مير عقراوي
كاتب بالشؤون الإسلامية والكوردستانية - أمریكا
مدخل:
الكلام عن أمير المؤمنين الإمام عمر بن
الخطاب – رض - ليس سهلاً وعادياً، بل هو صعبٌ من جميع النواحي، وذلك خشية أن لا
يؤدي القلم حقّ ذلك العبقريِّ، بشهادة النبي الأعظم محمد له. فرسول الله محمد –
عليه الصلاة والسلام – قد سبق الجميع وسابقهم في منح الإمام عمر درجة العبقرية،
وهو الأعرف بنفوس صحابته ومجتمعه بشكل عام([1]).
لقد دلَّت قادمات
الأيام على صدق تنبوءِ رسول الله محمد، ومصداقية شهادته العظمى للفاروق عمر، خلال
تصديه لمقام الإمامة والخلافة والحكم بعد أبي بكر الصديق – رض -، حيث تمكن من
قيادة المسلمين والحكم
الإسلامي، على المستويات الدينية والسياسية والإدارية
والعسكرية والاجتماعية وغيرها، بكل عبقرية وحنكة وجدارةٍ ودهاء وأمانة ونزاهة
وإخلاص وتواضع وتقوىً وسياسة تتصف بالعدالة والقسط والإنصاف. فعلى صعيد العدل قدِ
اقترن العدل في بقية العصور للتاريخ الإسلامي، وحتى عصـرنا الحاضـر، بالإمام عمر،
وذلك كأبرز حاكم عادل، وأبرز قائد داهية، وكأبرز زعيم سياسيٍّ دقيق الرؤية والفكر
في السياسة والإدارة والحكم والحكومة، وكأبرز إمام وخليفة امتاز بالتقوى والتواضع
والزهد اللامحدود، وهو الرأس الأعظم، والقائد الأعظم، لأعظم دولة عظمى في العالم
يومها، وما كان عليه من الصدارة والرئاسة والقيادة والإمامة العظمى لأعظم منصب
سياسيٍّ لدولة مترامية الأطراف.
لهذا كله ليس سهلاً
الكتابة - كما ذكرت ذلك في البداية - عن شخصية عبقرية عملاقة عظيمة بقامة عمر
الشامخة السامقة والمؤثرة في مجرى التاريخ كله، مثلما قال العالم والمؤرخ الأمريكي
المعروف (مايكل هارت) في مؤلفه الشهير (المائة الخالدون)([2]). لذا أتمنى أن يكون هذا
البحث المتواضع إضافة جديدة في تاريخ الإمام عمر وشخصيته الجليلة ومكانته العالية
والمؤثرة في التاريخ. أما الذين بخسوا حق الإمام عمر وحقيقته الكبرى، الناصعة
البياض كالثلج، أو الذين تطاولوا عليه، فهم علاوة على تطاولهم وجرأتهم على الكتاب
المبين، ونبيّه الأعظم، وأهل بيته الكرام، لا يضيره شيئاً أبداً ، لأنه أين الثرى
من الثًريَّا..؟
هذا البحث الموجز
سيتناول القضايا والمحاور التالية، عن أهم وأعظم وأقدر شخصية بعد نبي الله الأعظم
محمد، وبعد خليفته أبو بكر الصديق، وهو الإمام عمر بن الخطاب وسياسته وأفكاره في
الإدارة والحكم والحكومة وإنجازاته الكبيرة :
عمر قبل الإسلام، عمر ؛ الإمام – الخليفة ،
عمر والقيادة، عمر والشورى، عمر والقضاء، عمر والشؤون العسكرية، عمر والأوبئة
المعدية، عمر وغير المسلمين من أهل الكتاب، عمر والاجتهاد الشرعي، عمر والزهد
والتواضع، ومن ثم شيءٌ من كلماته القصار التي تشُعُّ منها الحكمة وبعد النظر
..
عمر
قبل الإسلام :
كان عمر من الأشخاص المتعلمين القلائل، فكان
يقرأ ويكتب، وكان ذا شخصية محترمة ورصينة في قومه، في مكة. لهذا كان عمر في
الجاهلية من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة فيما إذا وقعت بينهم حرب، أو بين
غيرهم، بعثوه سفيراً ووفداً للتفاوض وحلِّ الخلاف والإشكال، وهذا يدلُّ على حكمته
وحنكته ودبلوماسيته وقوة حجته التفاوضية .
عمر الإمام –
الخليفة :
تسنم عمر الرئاسة والإمامة العامة لحكومة
الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق [573 – 634] أول خليفة بعد رسول الله محمد – عليه
الصلاة والسلام -، وذلك بوصيَّةٍ رسميةٍ منه، ووافق عليها الصحابة بالإجماع، بمن
كان موصىً عليه فيها. وأوّل عمل قام به عمر في صدر خلافته هو تشكيل مجلس شورىً
صغير، يضم ستة من عظماء الصحابة وكبارهم، في مقدمتهم: علي بن أبي طالب، فكان عمر
يستعين بهم في حكومته، ويستشيرهم في شؤونها وأقدارها، بخاصة في القضايا الحساسة
والمصيرية .
لقد أصاب أبو بكر
الصديق حدسه وظنّه، وصدقت كل الصدق فراسته في عمر بن الخطاب حينما أوصى بأن يلي
أمر الأمّة، ورئاستها، والإمامة العامة بعده، حينما قال: [إذا لقيتُ الله ربِّي
فسائلني، قلتُ: استخلفتُ على أهلك خيرُ أهلك]([3])، مضافاً، وهو الأهم
والأجَلُّ أنه سمع قول رسول الله محمد في حديثه عن عمر واصفاً إيَّاهُ بالعبقريّ،
والعبقريَّةُ هي صفة لا ينالها إلاّ القليل من الناس، وهي قدرة الذكاء الواسع في
إحداث التغيير في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعلمية والفكرية،
ثم الإبداع والتجديد فيها .
علاوة على ذلك، فقد
كان الإمام عمر كثير المشورة والاستشارة بالناس من الرجال والنساء، من الصغار
والكبار، ومن الشباب والشيوخ. وهذا هو أحد الجوانب السياسية اللامعة والهامة لعمر،
الذي كان بعيداً في حكمه وإدارته لشؤون الحكومة والناس عن الفردية والاستبداد
والسلطوية. في هذا الشأن يقول المؤرخ عزالدين ابن أبي الحديد [1190 - 1258]، وهو
معتزلي المذهب، حول الميزة الاستشارية العظيمة - أو الديمقراطية بالمفهوم بالمعاصر
- لعمر : [كان عمر كثير المشاورة، كان يشاور في أمور المسلمين حتى المرأة]([4]).
فهذه الصفة القيِّمة
والممتازة والعالية والحضارية لعمر في المشورة بالناس لأجل شؤونهم وأمورهم،
وتشكيله لمجلس الشورى لحكومته، هي صفة بالغة التقدم والرُقيِّ، قلما أو نادراً ما
وجدت في حاكم خلال الأزمنة التاريخية الماضية، أو حتى في عصرنا هذا، في غالبية بلدان
العالم، بخاصة في العالم الثالث، وربما بشكل أخص في بلدان الشـرق التي تكثر فيها
أنماط من نظم الاستبداد والفردية للحكم والحكومة والقيادة. لذلك فقد وصلت حكومة
الخلافة الراشدة تحت قيادة عمر بن الخطاب وزعامته وإمامته الى أوجها في الرقيِّ
والتقدم والازدهار والقوة والمَنَعَةِ من جميع الجهات، لهذا فهي حقاً تُعتبر
المرحلة التاريخية الذهبية الزاهية العظمى لدولة الخلافة الراشدة
.
ولم تقتصـر شورية
عمر لشأنٍ واحدٍ أو شأنين من القضايا، بل إنها اشتملت جميع القضايا والشؤون التي
تهم الحكم والحكومة والأمة ومصالحها وأمنها واستقرارها، فعلى الجانب العسكري
والحربي نرى عمراً القائد الشوري –الديمقراطي الذي لا يُقرِّرُ من تلقاء نفسه
وحسب، بل إنه اجتمع مع مجلس الشورى ليتداول مع أعضائه أوضاع الجبهتين العسكريتين –
الحربيتين لفارس والروم .
في جبهة الروم نَوَى
الإمام عمر أن يغادر المدينة، حيث عاصمة دولة الخلافة الراشدة العظمى إلى جبهة
القتال ليقودها بنفسه وشخصياً. في هذا الأمر اجتمع مع أعضاء مجلس الشورى لدولة
الخلافة وتداول أمر الجبهة معهم، فكلٌّ أدلى بدلوه في رأيه حول الموضوع، منهم
الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه وسلامه عليه -، فقدم لعمر رأياً سديداً
ومخلصاً، كما هو المعهود منه، وهذا ما أخذ به عمر، وهو التالي: يقول عليٌّ لعمر في
مشورته :
{إنك متى تسـر إلى
هذا العدوِّ بنفسك فَتَلْقَهًمْ بشخصك فَتُنْكَبْ، لا تكن للمسلمين كانفةٌ دون
أقصـى بلادهم، وليس بعدك مرجعٌ يرجعون إليه. فابعث إليهم رجلاً مِحْرَبَاً،
واحفِزْ معه أهلَ البلاءِ والنصيحة، فإنْ أظهره اللهُ فذاك ما تُحِبُّ، وإن تكنِ
الأخرى كنتَ رِدْءاً للناس ومثابةً للمسلمين}([5]).
وقال الإمام عليٌّ
أيضاً لخليفته وإمامه عمر، حينما اجتمع بمجلس الشورى لتقرير الجبهة الحربية لفارس،
بعدما رأى أن يذهب بنفسه للجبهة الحربية لقيادتها وإدارتها شخصياً: (ومكانُ
القيِّمِ بالأمرِ مكانُ النِّظامِ منَ الخَزَرِ يَجمعُهُ ويَضُمُّهُ. فإذا انقطعَ
النظامُ تَفَرَّقَ وذهب، ثم لم يجتمعْ بحذافيرهِ أبداً. والعربُ اليومَ وإنْ كانوا
قليلاً ، فهم كثيرونَ بالإسلامِ، وعزيزونَ بالاجتماع. فكنْ قُطْبَاً، واستَدِرِ
الرَّحى بالعرب، واصْلِهِمْ دونكَ نارَ الحربِ، فإنكَ إنْ شَخَصْتَ من هذه الأرضِ
انتفضتْ عليكَ العربُ من أطرافها وأقطارها، حتى يكونَ ما تَدَعُ وراءكَ من
العوراتِ أهمُّ إليكَ مما بينَ يديكَ. إنَّ الأعاجمَ إنْ ينظروا إليك غداً يقولوا
هذا أصلً العربِ، فإذا قطعتموهُ استرحتم، فيكونُ ذلكَ أشَدَّ لِكَلَبِهم عليكَ،
وطمعهم فيكَ)([6]).
مثلما يتبين بوضوحٍ
يتجلَّى في النصینِ التاريخيین القيِّمین المذكورین جملة من القضايا الهامة، في
مقدمتها الروح الشورية، أو الديمقراطية بالمفهوم العصري، للإمام عمر، والذروة في
جرأته وإقدامه للذهاب إلى جبهتي الحرب المستعرتين يومها، وقيادتهما بنفسه، ثم
يتجلَّى بوضوح مدى الأواصـر الإيمانية والأخوية المخلصة والصادقة التي كانت تجمع
العملاقين العظيمين عمراً وعليَّاً مع بعضهما، ومن ثَمَّ مدى الأهمية الفائقة
والقصوى لقيادة عمر وإمامته لدولة الخلافة الراشدة والأمة في كلامِ الإمام عليٍّ
نفسه، إذْ وصف عليٌّ إمامة عمرٍ وقيادته بأنها عاصمة ومرجع للمسلمين يرجعون إليها.
لهذا إن أصابه مكروهٌ ليس بعده، أي بعد الإمام عمر، مرجعٌ يرجعون إليه
.
بهذه المشورة العظيمة لعليٍّ لإمامه عمرٌ أثناهُ
عن السفر لقيادة الجبهة الحربية، وذلك لخطورة المنصب العظيم له في الإمامة
والقيادة لدولة الخلافة والأمة بشكلٍ عامٍ . أما في النص الثاني، فقد جعل عليٌّ
إمامهُ عمراً الإمام والقدوة والقطب لدولة الخلافة والأمّة، لذا فكان يخشى عليه
كثيراً إنْ تعرض لخطر، فإن الخطر سيعمُّ الأمة بأسـرها. ومن هذا يتضح، كل الوضوح،
مدى إخلاص عليًّ لعمرٍ في إمامته وخلافته وقيادته، والعكس صحيحٌ أيضاً، وهو مدى
إخلاص عمرٍ لعليًّ وأهله والصحابة الكرام بصورة عامة، والأمة بصورة أعم.
الإمام عمر والحكومة والمسؤولين:
ذكرنا فیما سبق تشكيل عمرٍ لمجلس الشورى الذي
كان يضمُّ بين أعضائه كبار الصحابة، ثم
تعيينه المسؤولين الحكوميين، أو الولاة بتعبير تلكم الأيام، مع القضاة ومسؤولي بيت
المال والقادة العسكريين للمدن والأمصار التابعة لدولة الخلافة.
كان الإمام عمر قبل تعيين هؤلاء الولاة
والقادة، ومباشرة أعمالهم ومسؤولياتهم، يُحصي أموالهم، فإن ثبت له بأن مسؤولاً
وقائداً ووالياً قد أصبح ثريَّاً، وهو لم يكن كذلك من قبل، كان يستدعيه إلى
العاصمة، ويناقشه في موضوع ثرائه، وبعد الإثبات كان يُصادر أمواله، ويعزله عن
المسؤولية. وهو صاحب المقولة التاريخية الشهيرة التي أطلقها بوجههم: (من أين لك
هذا ؟). وكان، إضافة إلى ذلك، إن رأى من قائدٍ أو والٍ ظلماً وحيفاً، كان يُحاكمه،
أو يعفيه من مسؤوليته.. أي إن الإمام عمر كان يُراقب جميع القادة والمسؤولين
والقضاة في حكومته خلال تصدِّيهم لمهامهم السياسية والإدارية والعسكرية والمالية
.
ثم الأمر الهام والملفت كثيراً في سياسة
الإمام عمرٍ، في حكومته إزاء القادة والمسؤولين في إدارته، هو أنه كان يعقد
مؤتمراً سنوياً لهم في موسم الحج، فكان يطالبهم بتقديم تقرير حول مسؤوليتهم
المناطة بهم، كلاً على حدة، وكان يناقشهم فيه، ويشجعهم على الإنجازات، ويمدحهم
بها، أو كان ينتقدهم إن كان فيها فشلٌ وتقصيرٌ، مع المحاسبة إن استدعى الأمر ذلك.
إذن
، فالإمام عمر هو أوّل من نظَّمَ وأسَّسَ وأبدع في عقد المؤتمرات السنوية للقادة
والمسؤولين والولاة .
في التاريخ أمثلة متعددة على محاسبة ومحاكمة
الإمام عمر للولاة والمسؤولين، في حكومته، أو عزل البعض منهم، لأن الإمام عمر كان
يعتقد إن تعرَّضَ مواطن لمظلمةٍ وحيفٍ وجورٍ من قياديٍّ أومسؤولٍ، ثم بلغته تلك
المظلمة والحيفُ والجور، ولم ينتصر للمواطن المظلوم، فهو الذي ظلمه وجار عليه.
يقول الإمام عمر في هذا الصدد: (أيَّما عاملٍ من عمَّالي ظلمَ أحداً، ثم بلغتني
مظلمته، فلم أغيِّرها، فأنا الذي ظلمته)([7]).
ولم يعين الإمام عمر، في زعامته وقيادته
لدولة الخلافة المترامية الأطراف، أحد أبنائه، ولا أحداً من قرابته وأهله، في أيِّ
منصبٍ حكوميٍّ، أو إداريّ، أو عسكريٍّ، على الإطلاق، كما كان خليفة رسول الله محمد
من قبله: أبي بكر الصديق، كذلك. وبهذا جنَّبَ الإمام عمر الحكومة، ومصالحها
العامة، من العائلة والقرابة ومصالحها الضيِّقة الخاصة، ومن تأثيراتها على الحكومة
وسياستها، مع أنه كان له أبناءٌ وقرابة كُثُرٌ، في مقدمتهم الصحابي العالم الفقيهِ
التقِيِّ ابنه عبدالله. وهذا العمل العظيم في سياسة الدولة لا يقوم به إلاّ حاكمٌ
وزعيمٌ عادلٌ عالمٌ وعبقريٌّ مُطَّلعٌ بدقائق السياسة والرئاسة والحكم والإدارة([8]).
مع حرصه على العدل في حكومته وسياسته العامة،
فإن الإمام عمرٍ كان ينوي القيام بجولاتٍ في مختلف الأمصار والمدن، وذلك للوقوف
مباشرة على سَيْرِ النظام وكيفية إدارة المسؤولين وسياستهم، وصيغة تعاملهم مع
الناس، لأنه كان يعلم أن بعض المسؤولين قد يحيفون على الناس في مسؤولياتهم، فكان
ينوي الإقامة في كل بلدٍ لمدة شهرين. قال الإمام عمر، قبيل اغتياله، في هذا الشأن:
(لئن عشتُ إن شاء الله لأَسِيرَنَّ في الرَّعيَّةٍ حولاً، فإني أعلمُ أن للناسِ
حوائج تقطتعُ دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إليَّ، وأما هم فلا يصلونَ إليَّ.
أسيرُ إلى الشام فأُقيمُ بها شهرين، ثم أسيرُ إلى الجزيرة فأُقيمُ بها شهرين، ثم أسيرُ
إلى مصرَ فأقيم بها شهرين، ثم أسيرُ إلى البحرين فأُقيمُ بها شهرين، ثم أسيرُ إلى
الكوفة فأُقيمُ بها شهرين، ثم إلى البصرة، فأُقيمُ بها شهرين، والله لَنِعْمَ
الحول هذا)([9]).
يقول المؤرخ والدبلوماسيِّ الأمريكي (واشنطن
إيرفنغ / 1783 – 1859)، عن شخصية الإمام عمر الفذة الفريدة من نوعها، وعن عدالته
وعقليته العبقرية ومواهبه العظيمة: "إن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدلُّ
على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقليةٍ عظيمةٍ، وكان شديد التمسُّك بالاستقامة
والعدالة، وهو الذي وضع أسس الإمبراطورية الإسلامية، ونفَّذَ رغبات النبي، وثبَّتها،
وآزر أبا بكر بنصائحه، أثناء خلافته القصيرة. ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة،
في جميع البلاد التي فتحها المسلمون. وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قادته
المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية، وقت انتصاراتهم، لأظهر دليلٍ على كفائته
الخارقة للحكم. وكان ببساطة أخلاقه، واحتقاره للأُبَّهةِ والترف، مقتدياً بالنبي
وأبي بكر، وقد سار على أثرهما في كتبه للقادة"([10]).
وتقول (دائرة المعارف البريطانية) عن الإمام
عمر وعدالته وشخصيته: "كان عمر حاكماً عادلاً، بعيد النظر، وقد أدى للإسلام
خدمات عظيمة"([11]).
أما المستشرق البريطاني (وليم موير / 1819 –
1905)، فيقول عن شخصية الإمام عمر: "كانت البساطة والقيام بالواجب من أهم
مبادئ عمر. وأظهرُ ما اتصفت به إدارته عدم التحيُّزِ. وكان شعوره بالعدل قوياً،
ولم يُحابِ أحداً في اختيار عمّاله"([12]).
كما نعرف عن شخصية الإمام عمر في جانب
البساطة والزهد والتواضع، وهو زعيم أعظم دولة يومها، فإن المستشرقين والمؤرخين قد
لاحظوا تلكم الصفات الفاضلة، والسمات القيمة، والسجايا الفاضلة، التي كان يتمتع
بها الإمام عمر الفاروق، ولا شك بأنها صفاتٌ جديرة بأن يتصف بها الحكام في كل عصر
وبلاد. وهذه الصفات المميزة للإمام عمر، هي بحد ذاتها تستحق أن تكون محلَّ بحث
ودراسة خاصة ومستقلة، هذا إلى جانب كثرة طاعته وعبادته لله سبحانه وتعالى. قال
الإمام عليٍّ حول طاعة الإمام عمر لله عز
وجل وتقواه: (أدَّى إلى الله طاعته، واتقاهُ بحقه)([13]).
تأسيساً على ما ورد، فقد اتصف عهد عمرٍ،
وخلافته الرشيدة العادلة، بالكثير من التطور والإنجازات الفقهية – الشرعية
والحضارية والإنسانية والسياسية والإدارية والإجتماعية والعسكرية والعمرانية.
لهذا، فهي - أي حكومة الإمام الفاروق - تتمتع بالأوائل من تلكم الإنجازات الكبيرة؛
فالإمام عمر هو أول من دوّن الدواوين، وأوّل من اتخذ بيت المال بصورة أكثر تطوراً،
وأوّل من اهتم ببناء وتشييد الأمصار والمدن الجديدة، وأوّل من قنَّن الجزية على
أهل الذمة، أي غير المسلمين، حيث أعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال، وجعلها
ثمانية وأربعين درهماً على الأثرياء، وأربعة وعشرين درهماً على متوسطي الحال،
واثني عشر درهماً على الفقراء منهم. وهو أوّل – كما ذكرنا – من عقد المؤتمرات
السنوية المنظمة للقادة والمسؤولين والولاة لحكومته خلال موسم الحج، وغيرها أيضاً
بطبيعة الحال. وكل منجزٍ مذكورٍ بحاجة إلى بحثٍ وافٍ مستقلٍّ بحد ذاته، وذلك
لأهميته وجدارته من جميع النواحي .
عليه، فإن الإمام عمر كشخصيةٍ تاريخية
حكيمةٍ، وكإمامٍ وزعيمٍ ومجتهدٍ فذٍّ، وكسياسيٍّ بارعٍ، وكقائد عسكريٍّ فريد من
طرازه، يليق به موسوعة ضخمة يدونها فريق من العلماء والباحثين، وذلك لدراسة شخصيته
وأفكاره وطروحاته التي سبقت زمانه بقرون طويلة، ولدراسة إبداعاته واجتهاداته
ومنجزاته الحضارية على مختلف الصعد. على هذا الأساس قلت من البداية إن الكتابة
والدراسة والبحث عن الإمام عمر بن الخطاب وحكمه وحكومته وعبقريته، ليس بالأمر
الهيِّن، بل هو بالأمر الكبير البالغ الأهمية، لأجل غزارة الموضوع وتشعُّبه من
الجوانب كلها. لهذا وصفه رسول الله محمد، وهو أصدق القائلين بالعبقريِّ، قبل
تسلُّمه مقاليد الخلافة والحكومة بسنوات طويلة. ولا نعلم أنه – عليه أفضل الصلاة
والسلام - وصف شخصاً آخر بهذا الوصف عدا عمر الفاروق، حيث يليق به الوصفُ، كل
اللياقة، وهو يستحقه بجدارة عالية، وهو بالحقيقة أعظم وسامٍ وشهادةٍ من أعظم
إنسانٍ، وهو رسول الله محمد للإمام عمر، كما إن لقب الفاروق هو الشهادة النبوية
المجيدة الأخرى للنبي الأكرم محمدٍ التي منحها لعمر بن الخطاب. لهذا نجد الرضوان
القرآني الرباني المتقابل لله جلَّ في عُلاهُ، و{والسابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ رضيَ اللهُ عنهم ورضوا عنهُ وأعدَّ لهم جناتٍ
تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً * ذلك الفوزُ العظيم}، في محكم التنزيل
المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في الآية المائة من سورة
التوبة، وهذه الشهادة الأمجد، هي الشهادة الأعظم والأكبر، وهي كذلك الشهادة الأسمى
والأزهى من لدن الله سبحانه وتعالى لعمر الفاروق، وللصديق الأكبر أبي بكر خليفة
رسول الله محمد، ولغيرهما من العظماء الصحابة من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم
بالحسنى والإحسان! .
([1]) أُرِيتُ في المَنامِ
أنِّي أنْزِعُ بدَلْوِ بَكْرَةٍ علَى قَلِيبٍ، فَجاءَ أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ
ذَنُوبًا، أوْ ذَنُوبَيْنِ نَزْعًا ضَعِيفًا، واللَّهُ يَغْفِرُ له، ثُمَّ جاءَ
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فاسْتَحالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي
فَرِيَّهُ حتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وضَرَبُوا بعَطَنٍ. أخرجه البخاري (3682) واللفظ
له، ومسلم (2393)
([2]) وضع اليهودي الأمريكي
(مايكل هارت)، عمر بن الخطاب في التسلسل
رقم (52) في كتابه (العظماء المائة) (طبعة عام 1992)، واستند فى دفاعه عن قراره
الى كونه وضع أسس الامبراطورية الإسلامية، وواصل الفتوحات الإسلامية حتى أسقطت
القوتين العظميين في ذلك الحين، الامبراطورية البيزنطية وفارس. إضافة إلى تأسيس
الدواوين الحكومية، ونظام المقاطعات والمدن العسكرية، وغير ذلك مما يلزم لتأسيس
الدول.
منشور في مجلة الحوار | العدد 171 – 172 | صيف 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق