في عام 1998 كنت طالباً يومها في أحد المعاهد التقنية في بغداد،
وكان ذلك العام هو عام التخرج، وكنت مشغولاً كغيري من الطلبة بالتحضير ليوم الاختبار،
وكان هناك مادة تربوية أساسية، وقد أوعزت الأستاذة المشرفة إلينا بالتهيؤ لإلقاء محاضرة
مباشرة دون التقيُّد بموضوع معين، كل حسب رغبته، وكان ذلك في حقيقة الأمر من الأمور
الشاقة عليَّ حقاً، حيث كنت أتحرج غاية الحرج من الوقوف أمام زملائي لأقوم بدور الأستاذ،
ولكنها الأيام تجري ليقترب ذلك الموعد المحدد، والذي سأقوم بدوري فيه بإلقاء المحاضرة.
وكان هناك زميل لي أحسبه على خير، وهو ممن كان حريصاً على أداء
واجباته، ولكنه كان يعاني مما كنت
أعانيه وهو "الخجل"، فالمسألة تتطلب الجرأة
والتمكّن من الإلقاء والمناظرة والإجابة على كل الأسئلة التي ستأتيك من حيث لا تدري،
فما كان من زميلي هذا إلاّ أن ذهب بنا وبعض الأخوة، ليلقي محاضرته علينا داخل إحدى
القاعات، ليتدرب على تلك المواجهة القلقة، وكان موضوع المحاضرة التي اختارها زميلي
يتعلق بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، بينما كنت مشغولاً بحجم الإحراج الذي سأعانيه
وأنا أقف وجهاً لوجه أمام الطلبة، وقد شغلت بالإحراج لدرجة أني نسيت أن اختار المادة
التي سألقيها أمامهم، حتى جاء اليوم الذي كنت أتحرج منه، ولم أشعر بنفسي إلا جالساً
بالقرب من قاعة الاختبار متطلعاً، متسائلاً: يا ترى ماذا سأفعل؟! وماذا سيكون موضوعي
لتلك الساعة؟!
وكان هناك كم هائل من التساؤلات يتزاحم في ذهني، فقررت أخيراً،
المجازفة، ونظرت إلى ملف كنت أحمله بيدي، وللطرافة كان عن مادة (الإلكترونيك)، وهي
من المواد العلمية الشاقة نوعاً ما، ولكني وقفت بين خيارين: إما الاعتذار والفشل، وإما
الخوض والخروج بنتيجة، وإن كانت غير مقنعة، فدخلنا إلى قاعة المحاضرات، وباشرت الأستاذة
بتقديم الأسماء للاختبار، حتى جاء دور زميلي (محمد شاكر محمود)، صاحب المحاضرة التي
تتحدث عن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقام وشرع بالإلقاء، وقد كنت أرتجف خجلاً
أن دوري سيكون من بعده.
ولكن في تلك الأثناء شعرت بمن حولي وهم يسخرون من زميلي أثناء إلقائه،
بل ويهزأون بكلماته الطيبة الكريمة ، فهي لم تكن إلا للتعريف بسيدنا رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)..! فانفجرت في داخلي ثورة غضب غَيرةً لله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)،
وأخذت أغلي جالساً في مقعدي، حتى انتهى زميلي، وجاء دوري، فنهضت بعد سماع صوت الأستاذة
وهي تنادي باسمي، واتجهت إلى الأمام لأقف أمام الجميع، ونطقت مُسلّماً، ثم انهَلتُ
مُغضَباً أُعاتِبُهُم عمَّا كان منهم إزاء أخي وصاحبـي في العقيدة، فقد ناداهم ليفروا
إلى الله فاتخذوه هزواً، ومكثوا وهم يمرحون، ثمَّ كانت لي مشادة كلامية مع أحدهم معترضاً،
إنَّهم قومٌ تمردوا على عقولهم حتى حجبوا عنها الفضيلة، وركنت نفوسهم إلى الرذيلة حتى
مسخت، فواحسرتاه على قومي إذ يجهلون.
وبعدها شرعت بإلقاء المحاضرة، وقد تملكتني قوة هائلة في الحضور
والأداء، بل شعرت وكأني أُشرفُ على سربٍ من الأطفال، لا ثلة من الشباب الذين سممت عقولهم
نماذج الانحطاط الغربي، ذلك الانهيار الأخلاقي المخيف الذي فتك بأولادنا وبناتنا، وعدت
لأجلس في مكاني بعد أن جلت في القاعة جولة لم أكن لأفعلها، لكنها قوة الله عندما تأتي
بالنصر والتمكين لمن نصره ونصر رسوله، ولسان حالي يردد قوله تعالى: [أفمن هذا الحديث
تعجبون. وتضحكون ولا تبكون. وأنتم سامدون](النجم: 59-61).
وبعد ذلك تقدمت الأستاذة
وعلى وجهها علامات الاندهاش والإعجاب، وهي تقول متلعثمة: بماذا تقيمون صاحبكم هذا؟!
وكم تراه يستحق إزاء تلك المحاضرة التي ألقاها؟! وما هو تقديركم له؟! فتلبث الجميع
قليلاً، ثم أضافت قائلة: أما أنا فقد قررت أن أعطيه درجة كاملة!!
إنه الله يا أخي وقد أنطقني بفضله، واختارني لنصرة دينه يومها،
وأكرمني بذلك الموقف، الذي لم أزل أذكره بعد أكثر من (15) عاماً، وكأنه كان بالأمس،
فله الحمد إذ اختارنا لنصرة دينة ونصرة نبيه، وهيّأ لنا أسباب النجاح والتوفيق، ولك
أن تتأمّل ذلك الشعور العظيم، وأنت تقف يوماً لتنتصر لنبيك الحبيب محمد (صلى الله عليه
وسلم)، وتذود عن حياض الدين، وتدفع بكل ما أوتيت من قوة عن الإسلام، وتردع أهل الكفر
والأهواء والبدع، ثم لتقف بعد ذلك وقفتين: إحداهما هنا في هذه الحياة الدنيا، وأنت
تتأمّل من بعد سنين في ذاكرتك لمثل تلك المواقف المشَرِّفَة، والأخرى هناك حيث تقف
بين يدي الملك الجبار، لتعرض عليك أمام الملأ تلك اللحظات المُشرِقَة من حياتك.
بسم الله الرحمن الرحيم: [يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم
ويثبت أقدامكم](محمد:7).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق