|
? يستدعي العملُ البحثيّ عادةً تحديد ماهيّة المصطلحاتِ التي يدورُ عنها البحثُ،
وأُطرها الدلاليّة، وتنوّع تفسيراتِها في الحقلِ المعرفيّ، ومن هذهِ المصطلحات مفردة
(السلفيّة) التي تشيرُ في الوسطِ المعرفيّ إلى عِدّة دلالات، فهي تُستخدم أحياناً للإشارةِ
إلى منهجيّة الاتّكاء المرجعيّ على التراث، ويُضادّها وفق هذا التعريف مفردات: تقدّمي،
وطليعيّ، وتحديثيّ، وسِواها. ووفق هذا التعريف الذي يستخدِمهُ كثيرٌ من الباحثين في
العالَم العربيّ، وفي الدوائِر البحثيّة الغربيّة كذلِك، يُمكن إطلاقُ صفة (السلفيّة)
على مَنْ يقفُ خارِج إطار الفكرة الإسلاميّة، فيُقال مثلاً (ماركسي سلفي) أو (قومي
سلفي) أو (إسلامي سلفي)، وغيرها، ويُقصد بهذا
الوصف الإشارة إلى مَنْ يلتزِم بالأقوالِ المؤسِّسة في المذهب أو المدرسة أو الحزب
الذي ينتمي إليه، ولا يميلُ إلى الرؤى الاجتهاديّة التجديديّة([1]).
أمّا في الداخِل الإسلاميّ، فإن مفردةَ السلفيّة
تحملُ دلالاتٍ أكثرَ تحديداً، بحيث يخرجُ من دائرتها كثيرٌ مِنَ الحركاتِ والأحزابِ
والجماعاتِ الإسلاميّة، فهي تشيرُ باختصار إلى المدرسة الفكريّة التي تمثِّلُ الامتداد
الطبيعيّ لمدرسةِ أهلِ الحديث، من حيثُ المُحدّد العقديّ التفصيليّ، ومن حيث طبيعةُ
التمحور حولَ النقاء العقديّ في التعامُل مع المختلفين داخِل الصف الإسلاميّ، ثمّ من
حيثُ الاعتمادُ على مرجعيّة السّلف في التعاطِي مع كُلّ القضايا الفقهيّة، القديمة
منها والمستجدّة، بشكلٍ لا يتمّ الخرُوج عنِ الآراءِ التي كانت سائدةً عند السّلف،
وتُقاس المستحدثات والنوازِل على أُصولٍ سابقة([2]).
لقد كان تقديرُ واقِع التديُّن يتّجهُ في المشرُوع
السلفيّ إلى تصويرِ الانحرافِ العقديّ والعمليّ الذي أصبحَ عليهِ المسلِمُون في حياتِهم،
وبيانِ المفارقة الكبيرة التي أصبحتْ بين هذهِ الحياةِ في واقعِها على عهدهم، وما تقتضيهِ
تعاليمُ الوحي قُرآناً وسنة من جهة، وما كان عليهِ تديُّن السلفِ من جهةٍ أُخرى([3]).
لقد كان التركيزُ شديداً في المشرُوع السلفيّ على المضمُون العقديّ، بحسبانه أن رأسَ
الانحرافِ الذي أصابَ المسلمين، وأدّى إلى ضعفهم، إنما هو الانحراف العقديّ، ولذلك
فقد كان إصلاحُ العقيدة هو الهمُّ الكبير في هذا المشرُوع([4]).
فقراءةُ المشرُوع
السلفيّ للواقِع تكادُ تنحصِرُ في وضعِ التديُّن الذي عليهِ المسلِمُون، وخلاصةُ هذهِ
القراءة أن المسلمين فَسُدَ تديُّنهم اعتقاداً وسلُوكاً، فتدهورَ وضعُهم، وضَعُفَ حالُهم.
وعليهِ، فالتديُّن في تقديرِ السلفيّة - حينما شُخّصَ الانحراف - قدِ اقتصرَ على جوانب،
وأهملَ جوانب أُخرى، ومن ذلك حصرُ الانحراف في مسألةِ توحيدِ الله باتخاذِ الوسائِط
إليه على مُستوى الاعتقاد، والانحرافِ في السلوكيات الناجمة عنها في مُستوى العمل.
أمّا الانحرافُ في تصوُّر المهمّة التي كُلِّفَ بها الإنسانُ ليكونَ خليفةً في الأرض،
والتي تقتضي التعميرَ الماديّ باستثمارِ الكونِ ومقدّراته، فإنه لم يَكُنْ لهُ حظٌّ
في التقدير. والحالُ أن وضعَ المسلمين كان وضعاً صارِخاً في القعُودِ عن مهمّةِ التعميرِ
والأخذِ بأسبابهِ، فكأنما اختُصِرَ تشخيصُ الانحرافِ في التديُّن في معنى ضيِّق منه،
وأهملَ الأبعاد الحضاريّة الماديّة والمعنويّة، والحالُ أنها من صميمِ الانحرافِ في
التديُّن الذي كان يعيشهُ المسلمون، والذي سبّبَ تخلّفهم ولا زال([5]).
والانحرافُ في التفكيرِ الذي آل إليهِ المسلِمُون
لَمْ يَكُنْ له حظٌّ في قراءةِ المشرُوع السلفيّ للواقِع، فهذا التفكيرُ قد آل إلى
المثاليّة والتجريد بعد الواقعيّة، كما آل إلى ضرُوبٍ مِنَ الوهميّة والخُرافيّة، بعدما
كان عليهِ مِنَ السببيّة، كما آل إلى التشتيت والتفريق بعدما كان عليهِ مِنَ التأليف
والتوحيد. وقد كان لكلِّ ذلك أثرهُ الفعّال في تخلّف الحياةِ الإسلاميّة، أمَّا في
قراءةِ السّلفيين، فإننا نكاد لا نجِدُ أثراً لهذا الانحرافِ في تقديرِ الواقِع([6]).
هذا، وقد
توافر الخطابُ السلفيُّ المحافِظ على رؤيةٍ للعالَم والدولة والمجتمع، ترى فيه انحرافاً
عن الكتاب والسنة ومنهج السّلف الصالح، إذ يرى أحدُ دعاتهِ "أن السُّمومَ التي
أنهكت قوّة المسلمين وشلّت حركتهم، ونزعَتْ بَرَكَتُهم، ليست هي سيوفُ الكفر التي اجتمعت
على الكيدِ للإسلام وأهله ودولته، وإنما هي الجراثيم الخبيثة التي تسلّلت إلى داخل
جسم العملاق الإسلاميّ على فترات بطيئة، ولكنها متوالية، وأكيدة المفعول"([7]).
ويرى (سليم
الهلالي) أن حصوننا مهدّدة من الداخل "ولكيلا تستيقظ الأمة الإسلاميّة على وخز
الإبر السامَّة المحقونة بالجراثيم الفاتكة، وإمعاناً في تضليلها، فقد قام أئمة الكفر
بإقامة مصانع داخلية لإفراز السموم من الداخل، وهذا ما يخطّط له الأسياد من الفرنجة
واليهود، وينفذه العبيد من الرويبضات الذين استنسروا في أرضنا، ولم تزل جموع الضلالة
ترفعُ عقيرتها إلى يومنا هذا تدعو إلى جهنم، فهاهم دعاة الديمقراطية يصرخون، وهاهم
أرباب الاشتراكية ينهقون، وهاهم أولياء القومية ينبحون، والناس وراءهم يلهثون، لأنهم
لم يستنيروا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ربوة ذات قرار مكين"([8]).
ويمكن أن
نؤكِّد هنا بالقول إنَّ السلفية المحافظة - بتوافرها على يقينٍ مطلقٍ بصحة منهجها
- تمثلُ رؤيةً أُحادية للعالم والنص والإنسان، رؤية أنتجت عقلية ثنويّة بامتياز، فثنائيات
التوحيد والشرك، والاتباع والابتداع، والخير والشر، تتحكّم في مفاصل الخطاب السلفيّ
التقليديّ، وتؤسس لموقفٍ عدائي تجاه الآخر، ينبني على المماثلة والقياس، فالإخوان المسلمين
كأهل الكلام، وحزب التحرير كالمعتزلة، وجماعة التبليغ كالصوفية، والسلفية الجهادية
كالخوارج، ولا سبيل إلى الدخول في أُفق التوحيد والاتباع إلاّ بالتماهي مع الرؤية السلفية
التقليدية([9]).
وتتلخّصُ
العقائد السلفية في صيغتها النهائية، وفقاً لـ(الألباني)، بالتسليم والاستسلام لنصوص
الكتاب والسنة، وتفسيرها بلا تأويل، وبأن الأصول ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة،
وباعتبار أهل القبلة مسلمون مؤمنون، فلا يكفر أحدٌ من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله،
والدين عند الله الإسلام، وهو وسط بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين
الجبر والقدر، والبراءة من أصحاب الأهواء والمذاهب المخالفة، مثل: المشبهة والمعتزلة
والجهمية والجبرية والقدرية([10]).
وقد دفعت هذه الرؤية الأيديولوجية بخطابِ (الألباني)، وبالضرورة السلفية المحافظة،
إلى جُملةٍ من السمات والملامح الرئيسة، من أهمها: التركيز على النصوص بدرجة أكبر من
العقل، والالتزام بالقراءة التراثية للنصوص الدينية، ورفض القراءات والتأويلات الجديدة
لها. وربط المواقف السياسية والفكرية من الأحداث الجارية بالجانب العقائدي، الذي يحتلُّ
مساحةً واسِعة من الحضُور في خطابِ التيار وفكره، ما يجعلُ من خطابه جامداً، محدود
القدرة على المناورة العقائدية مع التيارات والمذاهب الفكرية والعقائدية الأخرى. والأحادية
في التصور العقائدي والفقهي والفكري، ومجافاة التعددية، بل رفضها في كثير من الأحيان.
ورفض التعددية اكتسب بعداً آخر أخطر، وهو يتمثّل بتلبّس موقف ديني يرى الآخر بمنظور
المخالف للشريعة([11]).
فمفهُوم التأصيل
كان محوراً أساساً في المشرُوع السلفيّ، إذ لا نهضةَ للأُمّة، ولا صلاحَ لأحوالِها،
إلاّ بأن تكون حقائقُ القرآن والحديث هي المحرِّكة لحياتِها. وهذا المشروع لئن أرشد
إلى تصحيحِ الوجهة، إلاّ أنه لم يؤصّل الكيفيّة التي يكون بها الرجُوع إلى أصُولِ النصِّ
والاستمداد منه، بأن يضعَ في ذلك منهجاً، أو أُصولاً، تضمنُ أن يكون الاستمدادُ مِنَ
الوحي المنصُوص استمداداً رشيداً. علماً بأن مُشكلةَ ابتعادِ المسلمين عن أُصولهم ليستْ
متمثّلة فقط في انصرافِهم عنها، بل تتمثّلُ أيضاً في ضَعفهم منهجيّاً عن الاستمدادِ
منها. وبسببٍ من ذلك آل الوهابيّة - مع أوبتهم إلى الأُصول، ودعوتهم إلى ذلك - إلى
ضَرْبٍ مِنَ الظاهرية في الاستمدادِ من نصُوصِ القرآن والحديث، وقفت بهم أحياناً كثيرة
دون استكناهِ الأبعادِ العميقة لمقاصِدِ الوحي في توجيهِ الحياة، فإذا الاستمداد منه
يكون جزئيّاً محدُوداً، يقفُ عند مسائِل معدودات من العقيدة، يُبدأ القولُ فيها ويُعاد
على النّسقِ نفسهِ عقُوداً طويلة، دون أن يطالَ العمق القرآنيّ والحديثيّ، لتفجّر معانيها
في النفُوسِ طاقاتِها، فتنطلقَ في دأب لبناءِ الحياة الشامِلة، كما كان ذلك التفجير
الذي أحدثهُ الوعي في نفُوسِ العرب أوّل عهدهِم بالإسلام([12]).
السلفيّة
ومبدأ المصالحة مع الحكومات:
وما علينا
بعد هذا إلاّ أن "ننظرَ إلى ما بلغه القوم في تجزيئهم للإسلام، ونبذهم للأمرِ
بالمعروف والنهي عنِ (المنكرِ السياسيّ)، وهو جزءٌ من (الجهاد بالبيان) الذي يزعمُون
أنهم (القائِمُون) به، ولكن لا مع مَنْ يستحقه، بل ضِدّ العاملين للإسلام"([13]).
وهم فضلاً عن ذلك لا يؤمنون بالعمل الجماعيّ، ويقتصِرُ نشاطُهم على الجانبِ الدعويّ
والتعبوي، ونبذ الحزبيّة الحركيّة، لاعتبارها ضَرْباً من الابتداع. فهم يهدفون إلى
استئناف الحياة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، والوصول إلى الحكم بشكلٍ غير مباشر، بمعنى
أنهم لا يصطدِمون مع الأنظمة، ولا يُنكرون شرعيّة الحاكِم الدينية والسياسية، على اعتبار
أنه ولي الأمر([14]).
ويرى التيارُ السروريُّ أن السلفية التقليديّة غيّبت وعيَ الأمة من خلالِ نشر فكرة
الطاعة المطلقة للحُكّام، وتحريم حتى مجرّد المعارضة السلميّة، التي تعد مبدأً ثابتاً
من مبادئ أصحاب السنة والجماعة([15]).
هذا، وقد
عقدت السلفية المحافظة (صفقة) غير رسمية، عملياً، مع الأجهزة الرسميّة، وحدث تزاوج
بين الطرفين يقوم على قبول الدولة للمواقف السياسية المعلنة للسلفية، التي ترفض الانخراط
في العمل السياسي، وتشكّك بالمعارضة، وتعلن ضرورة طاعة الحاكم باعتباره "ولي الأمر
الشرعيّ"، وتخوض حرب نفوذ مع الجماعات الإسلامية الأُخرى في المساجد والمنابر
الاجتماعية والثقافية، مِمّا يساعد الحكومات على مواجهة نفوذ تلك الحركات، وتحديداً
الإخوان المسلمين سابقاً، والجهاديين لاحقاً. و(الخدمات السلفية) بالضرورة لم تكن مجّانية،
فقد حظيَ السلفيُّون المحافِظُون بغطاء أمني واسع، وبمساحات مباحة في المساجد والمدارس
والجامعات، وفي كل مكان، ووفرت لهم الدولة حماية من أي ملاحقة أو مساءلة، حتى على تلك
الأموال التي تدفّقت من دول الخليج، لرعاية العمل السلفيّ، ولطباعة الكتب، ودعم النشاطات
المختلفة للسلفيين([16]).
والعلّة التي تقفُ وراء الدعم الرسميّ لهذا التيار، هي أنه ينطقُ عمّا يجب أن يسكتَ
عنه، ويسكتُ عمّا يجب أن ينطق به([17]).
أمَّا الجماعات
والحركات الإسلامية الأخرى، فهي تنظرُ إلى السلفيين المحافِظين باعتبارهم (الطفل المدلّل)
لدى الدولة، إذ لا يواجهون حِرماناً أو منعاً من الوعظ والخطابة، كما أنّهم يتمتعون
بفرص جيّدة في التوظيف والتعيين في الوزارات المعنية، كالأوقاف والتربية والتعليم
(المواد الإسلامية)، وفي الجامعات لا يعانون من "حجب الموافقة الأمنية"([18]).
ويوضّح مسؤُول رفيع، على علاقةٍ بهذا الملف، أنّ "القاعدة الذهبيّة" التي
تحكمُ علاقة أجهزة الدولة بالجماعات الإسلاميّة جميعاً، تتمثلُ في أنّ المحك والمعيار
الرئيس هو الأمن ومصالح الدولة، فيما إذا كانت هذه الجماعات تخدمُ مصالح الدولة وأمنها،
أم تضرُّ بها، فتتحدَّد وفقاً لذلك السياسات الرسميّة([19]).
ووفقاً للمنظور الأمني، فإنّ إعلان السلفيين المحافظين اعتزالهم الشأن السياسي، وتبنّيهم
مقولة شيخهم الألباني (المشهورة): "من السياسة ترك السياسة"، هو إعلان مشجّع
ومطمئن، ويخدم الجانب الأمني. كما أنّ مواقف السلفيين الرافضة للعمل الحزبي، التي تدعو
إلى طاعة ولي الأمر، ورفض المعارضة العلنية والسياسية، والوقوف ضد المظاهرات والمسيرات
والاعتصامات، ومُخاصمة التيارات الإسلامية المعارضة، كلُّ تلك المواقف تصبُّ في خدمة
المنظور الأمنيّ([20]).
بالإضافة
إلى المواقف السياسيّة والفكريّة العامّة التي تخدم المنظُور الأمنيّ، وفقاً للمعنيين
به، فإنّ قادة التيار يخوضون "معركة الدولة الدينية" ضد الأطراف الأخرى،
سواء بإصدار الفتاوى أو في المحاضرات أو خطب الجمعة، ما يمنح الدولة (أدوات) منافسة
للإسلاميين الآخرين في المجتمع، تتجاوز المؤسسة الدينية الرسمية، التي لا تحظى بدعم
كبير، أو مصداقية عالية، عادةً، في الأوساط الشعبيّة([21]).
الملامح الفكرية
العامة للسلفية الجهاديّة: الحاكمية والسيف:
يقومُ فكر
التيار السلفي الجهادي على مبدأ (الحاكميّة) لله وحده، ونزع سلطة التشريع عن المجتمع.
والفكرةُ قال بها العلامة (المودودي)، وتابعه الشهيد (سيد قطب)، وجرت بها ألسنة الآلاف
من الشباب وأقلامهم، وهي كلمةُ حقٍّ، حُرّفتْ عن موضعها، وسخّرت لغيرِ ما قيلتْ له([22]).
أمّا مضمونها السياسي، فيتمثل بالكفر بالدساتير والنظم والحكومات والمؤسسات السياسية
(البرلمان، والأحزاب، والحكومات والقضاء)، والمؤسسات العسكرية الحالية (الجيش والأمن)
في العالم العربي والإسلامي، باعتبارها لا تلتزمُ بالتوحيد، الذي يعني بدوره إفراد
الله بحق التشريع والحكم. وبناءً على توصيف النظم المعاصرة بالكفر والجاهلية وحكم الطاغوت،
فإنّ أي مشاركة داخل المؤسسات السياسية، سواء أكانت مشاركة في الانتخابات التشريعية
أو البلدية، أم تولي مناصب حكومية وأمنية وعسكرية، هي بمثابة منح المشروعية للواقع
السياسي الفاسِد، وإعانة للظالمين على المسلمين، وترقيع لهذه الأنظمة، ومساهمة في استمرارها.
فلا يجوز المشاركة بالترشيح ولا بالانتخاب، ولا حتى في الوظيفة في العديد من المناصب
الحكومية([23]).
هذا، ويربط منظّرو (السلفية الجهادية) مفهوم (الحاكمية) بالتوحيد والعقيدة الإسلامية،
فمن لا يؤمن بأنّ حق التشريع لله وحده، فهو كافر، ومن لا يلتزم من الحكام بتطبيق الشريعة
الإسلامية، فهو كافر أيضاً، والمجتمعات التي لا تسود فيها حاكمية الشريعة الإسلامية،
ولا تحتكم إلى الإسلام في قوانينها وعاداتها وأحكامها العامّة والخاصّة، هي مجتمعاتٌ
جاهليّة([24]).
والغاية الأساسيَّة
من التركيز على مفهوم (الحاكميّة)، لدى منظِّري السَّلفية الجهاديَّة، هي نزعُ الشَّرعية
عن الأنظمةِ القائمة، وإدخالها في حدِّ الكفر، وذلك باعتبارهِ أحدَ أهمّ خصائِص توحيد
الألوهيّة. ووفقاً لهذا المفهوم، فإنّ الأنظمةَ المعاصرة قامتْ بانتزاعِ حقِّ الحُكْم
والتّشريع مِمّن له الحقّ، وهو الله سبحانه وتعالى. كما أن المجتمع الذي يقبلُ التّحاكُم
إلى هذه القوانين والتّشريعات، يقعُ كذلك في حدِّ الكفر، وهو الأمرُ الذي يسمحُ في
النهاية بقتاله([25]).
وقد أسهمَ الجهاد الأفغانيّ في إمداد السلفيّة الجهاديّة بطاقةٍ فائقة، أسفرت عن نشوء
عشرات الحركات السلفيّة الجهاديّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ، عقب انسحاب (الاتحاد
السوفيتي)، ثم انهياره، وتفكّك المنظومة الاشتراكية، تبلورت لاحقاً بتأسيس تنظيم (القاعدة)،
بزعامة (أُسامة بن لادن)، و(أيمن الظواهري)، الذي عمل على عولمة السلفيّة الجهاديّة.
إذ برز عدد من الشيوخ والمنظرين أمثال: (عبدالله عزام)، و(أبو محمد المقدسي)، و(أبو
قتادة الفلسطيني)، و(أبو يحيى الليبـي)، وغيرهم([26]).
إنّ أهمّ ما نريد التّأكيد عليه في هذا المضمار،
هو أنّ انخراطَ مجموعةٍ من شبابنا في خيار العنف الفكريّ أو المسلّح، في غفلة منّا،
هو بمثابة اختراق للمنظومة التربويّة والإعلاميّة والثّقافيّة والسياسيّة، التي لم
تتمكّن من مواكبة المستجدّات الدوليّة والإقليميّة، ولم تستعدّ لرفع التحدّيات الرّاهنة.
لقد بيّن الواقع، أنّ كلَّ السياساتِ الثقافيّة والتعليميّة، الرسميّة وغير الرسميّة،
التي راهنت على التّحديث القسري، بغية إلحاقنا بركبِ الدُّول المتقدِّمة، دون فضِّ
المشكلات المعرفيّة والمنهجيّة التي تطرحها إشكاليّة الهُويّة، قد ثبت فشلُها في سلخ
الشباب عن انتمائهم الثقافيّ والرّوحي([27]).
وبقطع النّظر
عن التّحليلِ السياسيّ لهذه الأحداث المؤسفة، فإنّها تحيل المهتمّين بالشّأن التربوي
- من الأسرة إلى المدرسة والجامعة وفضاءات التّأطير الشّبابي- إلى الفشل الذّريع في
إحاطة فئات من الشباب بالرّعاية النفسيّة، والإحاطة الاجتماعيّة، والتّنوير المعرفي،
والمتابعة لمشاغلهم واهتماماتهم، قصد وقايتهم من الحلول التي تعكسُ حالةَ اليأسِ والإحباط.
إنّ تمكين الجميع من التّعبير عن أطروحاتهم، بشكلٍ يأمنون فيه على أنفسهم من الملاحقة
أو المتابعة القانونيّة، أو كذلك التّكفير الدّيني أو السّياسي، سيمكِّن المجتمع بكلِّ
فعاليّاته من تنشيطٍ حَراك اجتماعيّ يفضي إلى تقريب وجهات النّظر والتّعديل من الرّؤى
وفرزها، واستصفاء جملة من المشتركات([28]).
وباستعراضِ المسار التّاريخي للظّاهرة السلفيّة، يرى بعض الباحثين أن انتشارَ هذا التيار
- وتجاوب الكثير من فئات الشباب المتديِّن معه - إنما يرجعُ إلى أسبابٍ اجتماعيّة وسياسيّة
قائِمة على فكرةِ الانتقام من الحُكّام المستبدين، وردّ الفعل على أوضاع الفَقْرِ والتّهميشِ
الاجتماعيّ، وفي درجةٍ ثانية: الرَّفض للسّياساتِ الثّقافيّة المتّبعة، لا لأسبابٍ
دينيّة خالصة([29]).
إنّ المعطياتِ
والمعاينةَ المباشرة للوجُودِ السّلفي تؤكّد أنّنا لسنا أمامَ ظاهرةٍ عرضيّة عابرة،
على الأقلّ على المدى القريب، بل أمام حالةٍ ثقافيّة دينيّة سلوكيّة، تتبنّاها وتُنافِح
عنها - بكلِّ وثوقيّة - فئاتٌ من المجتمع، وخاصّة من جيلِ الشّباب([30]).
وفي غيابِ الحصانة - التي يُفترض أن توفّرها السّياسة التّعليميّة والحركيّة الثّقافيّة
- انخرطتْ فئاتٌ من الشّباب، بكلِّ سرعة ودون حسّ نقديّ تحليليّ، في ضَرْبٍ من الانتماء
العقائدي والفكريّ والتّعاقد المعنوي مع أصحاب تلك العقائد والأفكار، بل وترجموا تلك
القناعاتِ على مُستوى الواقع العمليّ، من خلال سلوكيات فرديّة وجماعيّة، وخطابٍ أصبحتْ
له خصائص ومضامين، وشكّلوا شيئاً فشيئاً ضَرْباً من الرّابطة العاطفيّة والوحدة العضويّة
بين نظرائهم، سواء أكانوا مِنَ السّلفيّة العلميّة أو الجهاديّة([31]).
ونحن في هذه المقاربة نعمدُ إلى المزج أحياناً بين السلفيّة العلميّة والجهاديّة، رغم
التّدافع بينهما، وذلك لاشتراكهما في المرجعيّة الفكريّة والعقائديّة نفسها، وما الخلاف
بينهما - كما يظهرُ لنا - سِوى خلافٍ سياسيّ عمليّ، أقرب إلى مجاراةِ الواقع منه إلى
أَصَالة الفكر. ويكفي للتّدليل على ذلك إحالة كلا التيّارين على أدبيّات مشتركة، منها:
كتب (ابن تيمية)، و(محمّد بن عبد الوهاب)، وفتاواهما([32]).
وعلى الرّغم
من الأُصول العقائديّة المشتركة، تنشط بين السّلفيّة العلميّة والسّلفيّة الجهاديّة
مناكفاتٌ وتلاسن خافِت، هو انعكاسٌ للجدل الدّائر بين الفريقين في العالم العربيّ والإسلاميّ.
ولعلّ أهمَّ ما يُجسِّد هذه المساجلات كتاب (مدارك النَّظر في السّياسة بين التطبيقات
الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية)، لمؤلّفه (عبدالمالك أحمد الجزائري)، الذي قرّظه
المحدّث (محمد ناصر الدين الألباني)، ويردّ فيه على السّلفيّة الجهاديّة ويسمهم بالخوارج
والتّكفيريين. ويشنّع فيه خروجهم على أولياء الأُمور، وتبنّي النّهج الجهاديّ مع الحكّام.
وهو الكتاب الذي يستعينُ به أنصار السّلفيّة العلميّة للردِّ على خصُومهم من الجهاديين،
لما جمعه من فتاوى مشايخ السّلفيّة، وما حواه من ردودٍ مستفيضة على الجماعات التي تتبنّى
الخروج على الحكّام نظريّاً وعمليّاً([33]).
أمّا في الاتّجاه المقابل، فنجد كتاب (تبصير العقلاء بتلبيسات أهل التجهّم والإرجاء)
للشيخ (أبي محمد عاصم المقدسي)، وهو ردٌّ على كتاب (التحذير من فتنة التّكفير) وكتاب
(إمتاع النظر في كشف شبهات مرجئة العصر) للمؤلّف نفسه، الذي ينعتُ خصومه من السّلفيّة
العلميّة بمرجئةِ العصر، حيث يشنّع عليهم لحكمهم بإسلام الحكّام، وما يترتّب على ذلك
من موالاة وولاية وتولٍ، وما يتفرّع عنه من تحريمٍ لأموالهم ودمائهم وأعراضهم([34]).
أمّا الظّاهرة
السّلفيّة، بشقّيها العلميّ والجهاديّ، فإنّ (الإنترنت) كانت ولا تزالُ المصدرَ الأساسَ
لتشكيلِ الوعي والثّقافة والمعرفة، وبدرجةٍ ثانية الكتب التي يوفّرها - من حينٍ لآخر - معرضُ الكتاب الدّولي، وهذا المصدرُ
المعرفيّ يقدّم مادّةً متنوِّعة تتفاوتُ بين الكتاب الرّقمي والفِقرات السمعيّة والمصوّرة
ومادّة الفلاش، أو البرامج التّفاعليّة، كالاستفتاء والاستفهام عن أُمورٍ شتّى. وقد
أصبح لمنظِّري هذا التيّار مواقع تربطهم بها علاقة كبيرة، بايعوها بيعةً رمزيّة، عندما
بايعوا الشّيوخ الذين يتواصلُون معهم عبرها، وذلك من خلال الكتب التي تنشرُ على هذه
المواقع، وتنقلُ في أقراصٍ مضغُوطة. والاقتصار على تصفّح هذهِ الكتب، أو المختصرات،
ومن ثمَّ الاطّلاع على مضامينها بشكلٍ انتقائيّ مُشوّش، يؤدّي إلى استحالة التمثّل
التّأليفي النّسقي لهذهِ الأدبيّات، وبالتالي ينشأُ عن هذا الضَّرْب من العَلاقة بين
مصادر المعرفة والمتلقّي حالة من الاستلاب الذي يفضي إلى الوثوقيّة التامّة. لقد شكّلت
مرجعيّة (الإنترنت) والفتاوى التي تُبثّ من خلالها، أساساً لوحدةٍ عاطفيّة عقائديّة
فكريّة، أفضتْ - في مرحلةٍ متقدّمة - إلى وحدةٍ عضويّة تنظيميّة، يعتنقُ فيها الشّباب
الأفكار، ويعقدون الولاء والبيعة لمن لا يتّصلون به فعليّاً، ويلتزِمُون بطاعتهِ وتطبيق
تعليماتهِ وفتاواه، ونشر دعوته والعمل على إنفاذها في الواقع، بأساليبَ تتفاوتُ بين
الدّعوة السلميّة والعُنف([35]).
السّمة المشتركة لهذه المدوّنة الرّقميّة:
إن أهمَّ ما يميِّزُ هذهِ المدوَّنة الرقميَّة،
هو طابعُها التّأسيسيّ التّأصيليّ القائِم على ترسيخ ما يفترض أنّه عقيدة الفرقة النّاجية
والطّائفة المنصورة، فضلاً عن طابعها السّجالي الإقصائي، القائِم على نقضِ كلّ العقائد
والتصوّرات والأفكار المخالفة، باعتبارها شركيّة كفريّة، وفي أدنى الأحوال بدعيّة فسقيّة.
وأخيراً الغياب الكامِل للإحالة على قضايا التنمية، ومكافحة البطالة والفقر، ونشر المعرفة
الحديثة، وتبيئة التكنولوجيا، فضلاً عن مسائل الديمقراطيّة، والمشاركة السياسيّة، والضمانات
الدستوريّة، وحقوق الأقليات، والحريّات العامّة والأساسيّة، التي تعدّ من المكفّرات([36]).
وكأنهم بذلك يخرجُون عن عصرهم، وكأن الزمنَ التاريخيَّ قد توقّف عندهم إلى الأبد، فهم
يعيشُون في عصُور السلاطين وقصورهم، ويتقلّبُون في عهودهم الزاهرة، وقد أكّد (عبدالرحمن
منيف) ذلك النزوع، بقوله: "العربُ أمةٌ تعيشُ في الماضي، وإن التاريخ يُلهمها
أكثر مِمّا يعلّمها في الواقع، لذلك فهي لا تحسنُ التعامُل مع الزمن الذي تعيشهُ، وهذا
هو السبب في تخلّفها". ويصحُّ القول بالتالي "إنها حركةُ دفاعٍ وتمركُز حولَ
الذات، تتحصّنُ في التاريخ، وتستلهمُ (الأنموذج) كفعلِ هرُوبٍ لا واعٍ من تحدياتِ الواقع
وانكساراته". ليس هذا فحسب، ولكنها تعمدُ إلى احتكارِ (التاريخ)، وتأويلهِ لصالِحها،
تأويلٌ يُؤدّي أحياناً إلى سلوكِ (الفعل العنفيّ)، وذلك اعتماداً على منهجيّة خاصّة
في التأويل في قراءتهِ للنصُوصِ القرآنيّة الكريمة، واستثمارها أيديولوجيّاً في التثوير
والتحميس والدفع نحو الموت. والأُصول الأُولى لهذا الخطاب تتمثّلُ في (أيديولوجيّة
الخرُوج)، التي ساهمتْ في صنعها فرقٌ إسلاميّة كالخوارِج والإسماعيليّة([37])،
وتبنّتها فرقٌ أخرى تحملُ ملامحها القديمة، والتي تتلخصُ في مُمارسةِ العنفِ، والإقصاء،
والتدمير: العنف؛ كمنهج للتغيير والوصُول إلى السُلطة، والإقصاء؛ إقصاءُ مَنْ يختلِفُ
معها، والتدمير؛ تدمير كُلّ بناءٍ ثقافيّ واقتصاديّ([38]).
ويعيشُ الكثير من الشّباب المتديّن في حالةِ غربة، لأنّ قدواتهِ في الغالِب من الشّخصيّات
التّاريخيّة التي طواها الزّمن، ولم تبق منها إلاّ ذكرياتٌ وعبر، ترويها كتب التّاريخ،
ويجهد الشّباب ذهنه ومشاعره في استحضارها، والاقتداء بها، وفي الوقت نفسه كان يبحثُ
عن المعادِل الموضوعيّ لها في الواقِع، لتتأكّد صدقيّة الفكرة وراهنيّتها في سياقِ
ثقافةٍ عربيّة إسلاميّة مأزومة متوتّرة، لا تزالُ تراوح مكانها في الجوابِ عن سؤال
طرحهُ منذ عصر النّهضة (شكيب أرسلان): لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهُم؟([39]).
وإنه لسؤالٌ مُلِح يُراوِد الذينَ يحمِلُون همَّ النهضةِ الإسلاميّة، هو: لماذا لم
تثمرْ حركاتُ النهضةِ في العالِم الإسلاميّ، تحضُّراً، في أيِّ جزءٍ من أجزائهِ، على
الرّغمِ من تعدُّدِها وثرائِها، وتواليها على مدى قرنينِ ونصف أو أكثر؟([40]).
وبغضِّ النظر
عن المراحل التي انتعشت فيها السلفيّة، فهي تحرّكت على الدوام ضمن مشهدٍ معرفيّ، رسمَ
أصول التفكير وقواعد السلوك داخل فضائه. فالتاريخُ بالنسبة إلى السلفيّة، هو إحالة
إلى "أفضل العصور وأولاها بالاقتداء والاتّباع"، فالماضي هو المنطلقُ والمرجع.
ولا مشكلة في قراءة التاريخ وتمثّل التجارب والخبرات، فالتاريخُ هو ذاكرةُ الشعوب ومستودع
خبراتها ووعيها. لكن السلفيّة لا تكتفي بمجرّد الإحالة إلى العصر الذهبـيّ، وإنما تعمدُ
إلى تأسيس منهجٍ يقنن العَلاقة بالتاريخ والتراث، مما يحوّل الأمر إلى استدعاء للتاريخ،
وقراءته بصورة أيديولوجية، تستهدفُ صياغةَ الحاضر وفق صورةٍ مثاليّة مُقتَطعة من الماضي([41]).
وإضافةً إلى ذلك، فإن "هذه المنهجيّة - التي ترسمُ العَلاقة بالمرحلة التأسيسيّة
للإسلام - هي التي تفسِّر لنا قوة حضُور الماضي في الذهنية المعرفيّة لهذه الاتجاهات،
حيث لا تزالُ الجزئيات تحتلُّ موقع الكليّات، والحيثيّات تتغلّبُ على الكيفيّات، وتفرضُ
نفسها على العقلِ الإسلاميّ، لتزيد من إرباكاته. والمشكلة أنه حين يُصبح الطموح نحو
الأفضل أسيرَ التاريخ والماضي، يذبلُ الإبداع، ويغلبُ التقليد والاتّباع"([42]).
كما أن استلهامَ التاريخ بصورةٍ انتقائيّة، حِفاظاً على الهُوية، يقود إلى الانغلاق
على الذات، وهو حلٌّ شكليٌّ هروبيّ. ذلك أن الحفاظَ على الهُوية لا يكمُن حقيقةً في
استرجاعِ الماضي فقط، أو الاتكاء على التراث وكفى، بل بتأكيد الفعاليّة الذاتيّة، وقيم
الإبداع والاجتهاد، في مواجهة الواقع المتغيّر أبداً([43]).
وليس غريباً
أن نرى هؤلاءِ مُرَحَّباً بهم من قبلِ الأجهزة الأمنيّة والنظم الدكتاتوريّة، في مُعظمِ
الدولِ العربيّة. فهؤلاءِ يمثّلُون - في عواصم العالَم العربيّ والإسلامي - الوجهَ
الدينيّ للنظام العلمانيّ، مِمّن تـمّ تدجينهم لتزيين صورة السلطة في مخيالِ النّاس
جميعاً. فهم بحق عُلماء السُلطان، يزيِّنون أعمالَه، ويبرِّرون أفعالَه، ويقومُون بتبديعِ
كُلِّ من ليسَ في صفّهم، وتفسيق كُلّ من خرجَ عن أفكارهم، وتكفيرِ كلِّ من فكّر بخلافهم.
فهم ثيوقراطيُو العصر الجديد، يحمِلُون في أياديهم عِصي التكفير بحقّ كلّ مَنْ يُعارضهم،
وكأنهم ورثة (محاكم التفتيش) التي تتمعَّنُ في محاصرة الناس ومطاردتهم، وتضييق الخناق
عليهم، وجعلهم تحت المراقبة المشدّدة، فيرفعون المحاكم التي لا تعرف الرحمة ضِدّ المهرطقين،
ولا يدخرون وسعاً في التفتيش عن عقائد الناس، والنبش في نياتهم، والبحث في معتقداتهم،
وتدشين اضطهادٍ فكريّ لا يقلّ عنِ الاضطهادِ الكنسيّ، من خلالِ فرضِ أفكارهم، وكأنني
بهم يُوزِّعون على بعضِ الناسِ (صكُوك الغفران)، وعلى بعضهم الآخر عهود الحِرْمان،
على الرغم من أن الإسلام دخل العالم بفكرةٍ تسامحيّة، ينبذ العنفَ والإكراه، وقد "بُنيتِ
الحياةُ السياسيّة الإسلاميّة على مبدأ (لا إكراهَ في الدين). وحرف (لا) للنفي يدخلُ
على كل صُور الإكراه، وكل دين، وفي أي اتجاه. فلا يقتلُ الإنسان من أجل آرائه، وإلاّ
كان إكراهاً وحبساً، وهذا يعني أنه بمجرّد دخول الإكراه في الدين، يدخلُ الشرك، ويمزج
التوحيد بالوثنية، ويختلط الحقُّ بالباطِل"([44])،
وتبنى "منظومة فكريّة إقصائية واستبعادية، يتحوّل فيها السياقُ الدينيّ إلى نزعةٍ
تكفّر (الآخر) المخالِف، مُسلماً كان أم غير مسلم، وهي نزعةٌ تدشّن الأساسَ الموضوعيّ
للعنفِ، الذي عانت منه الأمة في مراحِل متعدّدة"، اعتماداً على آلية التفكير المنغلق،
التي تجعلُ الاجتهاد بدعة، والاختلاف عذاباً. هذا، وقد ذهب الشيخ (محمّد الغزاليّ)
إلى أن "الإكراه على الفضيلة، لا يصنعُ الإنسان الفاضِل، كما أن الإكراهَ على
الإيمان لا يصنعُ الإنسان المؤمن، فالحريّةُ هي أساسُ الفضيلة". على الرّغم من
أن "قوانين التاريخ تنصّ على أن كُلّ فكرٍ فُرِضَ بالإكراه يكون مصيرهُ الفناء".
هذا وقد ذهب (ابن رشد) إلى القول بأن "أكبر عدوٍّ للإسلامِ، جاهِلٌ يكفّرُ النّاس".
وأكّد الشيخ (محمّد الغزاليّ) أيضاً "إن للإسلام عدوّاً من الخارج هو أقلّ خطراً،
كالمشركين والوثنيين، وعدوّاً مِنَ الداخِل هو أشدّ خطراً، كمسلمٍ جاهِل لا يفهمُ دينه،
ويتعصّب لجهله وضلاله". وهو لا يدري أنه يمثل نفسَهُ أكثر من الدين الذي ينتسبُ
إليه.
مظاهِر التطرُّف الدينيّ وعلاماته:
لا بُدَّ - قبل الحديثِ عن ظاهرةِ التطرُّف-
أن نحاوِلَ تحديد الظاهرة التي نتحدّثُ عنها، وأن نحاوِلَ في إيجاز عرضَ مظاهِرها،
وتشخيص أسبابها. وهنا لا بُدَّ أن نفرق بين التطرُّف والجريمة، فالجريمةُ أساساً هي
خروجٌ على القواعِد الاجتماعيّة أو القانونيّة، باتخاذِ سلُوكٍ مُناقِض لِما تقضي بهِ
تلك القواعِد، فهي إذن حركةٌ في عكسِ اتجاهِ القاعدة. أمّا التطرُّف، فإنه - في جوهره
- حركةٌ في اتجاهِ القاعدة الاجتماعيّة أو القانونيّة أو الأخلاقيّة، ولكنّها حركةٌ
يتجاوزُ مداها الحدود التي وصلت إليها القاعدة وارتضاها المجتمع([45]).
فالتطرّف إذن هو مجاوزةُ الاعتدال في السلُوك الدينيّ، فكراً وعملاً، وهو الخروجُ عن
مسلكِ السّلفِ في فهمِ الدينِ، والعملِ به. فمسلكُ السلفِ في الإسلامِ، هو المقياسُ
الذي يُقاس عليهِ السلُوك القويم([46]).
فالمتطرِّف يبدأ مسيرتهُ، كما يبدؤها سائِرُ النّاس، من داخِل القاعدة، وفي اتجاهها
الصحيح، ولا يمكن كذلك بطبيعةِ الحال مُؤاخذته خلال هذهِ المدّة، لأنه يتحرّكُ مع القاعدة
الاجتماعيّة وفي اتجاهها، بينما يُمكن للدولة أن تؤاخذ المجرم، وأن تحاسبه منذ اللحظةِ
الأُولى لنشاطه، لأن هذا النشاطَ منذ بدايتهِ يتحرّكُ بصاحبهِ في اتجاهٍ مُضاد للقاعدةِ
الاجتماعيّة، ومُعاكس لاتجاهها([47]).
ففي مجالِ التطرّف الديني، يبدأُ (الفرد) متديِّناً
عاديّاً، يأخذ نفسَه بتعاليمِ الإسلام ومبادئه وآدابه، ويدعُو النّاس إلى الأخذ بذلك
كله. وهذا مسلكٌ حسنٌ، وتوجّهٌ لا يملكُ المجتمعُ إزاءَهُ إلاّ التعبير عن الرِّضا
والتشجيع. ثُمّ يُواصل المتديِّن مسيرته متّجهاً نحو التشدُّد، مع نفسهِ ومع النّاس،
ثمّ يتجاوز ذلك إلى إصدار أحكام قاطِعة بالإدانة على مَنْ لا يُتابعه في مسيرته، وقد
يجاوز ذلك إلى اتخاذِ موقفٍ ثابِت ودائِم من المجتمع ومؤسساتهِ وحكومته. ويبدأُ هذا
الموقِف عادةً بالعُزلة والمقاطعة، المبنيّ على إصدارِ حُكْمٍ فرديّ على ذلك المجتمع،
بالردّة أو الكُفر أو العودة إلى الجاهليّة. وفي تقديرنا، أن فكرةَ (اعتزال) المجتمع،
هي أخطرُ مكوّنات المنهج الفكريّ والحركيّ للجماعات المتطرِّفة([48]).
وانطلاقاً من هذهِ الفكرة، فقد جنح بعضُ الشباب نحو خيار (المفاصلة الشعوريّة)، والتي
تقتضي عدم اعتزالِ المساجد والجماعاتِ الإسلاميّة، والعمل من خلالهم، مع اعتقادِ كفرهم،
فإذا صلّوا خلفَهم مثلاً، فلا ينوي أحدُهم صلاةَ الجماعة، بل ينوي صلاةَ المنفرِد.
والجديرُ بالذكر أن صلاةَ هؤلاءِ خلفَ مَنْ يعتقِدُون كفره، تبطِلُ هذهِ الصلاة، ولا
تصحّ بالمفاصلة الشعوريّة، فَمَنْ نوى الصلاةَ مُنفرِداً، وهو غيرُ مُرتبطٍ بجماعةِ
الصلاة، لا يحلّ له أن يركعَ ويسجد مع هذهِ الجماعة، فاتباعه الإمام في الظاهِر يُبطل
الصلاة([49]).
هذا، ومن الثابت أن فكرةَ تكفير المجتمع، بين الشباب،
ظهرت لأوّل مرّة في السجُون المصريّة، في منتصف الخمسينيّات، كردّ فعلٍ على ألوانِ
التعذيب التي تعرّضَ لها الإسلاميُّون المعتقَلُون وقتئذٍ. ففي السجون جرى النقاشُ
بينهم: هل يكفر مَنْ لم ينضم إليهم، على اعتبارِ أنهم الجماعةُ التي ورد بشأنها قولُ
النبـيّ (صلّى الله عليهِ وسلّم) في وصفِ بعضِ الفِتن: (...تَلْزَم جَمَاعَة الْمُسْلِمِيْن
وَإِمَامَهُم، قُلْت: فَإِن لَم يَكُن لَهُم جَمَاعَة وَلا إِمَام؟ قَال: فَاعْتَزِل
تِلْك الْفِرَق كُلَّهَا، وَلَو أَن تَعَضَّ عَلَى أَصْل الْشَّجَرَة، حَتَّى يُدْرِكَك
الْمَوْت وَأَنْت عَلَى ذَلِك)([50]).
كما تناول النقاش أمر جنود الشرطة، وضبّاطها، الذين ينفذون أوامرَ التعذيب([51]).
وعليهِ، فإن عنفَ السلطةِ هو الذي يؤسِّسُ سلطةَ العنف([52]).
قبلَ أكثر من ثلاثة عقود مضت، كتبَ الشيخ (يوسف
القرضاوي) في مجلةِ (العربيّ) مقالاً، ذكر فيه بإجمال علاماتِ التطرّف الدينيّ ومظاهره،
التي يتَّسمُ بها المتطرِّفون اليوم على امتدادِ العالَم العربيّ والإسلاميّ، وهي تنطبقُ
كذلِك على الكثير من أدعياءِ السلفيّة في وقتِنا الرّاهن، فيقول: "إن أوّلَ دلائِل
التطرُّف: هو التعصُّب للرأي تعصَّباً لا يعترفُ معهُ للآخرين بوجُود، وجمُودَ الشخصِ
على فهمهِ جمُوداً لا يسمحُ له برؤيةٍ واضِحة لمصالِح الخَلْق، ولا مقاصِد الشّرع،
ولا ظروف العصر، ولا يفتحُ نافذةً للحِوار معَ الآخرين، ومُوازنة ما عندهُ بما عندهُم،
والأخذ بما يراهُ بعد ذلك أنصع بُرهاناً، وأرجح ميزاناً"([53]).
فالمتطرِّفُ كأنما يقولُ لكَ: مِنْ حقِّي أن أتكلّمَ، ومِنْ واجبكَ أن تسمعَ. ومِنْ
حقِّي أن أقودَ، ومِنْ واجبكَ أن تتبع. رأيي صوابٌ لا يحتمِلُ الخطأَ، ورأيُكَ خطأٌ
لا يحتمِلُ الصوابَ([54]).
وأظنني لا أجانبُ الصوابَ إذا قلتُ إن العديد من التيارات السلفيّة، في الكثير من البلدان
العربيّة والإسلاميّة، تنمازُ بسمةِ التعصُّب للرأي تعصَّباً لا يعترفُ معهُ للآخرين
بوجُود، وتزعمُ أنها وحدها على الحقّ، ومَنْ عداها على الباطِل.
ومن مظاهِر التطرُّف الديني: التزامُ التشديدِ دائِماً،
مع قيامِ مُوجباتِ التيسير، وإلزام الآخرينَ به، حيثُ لم يلزمهم الله به، إذ لا مانعَ
أن يأخذ المرءُ لنفسهِ بالأشدِّ في بعضِ المسائِل، وبالأثقلِ في بعضِ الأحوال، تورُّعاً
واحتياطاً، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا ديدنهُ دائِماً وفي كُلِّ حال، بحيث يحتاجُ إلى
التيسير فيأباهُ، وتأتيهِ الرخصةُ فيرفضها، مع قولهِ (صلّى الله عليهِ وسلّم): (يَسِّرُوا
وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا)([55])،
وقولهُ: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ)([56])،
وله رواية أُخرى: (كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ)([57]).
وقوله: (مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ
إِثْماً، فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبَعْدَ النَّاسِ عَنْهُ)([58]).
وهؤلاءِ الشباب ما خيِّروا بين أمرينِ إلاّ اختارُوا أصعبهما. وقد يقبلُ مِنَ المسلم
أن يشدّد على نفسهِ، ويعملَ بالعزائِم، ويدع الرخص، والتيسيرات في الدّين، ولكن الذي
لا يقبلُ منه بحال: أن يلزمَ بذلكَ جمهُورَ النّاس، وأن يجلبَ عليهم الحرجَ في دينهم،
والعنت في دنياهُم([59]).
ومن أبرزِ أوصافِ الرسُول الكريم في كُتبِ الأقدمين،
أنه {يحلّ لهم الطيّبات، ويحرّم عليهم الخبائِث، ويضعُ عنهم إصرَهُم والأغلال التي
كانتْ عليهم}. ولهذا كان النبـيُّ (صلّى الله عليهِ وسلّم)، أطولَ النّاسِ صلاةً إذا
صلّى لنفسهِ، حتّى أنه كان يقومُ بالليلِ فيُطيل القيامَ حتّى تتفطّر أو تتورّم قدماهُ
(عليهِ الصّلاة والسّلام)، ولكنّهُ كان أخفَّ النَّاسِ صلاةً إذا صلّى بالنّاس، مُراعياً
ظروفَهُم، وتفاوتهم في الاحتمال. وقال: (إذَا صَلّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ،
فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلّى أَحَدُكُمْ
لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ)([60]).
وقال لـ(معاذ)، لَمَّا أطالَ الصلاةَ بالقَوْم: أفتّانٌ أنتَ يا مُعاذ؟ وكرَّرها ثلاثاً([61]).
ومِنَ التشديدِ على النَّاسِ: مُحاسبتهم على النّوافِل والسُنن كأنها فرائِض، وعلى
المكرُوهاتِ كأنها مُحرّمات، والمفرُوض أَلاّ نُلزِمَ النّاسَ إلاّ بما ألزمَهُم الله
تعالى بهِ جَزْماً، وما زادَ على ذلك فهم مخيّرُون فيهِ، إن شاءُوا فَعَلُوا، وإن شاءُوا
تركُوا. وحسبُنا هنا حديثُ (طلحة بن عبيدالله) في الصحيح، في قصّةِ ذلكَ الأعرابيّ
الذي جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللّهِ (صلّى الله عليهِ وسلّم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ
دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: تَعْبُدُ اللّهَ
لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ
الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، قَالَ: وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ
عَلَى هَذَا شَيْئاً وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلّى قَالَ النَّبِيُّ (صلّى
الله عليهِ وسلّم): (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا)([62]).
ومن سِمَاتِ التطرُّف أيضاً: التشديدُ في غير مكانهِ
وزمانه، كأنْ يكونَ في غيرِ دارِ الإسلام، وبلادهِ الأصليّة، أو مع قَوْمٍ حديثي عَهْدٍ
بإسلام، أو بتوبة. فهؤلاءِ ينبغي التّساهُل معهم في المسائِل الفرعيّة، والأُمور الخلافيّة،
والتركيز معهم على الكُليّات قبلَ الجزئيّات، والأُصول قبلَ الفرُوع، وتصحيح عقائدهم
أوّلاً، فإذا اطمأنَّ إليها دعاهُم إلى أركانِ الإسلام، ثُمَّ إلى شُعَبِ الإيمان،
ثمَّ إلى مقاماتِ الإحسان([63]).
والغريبُ أن التطرّف لا يقعُ في مزيدٍ من الخدماتِ الاجتماعيّة، ولا في مزيدٍ من مظاهِر
الإيثار والفضل، إنه يقعُ في الحرصِ البالغ على تقصيرِ الإزار، والتنطّع في مكانِ وضعِ
اليدين، أو طريقة وضع الرجلين في أداءِ الصلاة. والاهتمام المبالغ فيهِ هنا، تقابله
قِلّة اكتراثٍ ببناءِ دولةِ الإسلام، والإقبال على تجميعِ العناصِر التي لا بُدَّ منها،
لإقامةِ حضارتنا، واستعادةِ كياننا([64]).
ومن علاماتِ
التطرُّف: العنفُ في التعامل، والخشُونة في الأُسلوب، والغِلْظة في الدعوة، خلافاً
لهدايةِ الله تعالى، وهَدْي رسُولِ الله (صلّى الله عليهِ وسلّم). فديننا يأمرُنا أن
ندعو إلى الله بالحكمةِ لا بالحماقة، وبالموعظةِ الحسنةِ، لا بالعبارةِ الخشنة، وأن
نجادِلَ بالتي هِيَ أحسن، لا بالتي هي أخشن: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَن]([65]).
ووصفَ الله تعالى رَسُولَه (صلّى الله عليهِ وسلّم) بقوله: [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ]([66]).
وخاطَبَ رَسُولَه (عليهِ الصّلاةُ والسّلام) مُبَيِّناً عَلاقتهُ بأصحابهِ: [فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنْ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا
مِنْ حَوْلِكَ]([67]).
ولم يذكُرِ القرآنُ الغِلظة والشِدّة إلاّ في موضعين: الأوّل في قلبِ المعركة ومواجهة
الأعداء، حيث توجبُ العسكريّة الناجحة: الصّلابة عندَ اللقاء، وعزلِ مشاعِر اللين،
حتّى تضعَ الحربُ أوزارَها. وفي هذا يقول تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا
الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]([68]).
والثاني: في تنفيذِ العقوبات الشرعيّة على مُستحقّيها، حيثُ لا مجالَ لعواطِف الرّحمة
في إقامةِ حدُود الله في أرضِ الله: [وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر]([69]).
أمّا في مجالِ الدعوةِ، فلا مكانَ للعنفِ والخشونة، وفي الحديثِ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ)([70])،
والرفق هو: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والدفع بالأخف. وقيل هو: اللطف
وحسن التصرُّف. وفي الآثر: "مَنْ أمرَ بمعروفٍ، فَلْيَكُنْ أمرُه بمعرُوف"،
وقالَ (صلّى الله عليهِ وسلّم): (ما دخلَ الرفق في شيءٍ إلاّ زانه، ولا دخلَ العنف
في شيءٍ إلاّ شانه)([71]).
ولا بُدّ أن نكرّر هنا أن للإسلامِ أسلوباً في الدعوةِ واضحاً لا يحتمِلُ اللبسَ، يقومُ
على "الحكمةِ والموعظة الحسنة" بنصِّ القرآن الكريم، ودعاة العنف إمّا أنهم
جاهلون بأُصولِ الدعوة ومنهجها، ويفرضون أنفسهم على الإسلام زوراً وبهتاناً، أو أنهم
عارفون ومتجاهلون، أو عارفون ومنتحلون، وهذانِ الصنفان يخرِّبان المسيرةَ الإسلاميّة
ذاتها، بأكثر من تخريبهم لأيِّ شيءٍ آخر([72]).
ومن ملامح
التطرُّف الديني ولوازمه: سوء الظنّ بالآخرين، والنظرُ إليهم من خلالِ منظارٍ أسود،
يخفي حسناتهم، على حين يُضَخّم سيئاتهم. فالأصلُ عند المتطرِّف هو الاتهام، والأصلُ
في الاتّهام الإدانة، (وكأنَّ المرءَ عنده مذنبٌ حتى تثبت براءته، على عكس القاعدة)،
وخِلافاً لِمَا تقرّرهُ الشّرائِع والقوانين: أنّ المتّهمَ بريءٌ حتّى تثبتَ إدانته.
هذا مع أن التعاليمَ الإسلاميّة تحذّر أشدّ التحذير من سوءِ الظنّ بالله، وسوء الظنِّ
بالنَّاس. والله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا
مِنْ الظّنِّ، إِنَّ بَعْضَ الظّنِّ إِثْمٌ]([73])،
والنبـي (صلّى الله عليهِ وسلّم) يقول: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ
الْحَدِيثِ)([74]).
سَمَّاهُ حديثاً، لأنَّه حديثُ النّفس. وأصلُ هذا كلّه: الغرورُ بالنفس، والازدراءُ
للغير([75]).
ومن علاماتِ
التطرُّف: تكفيرُ النَّاسِ، واستباحةُ دمائهم وأموالهم، فلا يرى لهم حرمة ولا ذِمّة.
وهذا يمثّل قِمّة التطرُّف الذي يجعلُ صاحبه في وادٍ، وسائِرَ الأُمّة في وادٍ آخَر.
وهذا ما وقعَ فيهِ (الخوارِج) في فجرِ الإسلام، الذين كانوا مِنْ أشدِّ النَّاسِ تعبُّداً
لله، صياماً وقياماً وتلاوةَ قُرْآن، وقد وصفهم النبـيُّ (صلّى الله عليهِ وسلّم) بقوله:
(يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صلاتَهُ إلى صَلاتهم، وقيامَهُ إلى قيامِهِم، وقراءَتهُ إلى قراءَتِهم)([76])،
ومع هذا قالَ عنهم: (يَمْرُقُون مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة)،
فهم يُعانون من فسادِ الفِكْر، لا فساد الضّمير، ووصفَ صلتهم بالقُرْآن، فقال: (يَقْرَأُون
القُرْآن لا يُجاوز تَرَاقِيهم) بمعنى
لا يفقهون النّصوصَ، ولا يفهمون معانيها جيّداً. وذكرَ علامتهم المميّزة، بأنهم (يقتلُون
أهْلَ الإسلامِ، ويدعُون أَهْلَ الأوثان)([77]). وكان أئمة
السّلف يُوصون بطلب العلم قبل التعبُّد، كما قالَ (الحسنُ البصريّ): "العامِلُ
على غير علمٍ، كالسَّالك على غير طريق، والعامِلُ على غير عِلْمٍ، ما يفسدُ أكثر مِمّا
يُصلح، فاطلبُوا العِلْمَ طلباً لا يضرُّ بالعبادة، واطلبُوا العبادةَ طلباً لا يضرُّ
بالعلم، فإنَّ قوماً طلبُوا العبادةَ، وتركوا العلمَ، حتّى خرجُوا بأسيافهم على أمّة
محمّد (صلّى الله عليهِ وسلّم)"، وذلك بعد تكفيرهم وإخراجهم من الملّة، على الرّغم
من أن الفهمَ الصحيح للإسلام يحولُ دون الوقوع في مظنّة تكفير المسلم، متى أمكن حَمْلُ
كلامهِ على مَحْمَلٍ حَسَن. وفي هذا قالَ (ابنُ عابدين): "لا يُفْتَى بِكُفْرِ
مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ، أَوْ كَانَ فِيْ كُفْرِهِ
خِلافٌ"([78]).
وقال (ابن حزم الأندلسي): "وأمّا مَنْ كفرَ النَّاسَ بما تؤولُ إليه أقوالُهم
فخطأ، لأنه كذبٌ على الخصم، وتقويلٌ له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقُض
فقط، والتناقُض ليسَ كفراً"([79]).
أمّا حجّة الإسلام (الإمام الغزالي) فيقولُ في كتابهِ (الاقتصاد في الاعتقاد): "والذي
ينبغي أن يميلَ المحصِّلُ إليهِ، الاحترازُ عن التكفير ما وجدَ إليهِ سبيلاً، فإن استباحةَ
الأموالِ والدِّماءِ مِنَ المصلِّين إلى القِبْلَة، المصرِّحين بقولِ: لا إلهَ إلاّ
الله محمّدٌ رسولُ الله، خَطَأٌ، والخَطَأُ في تركِ تكفيرِ ألفِ كافِرٍ في الحياة،
أهونُ مِنَ الخَطَأ في سَفْكِ محجمةٍ من دمِ امرئٍ مُسلِم"([80]).
وقال شيخ الإسلام (ابن تيمية): "وليسَ لأحدٍ أن يكفّر أحداً مِنَ المسلمين، وإن
أخْطَأَ وغلط، حتى تقام عليه الحجّة وتبين له المحجة، ومَنْ ثبت إسلامه بيقين لم يزل
ذلك عنه بالشك، بل لا يزولُ إلاّ بعد إقامة الحجّة وإزالة الشبهة"([81]).
ومن الأصول الفكرية لجماعةِ الإخوان عدم تكفيرِ المسلمين إلاّ بعد استيفاء شروطِ التكفير،
وانتفاء موانعه. وقد نصَّ الإمام (حسن البنّا) في الأصلِ العشرين بقوله: "لاَ
نُكَفِّرُ مُسْلِماً أَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُما وَأَدَّى
الْفَرَائِضَ - بِرَأْيٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ - إلاِّ أنْ: أَقَرَّ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ،
أوْ أَنْكَرَ مَعْلُوْماً مِنَ الدِّيْنَ بِالضَّرُوْرَةِ، أوْ كَذَّبَ صَرِيْحَ القُرْآنِ،
أوْ فَسَّرَهُ عَلى وَجْهٍ لاَ تَحْتَمِلَهُ أَسَالِيْبُ اللّغَةِ العَرَبِيَّةِ بِحَالٍ،
أوْ عَمِلَ عَمَلاً لاَ يَحْتَمِلُ تَأْوِيْلاً غَيْرَ الكُفْرِ"([82]).
ثقافة الفتوى
فالسلفيّة،
بوصفها ظاهرة دينية - ذات صبغة شعبيّة "متّصلة برموزها من المشايخ والدّعاة. والأدبيات
التي يتيسّر الحصول عليها من خلال الكتب والرّسائل، فضلاً عن الانترنت - لا تفتأ تتخذُ
الفتوى شأناً كبيراً لافتاً للنّظر، إذ ليستِ الفتوى لدى أتباع التيّار السّلفي - بشقّيه
العلميّ والجهاديّ- مجرّد مسلكٍ لاستبيان الحُكْم الشّرعي في واقعةٍ من الوقائع الحادثة،
بل يتجاوزُ ذلك الأمر إلى الإعلاء من شأنها، لتكون مسلكاً أساساً لتشكيلِ الثّقافة
الدّينيّة الشّرعيّة في مجالات حياتيّة شتّى، وأداةً أساسيّة للبناء المعرفيّ، وتشكيل
الوعي العام. كما وقع الانزياح بالفتوى من مجرّد رأي اجتهاديّ غير مُلزم، إلى حُكْمٍ
شرعيّ مُطابق للمقصود الإلهيّ، يتأسَّسُ عليهِ النّشاط البشريّ وفق إرادةِ الله، التي
يوقّع عنها أهل الفتوى"([83]).
وتشتركُ السّلفيّتان العلميّة والجهاديّة في تبنّي
الفتاوى ذاتِ المضمون العقائديّ المتعلّق بالمسائل الكلاميّة كالذّات والصّفات، ومحاربة
ما يعدّ من الشّركيّات في هذا المجال. كما يتّفقان في التزام الفتاوى التي تحدّد الحُكْمَ
الشّرعيّ من المخالفين من الجماعات الإسلاميّة الأخرى، كالصّوفيّة، وجماعة الدّعوة
والتّبليغ، وحركة الإخوان المسلمين، ممّا أنشأ في أوساط الشّباب المتديِّن حديثاً ضَرْباً
من المباينة والمفاصلة والتّدافع مع فئاتٍ أُخرى من المتديّنين، لهم تقاليد في الدّعوة
لأفكارهم ومعتقداتهم، مثل: الصّوفيّة، والدّعوة والتّبليغ. وللتّصدّي لهذا الواقع،
الذي يعتبرونه شركيّاً بدعيّاً، يستلهمون من الفتاوى الوافدة الأحكامَ التي تحدِّدُ
كيفيّة التّفاعل مع هذا الواقع، دون الإدراك بأنّ الفتوى إبانةٌ عن حُكْمٍ شرعيّ مُتعلّق
بواقعةٍ مظروفة بملابساتِها الموضوعيّة، ولا يمكن تعميمها وسحبها على وقائع مُماثلة،
إلاّ ضِمن شروطٍ دقيقة لا يمكن تفصيلها إلاّ من طرف المفتين والمجتهدين المعايشين لتلك
الواقعة([84]).
والملاحَظ على الدعوة السّلفيّة - وربما دون وعي
منهم بحجم الاختلاف الثّقافي والاجتماعي والسّياسي بين الدول - أنها تستلهمُ فتاوى
أنتجها واقِع مغاير محكُوم بظروفهِ الخاصّة. وتتفاوت تلك الفتاوى بين التّفسيق والتّبديع،
والطّرد من أهل السنّة والجماعة، والإخراج من الفرقة النّاجية. وتقومُ هذه الفتاوى
على فكرةٍ أساسيّة، مفادُها رفض التحزّب والانقسام إلى جماعات متفرّقة واختلاف الكلمة،
باعتبار أنّ طريق الحقّ واحد. كما تدعو هذه الفتاوى إلى وجوبِ تحذير الشّباب والعوام
من هذه الجماعات الحزبيّة، التي تنتمي إلى الاثنتين والسّبعين فرقة الضّالة. ويترتّبُ
عن هذه الفتاوى سلوكيّات تجاه هذه الفِرَق والجماعات، تتفاوت بين وجُوب النّصح مع عدم
الموادّة، وبين المفاصلة والمباينة، وما تستدعيه من عدم المجالسة والمؤاكلة والمصافحة
والمصاهرة وحتّى اتّباع الجنائز([85]).
ولعلَّ من
أهمِّ نتائج تلقي الشّباب لهذه الفتاوى، وارتهانهم لها: حصُولُ حالةٍ من التمزّق الوجدانيّ
والمعرفي الحادّ، فضلاً عن الإحساس بالغربةِ، باعتبارها الرّابطة الشّعوريّة التي تجمعُ
بين القلّة التي تعيدُ للإسلام مجدَه. والانحرافُ عن مسلك اكتساب المعرفة الدينيّة
من مظانّها، من خلال الاطّلاع على مدوّنات العلوم، بعقل تحليليّ تأليفي، ومنهج تاريخيّ
مُقارني، وروح نقديّة حرّة، بشكلٍ يمكّن من إحداث التّراكم المعرفي، والفرز والغربلة،
بقصد الحِفاظ على الإنسانيّ الأصيل، وتجاوز الظّرفي المحلّي، المطبُوع بملابسات لحظتهِ
التّاريخيّة. وأخيراً: الانحرافُ عن القيم نفسِها، التي نهضتِ السّلفيّةُ الأولى مع
(ابن تيميّة) بالدّعوة لها، مثل: تحريم ثقافة الاتّباع والتّقليد([86]).
ظاهرة التمايز
السلفيّ بالمظاهر الخارجيّة:
لقد أصبح التفكير السلفيّ حبيس الفكر العقائدي الضيّق،
مِمّا ضخّم الحساسيّة العقديّة لبعض السلفيين، فجعلهم أسارى شكليات التديّن، كالزي
واللحية، وأسلوب الكلام، وحدود العلاقة بالمرأة، وكيفيّة دخُول البيوت، وطريقة تناول
الطعام، أو الجلُوس، وغيرها([87]).
هذا، ويتّخذ أغلب أتباع السلفية المحافظة ملامح في المظهر تميِّزهم عن غيرهم، وعن التياراتِ
الإسلامية الأُخرى، فالسمةُ الغالبةُ عليهم إطالةُ اللحى، وارتداءُ الثوب القصير، فوق
كعبـي القدمين، والالتزام الدينيّ الصّارِم، وفي أداءِ الصلوات في المسجد، وتحريم الأغاني
والموسيقى والاختلاط، وعدم الاهتمام بالسياسة والإعلام (إلاّ قياداتهم)، والحِرْص على
التمايُز الاجتماعيّ في العاداتِ والسلوكِ والمظهر([88]).
والالتزام بالعبادات الإسلاميّة سمة إيجابيّة عظيمة، تسجّل لهم، كما تدلّل على نقاء
فطرتهم، وقوّة إيمانهم.
والمظاهر الخارجيّة التي يتقمّصونها، ربما تخدعُ
الكثيرين من البُسطاء والسذج، مِمّن لا يعرفون حقيقة مشروعهم. وهذه المظاهِر الإسلاميّة
ربما خدعت -ولا زالت- الكثيرين من أصحابِ النفُوسِ الطّاهرة من غير المتحزبين، ولا
يدرُون أنهم بالانضمام إلى هؤلاءِ يدخلُون السياسة من أوسعِ أبوابها. وما أحرى بهم
أن يسألوا أنفسهم: إذا كان الإسلام ينحصرُ في هذهِ المظاهِر الشكليّة الجامدة التي
يقومون بها، فلماذا ظهرتِ الحاجة أصلاً إلى بعثة نبـيّ جديد يدعو إلى دينٍ جديد، يجمعُ
بين الروح والمادة، بين الدين والحياة، بين السلطة الدينية والسلطة الزمنيّة؟ ولكانت
المسيحيّة كافية، ولم نكن بحاجةٍ إلى مسيحيين جدُد بصبغةٍ إسلاميّة، مِمَّنْ خرجُوا
علينا باللحى الكثة والأردية القصيرة. وإن كُنّا نرغّب المسلمين إلى إعفاء لحاهم، وإسبال
ثيابهم، دون إكراه، ولكن مع الاهتمام أولاً بإصلاحِ جوهر الفرد المسلم، وليس مظهره،
وقد أخبرنا رسولنا الكريم أن الله جلّ وعلا لا ينظرُ إلى صورنا وأجسامنا، وإنما ينظرُ
إلى قلوبنا وأعمالنا. فالتمعّن في الاهتمامِ بالمظاهر الشكليّة ليس من جوهر الإسلام
وحقيقته، وإنما علينا أولاً أن نقومَ بإصلاحِ نفُوسِنا أولاً، ثم إصلاحِ مظاهرِنا،
على الرّغم من أهميتها في المنظومة الإسلاميّة، التي لم تهمل البتة المظهر الخارجيّ
للإنسان، بناءً على الاهتمام بقضيّة الجمال، التي عنى بها الإسلام عنايةً فائِقة. فحتّى
المظاهر التي نتمعّن في إظهارها، يجب أن تكون مقبُولةً عند النّاس، لأن المبالغة حتّى
في المظاهر الإسلاميّة ربما تؤدّي إلى مردودٍ سلبـيّ. فما أجملَ أن نمارسَ إسلامَنا
بصورةٍ وسطيّة اعتداليّة، دون إفراطٍ أو تفريط، وهكذا يمكننا أن ندخلَ قلوب الناس قبل
عقولهم. وقد أمرنا الله أن ننزل الناس منازلهم، ونكلمهم على قَدْرِ عقُولهم. وقد أكّد
المفكّر الجزائري (مالك بن نبـي)، أن المشكلة "ليست أن نعلّم المسلمَ عقيدةً هو
يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذهِ العقيدة فاعليتها وقوّتها الإيجابيّة وتأثيرها
الاجتماعيّ". وما أحرى بنا أن نتساءل هنا: لحسابِ مَنْ يُراد لأبناءِ الإسلامِ
أن يعيشُوا على (هامشِ الواقِع)، لا يعبأون بما يدور حولَهُم، ولا بما يُراد بهم؟!
لحسابِ مَنْ يُراد لشبابِ الإسلامِ أن يتربَّى على (السكونيّة) والاستسلام للأقدار،
على طريقةِ (أهل الجبر والتجهم)؟! لحسابِ مَنْ ينقّب عن أخطاء العاملين للإسلام بالمجهر،
ويغض الطّرْف عن أهل الباطل والفساد؟!([89]).
هذا، ولا يتوقّفُ نجاحُ المشاريع الحضاريّة على ما تتضمّنه من محتوى في قيمتها الذاتيّة
فحسب، وإنما تتوقّف - بالإضافةِ إلى ذلك - على المنهجِ الذي يُقَدَّم بهِ ذلك المحتوى
ليكون مؤثِّراً في الواقِع، مُحدثاً التغييرَ فيهِ، مؤدّياً إلى النهُوض. فكم من مشرُوعٍ
إذا رأيتهُ في ذاته وجدت مضمونه راقياً سديداً، ولكنّهُ في منهجِ تقديمهِ وتطبيقهِ
يكون ضعيفاً أو خاطِئاً، فلا يؤدّي إلى تغيير، بل يؤولُ إلى الفشل. ولذلك فإنّ المنهجَ
- في أيِّ مشرُوعٍ للنهضة - يمثِّلُ ركناً أساساً فيه([90]).
والمقصُود بالمنهج - في هذا السياق - مجمُوع الطُرق والأساليب والوسائِل التي ارتأتها
الحركاتُ السلفيّة (نظراً)، أو سلكتها (عملاً)، لتجعلَ المضمُون الذي حدّدتهُ عامِلاً
للنهضةِ، جارياً في الواقِع، محدثاً للنهضةِ بالفعل، سواء في مستوى الترقية الفكريّة
الروحيّة للمسلمين، أو في مستوى الترقية الماديّة لحياتهم الجارية([91]).
وبنظرةٍ عامّة إلى المشروع السلفيّ، يتبيَّن
أن هذا المشرُوع لم ينته بالأُمّة إلى نهضةٍ حضاريّة تتقدّم صُعّداً، لتنتهي بها إلى
الخرُوج من حالِ التخلّف إلى حالِ الرقي الماديّ والمعنويّ. ولكن في الوقتِ نفسهِ،
فإن الأُمّة لو قُورن وضعها قبيل ظهور الحركة السلفيّة في القرنِ الثامِن عشر، بوضعها
بعد ظهورها وأخذها لمداها، في القرنِ التاسِع عشر، لتبيّن الفرقُ كبيراً بين الوضعينِ،
في اتجاهِ تقدّمٍ حاصِل في كُلٍّ من المسارين الماديّ والمعنويّ. وذلك ما يُنبئ بأن
المشرُوع السلفيّ أحدثَ في الأُمّةِ أثراً إصلاحيّاً بلا شكّ، ولكن هذا الأثر لم يبلغ
مداهُ المطلوب([92]).
والسؤال الذي
ينهضُ هنا: كيف يمكننا أن ندخلَ عالم الإنسان بصورةٍ ليست مقبولة عنده، أو مُقنعة دونه.
فعلينا إذاً أن نقومَ بإعادة التوازن في ميزاننا المختل، قبل القيام بأي عملٍ قد يأتي
بمردودٍ غير إيجابيّ. فالدعوةُ لا تعني البتة التركيز على المظاهر وتعقيدها، والعقيدةُ
الإسلاميّة لا تقومُ أصلاً على المظاهر، التي أصبحت وكأنها السُنَّة الأولى في مشروعهم
الإسلاميّ. فأوّل ما يبدأون به، هو إلزامُ أنصارهم بإرخاء لحاهم، وإسبال ثيابهم، قبل
تهذيب النفُوسِ، وصقل القلُوب، وإحياء الضمائِر، وإحقاق العدالة بين الناس. فكم من
النّاس اليوم أصبحوا أسارى هذهِ الشكليّات التي لا يفهمونها، ولكنّهم يتمعّنون في الالتزام
بها، وكأن الإسلامَ يبدأ من المظهر الخارجيّ أولاً، ولا يدرون أن إصلاح الباطن مقدّم
على إصلاح الظاهِر. فهل بإمكاننا اليوم، بناءً على هذهِ الذهنيّة، أن نعيدَ مجدَ الإسلام،
وأن نقومَ باستئنافِ الحضارة الإسلاميّة من جديد؟ ألا ندري أن العالَم اليوم بحاجةٍ
إلى مبادئنا وقيمنا، التي تروي النفُوسَ الضامِئة، والقلُوب الصاديّة، وليس هو بحاجةٍ
إلى تعديل المظهر الخارجيّ، الذي لا يحملُ قيمةً جوهريّة كُبرى، أو مغزى فلسفيّاً عميقاً؟
فما أحرانا جميعاً أن نعود إلى إسلامنا الحق، الذي يدعو إلى إصلاح النفوس وتهذيبها،
وتزكية القلوب وتعميرها، وأن نفتح أذهاننا للسير في الأرض، كما كان أسلافنا العظام
يفعلون، لا أن نظلّ على أفكارنا المتحجّرة عاكفين، ونكون عرضةً لشماتةِ النّاس وتندرهم،
ومضرب الأمثال في التقاعس والانعزال والتحجُّر، كالتمثال، فتنطبق علينا مقولة (لسان
الدين الخطيب): "كُنّا عظاماً، فصِرنا عِظاماً"، تتقاذفنا الأمواجُ من الجهات
الأربع، فهل نصحُو من غيبتنا الطويلة، أم أن فؤادنا غيرُ صاحٍ؟ وهل سنخرجُ من كهوفنا
المظلمة التي حشرنا أنفسنا في جنباتها؟ وهل ننزل من أبراجنا العاجية، فنخالط الناس
ونصبر على آذاهم، ونتقاسم وإياهم شظف الحياةِ ومسرّاتها، ونجاهد النَّاس في أمر هذا
الإيمان الذي ندّعيه، لأننا سنجاهد أنفسنا في أثناء مجاهدتنا للنّاس؟ فالمعيار الذي
يقيّم الإنسان هو مشاركته الناس في حياتهم، وليس التركيز على مماتهم. فالعقيدة التي
يدعو إليها الإسلام، هي عقيدة الأحياء وليس الأموات. وتحضرني هنا مقولة لـ(ابن خلدون)،
وهي إن: "اتّباع التقاليد لا يعني أن الأمواتَ أحياءٌ، بَلْ إن الأحياءَ أموات".
وقد أبدع (خالص جلبـي) في توصيف هذهِ الحالة، مُستشهداً بالعصر الفرعونيّ، بقوله:
"وعندما انتقلَ التحدي في وجه الحضارةُ الفرعونيّة مِنَ (البيئةِ) إلى (النّفس)...
قصرت عندها الطاقةُ الإبداعيّة، ووضعَ الموتُ يدَهُ البارِدة عليها. ولعلّ هذهِ المرحلةَ
هِيَ التي واجهها موسى (عليه السّلام)، حيثُ انقلبتِ الحضارةُ الفرعونيّة من حضارةِ
(حياة) إلى ثقافة (موت)، وكان الشعبُ كلّه يسخَّر لإقامةِ قبرٍ هائِل لشخصٍ فانٍ، فصبَّ
عليهم ربُّك سوطَ عذاب... وقانون الأنبياء يسلُك طريقاً مختلفاً بتحريرِ الإنسان ليسَ
بـ(القتل) بل بـ(الحياة). لذا اعتبرَ القرآن (الشهادة) نوعاً مِنَ (الحياة)، والشهادةُ
فيها معنى عظيم، إذ يموت الإنسان من أجلِ أفكارهِ، فيدفنُ صاحبها في التراب، مثل البذرة،
لتنموَ الفكرة. لكنّ القتلَ لا يأتي إلاّ بالقتل... وطالما كان العقلُ مغيباً، فإنّ
العالَم سيعيشُ حالةَ الغابة، وسوفَ يدفعُ الثّمنَ في صورةِ حرُوبٍ أهليّة وعالَميّة
وعِرقيّة ودينيّة، ورُبّما نووية"([93]).
وقد أجمل هذهِ الفكرة المفكّر (مالك بن نبـي) بقوله: "إذا بزغ الصنم، ماتتِ الفكرة".
وبهذه الصورة المأساوية "تـمّ اغتيالُ العقل على نحوٍ مُنظّم على يدِ هذا الاتجاه
(القريب من العلمانيّة)، لينتهي إلى الاستبداد الدينيّ، الذي يقودُ إلى الاستبداد السياسيّ،
ومن ثمّ يقضي بدورهِ على جهازِ المناعةِ في جسمِ الأُمّة الإسلاميّة". هذا، وقد
ذهب (ابن خلدون) إلى أن "الفتن التي تتخفى وراء قناع الدين، تجارة رائجة جداً
في عصُور التراجع الفكريّ للمجتمعات".
والسؤال الذي
يفرضُ نفسهُ الآن: ترى هل سنخرج من هذه القواقع الوهميّة التي تضغط علينا من كلّ جانب،
أم سنعيدُ سيرةَ سلفنا الصالح، الذين كانوا يضعُون أرواحَهم فوق راحتهم من أجل إعادة
تشكيلِ العقل المسلم، الذي أصبح مكبّلاً اليوم في قيود التعطيل والتجهيل والتضليل،
ولا زال مغشيّاً عليه تحت الصدمة الحضاريّة، فهو إلى الآن لم يستوعب التغيير الذي حصل
في العالم، وكأنه خرجَ من توّه من القرُون الوسطى، أو أن الزمن قد توقّف عنده ولا زال،
فهو غائب عن التاريخ، ولم يعد صانعاً للأحداث، بل لعبة بيد صُنّاع الحضارة، الذين يتلاعبون
به كبيادق الشطرنج؟
وفي ختام
هذهِ الدراسة آن لنا أن نسأل: ألم يأنِ للحكومات أن تعي جيّداً أنها تحملُ جزءاً من
مشكلة هؤلاء الشباب، الذين زُجّ بهم قسراً في محرقة الإرهاب والعنف المضاد، أليسَ من
واجبهم - لتجنيب هؤلاءِ من السقوط في حمأة التشّدد والتزمّت - أن توفّر سبل العدالة
بين المواطنين؟ أليس الأجدى للحكومات أن تمدّ جسُور الحوار والثّقة والمثاقفة بين كافة
الأطراف، وذلك لتجاوز حالة الاحتقان السّياسي والاجتماعي بين الفرقاء السياسيين؟ ألا
ندرك أن البطالة والعطالة تؤدّي إلى نوعٍ من الإحباط والاحتقان وخيباتِ الأمل، ومن
ثمّ الجنُوح إلى العنف والتطرّف؟ ألا ندري أن توفير سبل العيش الكريم سينقذ الآلاف
من الشباب الأبرياء، وتحميهم من الدخول في معمعة حروبٍ تأكل الأخضر واليابس؟ أليس من
الأجدى للحكومات أن تفتح المجال على مصراعيه للأحزاب الإسلاميّة الاعتداليّة، لأن انتشار
الفكر الاعتداليّ، يحول دون تفاقم الفكر الاستئصاليّ؟ والقاعدة الذهبية التي أدركتها
الإدارة الأمريكية السابقة بصورةٍ مُتأخرة، لكنّها لم تطبقها بصورةٍ صحيحة، أنّ التطرف
الإسلامي أو الجماعات المتشدّدة هي نتاج تربة خصبة في العالم العربي والإسلامي، وتتمثل
في فساد الأوضاع السياسيّة، وفشل المشاريع التنمويّة، وغياب برامج التأهيل الاجتماعيّ
والاقتصاديّ، وهي جميعها تمثلُ البيئةَ الأنموذجيّة لانتشارِ الخِطاب المتطرّف ونموّه،
وانتشاره، وصعُوده. من هنا، فإنّ السلاح الأنجع والأقوى في مواجهة هذا الفكر، يتمثلُ
في اتباع نهج الإصلاح العام. و(المصالحة) مع الخطاب والتيار الإسلامي الإصلاحي المعتدل،
هي بمثابة شرط رئيس لسحب البساط من تحت أقدام الجماعات المتشدّدة، ومشروعيتها الدينية
والسياسية([94]).
إضافةً إلى
ذلك، فإن مناخ السخط الاجتماعيّ، والإحساس بالإحباط، وغياب العدالة، التي تستقيمُ في
ظلّها موازينُ الثواب والعقاب، ومعايير الفشل والنجاح، هو البيئة المثلى لإحياءِ ظاهرةِ
التطرّف الدينيّ، وغير الدينيّ، ولانتشارِ موجاتِ التمرّد والرفض بين الشباب. ولا نعدُو
الحقيقة إذا قُلنا إن ظاهرةَ التطرّف الدينيّ، في جزءٍ منها على الأقل، هي صورةٌ من
صُور الرفضِ الاجتماعيّ، والاحتجاج على غيابِ العدالةِ الاجتماعيّة. وعليه، فإن لم
يبدأ التعامُل الفكريّ والنفسيّ مع هؤلاءِ الشباب، فستظلُّ الدائرة تأخذ مسارِها، تبدأُ
كما تبدأُ دائماً: دعوة هادئة، ثم لا تلبثُ الوجوه أن تعبس، والصدور أن تضيق، ولا تلبث
فوهة البركان أن ترسِلَ الحِمَم على أصحابها وعلى النّاس([95]).
أليس من الأجدى
أن نركّز على فكر التسامح الإسلاميّ في المحاضن العلميّة، للحؤول دون حصُول كوارث إنسانيّة،
من خلال الجنُوح نحو أعمال العنفِ والتطرُّف؟ ألا ندري أن التحديث القسريّ لا يصنعُ
حضارة، ولا يدشّن مدنيّة، وإنما يؤدّي إلى التمرّد والفوضى؟ ألا نعرف أن فتح آفاق الحرية،
سيقلّص مساحة التطرف والتكفير، ويمكّن الشباب من عَرْضِ أفكارهم بشكلٍ علنيّ، بمنأى
عن كلِّ صور الإكراه التي تبدِّد الطاقات، وبعيداً عن شبح القيُودِ التي تكبِّل الملَكات؟
ألا ندري أن تجفيف منابع العنفِ والتطرُّف يبدأ من حلِّ مشكلة الفَقْر، والتخفيف من
حِدّة الحِرمان الاجتماعيّ؟ ألا نعي أن حماية الشّباب من السّقوط في مهاوي التّطرّف
والغلوّ، تبدأ من إشاعة ثقافة السلام بين الجميع، ونشرِ الفكر الوسطيّ للإسلام؟
الهوامش:
[1]- أشواق الحريّة، مقاربة للموقف السلفي من الديمقراطية، نواف القديمي،
ط(1)، الدار العثمانيّة، عمان - الأردن، 1431هـ - 2010م، ص11-12.
[2]- المرجع نفسه، ص13.
[3]- مشاريع الإشهاد الحضاريّ، د.عبدالمجيد عمر النجّار، ط(2)، دار الغرب
الإسلاميّ، بيروت - لبنان، 1427هـ - 2006م، ص32.
[4]- المرجع نفسه، ص35.
[5]- ينظر بتصرف مشاريع الإشهاد الحضاريّ، ص65.
[6]- المرجع نفسه، ص65.
[7]- وفيه دخن، سليم بن عيد الهلالي، مجلة (الأصالة)، العدد الحادي عشر،
15 ذو القعدة، 1414هـ، ص12. في الحل الإسلامي في الأردن، ص259.
[8]- وفيه دخن، سليم بن عيد الهلالي، ص13-15. في الحل الإسلامي في الأردن،
ص260.
[9]- الحل الإسلامي في الأردن، ص271.
[10]- ينظر: العقيدة الطحاوية، شرح وتعليق: محمد ناصر الدين الألباني، ط(2)،
المكتب الإسلامي، بيروت - لبنان، 1993م.
[11]- الحل الإسلامي في الأردن، ص244- 245.
[12]- مشاريع الإشهاد الحضاريّ، ص67- 68.
[13]- عقيدة أدعياء السلفية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص14.
[14]- ينظر بتصرف: السلفية: النشأة والخطاب والتيارات.
[15]- السلفيّة: النشأة والخطاب والتيارات، المرجع نفسه.
[16]- الحل الإسلامي في الأردن، ص220.
[17]- داعية وليس نبياً.. قراءة نقديّة لمذهب الشيخ محمد بن عبدالوهاب في
التكفير، حسن فرحان المالكي، ط(1)، دار الرازي للطباعة والنشر والتوزيع، عمان – الأردن،
1425هـ - 2004م، ص24.
[18]- الحل الإسلامي في الأردن، ص276.
[19]- المرجع نفسه، ص276.
[20]- المرجع نفسه، ص277.
[21]- المرجع نفسه، ص277.
[22]- التطرّف غير الجريمة، والتشخيص
الدقيق مطلوب، ص38- 39.
[23]- الحل الإسلامي في الأردن، ص324.
[24]- المرجع نفسه، ص330.
[25]- المرجع نفسه، ص330.
[26]- المرجع نفسه، ص229.
[27]- السلفية في مناخ تونسي، 3/3.
[28]- المرجع نفسه، 3/3.
[29]- ينظر: بتصرف السلفيّة في مناخ تونسي، 1/3.
[30]- السلفيّة في مناخ تونسيّ 1/3.
[31]- المرجع نفسه، 1/3.
[32]- المرجع نفسه، 1/3.
[33]- المرجع نفسه، 2/3.
[34]- المرجع نفسه، 2/3.
[35]- المرجع نفسه، 1-3.
[36]- المرجع نفسه، 1-3.
[37]- الإسلاميُّون والمسألة السياسية، ص207.
[38]- المرجع نفسه، ص212.
[39]- السلفيّة في مناخ تونسي، 2/3.
[40]- مشاريع الإشهاد الحضاريّ، ص6.
[41]- السلفية: النشأة والخطاب والتيارات.
[42]- المرجع نفسه.
[43]- المرجع نفسه.
[44]- في نقد الفكر الديني، النقد التاريخي، ص316.
[45]- التطرّف غير الجريمة والتشخيص
الدقيق مطلوب، د.أحمد كمال أبو المجد، مجلة (العربي)، العدد (278)، يناير، 1982م، ص36-
37.
[46]- أسباب أربعة للتطرّف، خالد
محمّد خالد، مجلة (العربي)، العدد (278)، يناير، 1982م، ص52.
[47]- التطرّف غير الجريمة والتشخيص
الدقيق مطلوب، ص37.
[48]- المرجع نفسه، ص37- 38.
[49]- حتى لا تتكرر، وراء القضبان
ولدوا، وهكذا يتكلّمون، المستشار سالم البهنساوي، مجلة (العربي)، العدد (278)، يناير،
1982م، ص46.
[50]- البخاري: المناقب (3606)، ومسلم:
الإمارة (1847)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4244)، وأحمد (5/386).
[51]- حتى لا تتكرر، وراء القضبان
ولدوا، وهكذا يتكلّمون، ص44- 45.
[52]- الإسلاميُّون والمسألة السياسية، ص212.
[53]- ست علامات للتطرُّف الديني، د.يوسف القرضاوي، ضمن (حوار حول قضيّة
التطرُّف الدينيّ)، مجلة (العربي) الكويتيّة، العدد (278)، يناير، 1982م، ص33.
[54]- ست علامات للتطرُّف الديني، ص33.
[55]- رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي.
[56]- رواه الإمام أحمد وابن حبان،
والبيهقي.
[57]- رواه الإمام أحمد وصححه ابن
خزيمة وابن حبان.
[58]- رواه البخاري ومسلم والترمذي.
[59]- ست علامات للتطرُّف الديني، ص34.
[60]- متفق عليه.
[61]- متفق عليه، في ست علامات للتطرُّف الديني، ص34.
[62]- رواه البخاري، في ست علامات للتطرُّف الديني، ص34.
[63]- ست علامات للتطرُّف الديني، ص34.
[64]- حذار من التديّن المغشوش، محمد الغزالي، مجلة (العربي)، العدد
(278)، يناير، 1982م، ص43.
[65]- سورة النحل، الآية: 125.
[66]- سورة التوبة، الآية: 128.
[67]- سورة آل عمران، الآية: 159.
[68]- سورة التوبة، الآية: 123.
[69]- سورة النور، الآية، 2.
[70]- رواه البخاري.
[71]- رواه مسلم، في ست علامات للتطرُّف الديني، ص35.
[72]- التديّن المنقوص، فهمي هويدي، ط(1)، دار الشروق، القاهرة – مصر،
1414هـ - 1994م، ص198.
[73]- سورة الحجرات، الآية: 12.
[74]- متفق عليه.
[75]- ست علامات للتطرُّف الديني، ص35.
[76]- متفق عليه.
[77]- ست علامات للتطرُّف الديني، ص36.
[78]- حاشية ابن عابدين المسمّاة رد المحتار على الدر المختار، 4/ 229-
230.
[79]- الفصل في الملل والأهواء والنحل: 3/ 294.
[80]- الاقتصاد في الاعتقاد، الإمام الغزالي، ط(1)، دار الكتب العلميّة،
بيروت - لبنان، 1403هـ - 1983م، ص157. والمحجمة: ما يحجم به وقيل: قارورته.
[81]- مجموع الفتاوى: 12/ 466.
[82]- النهج المبين لشرح الأصول العشرين، د.عبدالله قاسم الوشلي، ط(2)،
1426هـ - 2005م، ص395.
[83]- السلفيّة في مناخ تونسي، 1-3.
[84]- المرجع نفسه، 1-3.
[85]- المرجع نفسه، 1-3.
[86]- المرجع نفسه، 1-3.
[87]- السلفية: النشأة والخطاب والتيارات.
[88]- الحل الإسلامي في الأردن، ص273.
[89]- عقيدة أدعياء السلفية في ميزان أهل السنة والجماعة، ص18-19.
[90]- مشاريع الإشهاد الحضاريّ، ص50-51.
[91]- المرجع نفسه، ص51.
[92]- المرجع نفسه، ص64- 65.
[93]- في نقد الفكر الديني، ص304.
[94]- الحل الإسلامي في الأردن، ص361.
[95]- التطرّف غير الجريمة والتشخيص الدقيق مطلوب، ص40.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق