14‏/10‏/2010

إشكالية الهوية الوطنية في الدولة العراقية الحديثة

بحث مقدم من قبل الزميل رياض جاسم محمد فيلي للندوة التي أقامتها دار الثقافة والنشر الكردية في وزارة الثقافة العراقية حول مفهوم المواطنة وتعريف الجنسية في التشريع العراقي بمناسبة الذكرى السنوية لصدور قانون الجنسية العراقية رقم (42) لسنة 1924 أول تشريع للجنسية في الدولة العراقية الحديثة.
مفهوم المواطنة وتعريف الجنسية
الجنسية: هي رابطة سياسية وقانونية تعبر عن علاقة الفرد وانتمائه إلى شعب الدولة، وهي رابطة سياسية وقانونية تفيد انتماء الفرد إلى شعب الدولة بوصفه عنصراً من العناصر المكونة لها، وهي نظام قانوني يكفل التوزيع الدولي للأفراد في مختلف دول العالم . 
ويكتسب بموجبها الإنسان حقوق وواجبات المواطنة والحماية القانونية وفق التشريعات الوطنية والمتمثلة خاصةً بممارسة الحقوق السياسية والاقتصادية وقضايا التملّك العقاري والإرث وشؤون الإقامة والعمل وغيرها من المزايا التي لا يتمتع بها الأجنبي، وطبيعة الحماية المقدمة للأشخاص المحرومين من جنسيتهم التي غالباً ما يحيطها الجدل السياسي، فالقومية العرقية عامل هام في العديد من النزاعات العنيفة مع ظهور حالات الاضطهاد والنفي وازديادها، وسحب الجنسية يؤدي إلى أن يصبح الفرد بلا دولة. ولا يجوز تحت أي ظرف من الظروف حرمان الشخص من جنسيته لأسباب عرقية أو دينية أو سياسية .

الجانب القانوني والدستوري لأبعاد إشكالية الهوية الوطنية منذ تأسيس الدولة العراقية ولغاية 9/4/2003 . 
هذه الإشكالية بدأت في عشرينيات القرن الماضي ومستمرة لحد الآن، وأدت إلى وقوع التهجير القسري للكثير من العراقيين خلال الفترة الممتدة ما بين (1940–1991)، نتيجة تأسيس الدولة الحديثة بولادتها المُشَوَهَة تحت الانتداب البريطاني، وإدارة الضباط العثمانيين السابقين ... حيث صدر قانون الجنسية العراقية رقم (42) لسنة 1924 النافذ من تأريخ دخول معاهدة لوزان حيز التطبيق في 6/8/1924 إذ نصت مادتها (30) بأن الرعايا المقيمين في إقليم مُنسلخ عن تركيا وبموجب أحكام هذه المعاهدة يصبحون حكماً رعايا الدولة التي ينقل إليها ذلك الإقليم، نتيجةً لمراعاته المصالح الدولية السائدة آنذاك وبشكل مناقض لحقوق المواطنة الواردة في الدستور الملكي، ورسخ التفرقة الفئوية بين مكونات الشعب العراقي، إذ قسم المواطنين إلى درجتين (أولى وثانية)، وبموجبه أعتبر العثماني عراقي الجنسية حكماً من (الفئة أ) بصفة أصلية رغم انتمائه إلى تركيا العثمانية والبلاد الخاضعة لها، في حين مُنح العراقي من الكرد الفيلين التجنس من (الفئة ب) بصفة مكتسبة لاعتبارات التمييز العنصري، وأن أثبت تواجد أسرته في العراق منذ آلاف السنين، وبقائه محروماً من المواطنة، ولا نظير لذلك في التشريعات العالمية التي تمنح الجنسية بعد خمس سنوات من الإقامة، لاحتكامه إلى معيار التبعية العثمانية والتبعية الإيرانية وكلتاهما صفة أجنبية، ولم يشير إلى "التبعية العربية" بالرغم من كون غالبية سكان العراق من العرب بغية التشكيك في الهوية والولاء والانتماء، وتبرير شرعية النظام الملكي المؤسس على يد الأجانب القادمين من خارج البلاد، وترتب عليه إسقاط الجنسية العراقية عن المواطنين ولأسباب سياسية وعنصرية وعرقية ومذهبية عبر تشريع السلطة القائمة مراسيم وقرارات وأوامر لها قوة القانون، وأن خالفت حقوق الإنسان المكفولة في الدساتير العراقية أو مبادئ القانون الدولي، ولم يتغير واقع التمييز الممارس ضد المواطنين إلا في عهد الجمهورية الأولى بعد قيام ثورة 14/7/1958 ودستورها المؤقت الذي أكد على قيام الشراكة الحقيقية بين العرب والكرد، ولم يدم طويلاً نتيجة وقوع انقلاب 8/2/1963 ورفقته مقاومة الفيليين في مناطقهم {عقد الأكراد، وساحة النهضة، وباب الشيخ، والكاظمية}، وزج بالآلاف منهم في المعتقلات الرهيبة دون محاكمة أصولية، وشرع بعد ثلاثة أشهر من هذا الانقلاب قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963 وكان أشد وطأة من سابقه بمغالاته في انتزاع الجنسية على نحو تعسفي.

ومع وصول حزب البعث مجدداً إلى السلطة بانقلابه في 17/7/1968 دشن حكمه بتصفية دموية رهيبة لخصومه ومعارضيه ... فلم ينسى مطلقاً مقاومة انقلابه في عام/1963 وإتباعه منهجاً منظماً لاضطهادهم، ومنها تهجيرات الأعوام (1969–1970–1971) التي ذهب ضحيتها أكثر من (70.000) مُهجر، كما لم تتطرق اتفاقية 11/3/1970 بين الحركة الكردية والحكومة البعثية إلى معالجة قضية الكرد الفيليين، وبعد انتكاسة الحركة عام/1975 أثر توقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران، قام نظام البعث بإجلاء الفيليين عن مناطقهم "الترحيل الداخلي" بعقاب جماعي إلى جنوب العراق وغربه، بهدف تغيير طابعهم الديمغرافي والسكاني في المحافظات المجاورة للمناطق الكردية والشريط الحدودي مع إيران تمهيداً لشن الحرب عليها، إضافةً إلى ارتكابه جريمة التهجيرات العظمى في عام/1980، التي أسقطت الجنسية العراقية بدفعة واحدة عن أكثر من (500.000) مواطن معظمهم من الكرد الفيليين دون مسوغ قانوني وبحجة أصولهم الأجنبية وبذرائع مُلفقة {التآمر على النظام والحزب والأمن العام}، ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة دون تعويض وإتلاف وثائقهم الثبوتية الرسمية في سبيل محو تركيبتهم الإثنية بتطهير عرقي واضطهاد مذهبي مزدوج، واحتجاز أبنائهم في المُعتقلات السرية وهم أكثر من (15.000–20.000) مختفي قسرياً ومصيرهم مجهول لحد الآن، ومورست بحقهم أفضع التصفيات الجسدية أثر قيامهم بحملة من الاحتجاجات على معاملتهم المهينة من قبل أجهزة الأمن القمعية في مُعتقل أبي غريب ومنفى نقرة السلمان مطلع ثمانيات القرن الماضي، ولم يسلم من ذلك حتى عوائلهم غير المهجرة، إذ كانوا تحت المطرقة والسندان المتمثلة بالسيف المسلط على رقابهم وهي التشريعات الجائرة، وتشديد الخناق على نشاطهم الاقتصادي والتجاري وتجميد أموالهم وممتلكاتهم وأرصدتهم المصرفية طيلة أيام الحرب ومراقبتهم أمنيا واستخبارياً وحزبياً وفق نظرية المؤامرة التي يؤمن بها البعث، ولم تتوقف عمليات التهجير القسري إلا بعد غزو القوات العراقية للكويت عام/1991 وإخراجها مهزومة على يد التحالف الدولي، وصدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم (688) والمؤرخ في 5/نيسان/1991والذي طلب فيه إيقاف قمع السكان المدنيين وضرورة تعاون العراق مع المنظمات الإنسانية وكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين، لكن القرار لم يكن بقوة الإلزام بموجب أحكام الفصل السابع (المواد من 39 إلى 51)، إذ كان بصيغة توصية وفق الفقرة (7) من المادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة، فكان ضغط المجتمع الدولي ومنظماته والإعلام الحر أرحم من النظام الدكتاتوري، حيث جمدت عمليات التهجير القسري دون إلغاء رسمي، واستمر الحال من سيء إلى أسوء بفرض الحصار الاقتصادي القاسي على العراق لحين سقوط النظام الفاشي في 9/4/2003 . 


تقييم الحلول والإجراءات الحكومية لمعالجة أوضاع الجنسية في ظل العراق الديمقراطي الاتحادي التعددي منذ 9/4/2003 ولحد الآن .
الإجراء الأول بعد هذا التأريخ هو منح العائدين البطاقة الخضراء كوثيقة مؤقتة للأجانب، وأصدر مجلس الحكم القرارين المرقمين (111) و (117) لسنة 2003 غير النافذين بشأن استعادة الجنسية العراقية لمن أسقطت عنه تعسفاً منذ عام/1958، وإخضاع المنازعات المتعلقة بالجنسية لرقابة القضاء، وتشكيل وزارة المهجرين والمهاجرين حسب الأمر رقم (50) لسنة 2004، وأخيراً بالقانون رقم (21) لسنة 2009 الذي أختزل معاناتهم بعبارة قصيرة ضمن المادة (2/رابعاً).
ومنذ بداية عملها لم تكن بمستوى الطموح والأهداف المرجوة من استحداثها، حيث لم تضع أية خطط واستراتجيات لضمان عودة المهجرين إلى أحضان الوطن بواقع جدي وملموس من أجل رفع الحيف والاضطهاد عنهم وإيجاد الحلول الكفيلة بدمجهم في المجتمع العراقي، وينطبق الحال ذاته على هيئة دعاوى الملكية التي شُكلت بموجب اللائحة رقم (8) لسنة 2004، ثم أعقبتها اللائحة رقم (12) لسنة 2004 المعدلة، والقانون رقم (2) لسنة 2006 وأخيراً القانون رقم (13) لسنة 2010، فكثرة التشريعات توضح عجز الهيئة وتقاعسها عن إنجاز أعمالها، وعدم إنصاف من صودرت ممتلكاته نتيجة إلزامه بدفع قيمة المُستحدثات والإضافات على عقاراته بدلاً دفع التعويضات المجزية له، ودون الأخذ بالاعتبار سياسات النظام البائد التي أوجدت أصل المشكلة وتحولت الدولة من غاصب إلى حكم بين طرفين متنازعين، وينظر إلى هذه القضايا من زاوية ضيّقة وكأن الخلاف بين مالك حالي وسابق فقط، ودون مراعاة حقوق المهجر تعسفاً وفق القرار رقم (666) لسنة 1980 الصادر من السلطة التشريعية العليا للدولة آنذاك، مع تجاهل حق أجر المثل وحق الانتفاع المستحق عن طيلة سنوات التهجير والتعويض عنها بشكل منصف، علاوة على بطء الإجراءات التي انعكست سلباً بعدم استرجاع العقارات المُصادرة من قِبل أصحابها الشرعيين وبقاؤها مُعلقة في مرحلة التمييز النهائي لفترة طويلة وتتغير قيمة العقار والتعويض تبعاً لمؤشرات الحالة الاقتصادية والمالية والنقدية، وأصبح وجود الهيئة عقبة أمام استعادة الأملاك المسلوبة؛ وغير مبرر بصفتها جهة تنفيذية تابعة للحكومة وتمارس صلاحيات قضائية متجاوزة بذلك على استقلالية القضاء المكفولة دستورياً وقيامها بهذا الاختصاص وفق القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 المعدل، كما صدر قانون إدارة الدولة لعام/2004، ونص على ما يأتي : ـ 
المادة (6): تتخذ الحكومة العراقية الانتقالية خطوات فعالة لإنهاء آثار الأعمال القمعية التي قام بها النظام السابق والتي نشأت عن التشريد القسري وإسقاط الجنسية ومصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة والفصل من الوظيفة الحكومية لأسباب سياسية أو عنصرية أو طائفية .
المادة 11 : 
(أ) كل من يحمل الجنسية العراقية يعد مواطناً عراقياً وتعطيه مواطنته كافة الحقوق والواجبات التي ينص عليها هذا القانون وتكون مواطنته أساسا لعلاقته بالوطن والدولة . 
(ب) لا يجوز إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي ولا يجوز نفيه . ويُستثنى المواطن المتجنس الذي يثبت عليه في محاكمة أنه أورد في طلبه للتجنس معلومات جوهرية كاذبة تم منحه الجنسية استنادا إليها . 
(ج) يحق للعراقي أن يحمل أكثر من جنسية واحدة، وأن العراقي الذي أسقطت عنه جنسيته العراقية بسبب اكتساب جنسية أخرى يعد عراقياً . 
(د) يحق للعراقي ممن أسقطت عنه الجنسية العراقية لأسباب سياسية أو دينية أو عنصرية أو طائفية أن يستعيدها . 
(هـ) يلغى قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 666 لسنة 1980 ويعد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجبه عراقياً . 
(و) على الجمعية الوطنية إصدار القوانين الخاصة بالجنسية والتجنس والمتفقة مع أحكام هذا القانون . 
(ز) تنظر المحاكم في كل المنازعات التي تنشأ عن تطبيق الأحكام الخاصة بالجنسية . 
ثم أصدرت الحكومة المؤقتة توجيهاً رسمياً مخالف للدستور، بعنوان: (حالات التبعية الإيرانية)، مما رسخ مفهوم موروث عن النظام المُباد يعطي انطباعا بأن المهجرين أجانب وأعادهم إلى المركز القانوني ما قبل التهجير بصفة أجنبي مُكتسب للتجنس وفق قانون الجنسية العراقية رقم (43) لسنة 1963 الملغى كمواطنين من الدرجة الثانية، وتبعه إجراء لاحق برفع شارات الترقين والتجميد، وعلى أساسه تم منح نموذج شهادة الجنسية، ومدون فيها العبارات الآتية: {الجنسية السابقة، تبعية الأم السابقة، تبعية الأب السابقة}، وهذا النموذج من الإصدار قد ألغي بموجب تعمليات الجنسية العراقية عدد (1) لسنة 1980 أي في زمن النظام المقبور ذاته ما أعاد إلى الأذهان اتهام المواطنين بـ (الفرس العنصريين المجوس). 

الدستور العراقي 2005 
ثم صدر الدستور العراقي لعام/ 2005 ونصت مادته (18) على ما يأتي :
أولاً ـ الجنسية العراقية حقٌ لكل عراقي، وهي أساس مواطنته .
ثانياً ـ يعدّ عراقياً كل من ولد لأب عراقي أو لأمٍ عراقية، وينظم ذلك بقانون .
ثالثاً ـ أ ـ يحظر إسقاط الجنسية العراقية عن العراقي بالولادة لأي سببٍ من الأسباب، ويحق لمن أسقطت عنه طلب استعادتها، وينظم ذلك بقانون .ب ـ تسحب الجنسية العراقية من المتجنس بها في الحالات التي ينص عليها القانون .
رابعاً ـ يجوز تعدد الجنسية للعراقي، وعلى من يتولى منصباً سيادياً أو أمنياً رفيعاً التخلي عن أية جنسية أخرى مكتسبة ، وينظم ذلك بقانون .
خامساً ـ لا تمنح الجنسية العراقية لأغراض سياسة التوطين السكاني المخل بالتركيبة السكانية في العراق .
سادساً ـ تنظم أحكام الجنسية بقانون، وينظر في الدعاوى الناشئة عنها من قبل المحاكم المختصة .

قانون الجنسية العراقية رقم (26)
صدر قانون الجنسية العراقية رقم (26) لسنة 2006، ونشر في جريدة الوقائع العراقية العدد: (4019) في 7/3/2006، والذي شرّع بتأريخ 15/11/2005 ولم ينشر في الجريدة الرسمية إلا بعد أربعة أشهر من إقراره!!!، وتبين وجود اعتراضات كثيرة على القانون لكونه شُرع على عجل ودون دراسة وافية ومستفيضة في وقت قصير في ظل التحضير للانتخابات وتركيز الاهتمام على إعداد الدستور، وجاءت صياغة نصوصه مختصرة يسودها الكثير من الغموض، وعليه كانت تعليمات وزارة الداخلية بشروطها المتشددة لإعادة الجنسية للمهجرين هي : 
– {إثبات محل الولادة له ولأبيه وجده، والرعوية السابقة، وصورة القيد لعام 1957، وإفادة ثلاثة شهود}، لمخالفتها لنص المادة (3/أ) من قانون الجنسية العراقية رقم (26) لسنة 2006، وتناقضها مع الدستور ومادته (18) ولحقوق الإنسان ومبادئ القانون الدولي، ولا بد من عودة الحق إلى نصابه ومعالجة هذه التشوهات بشكل شافي لتصبح المواطنة درجة واحدة في العراق لإنهاء هذه الإشكالية، وينطبق الحال نفسه على إجراءات مؤسستي الشهداء والسجناء السياسيين عندما اعتبرت كل منهما الفيلي بصفة (محتجز) وليس (محكوم) بشأن إعادة الحقوق للمتضررين تعسفياً من النظام المباد، واليوم مضى سبع سنوات على العراق الجديد، وملف المهجرين بحاجة إلى مناقشته ودراسة بشكل مستفيض من قبل الجهات ذات العلاقة وإدراجه ضمن أولويات الحكومة العراقية لإيجاد الحلول الجذرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق