د. سنان أحمد
يؤمن المسلمون عامّة، أن المصدر الثاني للشـريعة الإسلامية وتعاليم الدين،
ما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، من أحاديث وأفعال، بذل رجال أنفسهم،
واشتغلوا بجهود كبيرة واستثنائية في حفظها، والتحقّق من مصداقيتها. ولكنها مع ذلك
لا ترقى إلى درجة مصداقية القرآن الكريم، لأسباب عديدة لسنا بصددها، فالقرآن
الكريم نزلت آية بحفظه ولا خلاف حولها، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ولا اجتهادات في هذا المجال.
والحقيقة التي نراها، أن مصداقية بعض الأحاديث من عدمها لا يقلّل من قيمة
أمّهات كتب الحديث، وخصوصاً البخاري ومسلم، خصوصاً تلك الأحاديث ذات الصبغة
السياسية، ونبوءات آخر الأيام، وتفاصيلها، والتي لا يعيرها القرآن الكريم أدنى
اهتمام، ويؤكّد دائماً على وقوع القيامة التي لا تأتي إلا بغتةً، وكذلك لأنّ آخر
الأيام، ويوم القيامة بالذات، ليست له صبغة سياسية في القرآن، بعودة منتظر يعيد
الأمور لنصابها، ويقيم دولة العدل الإلهي، كما يعتقد أهل الكتاب، سواءً كما جاء في
التوراة أو في الأناجيل، وإنما هو اليوم الذي يقوم فيه الخلائق لربّ العالمين،
لينالوا ما يستحقّون عملاً وإيماناً.
بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت هناك دوافع للغلاة والزنادقة والشعوبيين لتمرير
أفكارهم ومعتقداتهم لتشويه الدين، ناهيك عن الإسرائيليات التي دخلت عن عمد، وبعض
الأحيان نتيجة احتكاك المسلمين باليهود والنصارى، وعبر بعض أهل الكتاب الذين
أسلموا، ككعب الأحبار، وهو أشهر حبر يهودي أعلن إسلامه زمن الخليفة عمر الفاروق (رضي
الله عنه). ولذلك لا نرى مانعاً أن تستمر الدراسات في هذا المجال، خصوصاً بما يخصّ
مصداقية بعض الأحاديث، إذا كانت بحسن نيّة ولغرض الإصلاح، والانتباه للدراسات التي
تتناول التجريح والإساءة لأحاديث الرسول، من خلال الإساءة لكتب الحديث، فيكون
الهدف مزدوجاً.
وفي هذا المجال، نعتقد أن دراسات متون هذه الأحاديث، من ناحية المحتوى
واللغة، لا تقلّ أهمّية عن دراسات الأسانيد، وما يتعلّق بها عن رواة الحديث، وسيرة
حياة رجال الرواية، وما يسمّى بعلم الرجال، وظهور علم مصطلح الحديث، وعلم التراجم،
والتي اعتنى بها رجال الحديث، واهتمّوا بها اهتماماً بالغاً، وعلى أساسها صنّفوا
الأحاديث إلى موضوع وضعيف وحسن وصحيح.
إن التغاضـي عن (التناقضات) في متون بعض الأحاديث، ذات الهدف الواحد، مسألة
لا يمكن أن يكون مصدرها الرسول محمّد (صلى الله عليه وسلم)، وهو المعصوم عصمة
دينية مطلقة، ولم يكن -عليه السلام- باحثاً عن إطراء ومديح، لأنّ الله تعالى قال
بحقّه: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقد قال عن نفسه: (لا تطروني كما
أطرت النصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) (البخاري، وأحمد).
وقد اخترنا، في هذا المجال، مسألة فتنة المسيح الدجال، كنموذج للمسائل التي
كثرت فيها الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، بتعارض لا مثيل له،
وتناقضات حاشا للرسول (صلى الله عليه وسلم) أن ينطق بها. وبدل نقدها، راح البعض
يحاول التوفيق بين تناقضاتها، فوقعوا في تناقضات وقصص غريبة أضرّت بالفكر الديني
الإسلامي ضرراً بالغاً.
ونحن نؤمن بمسألة المسيح الدجال، كما ذكرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في
الحديث: (من حفظ عشـر آيات من أوّل سورة الكهف عُصم من فتنة الدجّال) (مسلم ،
أحمد، أبو داؤد، النسائي، الترمذي)، وبدون أن يشير (صلى الله عليه وسلم) إلى
ماهيّة الفتنة، لأنّها من أمور الغيب.
لقد بلغ الإيغال بقدرة الدجّال، وجبروته، حدّ إعطائه قدرات إلهية، ومعجزات
خارقة، لم تتوفر حتّى للأنبياء -عليهم السلام-؛ كإحياء الموتى، وإخراج الكنوز من
الأرض، ومسيرة الملائكة معه، ويبعث الله معه شياطين تكلّم الناس(أحمد، والحاكم)،
وصفات الحمار الذي يركبه، بشكل في منتهى الغرابة.
وفي غمرة ادّعائه بالألوهية، فقد جاء (... إنّه أعور، وإنّ الله ليس
بأعور)، (مسلم والبخاري)، وفي النصّ تجاوز على المعتقد الإسلامي بعدم تجسيد الخالق
-جلّ شأنه-، الذي ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير.
إن الذين أوغلوا في تفاصيل أحداث آخر الأيام، قد ابتعدوا عن المبدأ
القرآني، الذي يأمر بعدم الخوض في تفاصيل أحداث لا تؤدّي إلا إلى التخبّط في
العقيدة، وذلك لتشعّب التفاصيل، وفي حالة انتقالها بين الرواة تتحوّل إلى قصص
غريبة، تزداد سوءاً وابتعاداً عن المصداقية. يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن
تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّـهُ
عَنْهَا وَاللَّـهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ. قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ
أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}.
أي قد تؤدّي إلى الكفر، وهذا المبدأ من دعامات القرآن في اختلاف قصص
القرآن، التي نادراً ما تتحدّث عن تفاصيل لا تقدّم ولا تؤخّر، عن قصص التوراة
والأناجيل.
أمّا القصة الأولى: فقد وردت في حديث (الجساسة)، المنسوب لتميم الداريّ،
الذي كان نصرانياً وأسلم، وقد رواه أحمد ومسلم وأبو داؤد والترمذي، وخلاصته أن
تميماً الداريّ ركب البحر مع أصحابه، ثم تاه إلى أن وصلوا إلى جزيرة، فرأوا دابّة
كثيفة الشعر لا يعرف قُبلها من دبرها، تُعرف نفسها بأنها (الجسّاسة)، فتأخذهم إلى
(َدَيْر)، فيه إنسان عظيم الخلقة مكبّل بالأغلال، ثم يبدأ بإلقاء أسئلة عليهم،
وبعدها يُعقّب بقوله: "إني مخبركم أني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في
الخروج ..."، ولم يذكر تميم في قصته بأنه أعور، أو مكتوب بين عينيه (كافر).
ويدّعي تميم بأنّه عندما رجع إلى المدينة قصّ الحادثة على الرسول (صلى الله عليه
وسلم)، فيخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أصحابه: "أعجبني حديث تميم أنّه
وافق الذي كنت أحدّثكم عنه ...". وهي جملة في غاية الغرابة، أن يحتاج الرسول (صلى
الله عليه وسلم)، لشهادة تصديق لأحاديثه من أيّ شخص كان!.
لقد شاع أدب القصص، خصوصاً بعد الفتنة الكبرى، وتصدّى له كثير من الصحابة.
وينقل (إسرائيل ولفنسون)، عن كتاب (الجامع في الحديث) لعبد الله بن وهب، أن مالك
بن أنس، أن تميم الداري قال لعمر (رضي الله عنه): دعني أدعو وأقرأ وأقصّ وأذكّر
النّاس. فقال عمر (رضي الله عنه): فأعاقبك عليه. فقال (أي عمر - رض)، انه يريد ان
يقول أنا تميم الداري فأعرفوني. ثم ضربه عثمان (رضي الله عنه) على القصص في
المسجد، وكان يقصّ بعد المغرب.
وفي رواية عمر بن دينار، وفي نفس المصدر، أن تميم الداريّ استأذن عمر (رضي
الله عنه)، في أن يقصّ، فقال أي عمر (رضي الله عنه): إن شئتُ أذنت لك، وهو الذبح،
وأشار بيده إلى حلقه!.
وخلاصة المسألة أنه لم يكن مسموحاً بالقصص منذ أيام الخلافة الراشدة، من
قبل الفقهاء، وبعض الخلفاء، خصوصاً في عهد عمر بن عبد العزيز، ورغم ذلك انتشرت
كالنار في الهشيم، وشاعت شيوعاً عظيماً، لأن هذا النوع من الأدب كان مرغوباً من
قبل الطبقات الشعبية، ورغم أن الفقهاء قد قالوا بأن أكذب الناس القُصّاص.
وأمّا الحديث الآخر، والأكثر شهرة، والمنسوب للرسول (صلى الله عليه وسلم)،
فهو حديث – ابن صياد – (البخاري 6808)، والذي لا يوجد أدنى تطابق بينه وبين حديث –
الجسّاسة-، وخلاصته أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) شكّ في صبيّ يهوديّ يلعب مع
أقرانه بكونه الدجّال، فأخذ يراقبه متخفّياً، أي الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع
عمر (رضي الله عنه). ولا يقدّم الحديث لماذا شكّ الرسول بهذا الصبيّ اليهوديّ، رغم
أنّه ليس أعوراً، ولا مكتوب بين عينيه (كافر)! ثمّ يدور حوار بينه وبين الرسول (صلى
الله عليه وسلم)، حيث يطلب منه الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن يقرّ بأنّه مبعوث
من الله، فيجاوبه هذا الصبيّ بطلب مماثل. ويطلب عمر (رضي الله عنه) الإذن من
الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن يسمح له بضـرب عنقه، وهي الجملة التي نسمعها عن
عمر (رضي الله عنه) في كثير من الروايات، لتقديمه كإنسان متسرّع ومتهوّر. والأغرب
من كل ذلك، أن عمر (رضي الله عنه) كان يحلف أنّه الدجّال، بحضـرة الرسول (صلى الله
عليه وسلم)، والصحابة، ولم ينكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ذلك!!، أي إن الرسول (صلى
الله عليه وسلم) بقي على شكّه في هذا الصبيّ، بينما كان عمر (رضي الله عنه)
متأكّداً من أنّه الدجّال. ولا ندري كيف مرّ هذا التناقض على أهل الحديث في تعارض
اعتقاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) مع ما يعتقده عمر (رضي الله عنه)؟!
ولتكتمل القصة حول عمر (رضي الله عنه)، تقول رواية مكمّلة للحديث المنسوب،
أن عبد الله بن عمر لقي ابن صائد في بعض طرق المدينة، بعد وفاة الرسول (صلى الله
عليه وسلم)، فقال له قولاً أغضبه فانتفخ، حتّى ملأ السكّة، فدخل ابن عمر على أخته
حفصة (رضي الله عنها)، فقالت: "ما أردت من ابن صائد، أما علمت أن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) قال إنّما يخرج من غضبة يغضبها"! (مسلم، 2932).
علماً أن مسألة الانتفاخ تسلّلت إلى الفكر الصوفي، حتّى انطبقت على رواية
عن الحلّاج.
واستكمالاً لهذا النهج، يقول حديث منسوب للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهو
عن لسان ابن صياد: "أما والله إني لأعلم الآن حيث هو، وأعرف أباه وأمّه. وقيل
له: أيسرّك أنك ذاك الرجل؟، فقال: لو عُرض عليّ ما كرهت".(مسلم 5210). وفي
الحديث إقرار بأنّه هو الدجّال، رغم أن أحاديث وروايات أخرى، تظهر تضايقه من هذه
التهمة، ويقول للصحابة بأن الرسول قال عن الدجّال إنّه كافر، وهو مسلم، وإنّه
عقيم، بينما هو له أولاد، وإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال بأنه لا يدخل مكّة
والمدينة، وهو قد دخلهما!.
لقد حاول بعض كتبة الحديث التوفيق بين هذه الروايات، وكمثال على ذلك ما جاء
به ابن حجر، فقال إن الدجّال بعينه، هو الذي شاهده تميم الداريّ موثّقاً بالسلاسل،
وإن ابن صياد شيطان تبدّى في صورة الدجّال في تلك المدّة، إلى أن توجّه إلى
(أصبهان)، بعد الفتوحات الإسلامية لفارس، فاستتر عن قومه، إلى أن تجيء المدّة التي
قدّر الله تعالى خروجه فيها (فتح الباري 13/328).
وهو توفيق لبعض الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، التي تشير
إلى خروجه من (أصبهان)، مع جمع من اليهود، آخر الأيام، وهو ما ترويه بعض الأحاديث
المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم).
ويقع الطبري في فخّ التناقضات، فيدّعي أن ابن صياد كان يقاتل في صفوف
المسلمين، وكانوا يسمّونه الدجّال، عند وصولهم إلى (نهاوند)، والتي كانت آخر معقل
للإمبراطورية الفارسية، وأنه ربّما اختفى هناك!.
ويرجع (فان فلوتن) هذه الأحاديث المنسوبة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي
على شكل قصص ليس بينها رابط، لتأثيرات اليهود والنصارى على أدب القصص الإسلامي.
فحديث (الجسّاسة) عن نصراني، ومن الممكن أن يكون لكعب الأحبار - كما ذكرنا - ووهب
بن منبه، وغيرهم، من اليهود الذين أسلموا، وكان لهم باع طويل في تعاليم التوراة
والتلمود، تأثير كبير في هذا المجال. فابن صياد شخصيّته يهودية، وكانت الناس ترتعب
منه، ولا ندري إن كانت زراعة الرعب في نفوس المسلمين أمراً مقصوداً، أم مجرّد
إشاعة للتشويق والإثارة في نفوس متعطّشة لهذا النوع من الأدب؟!
أسئلة تحتاج إلى بحث بمناهج جديدة، لا تعتمد على الأسانيد فقط، رغم
أهمّيتها القصوى، ففكرنا الإسلامي ليس فكراً جامداً يتوقّف عند حواجز ثابتة.
منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق