د. مصطفى عطية جمعة
يمكن قراءة
صورة الإسلام في الأدب العربي المعاصـر من خلال مفهوم التمثيل الثقافي، والذي يعنى
بمناقشة كيفية تجلي فكرٍ ما في الإبداع: مكتوباً كان أو مرئياً، أي كيف صوّر
الفنان، ومثّل الفكر، في إبداعه. ومن هنا، لا بد من حضور المتلقي عند استقباله
للعمل الإبداعي، فلا يستسلم لما يقدمه الأديب له على أنه حقيقة مطلقة، بل عليه
بتفكيك ما يقرأه من إبداع، فلا يتخيل أن ما يصوّره الأديب هو واقع طبيعي حادث
وقائم، ومن ثم يصبح مسلّمة بديهية، وإنما هو رؤية من الأديب لتركيب حقائق وتصورات،
وتقديمها في صورة متكاملة([1]).
فلا نُخدَع بما يصوره الأدباء المتغربون – وإن كثروا – عن صورة الإسلام والمسلم في إبداعاتهم، فهي في النهاية
مجرد تمثيل / تصوير / إعادة تركيب لرؤية للأديب، يتقنع بإبداعه من أجل إيصالها للقارئ. وبالتالي، يمكن أن نقرأ كيفية تمثيل الإسلام، وثقافته، وشخصياته، في الإبداعات الأدبية المختلفة. لقد تصور
كثير من الأدباء والمبدعين أن حرية الإبداع معناها كشف المخبوء والمستور في النفس
والمجتمع. وهذا كمفهوم لا ضير منه، فمن واجب الأديب أن يكون شفافاً صادقاً في
مشاعره وفكره، لا يقدم لقرائه قيماً مزيفة، أو يصوغ عوالم وهمية، تقدّم صوراً
مثالية لواقع بائس، على نحو ما نجد في الأدب الترويجي لأيديولوجيات معينة، في ظل
الأنظمة القمعية.. ولكن الحادث أننا وجدنا أشكالاً من الإبداعات تدعي التحرر؛ ولكن
تحصـره في محاربة التابوهات (المحرمات)، واقتصـرت في ذلك على: الدين، والجنس،
فشاعت النصوص الممتلئة فحشاً في الأخلاق، وتطاولاً على الذات الإلهية، وعلى قيم
الإسلام، فإذا هوجمت تمسّك مؤلفوها بحرية الرأي كحق مقدس لهم، يُسقِط أمامه كل
المقدسات الأخرى؛ فأصبح الأمر في عُرف هؤلاء المتغربين أن آراءهم المصاغة في
إبداعاتهم – أياً كانت – هي مقدسة، وفي المقابل ينزعون القداسة عن النصوص الدينية
والعقيدة والقيم والأنبياء والصحابة، ويتطاولون على عقائد المجتمع وقيمه.
إن غالب هذه
الكتابات والإبداعات تنم عن الجهل الشديد بالثقافة الإسلامية الأصيلة، وتستند إلى
تصورات مغلوطة عن الإسلام، مأخوذة من الجهل المنتشـر والمتراكم في المجتمعات، فهم
يقدمون صورة الإسلام على أنه الصوفية المبتدعة، المنغمسة في الانعزال الاجتماعي في
الزوايا والتكايا، يلبس أتباعها الرث من الثياب (مرقعة الدراويش)، ويهمهمون بكلمات
غير مفهومة، ثم يصـرخون مستنجدين بالله تعالى. أو يظهرون صورة عالم الدين على أنه
تابع للسلطة يبرر أفعالها، ويأمر الشعب بطاعة ولي الأمر طاعة عمياء مطلقة.
وهذا ما نجده
جلياً في إبداعات نجيب محفوظ، والتي تراوحت في رؤاها ما بين النظر إلى الدين على
أنه مخدر للشعب، يستغله الحاكم الظالم من أجل فرض سطوته على البسطاء والتحكم فيهم،
وهو ما يبدو جلياً في روايته الشهيرة (أولاد حارتنا) (1957 م)، وهي رؤية ماركسية
في النهاية، ترى أن الدين أفيون الشعب: استغلالاً وقمعاً وإذلالاً. لذا، هو ينتصـر
- بشكل واضح - لنموذج المثقف الماركسـي الذي يؤمن بالاشتراكية العلمية، فذلك هو
المستقبل الحقيقي لإنقاذ الشعوب، وهو ما أعلنه صراحة في روايته (السكرية)، والتي
هي الجزء الثالث من ثلاثيته المعروفة، عندما اختار سبيل الاشتراكية ليكون نهجاً
لنهضة الوطن.
أيضاً، نجد
(محفوظ) يطرح سؤالاً فلسفياً محيراً وغامضاً في آن، عن الخالق سبحانه، وكيف يتركه
يعاني اليتم والضياع مع أمّ فاسدة، على نحو ما نجد في روايته (الطريق)، فالبطل في
حيرة، يتساءل عن والده، ويتطلع إلى السماء متعجباً من كونه ابناً لأمّ بائعة هوى،
وأب لا يعرف كنهه، فلماذا تمّ ذلك؟
كما يُظهِر
(محفوظ) الإسلام صوفياً غنوصياً، أهله متعبدون منعزلون عن المجتمع في إحدى التكايا
الصوفية، يرددون أناشيد غامضة في مفرداتها وإشاراتها، بينما المجتمع غارق في
مشكلاته، وهو ما بدا جلياً في روايته (اللص والكلاب) (1961م)، فالبطل (سعيد مهران)
كان لصاً متأثراً بصديق ماركسـي يعمل في الصحافة، استغله الأخير في سـرقات
الأغنياء، بدعوى أن أموالهم حلال للفقراء. ونرى صورة العابد الزاهد عندما لجأ إليه
(سعيد مهران) في خلوته، وراح يعترف له بما ارتكب من أفعال، فبدا العابد في صورة
أقرب إلى القس وهو يستمع لاعتراف أحد رعايا الكنيسة. إنها الصورة العلمانية التي
تجعل الدين شأناً ذاتياً، مقتصراً على التعبد داخل جدران المساجد، لا شأن له
بالحياة والأحياء.
وبدت الصورة
أوضح في ملحمة (الحرافيش) (1977م) لمحفوظ
أيضاً، والتي هي إعادة صياغة لروايته المثيرة للجدل (أولاد حارتنا)، فسعادة
المجتمع تتحقق عبر نشـر العدل الاجتماعي، من خلال أخذ ضريبة من الأغنياء وتوزيعها
على الفقراء، ويتولى ذلك الفتوة القوي، الذي يخيف الناس بقوته الجسمانية، فإذا
انحرف هذا الرجل الفتوة، ساد الظلم والفساد. وهذا يعني أن الدين روحي فقط، وأن
السعادة مقصورة فقط على الجانب الاقتصادي / المادي فقط، وتتحقق بالقوة، وليست
بإيقاظ الضمائر، وتحريك مكامن الخير عند الناس.
وفي رواية
نجيب محفوظ (الباقي من الزمن ساعة) (1982م)، والتي رصد فيها التغييرات الاجتماعية
الحادثة في مصـر خلال عقد السبعينيات من القرن العشرين، يقدّم نماذج متعددة لشباب
الأسـرة، ما بين المثقف والفنان والشهواني والماركسـي والليبرالي، ويجعل أحدهم
منضما إلى التيار الإسلامي، بلحية كثة، وتصـرفات عصبية، وعندما يجتمع أعضاء الأسـرة
لبيع منزل العائلة، الذي يقدر بثمن مرتفع، سيثري الجميع منه، ولكن غالبية أفراد
الأسـرة يرفضون، فالبيت رمز مكاني للأسـرة / الوطن، وبيعه يعني تشتت أبناء الأسـرة
/ الوطن، إلا أن الشخص الملتزم يقبل البيع، فهو بحاجة للمال، غير عابئ بمشاعر
الآخرين، فله خططه الخاصة به في حياته، التي تبعد كل البعد عما اتفقت عليه الأسرة.
إن صورة
المسلم الملتزم الواعي للفهم الصحيح للإسلام، والذي يطبقه بشكل صحيح؛ تكاد تتلاشى،
ويحل محلها صورة المتزمت والمتعصب والعنيف. وهو ما وضح في كثير من الأعمال الإبداعية،
والمرئيات، والتي لم تفرق بين المسلم الملتزم
والمسلم المتعصب المتطرف، أي أن كل من يلتزم بالإسلام هو متعصب متطرف بالضـرورة،
يكره المجتمع، ويتمسك بمقولات تحتقر المرأة، وتكفر أهل الفن والموسيقى. وفي
المقابل هناك انتصـار – بل قل انحياز - للمثقف اليساري أو الليبرالي، الراقي في
تعاملاته وفكره.. والمثال الأبرز على ذلك مسلسل (ليالي الحلمية)، في أجزائه الخمسة
(1987 – 1992)، لمؤلفه أسامة أنور عكاشة، والذي حظي بجماهيرية كبيرة.. صاغ المؤلف
شخصية المسلم الملتزم كأنه نبت شاذ في عائلة البدري، فهو ابن لامرأة تزوجها أبوه لمدة
أشهر، في نزوة، ثم طلقها، وهربت منه لتتزوج ثرياً بعدما أنجبت هذا الطفل، والذي
عانى من انفصال الزوجين، ونشأ في بيت العائلة منبوذاً، فلم يكن له ملاذ إلا
التطرف، فصار شاذاً عن المجتمع، الذي يحل مشاكله بعيداً عن الدين.
على الجانب
الآخر، فإن صورة المرأة المسلمة الملتزمة تُقَدّم بصورة منفرة، فهي التزمت بالحجاب
لأنها معقدة نفسياً، وإذا تزوجت فهي وسيلة للمتعة عند زوجها الذي يعاملها بعنف
واحتقار، وكأنها عورة لابد من سترها، مع الخلط الواضح ما بين التقاليد المجتمعية
المتوارثة وبين أحكام الدين.. فهناك من المبدعين من ربط قهر المرأة بفتاوى دينية
شاذة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، مقال (لا تعلموهن الكتابة)، لجابر عصفور،
مستعيناً بمقولات لا علاقة لها بالإسلام، مثل: "إن النساء نواقص الإيمان،
نواقص الحظوظ، نواقص العقول"، متوقفاً عند مقولة متوارثة لا أصل شـرعي لها،
وهي: "لا تسكنوا النساء العلالي، ولا تعلموهن الكتابة"، ومن ثم يجعل
مقاله خليطاً بين ما هو مجتمعي متوارث وبين الإسلام، ليخلص في النهاية أن الإسلام
دين تراتبي، ذي بنية بطريركية، يجعل الرجل في مرتبة عليا، والمرأة في مكانة سفلية.
ومن ثم يعمم الاتهام ليشمل الإسلام: الدين، والثقافة، والحضارة([2])..
فالحل إذن، بتبني النهج التغريبي.
هؤلاء،
وغيرهم، لا يقرأون الفقه الإسلامي في التعامل مع المرأة المسلمة، وما يوجبه على
ذويها من أهمية تعليمها، وإحسان تربيتها، وما يوجبه على الزوج من احترام وتقدير
لها، حتى لو كانت ذمية غير مسلمة، فليس للزوج إكراهها على الإسلام، بل يجب عليه
احترام تقاليد دينها، وإن شاءت الإسلام فليكن عن اقتناع كامل([3])..
وكم من الأسئلة المثارة على الساحة عن حقوق المرأة، سيجد من يبحث إجابات لها في
الفكر الإسلامي وتراثه التليد.
ولا عجب في
ذلك، فكثير من مثقفي اليسار أو اليمين، يهاجمون علانية كل من يلتزم دينياً،
والمثال الأبرز تصـريحات جابر عصفور المتكررة، في وسائل الإعلام المختلفة، عن رفضه
للحجاب، متباكياً على أيام الجامعة في الستينيات، عندما كانت الفتيات دون حجاب،
وكانت ساحة الجامعة تموج بالتيارات الفكرية اليسارية والعلمانية، ويأسف لانتشار
التطرف والتعصب بين الشباب([4])،
وكأن القضية كلها مرتبطة بما تضعه المرأة على رأسها، وليس بما في رأسها من علوم
وآداب وفكر، وما تتحلى به نفسها من خلُق وقيم.
وهكذا،
تأتي مثل هذه الكتابات مشوهة، خاصة إذا صدرت من ناقد أدبي شهير يقوم على نقد
الأعمال الإبداعية وتوجيه وإرشاد المبدعين أنفسهم. فمن المهم وعي الأديب بالثقافة
الإسلامية، وفهمها بشكل صحيح، بعيداً عن الانتصار لفتاوى شاذة منتقاة من عصور
مظلمة بسياقات تاريخية تبرر صدورها، أو صدرت من علماء ذوي هوى، فيتم تعميمها
وتقديمها على أنها الإسلام: الثقافة، والممارسة.
[1] ) التمثيل الثقافي بين المرئي
والمكتوب، ماري تريز عبد المسيح ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، 2001م ، ص19.
[2] ) انظر نص المقال في
كتاب: نقد ثقافة التخلف، د. جابر عصفور، الشـركة المصـرية للنشر العربي والدولي،
القاهرة، 2008م ، ص88 وما بعدها.
[3] ) التعددية الفكرية والحوار في المجتمع المسلم، د. محمد عبد الغفار
الشريف، منشورات المركز العالمي للوسطية، الكويت ، ط1 ، 1432هـ ، 2011م ، ص21 ،
22.
[4] ) انظر مثالاً على ذلك: حواره مع
موقع الوطن نيوز الإخباري http://www.elwatannews.com/news/details/924211
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق