إذا كان للحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة مناسك وآداباً ينبغي مراعاتها عند أداء الفرائض، فإن لمقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة آداباً وفضائل وثمرات وفوائد ينبغي أن تعرف قبل الدخول إلى الحضرة المقدسة الطاهرة.
ولا بد من الإشارة إلى أن الزيارة النبوية لمقام سيد الأنام المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ليست من مناسك الحج أو العمرة، وإذا كان الحاج أو حتى إذا وصل إلى الأراضي المقدسة، فلا بد أن يغتنم الفرصة لزيارة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لذلك تذكر أحكام الزيارة وآدابها وما جاء فيها بعد أبواب المناسك.
هذه الأحكام والآداب وما جاء فيها من أبواب يتحدث عنها كتاب (الزيارة النبوية بين البدعة والشرعية) لمؤلفه محمد بن علوي بن عباس المالكي الحسني الصادر في أبو ظبي عام 2000 والذي يقع في 300 صفحة من القطع العادي، هذا الكتاب الذي أوضح فيه المؤلف بيان تلك الآداب الشرعية وتأصيل مراسم زيارة مقام سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وفق ما جاء عنه من أحاديث في فضل زيارته حياً أو ميتاً، وبيان لما كان عليه صحابته الأجلاء (رضي الله عنهم) والسلف الصالح والأئمة المعتبرون من هذه الأمة في زيارتهم لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وزيارة مسجده الشريف ومدينته الطيبة المنورة.
ويشير المؤلف إلى السبب الذي دفعه إلى تأليف مثل هذا الكتاب كونه بحث عن مسألة مهمة فيها الخلاف بين طلبة العلم، وهي المسألة التي دفعته إلى شد الرحال إلى زيارة النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب ظهور كتاب في موسم الحج لعام 1419هـ أساء فيه إلى المسلمين وكدر عليهم صفوهم وهم في زيارة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) فكان هذا الكتاب أكثر إيذاءاً لهم وجرحاً لشعورهم وهم حجاج وقاصدون وجه الله سبحانه وتعالى، إذ يقول صاحب الكتاب (المفتري والمتعدي) إن زيارة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد موته (مفسدة راجحة لا خير فيها) وقد أزعج هذا الافتراء والتعدي على مقام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) المؤلف محمد بن علوي بن عباس المالكي الحسني، ودفعه إلى تأليف كتابه (الزيارة النبوية بين البدعة والشرعية) في الدفاع عن مقام الرسول (صلى الله عليه وسلم) والدفاع عنه؛ ويتساءل ماذا ينقص من إيمان الحاج لو سافر قاصداً زيارة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) معتقداً أنه عبد الله ورسوله الذي أرسله لهداية البشرية وأنه أدى الرسالة وبلغ الأمانة وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين لا يزيغ عن هواه إلا هالك وجاحد، لذلك يؤكد المؤلف على مشروعية زيارة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وشد الرحال إليه والتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى.
ويوضح المؤلف انه شاع بين بعض الناس أن أحاديث الزيارة كلها ضعيفة بل موضوعة، وهو خطأ بلا ريب ومصادمة لقواعد الحديث ولا يصدر عن محقق ممارس للحديث خبير بقواعد الجرح والتعديل بصير بالنقد والتجريح.
وخلاصة القول – كما ذهب المؤلف – أن أحاديث زيارة القبر الشريف الطاهر تصلح لإقامة صلب الدعوة، ومن الجرأة الحكم عليها بالوضع كما زعم البعض، ويستشهد المؤلف بما ذكر في القرآن الكريم لتأكيد ذلك في قوله تعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً} النساء 64 وقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} النساء 100.
ويؤكد المؤلف أن هذه الآيات تشمل حالتي الحياة وبعد الانتقال، ومن أراد تخصيصها بحال الحياة فقد أصاب لأن الفعل في سياق الشرط يفيد العموم.
وهناك أحاديث شريفة دعت إلى ذلك وخاصة قوله (صلى الله عليه وسلم): من زار قبري وجبت له شفاعتي) وهو عن ابن عمر رضي الله عنه ورواه الدارقطني في سننه (2/278) والحكم الترمذي في النوادر (148)، وأقل ما يقال في هذا الحديث أنه حسن، ويشير إلى أن النووي والبيهقي احتجا على مشروعية السفر للزيارة النبوية الشريفة بالحديث الشريف: (ما من احد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام) رواه أبو داود بإسناد صحيح، كما أنه يستشهد برأي العلامة ابن حجر محذراً من ترك زيارة النبي مع استطاعة ذلك قائلاً واعلم انه (صلى الله عليه وسلم) حذرك من ترك زيارته أتم التحذير وأرشدك إليها بأبلغ بيان وأوضح تقرير، وبين لك من آفاقها ما إن تأملته خشيت على نفسك القطيعة والعواقب حيث ورد: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) يبين لك أن ترك زيارته جفاء، كما أن الزيارة النبوية الشريفة في الحقيقة توحيد خالص وإيمان صادق لا يشعر به شرك ولا شجعة شرك ولا ذرة من شرك وذلك لأنها إقرار لصاحب الرسالة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) بعظيم فضله وكمال الإحسان وتمام المنة والمعروف وغاية الرتبة في الشرف والعبودية المحضة الصادقة، وهذا عين التوحيد، وأما تصور البعض منع الزيارة أو السفر إليها من باب المحافظة على التوحيد، وأن ذلك ما يؤدي إلى الشرك فهو تخيل باطل دل على غباوة متخيلة وخبالته، لان المؤدي إلى ذلك هو اتخاذ القبور مساجد، والعكوف عليها وتصوير الصور فيها، كما ورد في الأحاديث الصحيحة، بخلاف الزيارة والسلام والدعاء والتبرك، وكل عاقل يعلم الفرق بينهما ويتحقق أن النوع الإنساني إذا فعل ذلك مع المحافظة على آداب الشريعة الغراء لا يؤدي إلى محذور البتة، مع وجوب التنبيه إلى أمرين لا بد منهما:
احدهما: وجوب تعظيم الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ورفع رتبته عن سائر المخلوقات، وثانيهما: إفراد الربوبية والاعتقاد أن الله سبحانه وتعالى متفرد بذاته وبصفاته وأفعاله عن سائر مخلوقاته.
ويتناول المؤلف في معظم صفحاته نصوص الأئمة في الفقه والحديث والشريعة من استحباب زيارة القبر الشريف فيعرض لآراء المالكية والأحناف والشافعية والحنبلية ويؤكد على أن اعتناء السلف بالسلام على النبي (صلى الله عليه وسلم) عند قبره الشريف أصالة.
ويورد آراء الحافظ الحيلمي وابن عساكر والفيروز آبادي وابن تيمية وابن القيم والكرماني وابن حجر العسقلاني والشوكاني وغيرهم، وفي الكتاب تفاصيل وآداب الزيارة الشريفة موضحاً ضرورة التمسك بالآداب الشرعية في تلك الرحاب الطاهرة والمنازل المباركة؛ فيشعر بشرف المكان فإذا دخل إلى المسجد النبوي يدخل بسكينة وهدوء واحترام تام ولا يرفع صوته لأن رفع الصوت في المسجد منهي عنه .
وفي البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف: (لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضرباً، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)).
وينبغي لمن وصل المدينة المنورة أن يجتهد في المحافظة على الصلاة في المسجد النبوي الشريف، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) قال النووي: هذا التفضيل يعم الفرض والنفل.
الكتاب من الدراسات الإسلامية الرصينة والمدعمة بالأحاديث والأسانيد التي تدحض الآراء التي وردت دون أن يستطيع أصحابها إثبات آرائهم، كتاب فريد في بابه لا يستغني عنه المسلم الحريص على شعائر دينه واحترام نبيه الكريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق