كتبه: الدكتور محمود محمد علي
الزمناكويي
ترجمة: الأستاذ هريم جمال
الهروتي
جواب مفتي زاده لظنون من یسمّون بالقرآنيين
كما
ذكرت من قبل: إن بعض النّاس يسندون هذه التهمة
إلى كاك أحمد، على أنّه يعتقد أن القرآن الكريم وحده هو مصدر أحكام الإسلام. لكن
تعالوا وانظروا إلى جواب هذه التهمة من مفتي زاده نفسه،
لتعلموا مدى مكانة السنّة، وثقلها، في المنظومة التشريعية للإسلام، عنده.
إن لمفتي زاده بعض أشرطة الكاسيت، وهي أجوبة
لجملة أسئلة حول بعض المصطلحات الإسلامية، والقومية،
المعدّة من قبل أحد طلابه،
والموجّهة إليه، وهو يجيب عليها مفصّلاً، وبشكل علمي وعميق.
في أحد الأسئلة، يقول صاحب السؤال: "سؤال
آخر عن مصدر الحكم في الإسلام، ثمّة فئة، وكانوا موجودين بكثرة في التاريخ...([1]) في أن
شيئاً حرّمته السنّة، أو أحلّته، أو حتّى استحبّته، ويجب أن يُفعل بالسنّة، فإنّ
من التزم به - ويُقال بهذا الشكل-: فإنّه يكون قد جعل رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) شريكاً لله في حقّ التشريع!.
ولئن سألتهم: كم عدد ركعات الصلاة؟ وهذه
الركعات التي تقام، صحيحة، أم غير صحيحة؟ قد عيّنها النبي(صلى الله عليه وسلم)،
فهل يجب أن تمتثل، أم لا؟.
يجيبون بأنه: لا يستلزم أن تشتمل
الصلاة على الركعات، بل يؤدّيها كلّ أحد حسبما يحلو له، الصلاة تعني ذكراً وفكراً
وعبادةً لله، كيفما أقيمت، لأن الله تعالى لم يسمّ الصلوات، ولم يذكرها ـ أي في
القرآن ـ، فلا يستلزم أن تقام أربعة ركعات أو اثنتين، فلو كانت واجبة، لكان الله
ذكرها، كما ذكر جزئيات الوضوء"!([2]).
يظهر من هذه الأسئلة: أن تيار مكتب
القرآن، في شـرق كوردستان، منذ هذا التاريخ القديم، قد اُبتلي بهذه الأفكار
الغريبة، التي ظهرت الآن - مرّة أخری - في جنوب كوردستان. لذلك اقتضت تلك الفتنة ـ
حينذاك، وحتّی الآن-، أن تعالج معالجة فكرية.
لذلك كاك أحمد مفتي زاده ـ كقائد روحي وفكري
وعلمي لتيار مكتب القرآن ـ قد شغلته، فترةً، هذه الأزمة الفكرية، التي سمّاها هو:
(دوّامة الاكتفاء بالقرآن)، وخصّص بعض محاضراته للردّ علی تلك الشبهات!.
هو يقول: "شغلتني ـ فترة ـ
دوّامة الاكتفاء بالقرآن كثيراً، قلت لهم: نعم، القرآن كافٍ وشامل، الاكتفاء
بالقرآن، يعني: القرآن كافٍ، ولا نحتاج الأحاديث والسنّة بعد!"([3]).
يقول مفتي زاده، في بداية جواب هذا السؤال:
"ثمّة جملة من المسائل الإسلامية، عميقة جداً، تحتاج إلى العلم الكثير، كثير
من النّاس يتحدّثون عنها، ويذكرونها، من غير علم! حقيقة ذكرها من غير علم، آفة
وبلاء للإنسان!. فيما يتعلّق بالقرآن والسنّة، وصلاحيتهما لهداية الإنسان، هناك
مسائل كثيرة مطروحة"([4]).
هذا القول مدخل مهم، وانتقادي، لمن لا
يقدّرون حرمة العلم، والاختصاص، ويتدّخلون في هذه المواضيع الحسّاسة صفر الأيدي،
حفاة الأقدام.
ثم يدخل في عمق الموضوع، ويقسّم المفاهيم
والمعالم الإسلامية التي تواجه الإنسان، إلى قسمين:
القسم الأوّل: العقيدة. القسم الثاني: التشـريع.
ويتفرّع منهما أقسام كثيرة.
ثم القسم الأوّل: يقسّم العقيدة إلى
أنواع مهمّة:
النوع الأوّل: (أصول العقيدة، وما يتعلّق
بها).
هذا التقسيم، لكي تتبوّأ السنّة المكانة اللائقة
في المنظومة الإسلامية، من غير إفراط أو تفريط (هاتان الآفتان، أو الأزمتان،
الفكريّتان، اللتان أصيب بهما كثیر من المسلمين اليوم).
حجيّة
السنّة في قضايا العقيدة
أستحسن - في البداية ، وقبل أن نذكر نظر مفتي
زاده عن مكانة السنّة في قضايا العقيدة ـ أن نعلم رأيه عن مكانة العقيدة،
وأهميّتها، في منظومة الدين، وكذلك نظره لتعريف العقيدة، ومضمونها.
يقول مفتي زاده: "أصول الإسلام هي:
مجموعة قضايا، بعضها أساسي وأصل لبعضها الآخر؛ العقيدة الدينية في الإسلام، هي
الأساس الديني لسائر القضايا الأُخرى. ثم يطرح نمط التفكّر والتصوّر، ثم معرفة
اللاوعي، والسلوك والأخلاق، وفي النهاية تكليف الإنسان، والأعمال والعلاقات مع
الناس.
بناءً عليه، تكون العقيدة في صدارة القضايا
الدينية، وكلّما قويت العقيدة وتحصّنت ـ والتي هي أساس القضايا الأُخر ـ فذلك علامة لقوّة الدين"([6]).
وبعد ذكر أهميّة العقيدة، يأتي إلى التعريف
بهذا المفهوم، ومضمونه، فيقول: "العقيدة هي: أهمّ تلك القضايا والمسائل، التي
ترجع إليها جميع إدراكات الإنسان وفكره وعلمه ووعيه. وأهمّ هذه القضايا هي: ما
الكون؟ وما هي بداية هذا الكون؟ وما هي نهايته، ونــتيجــته؟ وما هو الإنسان، وما
هي مهمّته؟ مجموع هذه الأسئلة لا تُكوِّن أصول العقيدة الإسلامية فقط، بل ندرك ـ
عبر دراسة هذه النقطة، وتحليلها ـ أن جميع قضايا العلوم المختلفة ـ في الأساس ـ
تنتهي بهذه الأسئلة التي ذكرت"([7]).
ويعرض مفتي زاده في أشرطته عن حجّيّة السنّة،
نظره بوضوح حول مكانة السنّة، وحجيّتها في العقيدة.
هو يقول
في ذلك: "فيما يتعلق بالقسم الأول، وهو أصول العقيدة وقواعدها: نعمْ، القرآن
كافٍ، لكن ليس بمعنی الاستغناء عن السنّة، كلا، لأن القضية ـ أيْ العقيدة ـ هامّة
جداً، وهي الأصل والأساس، ولا يمكن أن يتمّ تأسيسها علی الأوهام والظنون، لأن
القرآن قد تناول كلّ ما هو ضـروري تعلّمه من قبل الإنسان حول العقيدة. وكثير من
هذه الأصول قد تناولها النبـي(صلى الله عليه وسلم) في أحاديثه، وأكَّد عليها، لكن
بإمكاننا فهم تلك الأصول العقدية في القرآن وحده، ولو لم تكن هذه الأحاديث موجودة.
ولو تناولت الأحاديث موضوعاً من أصول العقيدة، لم يتعرّض له القرآن، فلا اعتبار له
ـ أيْ لا يجب أن نؤمن به ـ لأن أصول العقيدة يجب أن تبنـى على اليقين"([8]).
في هذا القسم، يحدّد مفتي زاده مكانة السنّة
ووظائفها تجاه القرآن، وهو دور التأكيد والتشديد لما جاء في القرآن (الدور
التأكيدي)، لا دور التكميل والتبيين والإضافة (الدور التكميلي)، لأن قضايا العقيدة
قد أخذت مساحة واسعة جداً في القرآن، تبلغ أكثر من (٦۰۰۰) آية،
بنسبة تقترب من (90%) من آيات القرآن.
لم ينفرد
مفتي زاده بهذا الفهم لمفهوم العقيدة - علی أن جميعها مذكور في القرآن- بل هو
موجود لدى السبحاني أيضاً، إذ يرى: أن منظومة العقيدة قد بُـــيّنــت في القرآن
تماماً، وأنّ وظيفة السنّة هي التبليغ والتأكيد فقط. ولا أعلم هل أخذ السبحاني هذا
منه، أم هو من تقاطع الاجتهاد؟!([9]).
وكذلك
العالم الشهير في شمال كوردستان: (سعيد النورسي)، فهو يعتقد: أن قضايا العقيدة
ومواضيعها، يجب تثبيتها بالأدلّة القاطعة. لذلك يقسّم ـ أثناء ذكر أصول فهم الحديث
ـ القضايا الدينية إلى مراتب ومستويات.
"يقول النورسي: إن القضايا الإسلامية،
لها مراتب ومستويات، بعضها يحتاج إلى الأدلّة القاطعة، مثل: قضايا العقيدة. وأخرى
يكتفی بالظنّ الغالب، أو بمجرد التسليم وعدم الرفض. فلذلك لا تطلب الأدلّة
القاطعة، أو التسليم اليقيني، في كلّ قضية من القضايا الفرعية، أو الأحداث
الزمنية، التي ليست جزءاً من أصل الإيمان، بل يكتفی بالتسليم فقط، وعدم
الرفض"([10]).
يظهر من هنا: أن الأعلام الكورد الثلاثة
كلّهم: (النورسي، مفتي زاده، السبحاني) يعتقدون: أن الأحاديث الظنّية (الآحاد)
حجّة في مسائل الدين الجزئية. وهذا أمر طبيعي وبديهي، لأنه لا يمكن، بل يستحيل، أن
نأتي بالدليل القاطع اليقيني، لكلّ قضية قانونية وتشريعية جزئية.
وفيما يتعلّق بالقسم الثاني، وهو (نمط تفكّر الإنسان المسلم ـ أو العقائد
الفرعية)، فإنّ مفتي زاده يقسّمه إلى نوعين. يقول: "نمط التفكّر، أو فروع
العقيدة، أو الآيدولوجية عموماً، ما كان منها متعلّقاً بأصول العقيدة، فهو مندرج
في القسم الأوّل ـ أي له حكم أصول العقيدة ـ ويجب أن يتناوله القرآن، حينذاك يكون
حجّة. لكنّ تناوله من قبل السنّة، لا يكون حجّة، إلا أن يكون متواتراً، لأن هناك
مظنّة عدم صحّة إسناد هذا الحديث، لا لعدم صلاحيّة رسول الله وقدرته، فهذا قول
خاطئ جدّاً! بل لأنه لم يثبت عن النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فإنْ كان ثابتاً،
فغير ممكن أن يقوله من تلقاء نفسه. إنه لمن قلّة حياء الشخص ـ وهو يعترف برسول
الله (صلى الله عليه وسلم) كنبـيّ له، وأنّه يوحی إليه من عند الله، وأنّه إنْ
ارتكب خطأ نبّهه الله عليه ـ أن يعلِّم النبـيّ (عليه الصلاة والسلام) شخصاً
شيئاً، ثمّ هو ينكره. فلو افترضنا ـ وهو مجرد افتراض لأن مثل هذا غير موجود ـ أن
السنّة ذكرت شيئاً من أصول العقيدة، لم يذكره القرآن، فإن تيقنّا أنه من أقوال
النبـي صلى الله عليه وسلم، قبلناه مثل القرآن"([11]).
وفي هذا القسم، يؤكّد مفتي زاده علی هذا
الأصل، وهو: أن ما كان من قضايا العقيدة، لا بدّ من معالجته في القرآن، لأن
العقيدة لا تقبل الظنون.
لكن فيما يتعلّق بالقسم الثاني لنمط التفكّر ـ
ما كان غير متعلّق بأصول العقيدة ـ يقول: "نستطيع أن نستفيد من الأحاديث،
بشرط اتّفاقها مع أصول العقيدة العامة التي تناولها القرآن، وعدم مخالفتها
لها"([12]).
حجية السنّة في التشريع
فيما يتعلّق بالتشريع لحياة الإنسان، يفرّق
مفتي زاده في البداية بين مفهوم العقيدة ومفهوم التشريع ببعض النقاط، فيقول:
(1. هناك
تفاوت بين العقائد والتشـريع، لأن العقيدة ليست حكماً، بل هي بيان الواقعية
والحقيقة. أمّا التشـريع، فهو حكم، ووضع أساليب لحياة الإنسان. 2. في التشـريع
ثمّة احتمال النسخ والتغيير، واحتمال تربية متسلسلة تدريجية، أيْ أن الحكم جاء
للإنسان بشكل تدريجي. أمّا عن العقيدة، فليس ذلك مطروحاً، أن يقول كل مرّة شيئاً
مختلفاً، لأنها ـ أي العقيدة ـ بيان للحقيقة، وهي صورة واحدة، لا تتجزأ إلى صور
مختلفة"([13]).
ثم يعرض مفتي زاده نظره عن حجيّة السنّة ـ
عموماً -، وحديث الآحاد - خصوصاً ـ في مجال التشريع، فيقول: "في التشـريع،
القرآن والسنّة كلاهما معتبران، حتّی السنّة في القضايا الفرعية والعملية
والتشـريع ــ بشرط ثبوت أصولها بالقرآن، أو الحديث المتواتر، وحديث الآحاد (الخبر
الواحد)، الذي احتمال صدقه وكذبه ضعيف ـ مقبول، أي إنْ روَوا حديثاً علی أن النبـي
(صلى الله عليه وسلم) قال ذلك، أو فعل هكذا، ولم نتيقّن مائة بالمائة، هل الحديث
صحيح، وهناك احتمال لعدم صحّته، أو خطأ راويه، بشـرط أن يتّفق مع الميزان العام،
بمعنی أن يكون هذا الحديث بيانَ مثالٍ وصورةٍ لهذا الميزان العام الذي ثبت
بالقرآن، أو المتواتر، فحينئذ يعمل بهذا الحديث (الخبر الواحد)، وهو حجّة
ومعتبر"([14]).
وكذلك السبحاني، مثل مفتي زاده، يؤكّد علی أن
حديث الآحاد لا يكون مصدراً للعقيدة، لكن يُعتمد عليه في الأحكام التشريعية
الجزئية.
يقول السبحاني: "حديث الآحاد الذي يفيد
الظنّ، لا يكون أساساً لمصادر العقيدة، وكذلك لا يكون أساساً للقواعد العامة، التي
تستنبط منها الأحكام الجزئية المتطوّرة التي يحتاج اليها هذا الموضوع. أمّا في
الأحكام الجزئية، فيُعتمد فيها على حديث الآحاد الذي يفيد الظن، ولا بأس في
ذلك"([15]).
ومراد مفتي زاده ـ مثل السبحاني ـ هو ردّ
الأشخاص الذين يرفضون حديث الآحاد، ولا يعملون به، مبرّراً بأنه يفيد الظن لا
اليقين. لكن مفتي زاده، وكذلك السبحاني، يعتقدان: أنه حجّة في الأحكام الجزئية،
بشرط أن لا يخالف مجموع النظام الكلّي القرآني.
في موضع آخر، يضرب مفتي زاده مثالاً، ألا وهو
السياسة الدولية، فهو يری: أن أصول السياسة الدولية، وقواعدها، قد ذكرت في القرآن.
يقول: "إن دعم القرآن للسياسة الإسلامية أقوى، وليس مثل الأحاديث والسيرة...
لكن فيما يتعلّق بموضوع السياسة، فالقرآن هو الذي يضع أصولها، التي تتميّز جدّاً
عن المواضيع الأخری، ومن أجل ذلك وصول المرء الى قضية سياسية أسهل بكثير من وصوله
إلى مثال صحيح من هذه الحقيقة عبر السيرة والسنّة، لأن القرآن قد بيّن في البداية القواعد
المهمة والأصول العامة، فيما يتعلّق بالسياسة الدولية، ثم بيّن أيضاً القواعد
المهمّة المتعلّقة بهذا الأصل: إما مفصّلاً، أو مجملاً"([16]).
أقوله مرّة أخری: أليس هذا التبيين كافياً
لإبطال هذه التهمة التي تُنسب إلى كاك أحمد، علی أنه رجل قرآني، وأنّه يرفض السنّة
عموماً، وحديث الآحاد خصوصاً؟!.
دليل حجّيّة السنّة عند مفتي زاده
ثم يضرب مثالاً في القرآن، كدليل علی حجيّة
السنّة، بهذا التقسيم والتفسير الذي بيّنه، لتصحيح خطأ هؤلاء الأشخاص الذين لا
يعترفون بحجيّة سنّة النبـي (صلى الله عليه وسلم). تجاه موقفهم هذا يقول بأدب:
(أعاذنا الله).
يقول مفتي زاده: "عندما هاجر المسلمون إلى
المدينة، أمرهم النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) أن
يحولّوا وجوههم من الكعبة إلى المسجد الأقصی، وكانوا يصلّون متوجّهين إلى الكعبة
مدّة طويلة. فماذا يقول المسلمون؟ وكيف يكون موقفهم؟ لو فسّرنا مسألة الاكتفاء
بالقرآن، بهذا النوع الذي يقال، ويروَّج به، في زماننا، هل يمكن للمسلمين أن لا
يطيعوا أمر النبـي (صلى الله عليه وسلم)؟ وأن يقولوا: بأيّ دليل؟ كنّا في مكّة
ثلاث عشرة سنة، نتوجّه في صلاتنا نحو الكعبة، والآن أتينا المدينة فتقول: حولّوا
وجوهكم من الكعبة، فما هو دليلك من القرآن؟!، فإنّ القرآن لم يقل شيئاً كهذا، بأن
نتوجّه إلى المسجد الأقصی؟!"([17]).
ويقول أيضاً: "هل ذكر القرآن هذا، هل
رأيته في موضع من القرآن؟، نصّاً أو ظاهراً، بدلالة إيماء، أو إشارة؟ هل يوجد نصّ
يأمر النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) أن يحوّل وجهه من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصی؟، هذا أمر مستحيل، بل النبـي (صلى الله عليه وسلم) قاله، وأمر به.
إذن قل: للذين يخطؤون خطئاً كهذا ـ يقصد الذين
يسمّون بالقرآنيين ــ، لو كنتم الآن في زمن النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وأمركم
أن تتوجّهوا إلى المسجد الأقصی ـ وهو أمر لم يذكره القرآن قطعاً ـ أكنتم تطيعونه؟
هل الإطاعة واجبة أو غير واجبة؟.
فلو قالوا: ليست واجبة. فلنعلم ما هو حكم
القرآن في الذين لم يطيعوا أمر النبـي (صلى الله عليه وسلم): [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ](البقرة
:143).
فعلنا ذلك الفعل، وقلنا: أيّها النّاس حولّوا
وجوهكم نحو المسجد الأقصی...، من أجل أن يظهر عمليّاً من يطيع الرسول (صلى الله
عليه وسلم) ، ومن يرجع إلى الوراء، و (ينقلب علی عقبيه)، يرجعون علی أعقابهم مائة
وثمانين درجة إلى الوراء. فالذين لا يطيعون النبـي (صلى الله عليه وسلم) في مسألة
تغيير القبلة، هكذا يصفهم: ميّزوا خطّهم، وضلّوا عن السبيل"([18]).
وكذلك السبحاني يفسّر هنا هذه الآية بهذه
الصورة، فيقول: "يتوجّه بخطابه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويقول له:
هذا الاتجّاه الذي كنت عليه من قبل ـ
اتّجاهه السابق ـ الذي كان يتوجّه نحو بيت المقدس (تبعاً للخليفة السابق، أي
اليهود)، ما قرّرنا ذلك، وما أمرنا به، إلا لنعلم ويظهر: من يتّبع النبـي (صلى
الله عليه وسلم)، ويتميّزَ من شخص يرجع إلى الوراء، ولا يتّبع النبـي (صلى الله
عليه وسلم) في هذا التحوّل إلى القبلة، يرجع إلى الوراء على عقبيه، ويعرض عن
الهداية الإلهية.
أي: إنّه كان اختباراً، إذ عندما لم يكن لدى
أمّة، في مرحلة من مراحلها، اتّجاه مختلف، وتكون مضطرّةً أن تتّبع أمّة أخری في
الاتّجاه، فهذا النوع من عدم وجود الاستقلالية كان اختباراً، إذ ظهر هنالك
المتّبعون للنبـي (صلى الله عليه وسلم) المتميّزون عن المنقلبين علی عقبيهم.
يعني:
هنا يظهر معيار الصدق والكذب في ادّعاء الإيمان، وإنْ كان صعباً أن تتّبع أمّةٌ
أمةً أخری في الاتجاه، ثقيل جدّاً، لكنَّ المؤمنين الذين لديهم إيماني حقيقي،
يقبلون أثقل التكاليف، ما دام فيه اتّباع رسول الله (صلى الله عليه وسلم). لكن
الذين لم يكن إيمانهم إيماناً حقيقياً، لا يستطيعون اتّباعه في حالة كهذه، لأن ذلك
في رأيهم مشكلة"([19]).
يقول مفتي زاده: "بعض المسلمين كانوا
ضعفاء، حيث كانوا يتعاملون بهذا النوع، لم يكن تعاملهم كتعامل مسلم تجاه نبـيّ
مرسل، بل كان تعاملهم كإنسان خلط الإسلام مع الشرك، وكانوا يقبلون في نفوسهم كلّ
ما يتّفق مع هواهم، وإلا خالفوه، إلى ما بعد فترة، حيئنذ ينقِّي المسلمون
الحقيقيون قلوبهم من متعلّقاتها، فيبقون هم وإيمانهم، طاهراً وزاهراً وشفافاً، من
غير أدنی شائبة"([20]).
أری أن هذا الدليل دقيق وعميق جدّاً، ولم أرَ
من العلماء قديماً وحديثاً من يشير إليه، لأنه استكشف أمراً للنبـي(صلى الله عليه
وسلم) في القرآن، لم يأمر به الله تعالى من قبل، ولم يشر إليه، لكن بعد ذلك يأتي
أمر مباشر بالتوجّه إلى الكعبة من جديد، والقرآن يعتبر أمر النبـي كأمر الله
تعالى، وهذا دليل علی عمق فهم كاك أحمد لمصطلحات القرآن وأسراره.
ربّما هؤلاء الاشخاص ينتقدون الدليل أيضاً! -
كما سمعت منهم - بأن طاعة النبـي مختصّة بزمن حياته! أمّا بعد وفاته، فلا تجب
طاعته!.
فإن كان كذلك، فيلزم أن يكون النبـي (صلى الله
عليه وسلم) مرسلاً للصحابة فقط، وتكون الجنّة، ورضا الله، ومحبّته، المتعلّقة
باتّباع النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وطاعته، مختصّة بهم وحدهم فقط، أعاذنا الله
تعالى!
علاوة على ذلك، فإن الآيات التي تأمر باتّباع
النبـي (صلى الله عليه وسلم)، وتتوعد من مخالفته، شاملة غير مختصّة بزمن حياة
النبـي (صلى الله عليه وسلم). يضاف إلى ذلك: أن هذا الأمر ليس مطلوباً منّا نحن
كمسلمين فحسب، بل حتی النبـي (صلى الله عليه وسلم) طُلب منه أن يقلّد الأنبياء
السابقين له، ويتّبعهم. وها هو القرآن، بعد ذكر ثمانية عشـر نبـيّاً، يتوجّه
بخطابه إلى النبـي (صلى الله عليه وسلم) فيقول له: [أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهِ](الأنعام:90).
ثم يستمر مفتي زاده في كلامه، فيقول:
"تعمّق أنت، وتأمّل، هذه مسؤولية كبيرة جدّاً، هنا يحسب الله تعالى ذلك ـ أي
تغيير القبلة من مكة إلى القدس ـ كحكم من أحكامه"([21]).
وفي موضع آخر يقول: "تعلّم مدى أهمّية
قضية التوجّه إلى المسجد الأقصی، وتعامل المسلمين مع هذا الأمر، وكيف ذكرت،
أوّلاً: إن أمر النبـي (صلى الله عليه وسلم) بالتوجّه إلى الأقصی منظور إليه
كتشريع إلهي..."([22]).
ثم يأتي إلى حكمة هذا التغيير في القبلة، وهو:
ابتلاء المؤمنين في اتّباع النبـي (صلى الله عليه وسلم) وإطاعته في هذا الأمر،
الذي يخالف مشاعرهم ومشيئتهم وهواهم، وتلقِّيهِ ثقيل علی قلوبهم.
يقول مفتي زاده: "ثم يذكر القرآن مدی
صعوبة وثقل الأمر علی قلوب المؤمنين، بأن يعرضوا عن المسجد الحرام، الذي بنيت
قواعده من قبل إبراهيم عليه السلام، وقد أيّده القرآن، إضافة إلى تعلّقهم بالكعبة،
وحبّهم لها، أمرهم بالتوجّه نحو المسجد الأقصی، الذي كان غريباً بالنسبة إليهم،
لكن علی أي حال أطاع المسلمون الطاهرون النبـي (صلى الله عليه وسلم) واتّبعوه. من
هنا يظهر إخلاص اتّباع الأمّة للنبي (صلى الله عليه وسلم)، لأن القضية كانت صعبة
وثقيلة... هذا كان نوع ابتلاء لصدق إيمان المؤمنين وسلامته، مع أن مكّة كانت
وطنهم، وكانت قلوبهم متعلّقة بها"([23]).
وفي موضع آخر يقول: "بعد ذلك يقول [وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ](البقرة:143) حقّاً، كان تكليفاً ثقيلاً، بعدما
أعرضوا عن جميع ما يملكونه، أن يقال لهم: أعرضوا عن القبلة والكعبة أيضاً. هذا كان
تكليفاً صعباً جداً، إلا لمن تمتع بالهداية الإلهية، فكل شيء على هؤلاء سهل، فلقد
بلغ إيمانهم حدّاً، يستطيعون أن يلقوا معه كل ما تعلّق القلب به. أمّا غيرهم، ممن
لم يكن إيمانهم قويّاً إلى هذا الحدّ، فلقد كان ذلك تكليفاً ثقيلاً جدّاً، إلى حدّ
كانت نتيجته: أن بعض الذين سلكوا طريق الإيمان، حسب الظاهر، كادوا أن يتركوا طريق
الإيمان. يقول فيهم: [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ](البقرة:143). لم يكن الله تعالى يريد أن يضيع إيمانكم،
ويبطله، كلا بالعكس، من أجل أن يثبِّتَ إيمانكم"([24]).
ثم يبيّن مفتي زاده وجه دلالة هذه الآية علی
حجيّة السنّة، بطريقة علمية، في ثلاث نقاط:
"النقطة الأولی: الذين يقولون: إن
النبـي (صلى الله عليه وسلم) ليس لديه حقّ ورخصة، لأن يتكلم في أمور التشريع، فإن
كانوا في زمن حياة الرسول، في أيّة جهة يكونون: ممّن {يَتَّبِعُ الرَّسُولَ}، أو
{مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ}؟ من غير شكّ، ولا تردّد، كانوا ينضمون إلى
النوع الثاني، وفي النتيجة تلحقهم التعاسة والشقاوة، لأنهم كانوا يقولون للنبـي (صلى
الله عليه وسلم) بأيّ دليل تقول ذلك؟ أين دليلك من القرآن!.
النقطة الثانية: كانت مسألة تغيير
الاتّجاه إلى المسجد الأقصی، كان ذلك قضية هامّة، وذات آثار عظيمة، ولم تتعرّض لها
آية واحدة من القرآن، بأيّ شكل من الأشكال. وفي جانب آخر يقول القرآن إنها تمّت
بتشريع إلهي {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا}، نحن لم نفعل
هذا العمل لشيء إلا ليتبيّن: مَنْ هو تابع للرسول، ومَن يرجع إلى الوراء؟ يجعله
الله تعالى من حكمه، فإذا كان من المقرّر ألاّ يؤخذ حكم الله إلا من القرآن وحده،
فأين نجد ذاك الحكم؟ لا يوجد في القرآن. هذا خطأ يا أخي"([25]).
النقطة الثالثة: في موضع آخر يذكر نقطة
أخری، ويقول: "في جانب آخر، يبيّن أن هذه القضية الهامّة، وهي قضية تحريك
الإيمان، فماذا فعل المسلمون الحقيقيون؟ لم يقولوا: القرآن يكفينا، وإن هذا الحكم
لم يصرّح به القرآن، فعلى هذا الأساس لا نطيعك! كلّا، بل امتثلوا بكل صدق وإخلاص:
{مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وهذا تبيين لنا كي نولّي وجوهنا
من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصی، فقبلوه بأرواحهم وقلوبهم"([26]).
هنا يريد مفتي زاده أن يقول بذكاء: أنتم
تريدون أن تقولوا: أيّ شيء لم يصـرّح به القرآن الكريم لا نعدّه من حكم الله، فهذا
النبـي (صلى الله عليه وسلم) قد أمر أمراً ليس في القرآن قطعاً، ويجعله الله من
حكمه وتشريعه! فإذن يمكن أن يكون بعض حكم الله خارج القرآن. ثمّ إن هذا القول ـ
حكم الله في القرآن وحده ـ خطأ، ومخالف للحقيقة.
لذا يقول: "معرفة النبـي (صلى الله عليه
وسلم) للقرآن والأحكام الإلهية، ليست كمعرفتنا. أجل، ليس لأيّ نبـي حقّ التشريع.
صحيح (إن الحكم إلا لله) هو حقّ الله وحده أن يحكم ويشـرّع للإنسان، لكن ماذا يعني
ذلك: أيّ شيء وجد في القرآن فهو حكم الله، لكن إنْ قاله رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) فليس حكماً لله! أستغفر الله، هذا خطأ"([27]).
وهذا يثبت لنا تلك الحقيقة مرّة أخرى، أن مفتي
زاده يرفض فكرة الاكتفاء بالقرآن، يرفض رفض السنّة بشدّة.
السنّة التشريعية وغير التشريعية عند مفتي زاده
بعد تقسيم القضايا الدينية، وتحديد مكانة
السنّة فيها، وبعد هذا الاستدلال القويّ لحجيّة السنّة، يقسّم السنّة إلى سنّة
تشريعية وغير تشريعية.
يقول مفتي زاده: "هناك قضيتان حول حكم
النبـي (صلى الله عليه وسلم):
الأولى: الاجتهاد والفكر الطبيعي
للنّاس.
الثانية: قضية التبيين. لذلك سأله
الأصحاب: أهو رأيك، أو الوحي؟.
فإن كانت قضية اجتهاد، صرّحوا برأيهم أيضاً. وقد
أمر القرآن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) بمشاورتهم: {وَشَاوِرهُم فِي الأَمرِ}،
عندما يتعامل كشخص عادي، ويعمل برأيه، وأحياناً يترك رأيه، ويأخذ برأيهم"([28]).
هنا، يتحدّث مفتي زاده عن اجتهاد النبـي (صلى
الله عليه وسلم) في القضايا التي لم يرد فيها نصّ من القرآن. وهذا حقّ طبيعي
للنبـيّ (صلى الله عليه وسلم)، ولأيّ عالم آخر بعده، لكن مع فرق واحد، وهو أن
النبـي (صلى الله عليه وسلم) إن أخطأ في اجتهاده، يُصحّح له، ويكون ذلك الصحيح
حكماً لله، لكن إنْ سكت الله عنه، فيعني أنه أصاب، لكن هذه الفرصة والرتبة، لم تعط
لأحد غيره.
يقول مفتي زاده في ذلك: "من قلّة الحياء
جدّاً، أن يعترف شخص برسول الله، كرسول له، وأنه يوحی إليه من الله، وأنّه إنْ
أخطأ في شيء يصحح له، فيعلّمه هذا النبـي (صلى الله عليه وسلم) شيئاً، لكنه
يرفضه!"([29]).
وكذلك في موضع آخر، يتحدّث مفتي زاده عن
أهمّية اجتهاد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويرى أن اجتهاده أولی من اجتهاد غيره.
يقول: "مثلاً الصلاة، فقد أمر بها القرآن عموماً، فهل أقوم بها
برأيي، أم برأي غيري؟، أليس النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أولى منه ومنّي؟، إذ نعلم أن النبـي (صلى
الله عليه وسلم) قد أوحي إليه أكثر من وحي
القرآن، ولكن لم يكن كلّه بمثل هذا الوحي الخاص، بأن يبقى كدستور إلهي، وأن تبقى
كلماته وجُمَله محفوظة للإنسان.
وإن كانت
المسألة مسألة اجتهاد، فأرى النبـي (صلى الله عليه وسلم) هو خير مجتهد مني ومنك، ومن أيّ شخص آخر. وإن كان
القرآن كافياً، لكن للمسألة الفلانية أعتقد أن النبـي (صلى الله عليه
وسلم) أولى من أيّ شخص، وهذا هو المقصود"([30]).
بل في موضع آخر، يری مفتي زاده أن مصطلحَي
الاجتهاد والتقليد شيء طبيعي وظاهرة إنسانية لكلّ أحد، في أيّ مرتبة ومكانة
اجتماعية كان.
فها هو يقول في جواب سؤال عن السمع والطاعة:
"أيّ إنسان في الحياة محتاج إلى التقليد، وكذلك إلى الاجتهاد. ابتداءً من
الطفل ــ عندما يبدأ بالنشوء يتعلّم الاستماع والكلام تدريجاً، إلى أن يتعلّم تحريك يده ورجله، فلديه الاجتهاد والتقليد
كلاهما ــ إلى أن يصل إلى أنبياء الله"([31]).
ثم يبيّن السبب والدليل العقلي، والنقلي، لطبيعيّة
مصطلح الاجتهاد والتقليد، فيقول: "1. لأن الإنسان مجموعة من العلم والجهل،
فأعلمهم من الكلّ، فيه نوع من الجهل أيضاً، في مسألة كانت، أو في جميع مسائل
الإنسان.
الأنبياء يوحى إليهم، وهم المعيّنون لضبط الوحي.
وأكمل الوحي الإلهي هو الذي نزل على أكمل قلب؛ الذي كانت مقاومته أشدّ من مقاومة
الجبال لتلقّي هذا الوحي، ومع ذلك فهو مسؤول عن تعامله، وسلوكه، بأن يكون موافقاً
لهذا الوحي، وقد ينتقده القرآن، مثلاً: [عَفَا
اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ](التوبة:43).
في غزوة الروم جاء إليه الأغنياء الأثرياء
يستأذنونه، فأذن لهم، وجاء القرآن قبل كل شيء يبشّره بالغفران علی هذا العمل؛ لأنه
لم يكن هناك ابتلاء في هذه الأرضية وهذا العمل الخصوصي، ولم يوح إليك بشيء، لكن
كان من المفروض أن تنتظر إلى أن ينزل عليك الوحي، لماذا فعلت ذلك؟!.
2.
يعلم طبيب أنه قد توسّع اليوم علم الطبّ كثيراً، وتفرّعت منه عدّة فروع، لكن
الطبيب الخبير في تخصّصه، ربّما قد يخطئ، فيحتاج أن يسأل طبيباً آخر. هذا ليس في
الطبّ فقط، بل في كلّ عمل كذلك، التقليد قليل، والاجتهاد كثير، لكن في أقسام أخری
تقليده كثير. ولو لاحظنا جميع مناحي الحياة ومجالاتها، نری أن هذا الطبيب تقليده
كثير، واجتهاده قليل جدّاً. مثلاً: في الجزارة، أو السياقة، أو الخياطة، أو أيّ
مهنة آخرى، إذ يقلّد بها، ويعطيها ثقته. وكذلك الأنبياء والعلماء والخبراء
والبارعون جميعهم، في غير قسمهم المختصّ بهم، أكثر حياتهم علی التقليد"([32]).
ثم يتحدّث عن سـرّ مصطلحَي الاجتهاد والتقليد،
إذ يری: أن الاجتهاد هو عملية تكاملية متصاعدة، وفي المقابل التقليد هو عملية
تنازلية متناقصة. أو بمعنی آخر، كلّما اتّسعت دائرة ومساحة عملية الاجتهاد، كلما
ضاقت دائرة التقليد.
يقول مفتي زاده: "لكن القسم الذي يبيّن لنا
سـرّ هذه المسألة هو: أن من عمل كثيراً في مسألة من مسائل الإنسان، واضح أن معرفته
تزيد يوماً بعد يوماً، ويقِلُّ تقليده، ويتبيّن له مضمون هذه المسألة الخاصة.
مثلاً: يوجد ولد في أحد الأزقّة، خبير بزقاقه والبيوت جيّداً، فإذا كنت عاقلاً،
فلمعرفة بيت في هذا الزقاق، فإنّك تسأل ولد هذا الزقاق، لا من فلان العالم والخبير
في هذه المدينة... نعلم أن أنبياء الله هم أعلم الناس بتربية الإنسان... بهذه
الصورة يتبيّن أن كلّ من زادت معرفته في مسألة خاصّة، بأيّ نسبة، يقلّ تقليده
أكثر، حتّی نصل إلى النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فلأنه ذو علاقة مباشرة بمالك
الإنسان وخالقه، فظاهر أنه أعلم من كلّ أحد. ثم نصل إلى الله، فظاهر أنه خالق هذا
الوجود، وهو أعلم بكيفيّة إدارته، وبما يصلحه، وما يفسده"([33]).
ثم
يوصلنا إلى هذه النتيجة، ومتى تكون الطاعة المطلقة للنبـي (صلى الله عليه وسلم)؟
لذلك يقول: "فبذلك نصل إلى هذه النتيجة: إن السمع والطاعة المطلقة هي لله
ولرسوله. فإنْ خرج عن عمل النبوة الخاصّ، فلا يــبقی السمع والطاعة المطلقة للنبـي
(صلى الله عليه وسلم). كما نری في السنّة، في هذه الأمور التي لم تكن من حدود
الدين، بل من الأمور الدنيوية، حيث كثير من الناس بمعرفتهم وخبرتهم قد دبّروا
أمورهم الدنيوية بكفاءة، بهذا الشكل الذي ذكرناه. فإذن لا يبقی السمع والطاعة
المطلقة؛ لأن هذه المعرفة الكثيرة، والقدرة الرفيعة، تقلّ أو تفنى مع الطاعة
المطلقة... جاء الدين لكي يكون السمع والطاعة لخالق الإنسان وحده. وواضح أنه ليس
لله أيّة مصلحة شخصية وحزبية، ولا يصدر منه أمر مخالف لمصلحتي أبداً، ثم للنبـي (صلى
الله عليه وسلم) الذي أطمئن إلى صدقه وأمانته، وأنه تم تفهيمه جيّداً... ولكن لا
يصحّ التقليد لعالم قادر علی البحث"([34]).
ثم يأتي مفتي زاده إلى شرح القضية الثانية، عن
حكم النبـي (صلى الله عليه وسلم)، فيقول:
"الثاني: أما في قضية التبيين، فإن
النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) مسؤول ومخوّل من عند الله في الأمور التشريعية، من
القرآن وغيره، وهو مأمور بتبليغ الناس. وهذا الأمر لا يتعارض مع القرآن نفسه بأيّ
حال. إذا افتُرِض أن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) مأذون من قبل الله، ومأمور
بعنوان نبـيّ، في أنْ يحكم؛ أنْ يقول شيئاً لأحد، فإذ لم يقبل منه، فهو لم يتّبع
النبيّ (صلى الله عليه وسلم) أساساً. وهذه آية (۱٤۳) من
البقرة، خير مثال لإثبات أن رسول الإسلام إذا قال شيئاً، اعتبر القرآن الإعراض
عنه، وعدم إطاعته، كفراً، ووصفه بأنه: ممّن ينقلب علی عقبيه"([35]).
حقيقة إن ما ذكره مفتي زاده من تبيين النبـي (صلى
الله عليه وسلم) مهمّ جدّاً؛ لأن ذلك هو المهمّة الرئيسة للنبـي (صلى الله عليه
وسلم)، كما يقول القرآن: [وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ](النحل:44). فإن لم يتمّ تفويض هذا الأمر إلى النبـيّ (صلى
الله عليه وسلم)، لكانت مهمّة نبوّته مقتصـرة في تدوين القرآن وتبليغه للناس فقط،
بعيداً عن شرحه وتفسيره وتطبيقه. ولصار دور الرسول حينئذ ـ حاشا من مقامه ـ كدور
آلة إلكترونية، أو إنسان آلي، أو مسجّل!.
ثم يؤكّد مرّة أخرى علی القاعدة السابقة، وهي
أن حكم الله ليس مقصوراً على ما جاء في القرآن وحده، فيقول: "ومن غير ذلك،
فإذا أصدر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كلّ قضية حكماً تشريعياً ــ غير
القضية الاجتهادية والقانونية التي هي في إطار الاستشارة ــ بعنوان أنه مفوّض من
قبل الله، أوحى الله إليه، وأعطاه علماً، سواء كان بوحي القرآن، أو بغير وحي
القرآن، وأعلن هذا الحكم: فالطاعة له واجبة كطاعة القرآن، من غير تفريق"([36]).
أری بعد هذا التوضيح من مفتي زاده عن مكانة
السنّة وحجيّتها، فلا بدّ للذين أقحموا أنفسهم في دوّامة الاكتفاء بالقرآن، ورفض
السنّة، أن يستحيوا ويتجنّبوا سوء الأدب تجاه عظمة الرسول العظيم (صلى الله عليه
وسلم) وسيادته،كمبيِّن للقرآن الكريم.
جواب مفتي زاده عن كيفيّة الصلاة
بعد جواب القسم الأول من السؤال، الذي كان عن
مكانة السنّة كمصدر ثان لأحكام الإسلام، يأتي إلى القسم الثاني من السؤال، وهو عن
كيفيّة الصلاة، كمثال لتجاوز بعض من يسمّون بالقرآنيين الخطوط الحمراء، إذ
يعتقدون: أن أيّ شيء لم يرد في القرآن، لا يجب الالتزام به!.
فلذلك
يجيب مفتي زاده ــ بالاعتماد علی القرآن، واتفاق جميع المسلمين طول التاريخ ـ على
هؤلاء الأشخاص الذين يقولون: لسنا بحاجة أن نؤدّي الصلاة بهذه الهيئة المعروفة، بل
الصلاة هي ذكر وفكر!.
يقول مفتي زاده: "هذه المرّة متعلّق
بالصلاة، وإن كلامهم ليس قضية الكفر والإيمان، بل قضية أدب، أو بذاء، والتي تقول: [وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا](النساء:115)، أليس ذلك
واضحاً بأن (سبيل المؤمنين) قبل هجرة النبـي (صلى الله عليه وسلم) كان فيما يتعلّق
بالصلاة أم لا؟.
واضح وبديهي أن (سبيل المؤمنين): هي ركعتان في
الصبح، وأربع في الظهر، وأربع عند العصر، وثلاث في المغرب، وأربع في العشاء، ثم
كان في الركعة الواحدة قيام واحد، وركوع واحد، وسجدتان، والسلام الأخير، وتكبيرة
الإحرام كانت موجودة"([37]).
وفي موضع آخر، عن هذا الموضوع، يستدل بأن ذلك
هو مهمّة النبـي (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه فوّض إليه حقّ تبيين أحكام القرآن
الكلية. لذلك يقول: "فوّض القرآن مهمّة التبيين إلى النبـي (صلى الله عليه
وسلم)..، تبيين هذه المسألة ــ الصلاة ـ بالشكل الذي يقوله القرآن، متروك للنبـي (صلى
الله عليه وسلم) {لتبيّن للنّاس}، وهو هذه الأعمال التي قام بها النبـي (صلى الله
عليه وسلم)، أو هذه الأقوال التي قالها فيما يتعلّق بذلك. وحسب هذا، نحن نعرف
تكليفنا فيما يتعلّق بالصلاة؛ نعلم أنه يجب علينا أن نقيم الصلاة بهذا الشكل، هو
الحدّ الأدنى للصلوات، هذه الفرائض الخمسة بركعاتها، بهذه الأشكال والخصائص التي
وصلت إلينا، كيف تبدأ، كيف يُقرأ القرآن في القيام، ثم الركوع مرّة، والسجود
مرّتين، والتحيّات واجبة، وبعدها التسليم الأخير"([38]).
ثم
يتساءل مفتي زاده هذا السؤال: هذه الصلاة بهذه الهيئة، لها اعتبار أم لا؟:
للإجابة
على هذا السؤال، يذكر نوعي الحديث المتواتر: المتواتر القولي، والعملي. فما يعرف
أو يقال بأنه المتواتر القولي، فهو لا شكّ فيه، وهو يقيني، لكنّه يرى أن المتواتر
العملي أقوی من حيث الحجيةُ، من المتواتر القولي. ولإثبات رأيه هذا، يعرض عدّة
فروق بينهما، فيقول:
"۱.لأن
المتواتر القولي يقتضي العلم، لكن المتواتر العملي لا يقتضيه.
۲. المتواتر
القولي ترويه جماعة من الرواة والقرّاء فقط، لكن المتواتر العملي ينقله أبسط
الناس.
۳. المتواتر
القولي يعني أن النبـي (صلى الله عليه وسلم) قاله، وسمعه كثير من المسلمين، وروَوه
مشافهة، بنفس الكلمة والجملة، من غير تغيير، إلى أن تمّ تسجيله من قبل علماء تدوين
الحديث في الكتب، ولم يأت عن طريق شخص أو شخصين، بل جاء عن طريق كثير من المختصين،
إلى أن صار شيئاً بديهيّاً. لكن المتواتر العملي أهمّ من ذلك، لأنه قد صلّى في
اليوم عشرات الآلاف بهذه الهيئة. فهل هذا (سبيل المؤمنين)، أم لا؟!"([39]).
في موضع آخر، يتحدّث عن جميع الأحاديث، لا
الحديث المتواتر فقط، فيقول: "فيما يتعلّق بالسنّة، لا بد من التنبيه علی هذه
النقطة: في نظري إن السنّة اللفظية (القولية) مقارنة بالسنّة العملية، فرع، وإن
كانت نسبة السنّة العملية قليلة جدّاً، لكن هذه النسبة نفسها، في الحجّية أقوی
بكثير"([40]).
ثم يسألونه هذا السؤال: أن مصدر تلقّي السنّة
العملية هو كتب السيرة، التي انتقدها المحدّثون من حيث الرواية، ولهم عليها مآخذ
واسعة. والحقيقة أن جزءاً واسعاً من مواضيع السيرة، ليس فيه ـ في نظرهم ـ سند صحيح
يفيد الحجّية.
يقول مفتي زاده: "أعلم ذلك، لكن بعد فترة
من قراءة السيرة، يستطيع الإنسان أن يعيّن المواضع الصحيحة من غيرها، هذا هو
الطريق الوحيد المطمئن لمعرفة الإسناد الصحيح إلى الشخصيات، وإلى الوقائع التاريخية،
ثم بغضّ النظر عن السند، السنّة العملية هي أحكم، وهي أساس وإطار للسنّة اللفظية
دائماً"([41]).
ثم يتحدّث عن وجه دلالة هذه الآية علی فرضية
أداء الصلاة بهذه الهيئة الثابتة، وإنْ لم يذكرها القرآن؛ لأنه أثبت مسبقاً أن
طاعة النبـي (صلى الله عليه وسلم) واجبة، سواء ما كان في القرآن، أو ما كان في
خارجه؛ لأن كليهما حكم الله.
يقول مفتي زاده: "فهذا الجانب من الصلاة،
فيه الأوّل، وهو عدم طاعة النبـي (صلى الله عليه وسلم). وكذلك فيه الجانب الثاني،
وهو: الطريق، والخلق الثابت والمحفوظ للمؤمنين. شيء واضح أن من انحرف عن هذا النمط
والهيئة للصلاة، يصيبه هذا الوعيد الإلهي. علاوة على أن فيه النقطة الأولی أيضاً،
وهي الانحراف عن أمر النبـي (صلى الله عليه وسلم). وقلنا من قَبلُ إنّ الانحراف عن
أمر النبـيّ (صلى الله عليه وسلم)، حتّی عن قبلة المسجد الأقصی، وهي لم تذكر في
القرآن بأيّ نوع، مساوٍ للكفر والردّة. أليس الانحراف عن ذلك ـ الصلاة ـ مساوياً للردّة؟"([42]).
وأخيراً، يصّحح مفتي زاده فهماً خاطئاً حول آية:
{إن الحكم إلا لله}، الذي أصاب به البعض، قاصداً، أو جاهلاً، لذلك يقول:
"نعم، مقبول ولا شكّ فيه {إن الحكم إلا لله}، فلو لم يكن محمد (صلى الله عليه
وسلم) رسولاً، فهل كان له أن يشرّع للإنسان؟، كلّا، عندما يكون نبـيّاً، فهل من
حقّه أن يشرّع للإنسان حكماً، من غير أن يأتي به من عند الله، [وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل
لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين](الحاقة:44-46)، لن
يستطيع، ولن يفعل، وثابت أنه نبـيّ يوحی إليه من عند الله، كيف يتجرّأ أن يقول
شيئاً بغير إذنه. إذن أيّ شيء قاله، فيما يكون ضمن وحي القرآن، أو من غير وحي
القرآن، في الحقيقة هو تبيان لحكم الله"([43]).
هذه الكلمات لمفتي زاده توصلنا إلى هذه النتيجة،
وهي: أن رجلاً عظيماً مثله، لم يكن من الاتجاه المسمّى بالقرآني أبداً، وكان ذا
نظر علمي عميق، ووسطي، لمكانة السنّة، كمصدر ثان للمنظومة التشريعية والقانونية في
الإسلام.
أمثلة اعتماد مفتي زاده علی السنّة
بعدما تبيّن منهج مفتي زاده، وأصوله، حول كيفية
التعامل مع السنّة، أود أن أشير إلى بعض الأمثلة في اعتماده علی السنّة:
المثال الأول: في ذكر أهمّية
الشوری، التي هي الصورة الوحيدة ـ في نظره ـ للحكم في المجتمع الإسلامي، فيقول:
"أبسط قضية فيما يتعلّق بــ{وأمرهم شوری بينهم} هو: أنه واقع بين مرتبتين مهمّتين
لعلاقة الإنسان مع الله، والنّاس، بعد الاستجابة لله، وقبول الإسلام: إقامة
الصلاة، وإعانة النّاس (إعطاء الزكاة)([44])، لم يرد
بجملة فعلية، أي أن يكون الأمر حدثاً يقع أحياناً، بل هذا هو طريق الأمّة
الإسلامية، ولا يوجده غيره، ليس حدثاً، بل هو حركة دائمة من غير توقّف. الأمّة
الإسلامية إنّما تكون أمّةً إسلاميةً، عندما يكون أمرها بالشوری، إلى تلك الثلاثين
سنة ـ أي بعد وفاة النبي حتّى نهاية خلافة الحسن ـ، ولدينا الحديث ـ أي يذكره ـ
يراه النبــيُ (صلى الله عليه وسلم) صحيحاً، ثم بعده يراه حكماً باطلاً
وجائراً"([45]).
تری هنا أنه يعتمد علی هذا الحديث الذي يتحدّث
عن تاريخ السلطة الإسلامية، ومراحلها، والتي تبدأ بداية بالنبوّة، ثم الخلافة علی
منهاج النبوّة، ثم تكون ملكيّة، ثم استبدادية، ثم في النهاية تعود إلى الخلافة علی
منهاج النبوّة([46]).
فهو يقبل هذا الحديث؛ لأنه يتّفق مع القواعد
القرآنية العامة، ومنها حكم الشوری.
إلا أن لديه كلاماً خاصاً حول قضية
الديمقراطية، فهو لا يرفضها بالكلية، بحيث يراها ـ كما يراه
البعض ـ كفراً وخروجاً عن الدين.
هو في الحاشية الثالثة عشرة علی كتاب (أولويات
الحركة الإسلامية) الصفحة (155)، وفي السطر (۱۳)، علی
جملة (حتّی التشـريعية) يقول: "إذا كان الحكم لغير الإسلام، فالديمقراطية
السياسية خيرٌ. وإذا حَكَمَ الإسلامُ الحقّ، فله أحسنُ وأعدلُ الأسس، ويأخُذُ من
الديمقراطية، وغيرِها، كلَّ ما فيه خير الناس أيضاً. إذن، فلا مبرّر للخوف منها
بحال"([47]).
هذا هو الفهم الذي يجب أن يتمتّع به المجتهد ــ
كما يذكره الإمام ابن القيم ــ، وهو: فهم الواجب، وفهم الظروف والواقع، لا كأشخاص
عديمي العلم، والجهّال الذين يطلقون –
بتهوّر- حكم الكفر المطلق علی الديمقراطية، وعلى كلّ شيء جديد!
لو أردنا أن نعرف بدقّة مصطلح (الفقه)، لكي
نعرفه جيداً، نستطيع أن نقول: إن الفقه هو استنباط عملية عقلية مشتركة بين عناصر
ثلاثة: (النص، الفقيه أو المجتهد، الأرضيّة والظروف)، فعلاقة الفقيه مع النصّ هي
(الاستنطاق والاستنباط)، وعلاقته مع الواقع والأرضيّة هي (الفهم والتحديد). وكذلك
علاقة النصّ مع الأرضية والواقع هي (التوجيه والعلاج).
والعالم الكبير الإمام ابن القيم، أشار إلى هذه
العملية العقلية، قبل مئات السنين، حيث يفيد بأن الفقيه الحقيقي هو من يمزج
(الواجب)، وهو النص، مع (الواقع)، أيْ: الظروف، فيعطي حكم النصّ لهذه الظروف، ولا
يجعل بينهما العداوة"([48]).
المثال
الثاني:
فيما يتعلّق بجهده وسعيه لإزالة الفرق بين الطبقات، وإقامة العدل الاجتماعي، يقول
مفتي زاده: "من أهمّ الرسالات التي تكلّفها الإسلام، هي إزالة الفروق
والامتيازات الطبقية؛ يجب أن يُشاهدَ القرآن،ُ والحياةُ العملية للنبــي (صلى الله
عليه وسلم)، وأن تُنظر علاقته مع الناس؛ لكي يظهر بوضوح اختلاف نمط حياته، مقارنة
بشياطين اليوم. وكان من أهمّ جهودي، مواجهتي الدائمة تجاه مناظر الامتيازات
المختلفة؛ مرّات كثيرة، لكي لا أسمح للنّاس بتقبيل يدي، واجهت الشدّة والعنت، بقصد
منع هذا الفعل، أحاول إبعادهم عن يدي، هذا النوع من تقبيل اليد، أدخله الملالي
وشيوخ الطريقة في الحياة الإسلامية. فقد قال حضرة النبـي (صلى الله عليه وسلم)
بصراحة: هذه الهيئة، هي هيئة الملوك، ولا تصحّ لي. وقال أيضاً: عندما أدخل، لا
تقوموا لي تكريماً. وقد أبطل جميع هذه الحالات والآداب الملكية.
الطريق الوحيد لخلاص النّاس، هو الرجوع إلى
القرآن، وسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم). يوجد في القرآن إرشادات التوحيد لحياة
أفضل، وبعيداً عن أيّ نوع من أنواع الشرك. ولمعرفة الحالة الصحيحة للحياة ـ فضلاً
عن إرشادات التوحيد ـ فإنّ النظر في سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والتعمّق
في تعامله مع النّاس، يستطيع أن يعرّفنا بنمط حياة أفضل. وكان من أبسط خلق الرسول (صلى
الله عليه وسلم) هو: أنه عندما كان يجيء
إلى مجلس، كان يجلس في أيّ مكان فارغ، ولو كان في مكان الأحذية. وقد اعتاد النّاس
علی هذه العادة للنبـي (صلى الله عليه وسلم)"([49]).
وكذلك هنا: يرى أن السيرة العملية للنبــيّ،
التي هي جزء مهم من مجموع سنّته (صلى الله عليه وسلم)، لا بدّ أن تـــتخذ، مع
القرآن، منهجاً للحياة، وتطبّق بمراعاة تلك الضوابط التي وضعها لتلقّي الحديث.
لا شك أن مفتي زاده واحد من المفكرين والمنظرين
الإسلاميين النادرين، ركّز جميع حركاته ونشاطاته، ونظره وفكره، على بناء المساواة
بين المسلمين، ومكافحة الطبقيّة، والامتيازات الباطلة.
هو يتحدّث عن هذا الموضوع كثيراً، ويری أن
مكافحة الطبقيّة، وإقامة العدل، من أهمّ أصول الإسلام التشريعية، كما في الحاشية (۱٤)
علی (أولويات الحركة الإسلامية)، الصفحة (۱٥٥)،
السطر (۱۷)، علی جملة: "وأصوله المحكمات"،
يقول: "أهمّ أصول الإسلام التشریعیة: إقامة القسط، بنفي كلّ امتیازاتٍ
معنویةٍ ومادیةٍ في الحقوق، أيْ الاستكبار والإتراف"([50]).
كان مفتي زاده يری: أن الوصول إلى هذه الحالة،
هو مقصد الإسلام، وغايته. وللوصول إلى هذه الغاية، يجب علی الزعيم الدينـي، أن
تنزل معيشة حياته من الحدّ المتوسط، وأن يعيش في مستوی الفقراء.
في موضع آخر، يعود مفتي زاده إلى هذا المقصد
الاقتصادي المهمّ، ويقول: "هذا - أيْ المعيشة المتوسطة (إقامة القسط) - هو
غاية الإسلام، وأمنيّته، التي يجب أن تبدأ من أوّل يوم بهذه الغاية؛ فالذي يعتبر
نفسه مرشداً دينياً، ويهدي الناس إلى الدين، عليه أن يبدأ بنفسه:
1.
معنوياً: العلوّ
والزيادة، بأن لا يبيح لنفسه امتياز مشط.
2.
مادياً: من حيث
المالية؛ الطعام واللباس والمال والحال، بأن لا يعيش بأفضل من الحدّ الوسط لاقتصاد
مجتمعه (الطبقات المتوسطة).
هذا الحدّ الوسط للحياة المعيشية كثير بالنسبة
لزعيم، ويجب أن يعيش كالطبقات المسكينة والمتدنيّة في مجتمعه، كالفقراء، هذا هو
معنی (القسط).
من أوّل يوم من أيّام الانتفاضة والقيام والحركة،
يجب أن يبدأ هذا القائد بنفسه؛ لكي يستطيع بعد ذلك القيام بتزكية النّاس، وتربيتهم
تدريجاً، حسب هذه الغايات والمقاصد، حتّى يكون قادراً، حين يستلم مقاليد الحكم،
علی إقامة القسط بكفاءة.
وواضح أن هذا - أي المعيشة المتوسطة (إقامة
القسط) - يتغيّر حسب المكان والزمان، فاختراع علم الحاسوب (الكومبيوتر) - في هذا
العصـر، مثلاً - مساعد جداً، للقيام بهذه الأعمال بشكل أسهل.
مثلاً: (قطع يد السارق، وجلد شارب الخمر)، هل
كان يقام به في بداية الإسلام، وأيّامه الأولی؟ واضح لم يكن كذلك.
إقامة القسط، ذلك المفهوم المتعلّق بالقائد،
هو إقامة القسط علی نفسه، ماديّاً ومعنويّاً، حتّی تأتي الشعائر والعبادات شيئاً
فشيئاً، وتكون هيئة الصلاة بشكل عام معلومة، وتأتي الزكاة إلى الساحة لتنظيم
الاقتصاد"([51]).
لكن الفرق بين مفتي زاده، وبين معاصـريه؛ من
زعماء الدين والقادة الإسلاميين، هو: أنه لم يكن يعمل على هذه القضية بنظريات
وشعارات برّاقة فحسب، بل كان يجسّمه في حياته بشكل عملي، وهو نفسه كان مثالاً
حيّاً، ونموذجاً نادراً، لهذه الحالة!.
لذلك، فإن الأستاذ الشهيد (فاروق فرساد)،
التلميذ المختار، والشخص القريب، ومعاون مفتي زاده([52])، يجيب
في أحد أشرطته المصوّرة، على هذا السؤال:
بأيّ دليل، نحن نتّبع كاك أحمد، وكنّا رفاقه في هذه القافلة؟.
يستدلّ
بهاتين الآيتين، حينما يتحدّث عن أصول الدعوة:
۱.[فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ
هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ](الزمر:17-18).
يقول كاك فاروق: "أي البشری لأناس ليسوا
من هذا النوع، إذ يصمّون آذانهم، غير مستعدين لسماع كلام مختلف، بل إحدى صفات عباد
الله المهتدين هي: أنّهم مستعدّون أن يسمعوا كلاماً مختلفاً {يستمعون القول}. إذن،
المجتمع الإسلامي هو: أن يتنوّع فيه الكلام، فإنْ كان كلاماً واحداً، فلا معنی
لـ(يستمعون القول)، فلا بدّ من وجود الكلام المختلف؛ لكي يستطيع الإنسان سماعه،
ويتّبع الأحسن.
ثم يذكر صفات أخری، ليس الاستماع فقط، لماذا
الاستماع؟، لكي يتّبعه الإنسان، لكن يتّبع الأحسن.
ثم يقول: الذين يسمعون الكلام، ويتّبعون أحسنه،
هم الذين هداهم الله، وهم أصحاب العقول غير المبتلية بالأهواء.
۲. في موضع
آخر يفسّر القرآن أحسن القول، ولم يفوّضه إلينا، بأنْ نسمّي أيّ قول رغبناه بأحسن
القول؛ فإن أحسن القول له ضوابط وقواعد. يذكر القرآن قائل أحسن الكلام وصفاته؛ لكي
نعلم: من هو صاحب أحسن القول الذي يصلح أن نتّبعه، يقول: [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا
وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ](فصلت:33).
فيذكر
ثلاث صفات:
الشرط الأوّل: هو الدعوة إلى الله. إذن،
في أيّ مجتمع، دعا فرد إلى نفسه، أو إلى حزبه، أو لكي يصوّتوا له، أو لكي يحصل علی
القوّة والسلطة، أو لكي يجعل النّاس تحت ولايته، فيصعد عليهم كالدرج، فهؤلاء ليس
واحد منهم صاحب أحسن القول.
الشرط الثاني: هذا الشخص، ليس متكلّماً
وداعياً فحسب، بل يعمل الصالحات أيضاً {وعمل صالحاً}، أي: يعمل أوّلاً بكلّ خير
يدعو الناس إليه، فإلى هنا ربّما يوجد كثير منهم في المجتمع.
الشرط
الثالث:
هذا الأمر يتطلّب رجالاً. الدعوة إلى الله ممكنة، والعمل بالصالحات ممكن، لكن
الشرط الثالث يقول: {وقال إنني من المسلمين}، ماذا يعني؟.
أي: يقول القائل: إن العبد وإن أمضى عمره في
هاتين المرتبتين: (دعا إلى الله) و(عمل صالحاً)، فلستُ شيئاً إلا كفرد مسلم مثلكم،
لا امتياز لي، ولا قمّة، وقوّة، ولا نَعمْ فداك، ولا أريد منكم طاعة وطاقة.
فالآن، أقول بإخلاص ودون تعصّب، تعالوا إلى
نتيجة ذلك، (بيني وبين الله) و(بينكم وبين الله): هل كان كاك أحمد يدعو لله، أو
لنفسه؟ هل كان له عمل صالح، أم لا؟. وهل قال (إنني من المسلمين) بكلّ وجوده؟، أو
تمتّع بامتياز واحد؟، الأمر مختلف: هناك من لا يريد الامتياز، لكن إن أعطيته
يقبله، لكن كاك أحمد كان لا يرضی أن تعطيه"([53]).
هنا أودّ أن أشير إلى بعض الأمثلة الحيّة
لتواضع مفتي زاده، وعدم قبوله لأيّ مجاملة، وتوصيف، وامتياز لنفسه؛ لكي نعلم كيف
يكون نموذج الاقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم):
۱. في كتاب:
(كيف وأين نبدأ)، وهو حوار مع مفتي زاده، جاء في السؤال الأول: كاك أحمد، ولو
نزاحم وقتك المبارك، نحتاج في بعض المسائل إلى التحليل والتبيين...إلخ.
"يقول مفتي زاده في الجواب: أخي الحبيب،
قبل أن أجيب عن سؤالك، فيما يتعلّق بتلك الصفة التي استخدمتها لوقتي، أودّ التنبيه
والإشارة: قلتَ في الجملة (وقتك المبارك)، (أزاحم وقتك المبارك)، هذه الجملة ليست
جملة مستقيمة، الوقت في نفسه هو عبور الزمان ومروره، بالنسبة للأشياء، خصوصاً
المخلوقات الحيّة، وخصوصاً الإنسان، ليس للوقت في ذاته أيّ أهمية، وليس له صعود
ولا هبوط مع أيّ إنسان، يظهر ذلك حسب كيفيّة اغتنام الإنسان من هذا الوقت"([54]).
فتبيّن هنا، أنه غير مستعد حتى لقبول هذا
النوع من المجاملة.
ثلاثة أمثلة أخری، يذكرها كاك فاروق فرساد،
خلاصتها هي:
"۲.كنّا في
(طهران)، كان كاك أحمد مريضاً جدّاً، وقد دُعيت مجموعة إلى مناسبة المولد النبوي.
علی أيّ حال، عندما بدأ وقت المولد، كلّف نفسه بالمجيء، فلما أتى قال له أحد
الإخوة: لنفرش تحتك بطانيّة، لكن كاك أحمد لم يقبله، وعندما أصرَّ، قال له: إذا
كان الشخص مريضاً يجب عليه أن يذهب ليستريح، لكنّه عندما يخالط النّاس، يجب أن
يشبه النّاس. حتّی إنّه لم يرضَ أن يقبل امتياز بطانيّة، مع أن ذلك ليس امتيازاً
لمريض مثله. فكيف يقال (إنني من المسلمين)، ومن قاله بهذا النوع في مجتمعنا؟.
۳. عام (٥۹
ق. ش) أنا مع كاك (حمه زيان)، وكاك أحمد، كنّا في طهران، كان لدينا سيارة، فقال
لي: شغّل السيارة، أريد أن أذهب إلى بيت عمّي. عندما جاء، فتحتُ له باب السيارة،
فقال: أغلق الباب، واذهب، واجلس، ثم أمال برأسه إلى رأسي، وقال: أتظنّ إنني لا
أعلم كيف أفتح الباب؟!.
فهل كان يعمل بخلاف قاعدة استنبطها لنا بنفسه
من القرآن أو السنّة، وبيّنها؟.
٤. كتبت شيئاً، أرسلته إلى خدمته لتقييمه،
وورد فيه: سألنا كاك أحمد، و(تفضل) هو بذلك. فوضع دائرة حول الكلمة ـ وكأنما
استهزئ به ـ كاتباً: (بل أنت تفضّلت!)([55]).
المثال
الثالث:
يقول مفتي زاده، في إحدی رسائله إلى مجلس الشوری: "أوّل أثر من آثار التقوی:
هو خدمة النّاس، لأن خير النّاس أنفعهم للنّاس([56])،
فالتقوی ـ بدليل وجود آثار من هذا النوع، ومع هذه القواعد والمراتب ـ صارت سبباً
للكرامة عند الله تعالى. إذن، هذه الخيريّة للشخص الأنفع، هي مثل هذه الأكرميّة
للشخص الذي يكون أتقی"([57]).
فعلی هذا الأساس يحصـر مفتي زاده واجبات ورسالات
أتباعه، وأصحابه، في هذين الأمرين، كما يقول في الرسالة الأولی لمجلس الشوری:
"قيمة أيّ واحد منكم، ووزنه، يكون بالإخلاص الذي لديكم. يكوّن فيكم التقوی.
ويكون بقدر نفعكم لأناس مجتمعكم؛ المحرومين والمظلومين والمنكوبين"([58]).
المثال الرابع: وكذلك في الرسالة
الثالثة لمجلس الشوری، يقول: "محبّة الناس حسب درجة إيمان الإنسان واعتقاده،
وحسب الإحسان إلى الغير، لها درجات وصور مختلفة؛ من حبّ أعضاء الأسرة، إلى جميع
الناس، والدرجة المتوسطة هي حبّ المسلمين. وبدل تبيين قيمة هذا الحبّ، وثمنه،
وآثاره المهمّة، أكتفي بالإتيان بهذا الحديث: (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)([59]). فهذه
الجملة لي ولكم ـ زاد الله إيماننا وإخلاصنا جميعنا ـ كافية. وبعد بيان هذه
القاعدة الإيمانية الصالحة، نأتي بقاعدة مهمّة أخری عن الإسلام: (الـمُسْلِمُ مَنْ
سَلَمَ الـمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)([60])، تفضّل
الله بعونه لحفظ إيماننا وإسلامنا أكثر. فدليل الإيمان هو حبّ المسلمين، ودليل
الإسلام هو كفّ الأذی عن المسلمين؛ باليد واللسان"([61]).
لذلك،
فإنّ ربط رفض السنّة، وأحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، بالشيخ مفتي زاده، تهمة
ومعصية، يردّها بنفسه وبكتاباته ومؤلفاته وجميع حياته.
فهذا
هو ـ غير البيانات السابقة ـ يقول بوضوح:
"ثمن مكتوباتي وقيمتها ـ أشعاراً
وقصائد ـ هو أنها قطرات مقتبسة من المصادر الواهبة للحياة من القرآن والسنّة"([62]).
وثمّة أمثلة أخری كثيرة من هذا النوع، لكن لكي
لا نطوِّل أكثر، نكتفي بهذا القدر.
وصلى الله وسلَّم على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين،
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
خلاصة
البحث
نستطيع أن نعرض باختصار، في عدّة نقاط، نتيجة
هذا البحث عن نظرة (السبحاني ومفتي زاده) للسنّة:
الأوّل: خلاصة نظر السبحاني:
1.
السبحاني قد قام بتجديدات كبيرة في العلوم الشرعية عموماً، وعلم الحديث خصوصاً.
وهذا البحث جهد لعرض بعض هذه التجديدات، ويستدعي الموضوع بحثاً أكثر.
2. ظهر
في هذا البحث أن السبحاني يرجع في كلّ مواقفه وتفكيراته، وفي جميع أساليب الحياة،
وبالخصوص في الحديث وعلومه، الى المصدر الأساس، وهو القرآن.
3.
السبحاني يشكّ في كلّ حديث، ويری أنه لا يمكن الاحتجاج به، إلا بالرجوع إلى
القرآن، وأنّنا لا نحتاج لفهم القرآن إلى أي شيء آخر من خارجه أبداً، لأن القرآن
نظام كامل ومتكامل.
4. لفهم
أصول الحديث، بذل جهداً كبيراً حتى يجعل القرآن معياراً وميزاناً، وفي النتيجة وصل
إلى تصحيح كثير من هذه المفاهيم بمعيار القرآن، مثل: الضبط، والعدالة، وعصمة
الصحابة... إلخ.
5. الفرق
بين السبحاني، وبين كثير من العلماء، هو: أنه عندما يتيقّن - عن طريق القرآن - من
صحّة مفهوم، أو بطلانه، يلتزم به، ولا يستعدّ أن يتركه لأيّ سبب أو مبرّر. ومن أجل
ذلك، لم يقبل كثيراً من القواعد التي أجمع عليها العلماء، ولم يقبل جملة من
الأحاديث الصحيحة من حيث السند.
6. يری
أن القرآن ذكر جميع مفاهيم العقيدة، وأنّ ما جاء في الأحاديث مكرّر لما في القرآن.
7. يعتقد
أن حديث الآحاد ـ وإن كان ظنيّاً ـ فهو حجّة، يجب العمل به في القضايا الشرعية
الجزئية.
الثاني: خلاصة نظر مفتي زاده:
1. يعتقد
مفتي زاده أن مصدر مشاكل الأمّة الإسلامية هو البعد عن القرآن، وعلاج هذه المشكلة
هو في الرجوع إلى القرآن فقط.
2. القرآن
في نظر مفتي زاده هو المصدر الأوّل لتوجيه جميع أبعاد الحياة، ومعالمها، والسنّة
هي المصدر الثاني.
3. الضابط
الرئيس ـ عند مفتي زاده ـ لقبول السنّة هو موافقتها لأصول القرآن، وقواعده. وهو
يرفض أيّ حديث لم يوافقه، أو تناقض معه، أيّاً كان نوع سنده. لكن إذا وافقه، يتمّ
البدء بالضوابط الأخری، كالبحث في السند.
4. مصدر
قضايا التصوّر والعقيدة، عند مفتي زاده، هو القرآن وحده. وإن أتت السنّة بشيء، فهو
لتأكيد ما ورد في القرآن.
5. يری
مفتي زاده أن سنّة الآحاد حجّة في مجال الأحكام الجزئية، ويجب أن يعمل بها، وهو
نفس رأي السبحاني.
6. يسمّي
مفتي زاده بدعة الاكتفاء بالقرآن، والإعراض عن السنّة، بـالدوّامة، ويرفضها رفضاً،
ويخصّص جزءاً من وقته للجواب علی الذين أغرقوا في هذه الدوّامة.
7. يری
مفتي زاده أن تعليم النبـي (صلى الله عليه وسلم) لم يكن عن طريق القرآن فحسب، بل
ثمّة عدّة طرق لتعليمه بحكم الله، منها: حادثة الإسراء والمعراج، التي أعطيت فيها
من المعرفة أكثر من الثلاث والعشرين سنة الماضية.
8. يهتمُّ
مفتي زاده اهتماماً أشدّ بالسنّة العملية، وسيرة النبـي (صلى الله عليه وسلم).
ويری أن هذا النوع هو أصل السنّة القولية. ويرى كذلك أن الطريق الصحيح للوصول إلى
حقيقة السيرة، ووقائعها، هو: قراءة عميقة ودائمة للتوصّل إلى جوهر أيّ واقعة،
ومضمونها.
([46]) روى أحمد بسنده عن حذيفة قال: قَالَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ: تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ
يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى
مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ
يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا
عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا
شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ
اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ
تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ. قَالَ حَبِيبٌ:
فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ
بْنِ بَشِيرٍ فِي صَحَابَتِهِ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ
أُذَكِّرُهُ إِيَّاهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي عُمَرَ، بَعْدَ الْمُلْكِ الْعَضِّ وَالْجَبْرِيَّةِ،
فَأُدْخِلَ كِتَابِي عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَسُرَّ بِهِ،
وَأَعْجَبَهُ. مسند أحمد: (30/355-356)، (قال مخرجوه: إسناده حسن. وحسّنه الألباني
في مشكاة المصابيح: (3/1479).
([48]) قال ابن القيم: لا
يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى والحكم بالحقّ، إلا بنوعين من الفهم: أحدهما:
فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات،
حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله، الذي
حكم به في كتابه، أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن
بذل جهده، واستفرغ وسعه، في ذلك، لم يعدم أجرين، أو أجراً. فالعالم من يتوصّل
بمعرفة الواقع، والتفقّه فيه، إلى معرفة حكم الله ورسوله. (إعلام الموقعين عن رب
العالمين: 1/69). وقال أيضاً: فها هنا نوعان من الفقه، لا بدّ للحاكم منهما: فقه
في أحكام الحوادث الكليّة، وفقه في نفس الواقع، وأحوال النّاس، يميّز به بين
الصادق والكاذب، والمحقّ والمبطل. ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من
الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفاً للواقع. (الطرق الحكمية لابن القيم: ص4).
منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق