01‏/11‏/2014

هذا هو الاسلام


 دخل أحد الزاهدين على الخليفة (هارون الرشيد) فقال: يا أمير المؤمنين إني واعظك، فمشدد عليك، فهل تقبل؟
   قال هارون الرشيد: لا أقبل.
   قال الرجل: أتنفر، وأنت أمير المؤمنين، من الموعظة والتذكير بالله؟!
   قال: كلا. ولكن الله (سبحانه وتعالى) أرسل من هو خير منك، وهو (محمد) (صلوات الله عليه)، إلى من هم شر مني، وهم كفار قريش، وقال له: أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
   هذه هي الحقيقة الإنسانية التي تقوم عليها دعوة الإسلام ورسالته، فلا إكراه على أي عمل أبداً. وعلى أساس هذه الحقيقة قرر الفقهاء إن إسلام المكره باطل، وأن كل عمل أُكره عليه الإنسان لا يعتد به، ولا يكون صحيحاً، وليس إلإكراه هنا يكون مقصوراً على ما يكون من أساليب البطش والعنف، ولكنه يشمل على ما يكون من أساليب الاستغلال لنواحي الضعف عند أي من الناس، مثل ما يكون من استغلال الحاجة عند مضطر، لأن في ذلك إذلالاً لإنسانية الإنسان.
   ومما يروى على صفحات التاريخ الإسلامي، أن الفيلسوف اليهودي (موسى بن ميمون) أظهر الإسلام وهو في (الأندلس)، وحفظ القرآن الكريم، واشتغل بالعلوم الإسلامية، حتى ينال الحظوة والمكانة، في مجتمع يعتز بمظهره الإسلامي. ثم جاء إلى (مصر) على عهد السلطان الناصر (صلاح الدين الأيوبي)، فترك ما أظهره من الإسلام، وأعلن تمسكه بيهوديته، ولحق به أحد فقهاء الأندلس في (القاهرة)، فحاجَّهُ في إسلامه، ووضعه في موضع المؤاخذة، فتدخل (القاضي الفاضل) لحماية (ابن ميمون) من الفقيه الأندلسي، قائلاً له: رجل يُكره على الإسلام، لا يصح إسلامه شرعاً. وعاش الفيلسوف اليهودي مكرماً في عهد (صلاح الدين)، حتى قرر له السلطان رزقاً ثابتاً من بيت  مال المسلمين، وولاه الرئاسة العامة على جميع اليهود في الديار المصرية. وقد حدث هذا في وقت كان (صلاح الدين) ينازل الصليبيين في معارك ضارية، شعارها التعصب الصليبـي، ولكنها سماحة الإسلام تضع الحق الإنساني فوق كل اعتبار.
   وهناك حدثان متقابلان في التاريخ، جديران بالذكر، لما لهما من الدلالة العميقة في هذا الموضع: الحادث الأول رواه المؤرخ النصراني المعروف بـ(ابن العبري) قال: في سنة ستمائة للهجرة، حاصر ملك الإفرنج مدينة (القسطنطينية) على أهلها من الروم، وكانت المدينة التاريخية منيعة بحصونها، وبأهلها الذين يدافعون عنها، وكان في داخل المدينة ثلاثون ألفاً من الإفرنج المقيمين، فتآمروا على أهل المدينة مع الإفرنج المحاصرين لها، ووثبوا في المدينة، وأشعلوا فيها النار، حتى أكل الحريق ربعها، واشتغل الروم بإطفاء الحرائق. وبهذا تمكن الإفرنج من فتح أبواب المدينة، واقتحامها، ووضعوا السيف في رقاب أهلها ثلاثة أيام، وخرج الأساقفة والرهبان والقسيسون من (كنيسة أيا صوفيا العظمى)، وبأيديهم الأناجيل والصُلبان، فلم يرحمهم الإفرنج، وقتلوهم جميعاً، ونهبوا  كل ما في الكنيسة من النفائس والذخائر والمقدسات.
   أما الحادث الثاني، فقد ذكره المؤرخون عن القائد المسلم (عمرو بن العاص)، فإنه بعد أن انتهى من فتح (الأسكندرية)، عاد قاصداً إلى (الفسطاط)، فاجتاز ناحية (الطرانة)، فاستقبله بها سبعون ألف راهب، خرجوا من أديرتهم في (وادي النطرون)، وفي يد كل واحد منهم عكازه، وإنجيله، وطلبوا من القائد المسلم الأمان لأنفسهم ولأديرتهم ومقدساتهم، فأجابهم إلى طلبهم، وكتب لهم عهداً بالأمان، التزم فيه برعايتهم وحمايتهم، وزاد (عمرو) على طلبهم، فكتب لهم بجراية الوجه البحري (أي بتخصيصه لهم)، وقد استمرت بأيديهم طوال الحكم الإسلامي، وبقي العهد المكتوب عندهم حجة بذلك على حساب أبناء تلك البلاد. هذا حادث وذاك حادث، وفي المقابلة بين الحادثين، يتضح لنا المعنى الإنساني النبيل الذي فرضه الإسلام، والتزم به المسلمون في معاملاتهم للمخالفين لهم في الدين والعقيدة.
   ولعل التاريخ لم يعرف، في عهوده السابقة واللاحقة، عملاً إنسانياً نحو الشعوب المغلوبة، مثل ذلك الصنيع الذي صنعه أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه)، فقد أدرك الخليفة العادل أن المسلمين الفاتحين استهوتهم خيرات البلاد التي فتحوها، وغلبتهم على أنفسهم، فأقبلوا على بناء الدور والقصور فيها، وتملّك الأرض والعقارات في تلك البلاد، وكان في تقدير (عمر بن الخطاب) أن هذا لا يمكن أن يكون إلاّ على حساب أبناء تلك البلاد، الذين دخل عليهم المسلمون فاتحين، وخشي إذا تغاضى عن ذلك، أن تتحول الحقيقة الإنسانية في دعوة الإسلام إلى عمل استغلالي، يرتكز على السطوة والجبروت، فدعا (عمر) الناس إلى المسجد، وصعد المنبر غاضباً، ثم خاطبهم قائلاً: يا أبناء قريش، إنكم تريدون أن تأخذوا أموال الناس معونات لأنفسكم، أما وابن الخطاب حي فلا، إني آخذ بحجزكم أن تتهاووا في النار. وكان أن أصدر (عمر) قراره التاريخي، الذي يقضي بمنع العرب من الهجرة إلى البلاد المفتوحة، إلاّ بإذن، وألاّ تطول إقامتهم فيها أكثر من أربعة أشهر، حتى لا تكون لديهم فرصة للتملك، والإقامة فيما يمتلكون، ثم تبقى الأرض والأملاك لأهل البلاد الأصليين، لأن الإسلام ليس تسلّطاً وغلبة، ولكنه دين هداية وإنسانية.
 وكل هذه شواهد من التاريخ، ناطقة بأن الإسلام دين العدل والأخوة والرحمة الشاملة، لا يقر الحقد، ولا يرتضيه أسلوباً لمعاملة مخالف في الدين والرأي. بل إن الإسلام يشن حرباً، لا هوادة فيها، على الفروق الجاهلية، القائمة على الجنسية والخلافات اللغوية واللونية، التي كانت ولا تزال مثار الشقاق والشقاء والحروب بين الأمم والشعوب، وإنما الناس جميعاً في نظره سواء، أولاد آدم وحواء، لقول الله تعالى: [يَاأيها النَّاس إنَّا خلقنَاكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكُم شُعُوباً وَقَبَائل لتعارفوا، إنَّ أكرَمَكم عِندَ الله أتقاكم. إن الله عَليمٌ خَبير]الحجرات /13.
   إن هذه الشواهد الإنسانية في تعاليم الإسلام، وتاريخه، تدحض ذلك الافتراء، الذي يزعمه جماعة من المستشرقين المغرضين، والمبشرين المأجورين، الذين يزعمون أن الإسلام بلَّغَ رسالته بالسيف، ويصفون الإسلام بالبداوة، التي أصبحت لا تروق في ذوق هذا العصر. ومن العجيب أنهم يروجون هذه الأباطيل للتنفير من الاسلام، وينفقون على ذلك الألوف بل الملايين من الدنانير والدولارات، ويختارون لذلك البيئات المتأخرة ثقافياً، كما يصنعون في قلب أفريقيا، ومع هذا كله فهم لا يحققون شيئاً يذكر من أغراضهم وأطماعهم، على حين يرون الإسلام ينتشر بين الناس، ويزداد أتباعه في العالم، ولا سند له في هذا كله، إلاّ تعاليمه الإنسانية، وما يحمله في دعوته من الأخوة والعدل والرحمة وتحطيم الفوارق الجاهلية بين الناس.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق