14‏/10‏/2010

الغلو في الدين الحلقة (33) الأخيرة

عمر عبدالعزيز
أهـم السبـل لمعالجـة ظاهـرة الغلّـو
بداية، لابد من القول بأن علاج ظاهرة الغلو الذي استشرى في بلادنا ليس بالأمر الهيّن، بل إن أمامنا عقبات صعبة، توازي صعوبة وفداحة الأسباب والدوافع المتشابكة التي أوجدت الظاهرة من الأساس. فالأسباب-كما أشرنا في حلقات سالفة-هي خليط من الجوانب النفسية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وهي كلها تاريخية، متراكمة، ولّدت نتائج مرّة ومعقّدة، ليس من السّهل اجتثاثها ومعالجتها بمجرد اقتراحات أو أطروحات تتعلّق بهذا الجانب أو ذاك.. أو بعرض برامج مثالية أو شبه مثالية، تكون فوق سقف الطموحات الوطنية أو الإمكانيات الذاتية، أو مما لا يمكن تحقيقها لسبب من الأسباب في الظروف الراهنة لأمتنا.فهناك من يرى أن الحل يكمن في: (إقامة دولة ديمقراطية عصرية)، و(الخروج من الأزمة الاقتصادية)، و(إحياء الثقافة القومية). وهناك من يدعو لتشكيل (غرفة عمليات شاملة)، أو يطالب بـ(إعادة النظر في المناهج الدراسية)(1).. وآخر يصّرح دون هوادة بأن (الحلّ في مواجهة عنيفة شاملة).. وبعض الناس يرى الحلّ في البحث عن (حل مشاكل الأسرة)، و(حل المشكلات الثقافية)، وما إلى ذلك. وهناك من يرى أن المعالجة تكمن في: (الاعتقاد الصحيح.. والفقه في الدين.. والتحاكم إلى شرع الله تعالى.. وتعميم المنهج الشرعي في الاستدلال.. وبناء الشخصية الإسلامية لدى أفراد الأمة..)(2) وهكذا تدور الأفكار حول محاور شبه متباينة.. والسبب في كل هذا التحيّر أو التعدد في عرض وجهات النظر، يرجع إلى أن الأزمة شبه مستعصية، وأنها معقدة الأضلع، متجذرة الأصول، تستدعي معالجتها حكمة عالية وكفاءات فائقة، ونظرة منفتحة مستنيرة.. كما وتستدعي التّدرج في الخطوات، والتأني في اجتياز المراحل، وطرح حلول جذرية تكاملية شاملة مبنيّة على أصول موضوعية علمية، بعيدا عن ردود الأفعال، أو الانفعال والتهور والاستعجال.إنه ليس من التشاؤم القول بأن ظاهرة الغلّو في الدين أصبحت أزمة فعليّة، خرجت من إطار الخلافات في الأساليب والممارسات بين أطياف الإسلاميين فقط، إلى دائرة أزمة فكرية تهدّد بجدّ المشروع الإسلامي الحضاري المنشود، مشروع الإصلاح والتغيير والتنمية. لذا أصبح من الضرورة بمكان أن ينصبّ التفكير في محيط (الحلول الجذرية)، بعيدا عن المعالجات القِشرية، وذلك بدءاً بإصلاحات فكرية داخل مؤسسات الاتجاهات الإسلامية أنفسها.. ثم إصلاحات سياسية واجتماعية تشمل الأنظمة، ومؤسسات الدولة، وأساليب الحكم، وقوانين البلاد، ونوع التعامل والعلاقة بين المواطنين والحكام، وغير ذلك.
ويتمكن الباحث من خلال استقراء الظروف الواقعية للأمة، ومن خلال استشراف مستقبلي متزامن مع قراءة الإمكانيات والفرص المتاحة، ودرك حدود الكفاءات، وحجم المؤهلات الفعلية لشرائح الأمة، ونُخَبهِا الثقافية والسياسية -والإصلاحية بصورة عامة- يتمكن من عرض حلول ومقترحات قد تكون عملية إذا تضافرت الجهود وأردنا -حقا- الإقدام. ويمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلي:

أولا: تعزيز المواجهة الفكرية وتطويرها:
من الأمور المحتمة أن الفكر لا يواجه إلا بالفكر، ولا شك أن أتباع تيار (الغلو في الدين) ناس يحملون أفكارا، ويدعون إليها، بل يتعصبون إليها تعصب كل ذي رأي لرأيه، بل وأكثر من ذلك، فقد تصل درجة تعصبهم لما هم عليه إلى درجة تصور العصمة، بدليل تخطئاتهم المستمرة والمستميتة لأفكار التيارات الإسلامية الأخرى، وتحمسهم الشديد في الدفاع عن تصوراتهم أكثر من الآخرين.
على أي حال، لقد لعبت المواجهة الفكرية مع أولئك الداعين إلى الغلو في الدين، دورا مهما في إرجاع كثيرين منهم إلى جادة الصواب، في حقب تاريخية معاصرة، كما لعب المستشار (حسن الهضيبي) في سجون مصر، مع بعض الغلاة من جماعة (التكفير والهجرة) دورا مهما، بحيث تراجع العشرات عن غيهم، واقتنعوا بالأفكار القيمة التي عرضها ودافع عنها بحكمة عالية، واكبها حسم جدي ومنطق قوي من قبله..(3).
كما ولعب بعض الرموز الوسطية دورا بارزا في إقناع عدد من رؤوس جماعات العنف في بداية التسعينيات، وإرجاعهم عن أفكارهم المغالية ، وإصدارهم سلسلة تصحيح المفاهيم التي اعترفوا فيها بخطأ منهجهم وتصوراتهم، كما ذكرنا في مقال سابق.

ثانيا: الصراحة التامة والحسم الجاد من قبل التيار الإسلامي المعتدل:
لا يكاد يختلف المنصفون من المراقبين والبحاثة الاجتماعيين في أن التيار الموفق والمؤهل لريادة الصحوة الإسلامية المعاصرة، هو التيار الوسطي المعتدل الذي يؤمن بالحوار والتعايش ويرفض العنف والغلو والتشديد.. إلا أن عددا كبيرا من المراقبين يلاحظون أن هذا التيار لم يكن صريحا وحاسما في كشف الأخطاء البارزة لأصحاب التيار المغالي المتشدد، بل اتسمت المواجهة بشيء من الخجل، والتجامل المفرط، والرعاية الزائدة، رغم أن أصحاب الغلو -في المقابل- لم يتوانوا يوما عن إثارة الانتقادات اللاذعة للتيار الإسلامي الوسطي، دون خجل أو مجاملة. ولقد قيل في سالف الزمان أنه لا يفل الحديد إلا الحديد.. وما دامت الممارسات نابعة عن أفكار، والأفكار قابلة للتغيير والتصحيح، فإن على أصحاب الرأي والقلم في التيار المعتدل أن لا يضيعوا فرصة إلا ويستثمروها لعرض الوجه الآخر للإسلام، وجهه المطمور عند الجانب الآخر، وجه سماحته ويسره، ومرونته، ورفقه، وواقعيته، وجهه الرافض للعنف، والعسر، والتشديد، والتطرف، والغلو..

ثالثا: إصلاح الوضع السياسي:
وهذا يحتاج إلى تغيير حال الأنظمة الحاكمة، وإصلاح الدساتير والقوانين السائدة، وإتاحة الفرصة للحريات العامة، وفتح أبواب الحوار الصريح والمناقشات الجادة، والتفاوض الحر البعيد عن التعالي والهيمنة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة بمشاركة جميع الأطراف والأطياف، دون حق النقض من أحد على أحد، أو الحظر السياسي على جهة أو شريحة، وإيقاف كافة أشكال (الإرهاب السلطوي) و(العنف الحكومي)، ورفع القمع والحرمانبحق الاتجاهات المعارضة للسلطة.

رابعا: حملة توعية فكرية شاملة: 
لابد مع كل ما سلف، من حملة توعية فكرية عالية، تشمل جميع شرائح الجماهير المسلمة، تتضمن إبراز الحقائق الإسلامية، ولاسيما في مجالات التصورات العقدية، ونوع العلاقات الاجتماعية والدولية بين المسلمين وغيرهم، وشرح مفهومي القتال والجهاد والفرق بينهما.. وكذلك تقديم بحوث قوية -بروح عصرية وواقعية- حول مبادئ علم أصول الفقه، وتكثير الكتابات الحية حول الفقه المقاصدي في الإسلام، وفقه الواقع، وكتابة دراسات ميدانية عن ظواهر العنف والإرهاب والغلو، وأسباب انتشارها، وآثارها المدمرة، وتعارضها مع أحكام الشريعة السمحة. فلا زالت النسبة الغالبة من الجماهير المسلمة غائبة عن الوعي الصحيح لأحكام الإسلام ومقاصده السامية.

خامسا: إصلاح وتطوير برامج التعليم والمناهج الدراسية:
لاشك أن هناك ثغرات حساسة في المناهج الدراسية والبرامج التعليمية في بلادنا العربية والإسلامية، بعض منها ناشئ عن تغايره التام مع التصورات الإسلامية الصحيحة، وبعض منها غير واقعي وغريب لا ينسجم مع آمال وطموحات الفئات الشبابية والنخب الثقافية والسياسية، وبعض منها ناتج عن ضعف ملموس في حل الإشكالية التربوية والأزمة الخلقية بين الطلاب والدارسين، كما أن معظمها متخلف لا يواكب التطور الحضاري البشري المشهود.

سادسا: دعم وتطوير المؤسسات الأهلية غير الحكومية:
ولابد من العمل لإقناع الأنظمة الحاكمة بفتح منصات ومنابر التعبير عن الآراء الحرة، وتشكيل جمعيات نقابية ومهنية مستقلة، لإيجاد منظومة مؤسسية للمجتمع (المدني) الأهلي، تكون متنفسا حرا، وميدانا مفتوحا للمنافسة البناءة، وتكون عوامل ضغط جماهيرية على أنظمة الحكم، تراقبها، وتدعم إيجابياتها، وتؤازرها، وتحد من سلبياتها وتواجهها.

سابعا: دعم التيار الإسلامي الوسطي المعتدل: 
لا شك أن التيار الوسطي يعتبر الرائد الحقيقي للصحوة الإسلامية العارمة، ولقد ثبت في العقود الماضية أنه صمام الأمان لإبعاد الفتن عن الأمة، وإبقاء الشباب على النهج الإسلامي الصحيح، نهج (الوسطية الإسلامية) التي تتناقض مع الغلو والتطرف ، وتنسجم مع الفطرة الإنسانية في صدق تعبيرها عن فطرة الله التي فطر الناس عليها. إنها صبغة أمة الإسلام كما أراد الله حيث قال سبحانه: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة/143).
هذه النقطة لم تنتبه إليها الأنظمة والحكام بصورة عامة، بل إن المشاهد يلاحظ أنه-في أغلب الأحيان- يختلط الحابل بالنابل، أثناء المواجهة بينها وبين المتشددين، بل بينها وبين من تنطبق عليهم وصمة الإرهاب، سواء في عملية مداهمة البيوت والاعتقالات، أو الملاحقة والحرمان والتهميش، أو المحاكمة الصورية والسجن، أو الإهانة والتعذيب النفسي والجسدي، أو غير ذلك، حيث يشمل كل ذلك من وصف بالإسلامي من الفريقين.

ثامنا: الإصلاح الاقتصادي:
مادام العامل الاقتصادي كان سببا من أسباب نشوء الغلو -كما أسلفنا- فإن مواجهة الفقر والبطالة بالإصلاح الاقتصادي، يكون من أهم سبل المواجهة والمعالجة.
والإصلاح الاقتصادي يرتكز على أسس عديدة، أهمها: تطبيق مبدأ التكافل الاجتماعي، والعدالة في توزيع الثروات، وتحريم جميع أشكال الربا، وتشجيع أثرياء المسلمين لدفع الزكاة، وتقوية روح الإنفاق والتصدق فيهم.. وتطهير مؤسسات الدولة من خلايا سرطان الفساد الإداري من المختلسين والمرتشين واللصوص، ومواجهة الانتهازيين في الأسواق. وبجانب كل ذلك لابد من وضع خطط رامية للتنمية الاقتصادية، وتطوير القطاع الصناعي، وزيادة حجم الاستثمار فيه.

تاسعا: المرونة والحكمة في المواجهة:
لقد ثبت في العقود الماضية أن الغلو- وما شاكله من التطرف والإرهاب وأساليب التشدد والتكفير- لا يعالج بالطريقة العسكرية، أومن خلال قمع الأجهزة الأمنية. حيث إن العنف لا يولّد إلا عنفا أزيد، وانحرافا أوسع، وكراهية أعمق.. إن مسألة الغلو بالذات مسألة فكرية، والسلاح الأنجع لمواجهة الفكر هو الفكر، لذا ينبغي أن تتعامل السلطات بالحكمة والمرونة، ولا تلجأ إلى أساليب العنف والتشدد على غرار ما فعله -ويفعله- أجهزة الأمن والاستخبارات والمباحث في كثير من الدول العربية والإسلامية..
إن على السلطات أن تفتح ملف الحوار والمناقشة مع جماعات الغلو، ومن خلال المفكرين الإسلاميين، أصحاب التوجه الوسطي، فهم أكثر تسلحا من غيرهم لمواجهة أولئك، وإن الأساليب الملتوية لتعقّد المسألة أكثر فأكثر، كأسلوب استئجار السلطات لرموز الإلحاد والإباحية لمواجهة الإسلاميين، (كما فعل جمال عبد الناصر والسلطات المصرية في منتصف الستينيات بوحي خطة أمريكية بلورها (والتو روسو) في كتابه، وهي باختصار: أن يسجن الشيوعيون وكذا الإخوان المسلمون، ثم يعرض على الشيوعيين العمل مع النظام بشروط.. وفعلا تم الاتصال بالشيوعيين العرب للموافقة على العرض الذي قدم إليهم في مارس1964، ويتضمن أن تكون لهم حرية الكتابة عن الشيوعية، وقيادة العمل الإعلامي، ونقد الدين، والدعوة إلى الفكر الشيوعي بشروط وهي: 
أن يكون جمال عبد الناصر هو رمز الكفاح وليس لينين.
أن تكون مصر هي الأم وليس روسيا.
أن يحل الحزب الشيوعي المصري تشكيلاته كلها، ويندمج في الاتحاد الاشتراكي، ويعمل الشيوعيون من خلاله علانية.
أن يتم تعويض جميع المعتقلين عن فترة حبسهم..

ولقد قبلت الأغلبية الساحقة من الشيوعيين داخل وخارج المعتقل هذا العرض، ورفضه بعض القياديين.. وخرج جميع الشيوعيين من المعتقل، وتم تعويضهم، وتسلموا الإعلام، وأصبحوا يقودون حملة لنقد القرآن والكفر بالله ورسوله، تحت ستار من الحرية ونقد الخطاب الديني(4).
لقد جربت السلطات في الستينيات هذه التجربة التي ثبت فشلها، كما جربت تجربة ناجحة في بداية التسعينيات لما فتحت باب الحوار مع المعتقلين المتشددين عن طريق رموز إسلامية وسطية.
هذه هي-في نظري- مجمل الحلول الممكنة، والمقترحات الأساسية التي قد تضم في طياتها حلولا تفصيلية أخرى، لمواجهة مظاهر العنف والتشدد، ومعالجة ظاهرة الغلو في الدين.
وليس محل نقاش في أن تحقيق هذه الأغراض يحتاج إلى تضافر الجهود، وتكاتف القوى، والتعاون الجاد بين جميع الأطراف المسؤولة، حكاما ومحكومين، دعاة ومدعوين، قادة وقواعد، لتسهيل تجاوز المراحل والخطوات نحو الأمام، وتعبيد السبل الموصلة إلى الأهداف، والتي ذكرنا ولمسنا-ولا نزال نذكر ونشاهد ونلمس-الصعوبات والعقبات الماثلة عليها، كما أكدنا سابقا.

الخاتمة وأهم الاستنتاجات:
في خاتمة هذه المقالات المقدمة للقراء الأعزاء، في مجلة الحوار الغراء، التي فاقت 33 حلقة مترابطة، أحمد الله سبحانه وتعالى على أن وفقني لإكمال هذا القدرمن موضوع الغلو في الدين، مع الاعتراف بأنني لم أستطع معالجة مسألة الغلّو من كافة جوانبها، وإعطاء حقها الكامل، وذلك لتشعبها، ووفرة المسائل المتعلقة بها من جانب، وضيق الإطار والسقف المخصص للبحث، من جانب آخر، وعدم إمكان تخصيص أعداد أخرى من المجلة أكثر من هذا القدر.. فالموضوع يتطلب المزيد من الدراسة والتحقيق والمتابعة والتمحيص. إلا أنني– بفضل الله وتوفيقه- حاولت إثارة جملة قضايا تعالج الموضوع في جوهره، ويمكن أن تصبح مفاتيح أولية لطلاب العلم في هذا المجال إن شاء الله.. وفي ضوء تلك القضايا التي أثيرت يمكن أن نستنتج ما يلي:
* إن الغلّوفي الدين ـ مهما زيّنه المغالون في تصورهم- انحراف عن النهج الإسلامي السّويّ، وترك لخاصية الوسطية الإسلامية المتمثلة في الاستقامة على الصراط المستقيم، والجنوح نحو طرفي الإفراط والتفريط.
* إن معظم أتباع الرسالات السماوية وقعوا في الغلّو في الدين، وذلك بسبب وحيد وهو الابتداع، وترك الاتباع للهدى الذي أتى به جميع الأنبياء. وإن ظاهرة الغلو قد أخذت عند أهل الكتاب منحىً خطيرا نهاهم القرآن عنه، وذكر نماذجها، كي يتعظ منها المسلمون ويحترزوا منها.
* وقد ظهرت بوادر الغلو منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم، وتصدى لها المستقيمون على نهج الوسط من الصحابة والتابعين وتابعيهم من العلماء والفقهاء.
* كما وتجسدت ظاهرة الغلو-منذ القديم وإلى الآن-في مظاهر شتى، ومجالات متنوعة، عُبِّر عنها في مصطلحات وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحذر منها، ومنها: التنطّع، والتشدد، والتعسير، والتنفير، والتعنت، والتعنيت، والإحراج، وترك الرخص، وتحريم الحلال والزينة التي أخرجها الله لعباده والطيبات من الرزق، وترك التناكح، والتشديد على النفس، وغير ذلك.
* إن الغلو في الدين هو الذي أوقع فرق الخوارج وغيرها من الغلاة في مهالك تكفير المسلمين، بل تكفير كبار الصحابة، وهو السبب نفسه الذي أوقع غلاة العصر في المهالك عينها.
* إذن، الغلو المعاصر ليس إلا امتداد للغلو القديم، ولكن في ثوب جديد، يتمثل في تكفير الحكام، واستباحة الدماء بتهمة الارتداد، واتهام أفراد المجتمعات والحركات الإسلامية–ممن يسكتون عن أساليب التكفير- بتهم وأحكام تتراوح بين الارتداد والتكفير والتفسيق.
* وفي ثنايا المقالات المقدمة توصلنا إلى أن غلواً مفرطا وقع في فهم (الجهاد والقتال)، بالخلط بين أحكامهما، مماأجبرنا على تخصيص حلقات لتصحيح الرؤى في هذا المجال، وبيان الفرق بين مدلوليهما، وأحكام كل منهما، رغم بعض التداخل الذي حصل بين المصطلحين في كتب الفقه وشروح الأحاديث والتفاسير.
* ومن جانب آخر حاولنا تصحيح مفاهيم مغلوطة حصلت لبعض الشباب، إثر الغلو في الفهم في مجال الدعوة والتبليغ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسائل الولاء والبراء.. وأكدنا في هذا المجال على أن الأصل في تلك المجالات هو التيسير، والتبشير، والتسديد، والتسهيل، وأخذ الرخص، والمرونة، والرفق، والتسامح، وأن التعسير، والتشديد، والتنفير، والإحراج، والتعنت، والتعنيت، وغير ذلك، من الغلو الذي حذرنا منه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في أحاديث عديدة .
* كما وتمت الإشارة في البحوث إلى مدى خطورة الغلو في القرآن الكريم، وفي شخص الرسول (صلى الله عليه وسلم)، والأولياء والصالحين، والغلو في العبادات والشعائر والتعامل مع الأحكام.
* وكذلك أشرنا إلى الغلو الحاصل في مجال التعامل مع الآخرين، وتطرقنا في هذا السياق إلى حرمة الإكراه في الدين، وإقرار الحرية الدينية في الإسلام، ومبدأ التعايش، والحرية السياسية، ووجود المعارضة في الدولة الإسلامية، مستدلين بالأصول القرآنية، ومستأنسين بشواهد من تاريخ الإسلام.
* وفي سياق مخصص نوهنا إلى أن أسباب نشوء الغلو قد تختلف في العصر الحاضر عن أسباب نشوئه في بداية العصر الإسلامي، رغم بعض التقارب، ولكن وضحنا أهم الأسباب الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية التي تكمن وراء نشوء الغلو المعاصر، ولا سيما الغلوّ التكفيري.
* وفي المطاف الأخير أشرت إلى جانب من السبل الكفيلة بمواجهة الغلوّ المعاصر، منها ما يتعلق بمواجهة فكرية جدّية للظاهرة، وتصحيح مفاهيم خاطئة لدى فئات شبابية، وتطوير التيار الوسطي لخطابها الموجه إلى التيار المغالي.. ومنها ما يتعلق بإصلاحات في الوضع السياسي الراهن للأنظمة العربية والإسلامية، وتحسين برامج التعليم والمناهج الدراسية، وتطوير مؤسسات المجتمع المدني، ولاسيما المؤسسات الدعوية والأجهزة التبليغية، وفتح باب الحوار والتفاوض بين جميع الأطراف.
هذا كل ما توصلت إليه، أرجو من الله سبحانه أن يحسبه مساهمة في مدارسة ظاهرة الغلوّ في مجتمعاتنا المعاصرة، ومعالجة جانب منها. كما أرجوه أن يوفقنا لدراسات أشمل للظاهرة وجذورها وأسبابها، وطرق اجتثاثها، إنه المستعان، وهو على كل شيء قدير.. والحمد لله رب العالمين. 
---------
الحواشي:
(1) جميع هذه المقترحات مطروحة في: الوحدة الوطنية والإرهاب، لمجموعة من المؤلفين، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1993. نقلا عن: الإرهاب، أبعاده وعلاجه، للدكتور محمد موسى عثمان ، ص82-86.
(2) عوامل التطرف والغلو والارهاب وعلاجها: خالد عبد الرحمن العك. دار المكتب، دمشق، ١٩٩٧ ينظر صفحات ١٢٣-١٢٥.
(3) تمخض عن تلك المناقشات أفكار قيمة صاغها المستشار الهضيبي في كتابه: دعاة لا قضاة. طبع في دار التوزيع، القاهرة ،عام 977
(4) لقد سَجّل هذه الحقيقة التاريخية أحد أولئك الشيوعيين، وهو غالي شكري، في كتابه: الأرشيف السرّي للثقافة المصرية، دار الطليعة، بيروت، 1975، ص99. ينظر للتفاصيل: التطرف والإرهاب لسالم البهنساوي: صفحات 238-243.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق