهتهم المزعومة؛ لا سيّما في معلَّقتهِ الشهيرة التي أرَّقت مضاجع قريش، كما يقول الدكتور شوقي ضيف.
  وربما يفيدنا هذا الطرح؛ في معرفة شدّة الحزن ومرارة الألم التي أصابت النبيّ عند سماعه بموت عمّه أبي طالب، وتسميته لذاك العام بــ(عام الحزن)! فما كان للرسول أنْ يحزن على مُشرِك، مهما كانت قرابته –كما يقول عباس العقَّاد- لأنَّه في مقام تشـريع، وليس مقام عصبية قبلية! وما كان للرسول أن يقف على قبر مُشـرِك، ويَستمطِر له الرحمات، ويقول: واللهِ ما نفعتني قرابة مثل قرابتك، وما نالت مِنِّي قريش إلاَّ بعد موتك يا عمِّ!
   في كتابه (أدب المواعظ)؛ يقول ابن الجوْزي: لقد كانت أشعار أبي طالب أشدّ على قريش من قرع السيوف وطعن الرماح، لا سيّما نبوءته باقتراب هزيمة الشّـِرك، وزوال الأصنام، وتصريحه بإيمانه برسالة مُحمَّد، خاصةً الأبيات التي يخاطب فيها أخاه (حمزة)، وكان يُكنَى أبا يعلى:
فصبراً أبا يعلى على دِين أحمد
                              وحط من أتى بالحقِّ مِن عند ربه
فقد سرَّني إذْ قُلتَ إنك مؤمن
                                  ونادِ قريشًا بالذي قد أتيته
وكن مُظهِراً للدِّين وُفِّقْتَ صابرا
                              بصدقٍ وعزمٍ لا تك حمز كافرا
فكن لرسول اللهِ في الله ناصرا
                           جهاراً، وقل: ما كان أحمد ساحرا

    هذا؛ وقد علَّقَ العلماء المحقِّقون على هذه الأبيات، فقالوا: لمْ يكتفِ أبو طالب بنصـرة (مُحمَّد)، وحضِّه على الصبر على عداوة قريش، بلْ أمره باظهار الدِّين، والاجتهاد في حياطته، والدفاع عن بيْضته، ثمَّ يشهد لأخيه حمزة أنَّ (مُحمَّداً) أتى بدِين الحق من عند ربّه، ثم حذَّره الكفر في قوله (لا تكن حمز كافرا)، ثم يقول له: (وقد سرَّني إذْ قلت: إنك مؤمن)، أفتراه يُسرُّ لأخيه بالإيمان، ويختار لنفسه الكفر، الموجب الخلود في النار؟ وهل يتصوّر مثل هذا من ذي عقل، ثمَّ يأمره بنصـرة النبيّ، ويدعو له بالتوفيق لنصـرته، في قوله: (وكن لرسول الله وُفِّقْتَ ناصرا)، ثمَّ يأمره بكشف أمره، وإذاعة سرّه، في قوله: (ونادِ قريشاً بالذي قد أتى به جهارا)، أيْ: لا تخفي ذلك، (وقل ما كان أحمد ساحرا)، كما زعمتم، بلْ نبيّاً صادقاً، تعلمون صِدقه وأمانته.

(أبو طالب) في وجه العاصفة
     جاء في (خزانة الأدب)، للبغدادي، و(السيرة الحلبية)، و(تاريخ ابن كثير): أنَّ (أبا طالب) جادل زعماء قريش في (دار الندوة)، ثمَّ توجَّه نحو البيت العتيق، فرأى رسول الله يصلِّي، وبجواره عليّ قائم يُصلِّي - وكان ابن تسع سنين - فقال: يا مُحمَّد ما تصنع؟ قال: أعبد ربَّ السماء والأرض، ومعي أخي عليّ يعبد ما أعبد، وأنا أدعوك إلى عبادة الواحد الأحد، فضحك (أبو طالب) حتى بدت نواجذه، وأنشأ يقول:
وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم               حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
 فَاِصدَع بِأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ           وَاِبشِر بِذاكَ، وَقَرَّ مِنهُ عُيونا
وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ             وَلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ ثَمَّ أَمينا
 وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمتُ                 بِأَنَّهُ مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا
 لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً                 لَوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبينا

     قال كُتَّاب السِّيَر والملاحم: لمَّا رأت قريش ازدياد أتباع مُحمَّد، وعلوّ أمرِه؛ قالوا: لا نرى مُحمَّداً يزداد إلاَّ كبراً وتكبّراً، وما هو إلاَّ ساحر أوْ مجنون، وتوعدوه، وتعاقدوا لئن مات (أبو طالب) لتجتمع قبائل قريش كلها على قتله. ولمَّا بلغ ذلك أبا طالب؛ جمع بني هاشم، وأحلافهم من قريش؛ فأوصاهم برسول الله، وقال: إنَّ ابن أخي - كما أخبرنا بذلك آباؤنا - نبيٌّ صادق، وأمين ناطق، وإنَّ شأنه أعظم شأن، ومكانه من ربّه أعلى مكان، فأجيبوا دعوته، واجتمعوا على نصرته، وراموا عدوّه من وراء حوزته، فإنه الشرف الباقي لكم مدى الدهر. وأنشأ يقول:
أوصي بِنَصرِ النَبِيِّ الخَير مُشهِدَهُ                عَلِيّاً اِبني، وَعَمَّ الخَيرِ عَبّاسا
وَحَمزَةَ الأَسَدَ المَخشِيَّ صَولَتُهُ                وَجَعفَراً، أَن تَذودوا دونَهُ الناسا
وَهاشِماً كُلَّها أُوصي بِنُصرَتِهِ              أَن يأخذوا دونَ حَربِ القَومِ أَمراسا
كونوا، فِدىً لَكُم نَفسي وَما وُلِدَت،       مِن دونِ أَحمَدَ عِندَ الرَوعِ أَتراسا
 بِكُلِّ أَبيَضَ مَصقولٍ عَوارِضُهُ                     تَخالُهُ في سوادِ اللَيلِ مِقباسا

  هذا؛ وقد جاء في (موسوعة التاريخ والحضارة الإسلامية) أنه: بعد انتهاء (الحصار) الذي فرضته قريشٌ على أصحاب النبيّ - الذي دام ثلاث سنوات - وقد فشل المشـركون في النيْل من عقيدة المسلمين؛ ابتهج أبو طالب بغلَبتهِ على قريش، وتغنَّى بوقوفه بجوار المستضعفين، وافتخر بشجاعته، واعتزَّ بكبريائه، ونصـرته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عن دِينه، وذلك في قولهِ:
مَنعنا الرسولَ رسولَ المليكِ         ببيضٍ تلألئُ لمعَ البروق
أذُبُّ وأحمي رسولَ المليك         حمايةَ حانٍ عليهِ شفيقِ

   ويرى أبو طالب أنَّ المشركين لم يتراجعوا عما سوّلت لهم أنفسهم، إلاَّ بعدما رأوا في النبيّ تلك المعجزات المبهرة، وما سمعوه من الأحبار بالشام واليمن، وما عرفوه من خبر (بحيرا) الراهب؛ الذي أكدَّ لهم أنه هو النبيُّ الذي بَشَّرتْ به الكتب السابقة. وفي ذلك قال أبو طالب:
 فَما رَجعوا حَتّى رَأَوا مِن مُحَمَّدٍ           أَحاديثَ تَجلو هَمَّ كُلِّ فُؤادِ
 وَحَتّى رَأَوا أَحبارَ كُلِّ مَدينَةٍ                سُجوداً لَهُ مِن عُصبَةٍ وَفُرادِ
 ذَرِيراً وَتَمّاماً وَقَد كانَ شاهِداً               دَريسٌ وَهَمّوا كُلُّهُم بِفَسادِ
 فَقالَ لَهُم قَولاً بَحيرا وَأَيقَنوا               لَهُ بَعدَ تَكذيبٍ وَطولِ بِعادِ
 كَما قالَ لِلرهطِ الَّذينِ تَهَوَّدوا             وَجاهَدَهُم في اللَهِ كُلَّ جِهادِ
 فَقالَ وَلَم يَترُك لَهُ النُصحُ رِدَّةً                  فَإِنَّ لَهُ إِرصادَ كُلِّ مَصادِ
 فَإِنّي أَخافُ الحاسِدينَ، وَإِنَّهُ            لَفي الكُتبِ مَكتوبٌ بِكُلِّ مِدادِ


رسالة أبي طالب للنجاشي
      روى الطبري في تاريخه: أنه "بعدما علِم أبو طالب أنَّ قريشاً تتربص بالمؤمنين الذين هاجروا إلى الحبشة، وكان فيهم ابنه جعفر؛ خشيَ عليهم ممّا يمكرون، فكتب إلى النجاشي رسالةً بديعة مادحاً كرمه، وفطنته، ونصرته للحق، ومُوصياً خيراً بالمستضعفين الفارِّين إليه بدينهم، ومؤمِّلاً أنْ يَقيهم مكر (ابن العاص)، وشروره.
 ومما جاء من شِعر أبي طالب في تلك الرسالة":
 أَتَعلَمُ مَلكَ الحُبشِ أَنَّ مُحَمَّداً         نَبِيٌّ كَموسى وَالمَسيحِ اِبنِ مَريَمِ
 أَتى بِهُدىً مِثلَ الَّذي أَتَيا بِهِ                 وَكُلٌّ بِأَمرِ اللَهِ يَهدي وَيَعصِمِ
 وَإِنَّكُمُ تَتلونَهُ في كِتابِكُم                 بِصِدقِ حَديثٍ لا بِصِدقِ التَرَجُّمِ
 فَلا تَجعَلوا لِلَّهِ نِدّاً وَأَسلِموا                وَإِنَّ طَريقَ الحَقِّ لَيسَ بِمُظلِمِ
   السؤال الذي يطرح نفسه: هل يُعقَل مِن رجل كأبي طالب؛ بمروءتهِ، ومكانتهِ، وسِنِّهِ، وحكمتهِ، ورجاحة عقله؛ أن يدعو النجاشيَّ إلى الإسلام وينسى نفسه؟ فلوْ كان كذلك؛ كيف يمكن أنْ يُصدِّقه النجاشيُّ؟ أوْ يُصدِّقه زعماء قريش المناوئون له، والمتربصون به وبابن أخيه، وأتباعه جميعاً؟! ولماذا يشرح (الإسلام) بهذا المنطق السليم والفهم العميق؟! وكيف يحضُّ ولديْهِ (عليّ، وجعفر) على اتّباع (الإسلام) - مهما كلَّفهم من ثمن - ويكون بمنأى عنه، وهو أعلم منهم بحقيقة النبوة، وصِدق الرسالة؟!

مُعلَّقــــة أبــــي طـــــالب
       يقول المسعودي في (مروج الذهب): "إنَّ (أبا طالب) ألهبَ ظهور القرشيين المؤتمرين بــ(دار الندوة) بسياط خطبه النارية، وحذَّرهم ممّا يمكرون، فسخروا من وعيده! ثمَّ أقبل نحو البيت العتيق، وتعلَّق بالكعبة المُشـرَّفة، وارتجل معلَّقته الشهيرة (اللامية)، وهي من أفضل ما قاله أبو طالب، وأبرعه، وأطوله على الإطلاق".
     وقد اهتمَّ المؤرخون بهذه المعلَّقة (اللامية) اهتماماً كبيراً، وشغلتْ نقَّاد الأدب ودارسيه طويلاً، وقد اتفق الجميع على صحة نسبتها لأبي طالب دون منازع، وإنْ اختلفوا في عدد أبياتها، وترتيبها، وبيان سبب نظمها. فقد عرضها المؤرّخ أبو هفّان المهزميّ العبديّ في (111 بيتاً)، وشرح الكثير من أبياتها. وقد أوردها الأمويّ في مغازيه بزياداتٍ أُخَر. وعرضها ابن كثير في (البداية والنهاية) في (92 بيتاً)، دون شرح لها، ونقل سبب نظمها ممّا قاله ابنُ اسحاق، ثمَّ ذّكر تعليق ابن هشام عليها، وذكر أسماء الأعلام التي وردت باللامية.
      أمَّا عن سبب نظْمها؛ فقد ذَكر (ابنُ اسحاق) أنَّ نفراً من قريش انطلقوا يُشوِّهون رسالة الرسول في موسم حجِّهم، فخشيَ (أبو طالب) من دهماء العرب، فأنشد (لاميّته)، التي تعوَّذ فيها بحرم مكة، وبمكانه منها، وأنذر العرب بمآل تكذيبهم، وأخبرهم بأنه ليس بتارك رسول الله لشيءٍ أبداً، حتى يهلك دونه. وقد استهلَّها قائلاً:
خَليلَيَّ ما أُذني لِأَوَّلِ عاذِلِ                    بِصَغواءَ في حَقٍّ وَلا عِندَ باطِلِ
 خَليلَيَّ إِنَّ الرَأيَ لَيسَ بِشِركَةٍ                    وَلا نَهنَهٍ عِندَ الأُمورِ البَلابِلِ
 وَلَمّا رَأَيتُ القَومَ لا وُدَّ عِندَهُم           وَقَد قَطَعوا كُلَّ العُرى وَالوَسائِلِ
 وَقَد صارَحونا بِالعَداوَةِ وَالأَذى             وَقَد طاوَعُوا أَمرَ العَدوِّ المُزايِلِ
 وَقَد حالَفوا قَوماً عَلَينا أَظِنَّةً                  يَعضّونَ غَيظاً خَلفَنا بِالأَنامِلِ
 صَبَرتُ لَهُم نَفسي بِسَمراءَ سَمحَةٍ         وَأَبيَضَ عَضبٍ مِن تُراثِ المقاوِلِ
 وَأَحضَرتُ عِندَ البَيتِ رَهطي وَإِخوَتي       وَأَمسَكتُ مِن أَثوابِهِ بِالوَصائِلِ
 قِياماً مَعاً مُستَقبِلينَ رِتاجَهُ                لَدَى حَيثُ يَقضي نُسكَهُ كُلُّ نافِلِ
 وَحَيثُ يُنيخُ الأَشعَرونَ ركابَهُم             بِمُفضى السُيولِ مِن إِسافٍ وَنائِلِ
 مُوَسَّمَة الأَعضادِ أَو قَصَراتِها                     مُخَيَّسَةٌ بَينَ السديسِ وَبازِلِ
 تَرى الوَدعَ فيها وَالرُخامَ وَزينَةً                  بِأَعناقِها مَعقودَةً كَالعَثاكِلِ
 أَعوذُ بِرَبِّ الناسِ مِن كُلِّ طاعِنٍ                  عَلَينا بِسوءٍ أَو مُلِحٍّ بِباطِلِ
 وَمِن كاشِحٍ يَسعَى لَنا بِمعيبَةٍ           وَمِن مُلحِقٍ في الدينِ ما لَم نُحاوِلِ
 وَثَورٍ وَمَن أَرسى ثَبيراً مَكانَهُ                       وَراقٍ لِيَرقى في حِراءٍ وَنازِلِ
 وَبِالبَيتِ رُكن البَيتِ مِن بَطنِ مَكَّةٍ                وَبِاللَهِ إِنَّ اللَهَ لَيسَ بِغافِلِ
 وَبِالحَجَرِ المُسوَدِّ إِذ يَمسَحونَهُ                 إِذا اِكتَنَفوهُ بِالضُحى وَالأَصائِل

     يقول صاحب (طبقات فحول الشعراء): أبو طالب مِن أبرع شعراء مكة. وقال ابن كثير تعليقاً على مُعلَّقة أبي طالب، التي نظمها وهو في الحصار والمقاطعة داخل الشِّعب: إنها قصيدة عظيمة بليغة جداً، لا يستطيع أن يقولها إلاَّ مَن نُسِبتْ إليه، وهي أفحل من المُعلَّقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها. وقد حازت هذه (المُعلَّقة) إعجاب نقَّاد الأدب، وشُرَّاحه، القدامى والمحدثين، أمثال: أبي هفَّان المهزمي، وابن سلام الجُمحي، والثعالبي، وابن قتيبة، ومحمد التونجي، وجعفر نقدي – صاحب (زهرة الأدباء في شرح لاميّة شيخ البطحاء أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم) - وغيرهم.
  الخلاصة: أنَّ شِعر أبي طالب تتعدّد أغراضه، ويتآزر بعضه مع بعض، مُعبِّراً عن تجربة بعينها، تدور حول قضية واحدة فقط؛ ألاَ وهي نصـرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمايته، وقد نجح في ذلك نجاحاً ملحوظاً، وأبلى بلاءً حسنا، حسبه نبوءتهُ التي وردتْ في مُعلَّقته الشهيرة؛ إذْ يقول فيها:
 
فأصبحَ فينا أحمدٌ في أُرومة ٍ            تُقصِّرُ عنها سَورة ُ المُتَطاوِلِ
كأنَّي به فوقَ الجيادِ يقودُها            إلى معشرٍ زاغوا إلى كلِّ باطلِ
وجُدْتُ نفسي دونَهُ وحَمَيتُهُ           ودافَعْتُ عنه بالطُّلى والكلاكلِ
ولا شَكَّ أنَّ اللهَ رافعُ أمرِهِ ومُعليهِ في الدُّنيا ويومَ التَّجادُلِ

   خلاصة الخلاصة: أنَّ (أبا طالب)، عمّ النبيّ الهاشمي؛ لم يكن فارساً شجاعاً فحسب، بلْ كان شاعراً فذاً، أجمل بياناً، وأرهف حسّاً من سائر شعراء عصره، حسبهُ الأبيات التي نالت شهرةً واسعة، لِمّا أعلن عن مؤازرتهِ لمُحمَّد وأتباعه أثناء الحصار، ثمَّ مدحه للنبيّ، ويقينهِ بنصرة الله لدينه، وتأييده له، إذْ يقول:
وأبيضَ يُسْتَسْقَى الغَمامُ بوجههِ    ثِمالُ اليتامى عِصْمة ٌ للأراملِ
يلوذُ به الهُلاّكُ من آلِ هاشمٍ       فهُم عندَهُ في نِعمة ٍ وفَواضلِ
........
لعَمري لقد كَلِفْتُ وَجْدا بأحمدٍ   وإخوتهِ دأبَ المحبِّ المُواصِلِ
أقيمُ على نصرِ النبيِّ محمدٍ              أقاتلُ عنهُ بالقَنا والقنابلِ
فلا زالَ في الدُّنيا جَمالاً لأهلِها           وزَينا لم ولاَّهُ رَبُّ المشاكِلِ
فمَنْ مثلُهُ في النَّاسِ أيُّ مؤمَّلٍ       إذا قاسَه الحكَّامُ عندَ التَّفاضُلِ
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غيرُ طائشٍ            يُوالي إلها ليسَ عنهُ بغافلِ
فأيَّدَه ربُّ العبّادِ بنصرهِ                 وأظهرَ دَينا حقُّه غيرُ ناصلِ
فو اللهِ لولا أن أَجيءَ بسُبَّة ٍ             تَجُرُّ على أشياخنا في المَحافلِ
لكنَّا اتَّبعْناهُ على كلِّ حالة ٍ        منَ الدَّهرِ جِدا غيرَ قَولِ التَّهازُلِ
لقد عَلموا أنَّ ابْنَنا لا مُكذَّبٌ        لَدَيهم ولا يُعْنى َ بقَوْلِ الأباطلِ                  
    أخــــيراً؛ جزى اللهُ أبا طالب خيراً على حميّتهِ، وغيْرتهِ، وشهامتهِ، ومروءتهِ، وشجاعتهِ... وعن بيانهِ الساحر، ولغته العذْبة، وشاعريتهِ التي تقطر حباً وحناناً، وإيماناً أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق