إن شبح التمدد الداعشي بات العنوان العريض للإعلام، على المستوى
الدولي والإقليمي، وتحول إلى الشغل الشاغل للمحلليين والمراقبين في مجال تحليل الأحدث
والمعطيات السياسية، فالتغييرات الديناميكية في الشرق الأوسط، والمفاجئات السياسية،
قد عقدت مسألة فهم المتغييرات في السياسة العامة والخارجية لللاعبين الدوليين في المنطقة.
فالاستقرار السياسي والاقتصادي باتا أمام خطر حقيقي، واحتمالية تحول المنطقة إلى ساحة
لحروب إقليمية، بات السيناريو المرتقب في
ظل الأحداث المتسارعة.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو: أين (أنقرة) مما يجري على حدودها،
وإلى أي مدى تعاني من سياسة العزلة، بعد طموحاتها القائمة على أساس تصفير المشاكل مع
الدول المجاورة؟
إن السياسة الخارجية التركية، في ظل الحكومات التركية منذ 2001،
قد مرت بمراحل مهمة، وتعرضت لتغييرات جوهرية، ارتبطت بتغير وجهة الدولة التركية، وأولوياتها،
في البعد الخارجي، وكذلك تغير النخبة الحاكمة، التي وجدت في العمق الإسلامي الممر الاستراتيجي
نحو تحرير (تركيا) من ديونها وأزماتها الاقتصادية، من ناحية، وباب الخروج من أزماتها
السياسية، خاصة فيما يتعلق بموقع (تركيا) في كل من أوروبا والشرق. فالفعالية والمرونة
في السياسة الخارجية لـ(أنقرة)، قد أثرت بصورة مهمة على موقع الدولة التركية، وكذلك
على الأولويات المتبعة في السياسة الخارجية لهذا البلد.
إن (تركيا)، في ظل (العدالة والتنمية) تبنت مفهوم المثالية السياسية
في صنع قرارها الخارجي، ورسم سياستها الخارجية، مع كل من البلقان والشرق الأوسط، فضلا
عن الحفاظ على نوع من الواقعية السياسية في
علاقتها مع كل من إسرائيل وأوروبا الغربية. وفي هذا الإطار، يمكننا ذكر مبدأ تصفير
المشاكل مع دول الجوار، الذي صممه (داود أوغلو)، مهندس السياسة الخارجية التركية، في
حقبة (العدالة والتنمية). فالحكومة الجديدة حاولت الاستفادة من الإرث الثقافي والتاريخي
للامبراطورية العثمانية، من خلال تبني المنهج المثالي في السياسة الخارجية. إلا أن
الربيع العربي، والتدخل التركي في ثورات العالم العربي، قد أثر على الاستراتيجية المرنة
لـ(أنقرة)، وغير موقع (تركيا) من دولة حيادية مع قضايا المنطقة: (العلاقات الإسرائيلية
ـ السورية، الملف النووي الإيراني)، إلى دولة فاعلة في دعم قضايا التحرر ومطالب الشعوب.
وبناءا على ذلك، بدأت (تركيا) تفقد تأثيرها على الكثير من الملفات، باستمرارها على
نهج المثالية في العلاقات الدولية، الأمر الذي أدى إلى تغيير السياسة الخارجية، من
تصفير المشاكل، إلى تصفير الأصدقاء، في البعد العربي، خاصة سوريا وبعض دول المنطقة.
وفي ظل المعطيات والتطورات السياسية الجديدة، وظهور (داعش) تحت
شعار دولة الخلافة، وتعرض الأمن الإقليمي للشرق الأوسط إلى خطر حقيقي، بدأت (تركيا)
تفكر في الخروج من مأزقها بأقل الخسائر، وعدم التسرع في المشاركة في الحملات الدولية،
دون ضمان موقف تركي، لا يقتصر على المشاركة وفق توجيهات دول أخرى، وإنما يشارك وفق
شروط ومعايير القوة التي تمتلكها (أنقرة) في محيطها السياسي والعسكري.
لذلك يمكننا ربط عدم مشاركة
(أنقرة) في حملة الحرب على الإرهاب الداعشي، بعاملين:
أولا: الخوف من بقاء نظام الأسد، والحرب بالوكالة من أجل حماية
ذلك النظام، أو بالأحرى ضياع مزيد من الوقت في الانشغال بمجموعات إرهابية، مع ترك طاغية
دمشق للاستمرار في حملته الترهيبية ضد المواطنين العزل. فالساسة الأتراك لا يشاركون
في المشاريع الدولية بصفة العطاء، وإنما لدى (أنقرة) سياسة مستقلة، يصنعها الأتراك
بأنفسهم، دون الرجوع إلى (البيت الأبيض)، أو (الكرملن)، مثل الدول العربية الأخرى،
التي تحصل على قرارات جاهزة، مجهزة، كقهوة الصباح في أروقة مكاتب القادة العرب. إن
(تركيا) تريد المشاركة في الحملة ضد (داعش)، بشرط إقامة (منطقة آمنة) لتحقيق منجزات
الثورة السورية، وكذلك لتخفيف العبء على (تركيا)، بإقامة مخيمات للاجئين السوريين على
الأراضي السورية. وهذا التردد التركي إفراز للعوامل المذكورة، إلا أن (تركيا) سوف تخرج
عن صمتها عندما تضمن نتائج إيجابية، أو التحرك بدافع الطوارئ، وإضاعة فرص الحياد.
ثانيا: الخوف من النفوذ الكوردي، المتمثل بالعمال الكوردستاني،
لأن (تركيا) ترى في كوردستان الغربية، العمق العسكري والسياسي لـ(حزب العمال الكوردستاني)،
وأن التوسع السياسي والعسكري لـ(قوة حماية الشعب الكوردي)، سوف ينعكس سلبا على الأمن
القومي التركي، حسب ما يعتقده القادة الأتراك. لذلك ترى (أنقرة) أن ما يجري في (كوباني)
ما هو إلا مشروع إقليمي، تحاول (أنقرة) الاستفادة من نتائجه، قدر المستطاع. فالدولة
التركية لا تزال لديها مخاوف من الاستقلال الكوردي، على حدودها مع (سوريا)، الأمر الذي
يغير السياسة التركية من سياسة قائمة على القوة المرنة، إلى سياسة قائمة على المفهوم
الأمني والعسكري من جديد.
إن التردد التركي يرتبط بالموقف البراكماتيكي للدولة التركية في
الوقت الراهن، ولدى (أنقرة) مخاوف من تدخل دول إقليمية، كـ(إيران)، بالشكل الذي يخدم
(إيران) على حساب التواجد العسكري والسياسي لـ(تركيا) في المنطقة. فالخيارات التركية
الصعبة، سوف تفرز خيارات أصعب في المرحلة القادمة، إذا أخفقت في إرضاء الأطراف المجاورة،
خاصة الكورد، لأن (أنقرة) لا تستطيع الانقطاع عن محيطها الإقليمي، ولا بد من تبني سياسة
قائمة على التقرب من الكورد، بدلا من استخدامهم مرة أخرى في سياسات خاطئة، تكون عواقبها
وخيمة على ما حققته (تركيا) خلال العقدين الماضيين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق