سالم الحاج
لا شكَّ أن
دراسة موضوع (مشروعية الحرب في الإسلام) عند فقهاء المسلمين، يمتلكُ أهميّته الخاصّة، فهو موضوع متشابِك الأبعاد،
وهو مرتبطٌ أساساً بالقانون الدوليّ، مع أنه لا يخلو كذلك من اقترابٍ حاد من قضايا
حسّاسة تتعلّقُ أساساً بغير المسلمين في المجتمعاتِ الإسلاميّة.
وقد انقسمَ الفقهاءُ المسلمون، قديماً وحديثاً، إلى
مذهبينِ متعارضين: فمذهبٌ يقولُ إنّ (الحربَ) هي الأساسُ في العَلاقة مع غير
المسلمين، وأمْرُ الهدنة والسلم استثناء. وفريقٌ آخَر يذهبُ إلى أنّ (السلامَ) هو
الأساسُ في العَلاقةِ بغيرِ المسلمين، وأنّ (الحربَ) استثناء طارئ. وعلى ذلك،
فإننا سنفردُ لكُلٍّ من هذينِ المذهبينِ مبحثاً مستقلاً، ثمّ نختمُ البحثَ بخاتمةٍ
تبيِّن أهمّ نتائِج البحث.
وعلى هذا سنتناولُ آراءَ كلّ فريق وحججهِ على حِدة، ثمّ
نعرضُ لها بالنقدِ والترجيح، بإذن الله..
القائِلون بأن سبب القتال هو الكفر:
إلى هذا ذهبَ الإمامُ (الشافعيّ)، في أظهرِ قوليهِ، وهو
مذهبُ (ابن حزم) أيضاً(1). واستدلّوا على ذلك بما يلي:
(1) قوله تعالى:
[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ](التوبة:
5). قالُوا: فهذهِ الآيةُ الكريمةُ أمرت بـ(قتل) المشركين حيثما وجدوا، إلاّ أن
يتوبُوا، ويقيمُوا الصّلاة، ويؤتوا الزكاة.. فدلّت على أن مناطَ وجوبِ قتل
الكافرين هو الكفرُ لا الحرابة، بدليل أنه جعلَ غاية هذا الحكم الإيمان والتوبة(2).
يقول (الفخر الرازي) في تفسيرهِ، معلِّقاً على هذهِ
الآية: "وذلك أمرٌ بقتلهم على الإطلاق، في أيِّ وقتٍ، وأيّ مكان". (تفسير
الرازي: 15/ 225). وقال قتادة وعِكرمة: نسخت (براءة) كل موادعة، حتّى
يقولُوا: لا إله إلاّ الله(3).
(2) قوله تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ](التوبة: 29).
قالُوا: هذهِ الآية دلّت كذلك على أن مناطَ وجوب قتل
الكافرين هو الكفر، لا الحرابة، بدليل إنه جعلَ غاية هذا الحكم الخضوع للجزية(4).
ومعنى هذه الآية - كما يقول د.عبدالكريم زيدان- واضح الدلالة في تقرير حق الدولة
الإسلامية في قتال أهل دار الحرب ابتداءً، حتى يخضعوا لسلطان الدولة الإسلامية،
ولقانونها الإسلامي(5).
3. قوله تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ](البقرة : 193)، والآية: [وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلّهُ لِلّه ](الأنفال: 39).
يقول د. زيدان: "و(الفتنة) هي (الكفر والشرك)، كما
قال المفسرون، وهذا يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر"(6). قال
الفخر الرازي في تفسيره: "اعلم أنه تعالى لما بين أن هؤلاء الكفار إن انتهوا
عن كفرهم حصل لهم الغفران... أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا، فقال: [وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]"(7). ويذهب الدكتور (وهبة الزحيلي)،
في تفسيره، إلى ذلك أيضاً، حيث يقول: "إن المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر،
ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى: [تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ](الفتح : 16)".
ويرى أن هذا هو رأي الجمهور (8).
4. ما رواه (أبو داود)، و(الترمذي)، من حديث (سمرة بن
جندب) عن النبـي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا
شرخهم)، أيْ: صغارهم. (قالوا: قد أمر رسول الله بقتل الشيوخ من المشركين، ولو كانت
علة القتل الحرابة، لما أمر بذلك، إذ الشيوخ لا يتأتى منهم المبادأة بالعدوان)(9).
5. حديث (عبدالله بن عمر) عن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول
الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحقّها، وحسابهم على الله)
رواه الشيخان.
وعلى ضوء هذه الآيات، والأحاديث، ذهب أصحاب هذا الاتجاه
إلى أن الله سبحانه "قد افترض على المسلمين أن يكونوا في حالة حرب دائمة مع
دار الحرب، ما داموا يستطيعون، حتى يخضعوا دار الحرب بلداً بلداً لسلطان الله، فلا
تبقى بعد ذلك فتنة معنوية، ولا حسية، يُفتنُ بها المسلم عن دينه، وذلك مقتضى قوله
تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]"(10). "وكون
المسلمين لا يجوز لهم أن يبدأوا بالقتال، إلاّ من بدأهم به من الكفار، ليس بصحيح.
لأن المسلمين مكلفون بدعوة الناس إلى الإسلام، وقتال من لم يستجب حتى يسلم، أو
يدفع الجزية، وهو صاغر. ولا يجوز للمسلمين أن يقبعوا في قطعة من الأرض، تاركين
الطغاة الظالمين يستعبدون الناس"(11). "إلا أنه في مبدأ
الدولة الإسلامية قد لا يتيسّر لها من القوة ما يمكنها من الشروع في مقاتلة الكفار،
بعد امتناعهم من الإسلام، فيكون الواجب على جماعة المسلمين عندئذ دفع العدوان، وردّه،
وعدم تمكين الكفار من الميل من المسلمين"(12).
ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى القول كذلك: بأن تشريع
القتال لم يأت دفعة واحدة، بل مرّ بمراحل متعاقبة. ثم ينقسمون بعد ذلك إلى
طائفتين: فطائفة تقول إن الآيات من سورة التوبة - وهي آخر ما نزل في القتال - قد
نسخت ما قبلها من الآيات والمراحل، فأصبحنا أمام المرحلة النهائية، وهي مرحلةٌ "كان
فرضاً على أمة الإسلام أن تقاتل جميع الكفار، مبتدئة بأئمتهم وأشدهم خطراً، بعد
عودتهم إلى الإسلام، أو الانخراط في ذمة المسلمين وعهدهم"(13).
وطائفة تقول: إن المراحل باقية، وإنه لا نسخ فيها، وإنما
يعمل في كل مرحلة بحسب مقتضاها، "ففي حال ضعف الدولة الإسلامية لا تبدأ غيرها
بقتال، ولا ترفض صلحاً، ولا مسالمة، وتكتفي بالرّد على من يبدأها بالقتال... وفي
حالة قوة الدولة الإسلامية تبدأ هي بالقتال، ولا تقبل المسالمة، حتى يزال الكيان
الباطل، كيان دار الحرب. فلا نسخ ولا تعارض بين الآيات، وإنما هي أحكام لحالات
مختلفة، يطّبق كل حكم منها في حالته وظروفه.."(14).
ويذهب أصحاب هذا الاتجاه - لتأييد وجهة نظرهم- إلى
الإشارة إلى (طبيعة الدولة الإسلامية، وأهدافها)، فهي "ليست دولة إقليمة
محدودة بالحدود الأرضية، ولا هي دولة عنصرية، محدودة بحدود الجنس المعين، وإنما هي
- كما قلنا- دولة فكرية، تؤهّل عقيدتها أن تكون دولة عالمية، تضم مختلف الأجناس
والأقوام". ثم إن أهدافها لا تقف "عند توفير العيش الكريم لرعاياها،
وتحقيق الأمن والطمأنينة لهم، وردّ الاعتداء الخارجي عنهم، وإنما أهدافها إلى أبعد
من ذلك، إلى إسعاد البشر كلهم، بحمل الإسلام إليهم". ويخلصون من ذلك إلى أن "قتال
دار الإسلام لدار الحرب، هو في مصلحة أهل هذه الدار، لأن الغرض منه إسعادهم،
وإيصال الحق إليهم، ورفع حكم الطواغيت عنهم. ولا تريد دولة الإسلام من وراء ذلك
جزاءً ولا شكوراً، ولا استعلاءً في الأرض ولا فساداً، إنما تريد مرضاة الله
وحده..."(15).
القائلون بأن سبب القتال هو الحرية:
وهذا هو مذهب الجمهور، وهم الحنفية، والمالكية،
والحنابلة، وأكثر الشافعية..(16)، ودليل الجمهور آيات صريحة
في كتاب الله، تنصُّ على أن موجب قتال المسلمين لغيرهم، إنما هو العدوان الصادر
منهم. بالإضافة إلى بعض الأحاديث، التي تنهى عن قتل غير المقاتلين. وغير ذلك، مما
سيأتي تفصيله:
الأدلة من القرآن الكريم:
1. قوله تعالى: [ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ *
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ
* فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاّ
عَلَى الظّالِمِينَ](البقرة : 190-193).
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في
قوله تعالى: [ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ.. ] قال: هذه أول آية نزلت في
القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقاتل من قاتله،
ويكفّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت (براءة)(17). وقال (الفخر الرازي) في
تفسيره: قوله تعالى [الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] يقتضي كونهم فاعلين للقتال. فأما
المستعد للقتال، والمتأهل له، قبل إقدامه عليه، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلاً، إلاّ
على سبيل المجاز"ج5ص128.
وقال (ابن كثير): إن هذا هو تهييج وإغراء بالأعداء، "أيْ:
لتكون همتكم منبعثة على قتالهم، كما همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من
بلادكم، التي أخرجوكم منها، قصاصاً"م1ص282.
2. قوله تعالى: [أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ
فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ](التوبة: 13)، وهذه من
جملة الأسباب التي يسوقها القرآن الكريم لتعليل الحرب، ولحثِّ المسلمين على
القتال.. وهي، بالإضافة إلى الآيات الأخرى، من الأدلة القوية على أن قتال المسلمين
للمشركين، إنما كان لعدوانهم وحرابتهم، وليس لكفرهم.. ولن نجد آية في القرآن
الكريم تثير حماسة المسلمين لقتال أعدائهم، بالضرب على وتر اختلافهم الديني، أو الإشارة
إلى كفرهم.. فكلُّ الآيات التي تتحدّث عن قتال الكافرين، تعلّل ذلك بما يصدر عنهم
من مكر واعتداء، وإخراج من الديار، ونكث للعهود، وغيرها( ).
3. قوله تعالى: [لَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ](الممتحنة: 8).
وهذه الآية المحكمة - والتي بعدها - واضحة الدلالة، كذلك،
في بنائها لأصل العلاقات بين المسلمين وغيرهم: إن الأصل في العلاقة معهم مبنيٌّ
على البر والقسط إليهم، ما لَمْ يقاتلوا المسلمين، أو يُخرجوهم من ديارهم..
4. قوله تعالى: [وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
كَآفّةً](التوبة : 36).
قال (الكمال بن
الهمام): أفادت الآية "أن قتالنا المأمور به، جزاء لقتالهم، ومسبب عنه"
فتح القدير 4/279.
5. قوله تعالى: [وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل
لّنَا مِن لّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لّنَا مِن لّدُنكَ نَصِيراً](النساء: 75).
وقد بيّنت هذه الآية سببين من أسباب القتال:
أولهما:
القتال في سبيل الله، وهو الغاية التي يسعى إليها الدين، حتى لا تكون فتنة، ويكون
الدين لله..
وثانيهما:
القتال في سبيل المستضعفين، الذين أسلموا بمكة، ولم يستطيعوا الهجرة، فعذبتهم قريش،
وفتنتهم، حتى طلبوا من الله الخلاص.."(18).
6. قوله تعالى: [...فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً](النساء:
90). "فهؤلاءِ القوم الذين لم يقاتلوا قومهم، ولم يقاتلوا المسلمين، واعتزلوا
محاربة الفريقين، وكان اعتزالهم هذا اعتزالاً حقيقياً، يريدون به السلام، فهؤلاء
لا سبيل للمؤمنين عليهم"(19).
7. قوله تعالى: [وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِن يُرِيدُواْ أَن
يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]
(الأنفال: 61-62).
في هذه الآية الأمر بالجنوح إلى السلم إذا جنح العدو
إليها، حتى ولو كان جنوحه خداعاً ومكراً.
8. قوله تعالى: [قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ
وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ
عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ](التوبة: 29).
"فلم يقل قاتلوهم حتى يسلموا، كُرهاً، ولو كان بسبب
الكفر لقال: حتى يسلموا". "ولو كان الكفر مبيحاً للقتل، لما قبل الرسول
(صلى الله عليه وسلم) التحكيم في بني قريظة، ولكان الإكراه على الدين جائزاً، ولما
جاز قبول الجزية"(20).
9. قوله تعالى: [أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ](الحج: 39). فالإذن بالقتال جاء
من أجل الظلم الذي وقع عليهم(21)..
10. قوله تعالى: [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ..] (الأنفال:
60). فجعل القصد الأول من إعداد القوة هو إرهاب الأعداء. ولو كان قتل الكافرين حتى
يسلموا مقصوداً، لقال به. بل إن الآية صريحة في دلالتها على (نفي الحرب)، ونشدان
(التعايش) مع الآخرين، عن طريق الإعداد لـ(السلم المسلح).. ويؤيّد ذلك أن الآية
التي تليها مباشرة، هي آية السلم المعروفة [وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ..].
وأما الأحاديث، فمنها:
1. ما رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد عن حنظلة الكاتب
قال: غزونا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فمررنا على امرأة مقتولة، قد اجتمع
عليها الناس، فأفرجوا له، فقال: (ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل. ثم قال لرجل:
انطلق إلى خالد بن الوليد، فقل له: إن رسول الله يأمرك بقوله: لا تقتلن ذرية، ولا
عسيفاً)* العسيف: الأجير.
فعلم من هذا: أن العلة في تحريم قتلها: أنها لم تكن
تقاتل مع المقاتلين. فكانت مقاتلتهم لنا، هي السبب في مقاتلتنا لهم، وليس الكفر هو
السبب. (فقه السنة، م3ص25).
2. ما رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك أن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) قال: (انطلقوا باسم الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا
طفلاً صغيراً، ولا امرأة..).
3. ما أوصى به أبو بكر أسامة، وأصحابه، غداة توديعه له،
وتسييره لجيشه، فقد جاء في وصيته: "لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا،
ولا تقتلوا طفلاً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة.. وإذا مررتم بقوم قد فرغوا أنفسهم
في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
ومناط الاستشهاد في هذه الأحاديث: أن رسولَ الله (صلى
الله عليه وسلم) - والصحابة من
بعد - نهى عن مقاتلة غير الذين يواجهون المسلمين بالعدوان.. ولو كان القتل بسبب
الكفر، لجاز قتل غير المقاتِلة، كالراهب، والشيخ الكبير، والطفل، والمعقد، والأعمى،
والنساء(22)..
وأما أقوال الفقهاء، فننقل منها ما يلي: (نقلاً عن كتاب علي بلحاج: غاية المراد في قضايا
الجهاد).
1. جاء في مغني المحتاج 4/ 210: "وجوبُ الجهادِ
وجوبُ الوسائِل لا المقاصِد، إذِ المقصُودُ بالقتالِ إنّما هو الهداية، وما سِواها
مِنَ الشهادة. وأمّا قتلُ الكفّار، فليسَ بمقصُودٍ، حتّى لو أمكنَ الهداية بإقامةِ
الدليل بغير جهاد، كان أولى من الجهاد"**.
2. قال الحنفيّة، كما في اختلافِ الفقهاء للطبري/ 195:
"الآدميُّ معصُومٌ ليتمكّنَ من حمل أعباءِ التكليف، وإباحةُ القتلِ عارضٌ سُمِحَ
به لدفْعِ شرّه". وقالُوا: "الكفرُ، من حيث هو كفر، ليسَ علّة
لقتالهم".
3. قال الحنابلة، كما في القواعِد لابن رجب/ 338:
"الأصل في الدماء الحظر، إلاّ بيقين الإباحة".
4. قال ابنُ تيمية في رسالة القتال/ 121-126: "[لا
إِكْرَاهَ فِيْ الدِّيْن] جمهورُ السّلف على أنّها ليست بمنسوخة، ولا مخصُوصة، وإنّما
النصُّ عامٌّ، فلا نكرهُ أحداً على الدين. والقتالُ لِمَنْ حارَبَنا، فإن أسلمَ عَظُمَ
ماله ودمه، وإن لم يكنْ من أهلِ القتالِ لا نقتله". وأضاف: "إنه من
الثابت المقرّر أن النبـيّ (صلّى الله عليه وسلّم) قد أسر من المشركين، فمنهم من
فداه، ومنهم من أطلق سراحَهُ، ولم يُكرهْ أحداً على الإسلام. ولو كان القتالُ
لأجلِ الكفر، ما كان لهؤلاءِ إلاّ السيف".
الواقع التاريخيّ "السيرة النبوية":
المعروف من (السيرة) أن المسلمينَ عاشُوا فترةً طويلة في
خضمّ بيئةٍ كانت أشدّ ما تكون معاداة وإيذاء لهم، وقد صبرَ المسلمون على كُلِّ ما
تعرّضُوا له من إهاناتٍ وتعذيب وعَداء، حتّى إذا ما هاجرُوا إلى المدينة، وأصبح
لهم كيانٌ ماديّ (دولة)، يُدافعون عنه، أذن لهم في قتالِ المشركين.. وكان ذلك
الإذن لدفعِ الظلم الذي تعرّض لهُ المسلمون، بصريح الآية [أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ](الحج: 39).
وكلّ المعارك التي خاضها الرسُول (صلّى الله عليه وسلّم)،
والمسلمون، إنما كانت من هذا المنطلق: ردّ العُدوان، وحماية الدعوة، ورفع الظلم..
ولا حُجّة لأولئك الذين يقولون: إن المسلمين بادأوا غيرهم أحياناً بالهجُوم
والقتال (غزوة خيبر، مؤتة مثلاً)، لأن تلك الغزواتِ إنما كانت لردّ عدوان، قبل
وقوعه، والبدء به، إذ كان اليهود – مثلاً-، والروم كذلك، يكيدون للمسلمين، ويعدون
العدّة لقتالهم.. وهذا مشهور ومعروف. وهذا بالطبع موضوعٌ طويل ومفصّل، يحتاجُ إلى
إيرادِ الكثير من الشواهِد والأمثلة، وهو مِمّا ينبغي أن يُفْرَد له بحث مستقل، لا
تتسعُ له هذه الصفحات. ونكتفي هنا بنقل قول لابن تيمية، في (رسالة القتال) (ص134):
"وكان سيرته (صلّى الله عليه وسلّم) أنّ كُلّ مَنْ هادنه مِنَ الكفّار لم
يقاتلْه، وهذهِ كتبُ السيرة، والحديث، والتفسير، والفقه، والمغازي، تنطقُ بهذا،
وهذا متواتر من سيرته. فهو لم يبدأ أحداً من الكفار بالقتال، ولو كان الله أمره أن
يقتل كُلِّ كافِر، لكان يبتدئهم بالقتلِ والقتال"(23).
الهوامش:
1. الجهاد في الإسلام، البوطي، دار الفكر، دمشق، ط1،
1993: ص94. غاية المراد في قضايا الجهاد، علي بلحاج: 31.. وذهب صاحب (التفسير
المنير) إلى عكس ذلك، حيث أشارَ إلى أن هذا هو مذهب الجمهور، انظر: ج2، ص187.
2. الجهاد، البوطي: 97. وانظر: الجهاد في سبيل الله، د.عبدالله
القادري: 184.
3. نقلاً عن التفسير المنير، د.وهبة الزحيلي: 10/ 61.
4. الجهاد، البوطي ص97.
5. مجموعة بحوث فقهية: زيدان ص60.
6. مجموعة بحوث فقهية: زيدان ص55، والعبارة للإمام
الجصاص في كتابه (أحكام القرآن) ج1 ص260.
7. التفسير الكبير - الفخر الرازي، م8 ج15 ص183.
8. التفسير المنير - د. الزحيلي، ج2 ص187-188 وينقل هذا
الرأي القرطبـي في تفسيره 2/354. وانظر كذلك (السياسة الشرعية) ص117 لابن تيمية،
حيث يقول: "فكلّ من بلغته دعوة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إلى دين الله
الذي بعثه به، فلم يستجب له، فإنه يجب قتاله [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ].
9. الجهاد،
البوطي، ص97.
10. الإسلام، سعيد حوى، ص550.
11. الجهاد في سبيل الله، القادري، ص612. نظام الحكم في
الإسلام، النبهاني، ص164-165.
12. الجهاد: ميادينه وأساليبه، محمد نعيم ياسين، ص52.
13. الجهاد، محمد نعيم ياسين، ص52. وانظر أيضاً: الإسلام،
سعيد حوى، ص400.
14. مجموعة بحوث فقهية: د.عبد الكريم زيدان، ص60.
15. هذه النصوص منقولة عن د.عبد الكريم زيدان، مجموعة
بحوث فقهية، ص62- 63.
16. الجهاد في سبيل الله، البوطي، ص94. غاية المراد،
بلحاج، ص31.
17. تفسير ابن كثير، م1 ص282. التفسير الكبير، الفخر
الرازي، م3 ج4 ص127.
18. فقه السنة، السيد سابق، م3ص23.
19. فقه السنة، السيد سابق، م3ص24.
20. غاية المراد، علي بلحاج، ص32.
21. غاية المراد، علي بلحاج، ص32.
* خرّج البخاري ومسلم حديثاً بمعناه، من رواية عبدالله بن
عمر، باب: قتل النساء في الحرب.
22. انظر: الجهاد في الإسلام، البوطي، ص66. غاية المراد،
علي بلحاج، ص32.
** انظر إلى هذا الخلط بين مفهوم (الجهاد)، ومفهوم (القتال)،
عند أحدِ كبار العلماء السابقين، ولاحِظْ انتقال هذا الخلط بين المفهومين إلى
الكُتّاب والعلماء المعاصرين.
23. قاعدة مختصرة في قتال الكفار، ابن تيمية، تحقيق: د.
عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد، ط1، 2004.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق